الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَبَادِئِ) أَيْ، وَعَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ أَوَّلُهَا فِي بَيَانِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ الْمَعْدُودَةِ مِنْ مَبَادِئِ هَذَا الْعِلْمِ (وَأَحْوَالِ الْمَوْضُوعِ) أَيْ وَثَانِيهَا فِي بَيَانِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ الرَّاجِعَةِ إلَى أَحْوَالِ مَوْضُوعِ الْعِلْمِ (وَالِاجْتِهَادِ) أَيْ وَثَالِثُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَمَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ التَّقْلِيدُ، وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلَ الْفَنِّ؛ لِأَنَّ مَسَائِلَ الْفَنِّ مَا لِلْبَحْثِ فِيهَا رُجُوعٌ إلَى مَوْضُوعِهِ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ وَمَا يَتْبَعُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَذْكُرُوهَا عَلَى سَبِيلِ اللَّوَاحِقِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْغَرَضِ مِنْهُ إسْعَافًا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ (وَهُوَ) أَيْ الِاجْتِهَادُ مَعَ مَا يَتْبَعُهُ (مُتَمِّمٌ مَسَائِلَهُ) بَعْضُهَا (فِقْهِيَّةٌ) لِكَوْنِ هَذَا الْبَعْضِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ كَمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ عَيْنًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَكَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَادِثَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ، وَحَرَامٌ فِي مُقَابَلَةِ قَاطِعِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ إلَى آخِرِ أَقْسَامِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ فِعْلُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ بَذْلُ وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَكُلٌّ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَبَاقِي مَحْمُولَاتِ أَقْسَامِ مَوْضُوعَاتِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (لِمِثْلِ مَا سَنَذْكُرُ) قَرِيبًا.
بَيَانُ الْمَوْضُوعِ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ مِنْ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَاتِهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَحْمُولَاتِهَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ الْكَائِنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمَا سَنَذْكُرُ نَظَرًا إلَى خُصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ الْكَائِنِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ الْخُصُوصِ الْكَائِنِ لِغَيْرِهَا (وَاعْتِقَادِيَّةٌ) أَيْ وَبَعْضُهَا مَسَائِلُ اعْتِقَادِيَّةٌ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى مَا عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَسْأَلَةٍ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَمَسْأَلَةٌ يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ عَقِيدَةٌ دِينِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ غَايَةُ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُمْ لَمْ يُدَوِّنُوا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنْهُمَا بَعْدَ رُجُوعِ الْبَحْثِ عَنْهَا إلَى مَوْضُوعِهِمَا، وَكَانَ مُقْتَضَى مَا فَعَلَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْمَقَالَاتِ نَظِيرَهُ فَيَقُولُ ثَلَاثُ مَقَالَاتٍ هِيَ الْمَبَادِئُ وَلَكِنْ الْمَقَالَةُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فَكَانَ الْمَقُولُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ مُتَعَلَّقَهُ فَيَثْبُتُ التَّغَايُرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْت لِمَ اخْتَارَ التَّرْتِيبَ عَلَى التَّأْلِيفِ؟ . قُلْت لِيُشِيرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ إلَى أَنَّهُ وَضَعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمُخْتَصَرُ مِنْ الْأَجْزَاءِ مَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا التَّرْتِيبُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ، وَيَكُونُ لِبَعْضِهَا نِسْبَةٌ إلَى الْبَعْضِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِخِلَافِ التَّأْلِيفِ فَإِنَّهُ جَعْلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كَانَ لِبَعْضِهَا نِسْبَةٌ إلَى بَعْضٍ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَمْ لَا فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ التَّرْتِيبِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ نَاصَّةٌ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي تَرْتِيبِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمُخْتَصَرِ مُرَادًا بِهِ مَضْمُونُ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْمَوَادِّ الَّتِي يَسْتَعْقِبُ تَرْكِيبُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ الْمُخْتَصَرِ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ مَعْلُولُ التَّرْتِيبِ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي سَمَّيْته رَاجِعًا إلَى الْمُخْتَصَرِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ الْمُقَرَّرُ لَهُ فِي الْخَارِجِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ إطْلَاقِهِ فَإِنَّ مِثْلَهُ شَائِعٌ بَلْ هُوَ مِنْ التَّحْسِينِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُسَمَّى بِالِاسْتِخْدَامِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ فَتَنَبَّهْ لَهُ.
