الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرية "الكسب" أو "الاكتساب" التى حددت وحَدَّت من امتلاك الإنسان للأفعال المخلوقة على هذا النحو. وهذه الإشارة إلى أهل الإثبات قد أتاحت للأشعرى تقديم نفسه باعتباره غير مجدد فى مجال علم الكلام.
جـ - رد فعل الأشعريين:
كان انتعاش المذهب السنى فى عهد المتوكل وعلى مدى القرن الخامس هـ/ الحادى عشر الميلادى مصحوبا بتوجيه الاتهام إلى المعتزلة، وتوجيهه فى الوقت ذاته -على الأقل من جانب الحنابلة والظاهرية- إلى علم "الكلام"؛ والأمر الذى كان محل الريبة هو نفس المبدأ القاضى بإعمال الجدل المنطقى إنطلاقا من الحيثيات الإيمانية. وبرغم ذلك فعلم الكلام لم يواصل البقاء فقط؛ بل وجدد نفسه أيضا بفضل المنحى الجديد الذى وفَّره له "أبو الحسن الأشعرى"(260 - 324 هـ - 935 م) وهو معتزلى سابق يعد بحق مؤسس مذهب الأشعرية -ذلك المذهب الذى ظل المذهب الرسمى للكلام والأكثر قبولا فيما بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (= الرابع الهجرى) - وقد بقى لنا عدد من أعماله (خصوصا "اللمع" و"الإبانة")، وما يزال مصنفه "مقالات الإسماعيليين" حتى اليوم معينا لا ينضب نستمد منه معلوماتنا عن النزعات والمذاهب المبكرة.
ومن المؤكد أنه ظهر فى إطار ذلك المذهب العديد من النزعات واتخذت المواقف المتباينة. . بل المتفارقة. ومن ذلك أن "الباقلانى" جلب إلى خدمة العقائد الأشعرية نظرية الأجزاء (أى النظرية الذرية atomism) التى كان "أبو الهذيل" أول من نادى بها، إلا أن "الجوينى" لم يتبعه البتة فى هذا المنحى بل تبنى من جديد مذهب "الأحوال" لأبى هاشم (والباقلانى) بعد أن تخلى عنه الغزالى. لكن وجهات النظر الأساسية التى استمدت منها المعتقدات الأساسية لذلك المذهب تبقى كما هى. وبالرغم من الفوارق المذهبية (الناجمة أساسا عن الأحداث التاريخية وتباين الخصوم الذين كان يتعين تفنيد آرائهم)، فإن من الجائز لنا الحديث عن مذهب أشعرى واحد أكثر ترابطا مما كانت عليه مذاهب الاعتزال.
هل من الضرورى -كما اقترح البعض- التسليم بوجود فارق جذرى أو انشقاق بين فكر مؤسس المذهب والمذهب الذى أطلق عليه اسمه؟ . من الثابت أن الأشعرى فى "الإبانة" يستهل استعراضه لمذهبه بالاعلان عن امتثاله لتعاليم "ابن حنبل"، ومن الثابت أنه بالرغم من كون إعلان الإيمان هذا -الذى أضحى أمرًا تقليديا فى اطار ذلك المذهب- وجد له بعض المبررات فى "اللمع"، إلا أنها تختلف اختلافا جوهريا عن المبررات التى أبديت فى "الإبانة" و"المقالات". ومع ذلك فالامتثال الذى أعلنه الأشعرى لتعاليم ابن حنبل لم يَجُزْ على الحنابلة الذين هاجموا بشدة مبدأ "الدفاع عن العقيدة باتباع أساليب الجدل العقلانى" فى حد ذاته. وبالإضافة إلى ذلك فإن الكثير من المسائل التى نوقشت فى "اللمع" كان يتعين عليها انتظار الشرح بمعرفة مريدين متأخرين تأثروا بدورهم بأحوال تاريخية جديدة وعلى ذلك فليس هناك مذهبان للأشعرية -واحد للمؤسس وواحد للتابعية- بل هناك فى الأصل موقف عام واحد تطور تدريجيا وتلون كثيرًا بتأثير المناقشات الدفاعية المتعاقبة.
وهذا الموقف العام تأكيد واضح على أن اللَّه هو القادر على كل شئ الذى لا تدركه الأبصار والذى لا يُسأل عما يفعل.
واللَّه وفقا لأدق المعانى هو "الموجود الواحد والمهيمن الأحد"، وهو لا يأمر بفعل ما لمجرد أن ذلك الفعل خير وصواب؛ بل إن أمره هو الذى يجعل ذلك الفعل خيرا وصوابًا. فاللَّه خالق أفعال الإنسان، والإنسان ليس سوى متلق ممتثل أو هو "محل" لأمر اللَّه. لكن اللَّه أيضا يوعز للإنسان بأفعاله (نظرية الكسب أو الاكتساب) وفى هذا مسوغ لكل من "مسئولية الإنسان" و"المقدرة على التمييز" التى أشار إليها القرآن الكريم وكل ما يذكره القرآن الكريم حق؛ فالآيات المتشابهات حق مطلق فيما يختص بتأكيدها على وجود اللَّه، أما ما تشير إليه من صفات التجسيم فينبغى التسليم به "بلا كيف". . أى بدون السؤال عن الكيفية. وبالرجوع إلى مواقف الحنابلة والمناهضة للمعتزلة
فمن المجزوم به أن القرآن الكريم غير مخلوق وأن صفات اللَّه سبحانه وتعالى حقائق؛ فصفة الكلام ليست محدثة بل هى ملازمة للَّه.
لكن ذلك المذهب نادى فى مرحلة تالية بوجود الكلام الذاتى الإلهى -وهو غير مخلوق- ومالوا للتسليم بأن الإشارات أو الرموز التى تعبر عنه مخلوقة. . ومثل هذه التفرقة كان من شأنها أن تجلب نقدا عنيفا من جانب فقهاء الحنفية.
كان ذلك موقفا عاما كما ذكرنا، لكنه كان يسعى بصورة متواصلة إلى تبرير نفسه باتباع أساليب الجدل المنطقى فى وجه خصومه المتعددين؛ كالمعتزلة أول الأمر الذين كان لدى الأشاعرة أهدافهم المفضلة لتوجيه الجدل نحوها، ومن بعدهم الحرفيون Literalist مثل الكرّامية الذين تصدى لهم "ابن فوراك"، ثم الفلاسفة والكثيرون غيرهم. وكان الأشاعرة من حين لأخر يستعيرون من خصومهم طريقة أو أخرى لعرض الإشكالية أو حتى الأساليب المتبعة فى الجدل، وعلى ذلك يمكننا -فيما يتعلق بهم- تمييز الأطوار الزمنية التالية:
(1)
أعمال المؤسس "الأشعرى".
(2)
التلامذة الأُول: "الباقلانى" الذى تبنى نظرية الأجزاء (النظرية الذرية) ونظرية الأحوال؛ وهما النظريتان اللتان كانتا فيما بعد تلقيان القبول أحيانا والإعراض عنهما أو رفضهما أحيانا أخرى. وكذلك "البغدادى"، و"ابن فوراك" خصم الكرامية، و"البيهقى" و"الجوينى" نصيرا نظرية الأحوال.
(3)
وهذا الأخير - الجوينى -وهو أستاذ الغزالى فى الكلام- أصبح رائدا للاتجاه الذى يطلق عليه ابن خلدون اسم "المجددين"؛ ذلك الاتجاه الذى واصل تلخيص ومناقشة مواقف كبار الفلاسفة، والذى بلغ شأوا عاليا استمده من أشهر المتكلمين: الغزالى، والشهرستانى، وفخر الدين الرازى (وهو واحد من أكثر مفكرى هذا المذهب إبداعا)، والأصفهانى، والإيجى، والجُرجانى، والدوانى (الذى كتب "محمد عبده" تعليقا على أعماله). ولم يحجم هؤلاء المجددون عن استخدام درجة ما من التأويل (المعتدل) من أجل