[الْمُقَدِّمَةُ أَرْبَعَة أُمُور]
[الْأَمْرُ الْأَوَّل مَفْهُومُ اسْم هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ]
(الْمُقَدِّمَةُ) الْمَذْكُورَةُ فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيّ (أُمُورٌ) أَرْبَعَةٌ، وَقَدْ عَرَفْت لِمَ قَالَ هَكَذَا وَلَمْ يَقُلْ فِي أُمُورٍ الْأَمْرُ (الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اسْمِهِ) أَيْ اسْمُ هَذَا الْعِلْمِ، وَهُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَوَجْهُ تَقْدِيمِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرٌ (وَالْمَعْرُوفُ كَوْنُهُ) أَيْ اسْمُهُ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ (عِلْمًا، وَقِيلَ) بَلْ اسْمُهُ (اسْمُ جِنْسٍ لِإِدْخَالِهِ اللَّامَ) أَيْ لِصِحَّةِ إدْخَالِ اللَّافِظِ اللَّامَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ الْأُصُولُ، وَإِلَى هَذَا جَنَحَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ حَيْثُ قَالَ وَجَعْلُهُ اسْمَ جِنْسِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ عَلَمَ
جِنْسٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَمًا لَمَا دَخَلَتْهُ اللَّامُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ) هَذَا الْقَوْلُ بِشَيْءٍ أَوْ لَيْسَ اللَّامُ بِدَاخِلٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ مَشَى عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ مِنْ جَوَازِ حَذْفِ الْخَبَرِ فِي بَابِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا فِي سِعَةِ الْكَلَامِ اخْتِصَارًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ (فَإِنَّ الْعَلَمَ) بِفَتْحِ اللَّامِ هُوَ الِاسْمُ (الْمُرَكَّبُ) الْإِضَافِيُّ مِنْ لَفْظَيْ أُصُولٍ وَالْفِقْهِ (لَا الْأُصُولُ) أَيْ لَا أَحَدِ جُزْأَيْ هَذَا الْمُرَكَّبِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولٍ فَقَطْ وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي الْعَلَمِيَّةَ إلَّا لِلْمُرَكَّبِ الْمَذْكُورِ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرَادٍ بِهِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ، وَاللَّامُ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ حَالَةَ كَوْنِهِ فَاقِدًا لِلْإِضَافَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ اللَّامَ لَا تُجَامِعُ الْإِضَافَةَ، وَقَدْ تَعْقُبُهَا وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ حِينَئِذٍ نَكِرَةٌ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ عَرَّفَتْهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ كَثِيرًا مَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْأُصُولِ مُحَلَّى بِاللَّامِ وَيُرَادُ بِهِ هَذَا الْعِلْمُ.
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ سَبَبُ وَهْمِ الْقَائِلِ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَشَارَ إلَى وَجْهِ ذَلِكَ فَقَالَ (بَلْ الْأُصُولُ بَعْدَ كَوْنِهِ) فِي الْأَصْلِ لَفْظًا (عَامًا فِي الْمَبَانِي) أَيْ فِي كُلِّ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيَّاتِ كَبِنَاءِ الْجِدَارِ عَلَى الْأَسَاسِ أَوْ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ كَبِنَاءِ الْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عُرْفِ اللُّغَةِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِالْأُصُولِ خُصُوصٌ مِنْ الْمَبَانِي فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ صِيغَةً، وَمَعْنًى لِكَوْنِهِ جَمْعًا مُحَلَّى بِاللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ (يُقَالُ) لَفْظُ الْأُصُولِ أَيْضًا قَوْلًا (خَاصًّا فِي الْمَبَانِي الْمَعْهُودَةِ لِلْفِقْهِ) الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْمَبَانِي كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا أَعْنِي الْأَدِلَّةَ الْكُلِّيَّةَ وَالْقَوَاعِدَ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى قُدْرَةِ الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا هُوَ عُرْفُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ (فَاللَّامُ) فِيهِ حِينَئِذٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَوَّلِ حَالَاتِ إرَادَتِهَا بِخُصُوصِهَا مِنْهُ لِأَهْلِ هَذَا الْعُرْفِ (لِلْعَهْدِ) الذِّهْنِيِّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَازِمَةً لَهُ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَهِيَ فِي النَّجْمِ لِلثُّرَيَّا يَعْنِي، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ بِاسْمِ جِنْسٍ أَيْضًا بَلْ مِنْ الْأَعْلَامِ الْكَائِنَةِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ، وَقُصَارَى مَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمَانِ عَلَمٌ مَنْقُولٌ لَا بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَمٌ مَنْقُولٌ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ وَهُوَ لَفْظُ الْأُصُولِ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الْمَعْرُوفُ كَوْنَ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ أُصُولُ الْفِقْهِ عَلَمًا فَهَلْ هُوَ جِنْسِيٌّ أَوْ شَخْصِيٌّ؟ . فَنَصَّ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ الْجُرْجَانِيُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْلَامِ الْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ أُصُولِ الْفِقْهِ كُلِّيٌّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَعَدِّدَةً إذْ الْقَائِمُ مِنْهُ بِزَيْدٍ غَيْرُ مَا قَامَ بِعَمْرٍو شَخْصًا، وَإِنْ اتَّحَدَ مَفْهُومَاهُمَا وَلَمَّا اُحْتِيجَ إلَى نَقْلِ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْإِضَافِيِّ جَعَلُوهُ عَلَمًا لِلْعِلْمِ الْمَخْصُوصِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي اللُّغَةِ لَا اسْمَ جِنْسٍ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَالْوَجْهُ) فِي عِلْمِيَّةِ أُصُولِ الْفِقْهِ (أَنَّهُ) أَيْ أُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمٌ (شَخْصِيٌّ إذْ لَا يَصْدُقُ) أُصُولُ الْفِقْهِ (عَلَى مَسْأَلَةٍ) وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَهَذَا أَمَارَةُ الشَّخْصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَصْدُقُ عَلَى جُزْئِهِ حَقِيقَةً، قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ -: وَهَذَا إنَّمَا يَنْفِي كَوْنَهُ اسْمَ جِنْسٍ لَا كَوْنَهُ عَلَمَ جِنْسٍ؛ لِأَنَّ عَلَمَ الْجِنْسِ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الذِّهْنِ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ هُمْ قَدْ عَامَلُوهُ مُعَامَلَةِ الْمُتَوَاطِئِ فِي إطْلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فَأُصُولُ الْفِقْهِ إذَا كَانَ عَلَمَ جِنْسٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ ذِهْنًا الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ الْمُدْرَكَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ فِيهِ، وَأَفْرَادُ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا هِيَ الْمَظَاهِرُ الْوُجُودِيَّةُ لِلْحَقِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا مَسَائِلَهُ الَّتِي هِيَ أَجْزَاءُ مُسَمَّاهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِإِزَائِهَا فَعَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّهُ لَازِمٌ لِكَوْنِهِ عَلَمَ شَخْصٍ كَذَلِكَ هُوَ لَازِمٌ لِكَوْنِهِ عَلَمَ جِنْسٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا لِأَحَدِهِمَا نَافِيًا لِلْآخَرِ نَعَمْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ كَوْنِهِ عَلَمَ شَخْصٍ بِشَيْءٍ غَيْرِ هَذَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ حَالَ قِرَاءَتِنَا لِهَذَا الْمَوْضِعِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا حَاصِلُهُ مَزِيدًا عَلَيْهِ مَا يَكْسُوهُ إيضَاحًا وَتَحْقِيقًا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِأَمْرٍ كُلِّيٍّ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَعَدِّدَةً مُتَغَايِرَةً قَائِمَةً بِزَيْدٍ، وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِأَمْرٍ خَاصٍّ هُوَ مَجْمُوعُ إحْدَى الْكَثْرَتَيْنِ الْإِدْرَاكَاتِ الْخَاصَّةِ أَوْ الْمُدْرَكَاتِ الْخَاصَّةِ الْآتِي بَيَانُهُمَا أَعْنِي الْكَثْرَةَ
الْحَاضِرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الذِّهْنِ، وَإِنْ تَرَكَّبَتْ مِنْ مَفَاهِيمَ كُلِّيَّةٍ فَمُسَمَّاهُ حِينَئِذٍ إمَّا مَجْمُوعُ أُمُورٍ مُحَقَّقَةٍ خَاصَّةٍ هِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ مَجْمُوعُ عَيْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقًا لِإِدْرَاكِ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهُمْ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُقُوعَ هَذَا لَهُ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدًا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَلْ هُوَ حَالَةُ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ زَيْدٍ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ حَالَةَ تَعَلُّقِ إدْرَاكِ عَمْرٍو بِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا كَمَا أَنَّ تَصَوُّرَاتِ مُتَصَوِّرِينَ لِزَيْدٍ عَلَمًا وَتَصْدِيقَاتِهِمْ بِأَحْوَالِهِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَهُ بَلْ هُوَ هُوَ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ تَصَوُّرَاتُهُمْ وَتَصْدِيقَاتُهُمْ بِأَحْوَالِهِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ فَإِنْ قُلْت لَا بَأْسَ بِهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمُدْرَكَاتِ لِصِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِدْرَاكَاتِ بِهَا أَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكَاتِ فَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ إذْ يَصِيرُ الْإِدْرَاكُ مُتَعَلَّقَ الْإِدْرَاكِ قُلْت سَوَاغُهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِدْرَاكِ الْمَذْكُورِ مُدْرَكًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ إدْرَاكًا أَيْضًا فَتَأَمَّلْهُ. ثُمَّ هَذَا جَارٍ فِي أَسْمَاءِ سَائِرِ الْعُلُومِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ هَذَا الِاسْمِ مُخْتَلِفًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ اللَّفْظُ أَوَّلًا عَلَيْهِ وَبِاعْتِبَارِ مَا صَارَ ثَانِيًا إلَيْهِ، وَقَدْ أَفَادُوا تَعْرِيفَهُ عَلَى كِلَيْهِمَا وَافَقَهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ مُشِيرًا إلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا تَمْهِيدًا لِإِفَادَتِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ:(وَالْعَادَةُ تَعْرِيفُهُ مُضَافًا، وَعَلَمًا) أَيْ تَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ اسْمِهِ مُرَكَّبًا إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ مُرَكَّبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ وَبِاعْتِبَارِ الْعَلَمِيَّةَ مُفْرَدٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْأَجْزَاءِ، ثُمَّ بَدَأَ بِتَعْرِيفِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ذَاكِرًا مَعْنَى كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْهِ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ السَّبِيلُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةً لِلتَّقَدُّمِ الْوُجُودِيِّ فَقَالَ:(فَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ فَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ اسْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الِاسْمِ مُرَكَّبًا إضَافِيًّا لَيْسَ بِعَلَمٍ أَنْ يُقَالَ (الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ) فَأَدَاةُ التَّعْرِيفِ فِي الْأُصُولِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا أُصُولُ الْفِقْهِ ثُمَّ هِيَ جَمْعُ أَصْلٍ، وَعَنْهُ لُغَةً عِبَارَاتٌ أَحْسَنُهَا مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا إلَيْهِ أَيْ مِنْ حَيْثُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِضَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَيُسْتَعْمَلُ اصْطِلَاحًا بِمَعَانٍ الْمُنَاسِبُ مِنْهَا هُنَا الدَّلِيلُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَذْكُرُ وَجْهَهُ قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَدِلَّةِ الْأَدِلَّةُ الْكُلِّيَّةُ السَّمْعِيَّةُ الْآتِي بَيَانُهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الْكُلِّيَّةِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهَا كَمَا ذَكَرْنَا حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَدِلَّتُهُ، وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْعُذْرُ فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ لَفْظًا بِالسَّمْعِيَّةِ ثُمَّ الْمُعَيِّنُ أَيْضًا لِذَلِكَ كُلِّهِ إضَافَتُهَا إلَى الْفِقْهِ كَمَا سَيَتَّضِحُ وَجْهُهُ قَرِيبًا فَإِنَّ دَلَائِلَ الْفِقْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ.
ثُمَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ مَبْنَى الْفِقْهِ، وَمَرْجِعُهُ بَلْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُنَا بِمَعْنَى الدَّلِيلِ لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَاصَدَقَاتِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ أَنَّ الِابْتِنَاءَ هُنَا عَقْلِيٌّ فَيَكُونُ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا يُبْتَنَى هُوَ عَلَيْهِ وَيُسْتَنَدُ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِمُسْتَنِدِ الْعِلْمِ وَمُبْتَنَاهُ إلَّا دَلِيلَهُ، وَهُوَ حَسَنٌ نَعَمْ إذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأُصُولِ مُرَادًا بِهِ هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ يَكُونُ عَلَمًا بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ مَنْقُولًا كَمَا حَقَقْنَاهُ سَالِفًا، وَإِنْ انْدَرَجَتْ حَقِيقَتُهُ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا تَذْهَلَنَّ عَنْهُ.
(وَالْفِقْهُ التَّصْدِيقُ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ) فَالتَّصْدِيقُ أَيْ الْإِدْرَاكُ الْقَطْعِيُّ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا صَوَابًا أَوْ خَطَأً جِنْسٌ لِسَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ الْقَطْعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ اخْتِصَاصِ التَّصْدِيقِ بِالْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ سَيَقُولُ
الْمُصَنِّفُ مُشِيرًا إلَى ظَنِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى مَا قُلْنَا لَيْسَ هُوَ شَيْئًا مِنْ الْفِقْهِ وَلَا الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ إلَّا بِاصْطِلَاحٍ وَلَا يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ الْمَنْطِقِيِّينَ إيَّاهُ مُرَادًا بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ قَسَمُوا الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ إلَى التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ تَقْسِيمًا حَاضِرًا تَوَسُّلًا بِهِ إلَى بَيَانِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَنْطِقِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ الْبَدَنِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهِيَ قُصُودُهَا وَإِرَادَتُهَا، وَالْمُكَلَّفُ هُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ فَصْلٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِغَيْرِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا بِالْوُجُودِ وَغَيْرِهِ وَاَلَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ فَصْلٌ ثَانٍ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ كَالتَّصْدِيقِ لِطَاعَاتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَالِاعْتِقَادُ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا بِتَقْدِيرِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا بِتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ، وَهُوَ إنْ كَانَ مُطَابِقًا فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ وَسَبَبُهُ الْأَكْثَرِيُّ التَّقْلِيدُ، وَقُوَّتُهُ وَرَخَاوَتُهُ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الْكُبَرَاءِ فِي النُّفُوسِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهَا لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا نَفْسَ الِاعْتِقَادِ لَهَا وَبِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَصْلٌ ثَالِثٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِنْ عَقْلِيٍّ أَوْ لُغَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ آثَارُ خِطَابِهِ تَعَالَى الْمُتَعَلَّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ طَلَبًا أَوْ وَضْعًا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي أَوَائِلِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقَطْعِيَّةُ فَصْلٌ رَابِعٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ لِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقَطْعِيَّةِ مَا لَيْسَ فِي ثُبُوتِهِ احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ دَلِيلٍ، وَمَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ أَيْ مَعَ حُصُولِهَا لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا التَّصْدِيقُ فَصْلٌ خَامِسٌ أَخْرَجَ التَّصْدِيقَ الْمَذْكُورَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْمَلَكَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ اسْتِجْمَاعِ الْمَآخِذِ وَالْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَكْفِي الْمُجْتَهِدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الَّتِي بِحَيْثُ تُنَالُ بِالِاسْتِنْبَاطِ أَيْ بِاسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ لِتَعَدِّي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْكَائِنِ لِلْمَحَالِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إلَى الْمَحَالِّ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِمُسَاوَاتِهَا إيَّاهَا فِي الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِ الِاسْتِنْبَاطِ بِالصَّحِيحِ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَآثَرَ لَفْظَ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَنَحْوِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ مِنْ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ الْمَلْزُومَةِ لِمَزِيدِ التَّعَبِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ الْكَثِيرُ لُغَةً فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالتَّعَبُ لَازِمٌ لِذَلِكَ عَادَةً، وَإِشَارَةٌ أَيْضًا إلَى مَا بَيْنَ الْمُسْتَخْرَجِينَ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، وَهِيَ التَّسَبُّبُ إلَى الْحَيَاةِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْعِلْمِ أَتَمُّ فَإِنَّ فِي الْمَاءِ حَيَاةُ الْأَشْبَاحِ، وَفِي الْعِلْمِ حَيَاةُ الْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ.
ثُمَّ قَدْ وَضَحَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ كُلًّا مِنْ قَوْلِهِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمِنْ قَوْلِهِ بِالْأَحْكَامِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلتَّصْدِيقِ، وَعَدَّاهُ إلَى أَحَدِهِمَا بِاللَّامِ، وَإِلَى الْآخَرِ بِالْبَاءِ؛ لِأَنَّ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ الْحُكْمُ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَدَّى إلَى أَحَدِ مَفْعُولَيْهِ بِالْبَاءِ، وَإِلَى الْآخَرِ بِعَلَى فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَجَعَلَ الْمُعْدَى إلَيْهِ بِاللَّامِ هُوَ الْأَعْمَالُ وَالْمُعْدَى إلَيْهِ بِالْبَاءِ هُوَ الْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الْمَوْضُوعُ وَالْأَحْكَامُ هِيَ الْمَحْمُولُ، وَمِنْ هُنَا قَدَّمَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْمَوْضُوعِ عَلَى الْمَحْمُولِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ التَّصْدِيقِ، ثُمَّ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ لِمَ قَيَّدَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْقَطْعِيَّةِ ثُمَّ قَيَّدَ التَّصْدِيقَ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِهَا بِمُصَاحَبَةِ هَذِهِ الْمَلَكَةِ؟ . وَالْجَوَابُ إنَّمَا وَقَعَ التَّقْيِيدُ بِالْقَطْعِيَّةِ دَفْعًا لِمَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ التَّصْدِيقَ لِعَامَّةِ عَمَلِيَّاتِ الْمُكَلَّفِينَ الْمَذْكُورَةِ بِعَامَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِعُمُومِ كُلٍّ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ صِيغَةً وَمَعْنًى، وَيَلْزَمُ لِكَوْنِ الْفِقْهِ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الصِّرَافَةِ مِنْ الْعُمُومِ أَنَّهُ إلَى الْآنَ لَمْ يُوجَدْ الْفِقْهُ وَالْفَقِيهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْكَائِنَةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ مَا كُلٌّ مِنْ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَمِنْ طَرِيقِ وُصُولِهِ إلَى
الْمُكَلَّفِينَ قَطْعِيٌّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ إحَاطَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ إمَّا لِكَوْنِ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ أَوْ لِكَوْنِ طَرِيقِ وُصُولِهِ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرَ قَطْعِيٍّ كَالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ثَابِتٌ بِهِمَا، وَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ الْوَاقِعَاتِ الْجُزْئِيَّةِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَالْعَدِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتَهِي إلَّا بِانْتِهَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ قَطْعًا فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّصْدِيقِ الْقَطْعِيِّ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ بَلْ ضَمَّ إلَيْهِ مَلَكَةَ الِاسْتِنْبَاطِ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مُفِيدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي خُصُوصِ مَحَالِّهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ حَيْثُ تَتَوَفَّرُ شُرُوطُ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي هُوَ الْمُجْتَهِدُ هُوَ الْقَيِّمُ بِكِلَيْهِمَا مَعْرِفَةً تَفْصِيلِيَّةً فِي الْمَنْصُوصَاتِ السَّمْعِيَّةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا، وَمَلَكَةً لِإِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِهَا شَرْعًا وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا ثُبُوتٌ لَا أَدْرِي فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْ بَعْضٍ مَنْ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا كَالْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ تَعَارُضًا يُوجِبُ الْوَقْفَ أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَالِ أَوْ لِعَارِضٍ غَيْرِ هَذَيْنِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُوَقِّفَةِ لِلْمُجْتَهِدِ عَنْ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ بِمَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ لِيَقَعَ اسْتِيفَاءُ جُزْأَيْ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ اصْطِلَاحًا، وَإِلَّا كَانَ التَّعْرِيفُ غَيْرَ تَامٍّ ثُمَّ مِنْ التَّأَمُّلِ فِي هَذَا التَّحْقِيقِ يَنْدَفِعُ أَنْ يَخْتَلِجَ فِي الذِّهْنِ أَنَّ حُصُولَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ شَرْطٌ لِلْفِقْهِ لَا شَطْرٌ.
وَيَظْهَرُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَدَخَلَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ) فِي الْفِقْهِ حَتَّى تَكُونُ النِّيَّةُ وَاجِبَةً فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مِنْ مَسَائِلِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولُهَا حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَقَدْ تَعَلَّقَ التَّصْدِيقُ لَهُ بِالْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِوَهْمِ اخْتِصَاصِ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ نَحْوَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى دُخُولِ أَمْثَالِ هَذَا مِمَّا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ (وَقَدْ يُخَصُّ) الْفِقْهُ (بِظَنِّهَا) أَيْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى شَاعَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَأَتْبَاعِهِ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ فِي ضِمْنِ كَلَامٍ لَهُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فَقَالَ: وَالْعِلْمُ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ جِنْسٌ، وَمَا تَحْتَهُ مِنْ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ نَوْعٌ، وَالْعُلُومُ الْمُدَوَّنَةُ تَكُونُ ظَنِّيَّةً كَالْفِقْهِ، وَقَطْعِيَّةً كَالْكَلَامِ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ اهـ.
وَمُلَخَّصُ مَا قَالُوا فِي وَجْهِ هَذَا أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ إلَّا ظَنًّا لِتَوَقُّفِ إفَادَتِهَا الْيَقِينَ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَشَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَوْضِعِهَا، وَنَفْيُهَا مَا ثَبَتَ إلَّا بِالْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ قَالُوا وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ فَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ اصْطِلَاحًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَيَتَعَرَّضُ الْمُصَنِّفُ لِهَذَا قَرِيبًا.
وَنَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي وَجْهِهِ وَعَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ بَلْ الظَّنُّ بِذَلِكَ (وَعَلَى مَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ التَّصْدِيقُ إلَخْ (لَيْسَ هُوَ) أَيْ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادِ (شَيْئًا مِنْ الْفِقْهِ) أَيْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ الْفِقْهُ سِوَاهُ (وَلَا الْأَحْكَامَ الْمَظْنُونَةَ) أَيْ وَلَا تَكُونُ نَفْسُ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ جُزْءًا مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا مَوْضُوعُهُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَحْمُولُهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَظْنُونٌ لَا يَكُونُ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ (إلَّا بِاصْطِلَاحٍ) مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ غَيْرِ اصْطِلَاحِنَا الْمَذْكُورِ كَالِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ الْفِقْهَ كُلَّهُ ظَنِّيٌّ فَيَكُونُ الْفِقْهُ
هُوَ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ إذَا قُلْنَا إنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ وَالْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ إذَا قُلْنَا إنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ، وَإِلَى الْإِشَارَةِ إلَى كَوْنِ الْفِقْهِ يُقَالُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَعَرَّضَ لَنَفْيِهِمَا تَفْرِيعًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ التَّعْرِيفِ، وَكَالِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، وَمِنْهُ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كُلُّ مَنْ ظَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ مِنْ الْفِقْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُسَمَّى الِاسْمِ بَقِيَ الشَّأْنُ فِي أَيٍّ مِنْ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ أَحْسَنُ أَوْ مُتَعَيِّنٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ مُتَعَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقِيهِ الْمُجْتَهِدُ لِمَا ذَكَرْنَا وَنَذْكُرُ، وَأَنَّ الثَّالِثَ أَحْسَنُ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ، وَمَا زَالَ الْعَمَلُ فِي التَّدْوِينِ لَهُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى هَذَا، وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ جُمْلَةُ الْفِقْهِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَا بَقِيَتْ دَارُ التَّكْلِيفِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ حُصُولِهِ أَجْمَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إذْ لَا قَائِلَ بِتَوَقُّفِ وُجُودِ حَقِيقَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ عَلَيْهِ بِرُمَّتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَاقِعِ لِيَنْتَفِيَ بِسَبَبِ انْتِفَاءِ تَمَامِ جُمْلَتِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(ثُمَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ) ، وَهُوَ كَوْنُ الْفِقْهِ الظَّنَّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ وَكَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَظْنُونَةَ لِلْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ (يَخْرُجُ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ) أَيْ يَخْرُجُ مِنْ الْفِقْهِ مَا صَارَ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْرُوفِ انْتِسَابُهَا إلَى دِينِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ صَارَ التَّصْدِيقُ بِهِ كَالتَّصْدِيقِ الْبَدِيهِيِّ فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مِنْ الدِّينِ الْعَوَامُّ الْقَاصِرُونَ وَالنِّسَاءُ النَّاقِصَاتُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَوَجْهُ الْخُرُوجِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْعِنَادَ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ مَفْهُومًا قَائِمٌ وَكَذَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ عَلَمًا، وَاشْتَرَطَ فِي كَوْنِهِ مُتَعَلَّقًا بِالْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ اسْتِدْلَالٍ قِيلَ: وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِقْهَ لَمَّا كَانَ لُغَةً: إدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ حَتَّى يُقَالُ فَقِهْت كَلَامَك وَلَا يُقَالُ فَقِهْت السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خُصَّ بِالْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَلَا يَخْرُجُ هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى قَوْلِنَا؛ لِأَنَّهُ جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ أَوْجُهٌ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْرِجَ إخْرَاجَ أَكْثَرِ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَهُمْ لِتَلَقِّيهِمْ إيَّاهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِسًّا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بَعْدَ هَذَا فَكَذَا مَا يُفْضِي إلَيْهِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ -: وَالْجَوَابُ عَنْ النُّكْتَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِقْهَ لُغَةً مَا ذَكَرْت فَقَدْ نَصَّ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ الْفَهْمُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ، وَعَلَى هَذَا لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَقِهْت السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ كَمَا لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَهِمْتهمَا بِمَعْنَى عَلِمْتهمَا وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَعَلَّ الْمَانِعَ أَنَّ الْفَهْمَ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ فِي خُصُوصِ هَذَا الْوَصْفِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ بِلَازِمٍ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَاشْتِرَاطُهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا فَإِنَّ ظُهُورَهُ إلَى هَذَا الْحَدِّ إنَّمَا هُوَ بِعَارِضِ كَوْنِهِ قَدْ صَارَ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْعُرُوض لَهُ بِمَانِعٍ مِنْ جَعْلِهِ مِنْ الْفِقْهِ، وَكَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَطْعًا مِنْ الْأَحْكَامِ لِلْأَعْمَالِ الْمُشَارِ إلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إذَا كَانَ مُصَرِّحًا بِهَذَا اللَّازِمِ لَوْ قَالَ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَخْرُجُ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ قَطْعًا لَكَانَ أَوْلَى لِشُمُولِهِ حِينَئِذٍ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
(وَأَمَّا قَصْرُهُ) أَيْ الْفِقْهَ (عَلَى الْيَقِينِ) أَيْ يَقِينِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِأَنْ جَعَلَ اسْمًا لَهُ حَيْثُ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (وَجَعَلَ الظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ) أَيْ هَذَا الْيَقِينِ، وَهُوَ مُقَدِّمَتَا الْقِيَاسِ الْمُوَصَّلِ إلَيْهِ كَمَا أَشَارَ إلَى هَذَا الصَّنِيعِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ، وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْبَيْضَاوِيِّ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضَ لِاعْتِرَاضِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ قِيلَ
الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ يَعْنِي فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ الْعِلْمُ جِنْسَ تَعْرِيفِهِ أَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ مَشْرُوحًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهَا عَنْ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَمْرٌ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ قَطْعًا وَكُلُّ مَظْنُونٍ لِلْمُجْتَهِدِ قَطْعًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا أَمَّا كَوْنُ الصُّغْرَى قَطْعِيَّةً فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ ظَنِّ الْحُكْمِ لَهُ وِجْدَانِيٌّ وَالْإِنْسَانُ يَقْطَعُ بِوُجُودِ ظَنِّهِ كَمَا يَقْطَعُ بِوُجُودِ جُوعِهِ وَعَطَشِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْكُبْرَى قَطْعِيَّةٌ فَقَالُوا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ ثُمَّ لَمْ يُعَيِّنْهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَلَا مُخْتَصِرُوهُ، وَعَيَّنَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ الْإِجْمَاعُ كَمَا نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ ثُمَّ الْغَزَالِيُّ فِي مُسْتَصْفَاهُ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَدَفَعَ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُخْتَارِ نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِيَّتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتِيًّا كَمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى حُجِّيَّةَ السُّكُوتِيِّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا، وَقَدْ نَقَلَهُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَحَيْثُ كَانَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ قَطْعِيَّتَيْنِ فَالْمَطْلُوبُ، وَهُوَ فَهَذَا الْحُكْمُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا قَطْعِيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ كَمَا رَأَيْت مِنْ التَّصْرِيحِ بِهِ مَحْمُولًا فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِظَنِّيَّةِ الْمُقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَوْنِ الْمُقَدِّمَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ فَإِنْ ظَنِّيًّا فَظَنِّيَّةٌ، وَإِنْ قَطِيعًا فَقَطْعِيَّةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفَانِ ظَنِّيَّيْنِ فِي نَفْسِهِمَا أَوْ قَطْعِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا وَالْآخَرُ قَطْعِيًّا، وَقَدْ عَلِمْت هُنَا قَطْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا الْمُقَدِّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنْ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَمُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِهِ) أَيْ فَهَذَا الصَّنِيعُ مُغَيِّرٌ لِمَفْهُومِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْمَعْنَى الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِنَفْسِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ. ثَانِيهِمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَيَقْصُرُهُ) أَيْ هَذَا الصَّنِيعُ الْفِقْهَ (عَلَى حُكْمٍ) وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا ظَنَّهُ الْمُجْتَهِدُ فَيَصِيرُ الْفِقْهُ كُلُّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ، وَقَدْ كَانَ الْعِلْمُ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَتَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةٍ وَإِبَاحَةٍ، وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُمَا فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ الْعِلْمُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِنْ ظَنَّ وُجُوبَهُ عَلِمَ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ حُرْمَتَهُ عَلِمَ حُرْمَةَ الْعَمَلِ بِهَا وَكَذَا الْبَاقِي وَالتَّعَرُّضُ لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ إلَّا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ وُجُوبُ اعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَظْنُونِ فَإِذَا كَانَ النَّدْبُ مَظْنُونًا وَجَبَ اعْتِقَادُ نَدْبِيَّتِهِ، وَهَكَذَا الْبَاقِي؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا دَلَالَةَ لِلْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّعْرِيفُ فَاسِدًا ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوَّلًا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَيُرَادُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ أَوَّلًا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَلَوْ قِيلَ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَأُرِيدَ بِهِ هَذَا مَجَازًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ أَوَّلًا مَمْنُوعٌ إذْ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمَا مُجَوِّزَةً لَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَمِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ لَيْسَ بِشَهِيرٍ وَلَا قَرِينَةَ ظَاهِرَةً عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَثَانِيًا الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، وَالْفِقْهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ. وَثَالِثًا إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْمَطْلُوبُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْأَحْكَامِ تَابِعَةً لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ ظَنِّهِ وَلَوْ خَطَأً فَلَا يَكُونُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَلَا وُجُوبَ اتِّبَاعِهِ مُوَصِّلًا لَهُ إلَى الْعِلْمِ، قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ: وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ، وَمَظْنُونُهُ حُكْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا طَابَقَ الْوَاقِعَ أَوْ لَا، وَهُوَ الَّذِي نِيطَ بِظَنِّهِ، وَأَوْصَلَهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ، وَمِنْ هَا هُنَا
يَنْحَلُّ الْإِشْكَالُ بِأَنَّا نَقْطَعُ بِبَقَاءِ ظَنِّهِ، وَعَدَمِ جَزْمِ مُزِيلٍ لَهُ، وَإِنْكَارُهُ بُهْتٌ فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِ لِتَنَافِيهِمَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الْبَاقِيَ مُتَعَلَّقٌ بِالْحُكْمِ قِيَاسًا إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِهِ مَقِيسًا إلَى الظَّاهِرِ (وَمَا قِيلَ فِي) وَجْهِ (إثْبَاتِ قَطْعِيَّةِ مَظْنُونَاتِ الْمُجْتَهِدِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّاجِحُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْعِبْرِيُّ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ الْمَفْصُولِ النَّتَائِجِ لِإِنْتَاجِ أَنَّ الْفِقْهَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ مُتَعَلَّقٍ بِمَعْلُومٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ الْحُكْم الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَأَنَّ الظَّنَّ إنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا نَفْسُهُ (مَظْنُونَةٌ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ (مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ) لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَيْهِ كَمَا سَلَفَ فَهَذِهِ صُغْرَى قَطْعِيَّةٌ (وَكُلُّ مَا قُطِعَ إلَخْ) أَيْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ (فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ) أَيْ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعِلْمُ بِهِ فَهَذِهِ كُبْرَى قَطْعِيَّةٌ أَيْضًا فَيَنْتُجُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لَازِمٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورَةً قَطْعِيَّةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُوَ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى مُحْتَاجًا إلَى كَسْبٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ تُجْعَلُ كُبْرَى هَذَا الْقِيَاسِ صُغْرَى لِكُبْرَى قِيَاسٍ آخَرَ هَكَذَا كُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ كُلَّ حُكْمٍ قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الْكُبْرَى الْمَذْكُورَةُ حِينَئِذٍ ثُمَّ تُجْعَلُ صُغْرَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ صُغْرَى لِقِيَاسٍ آخَرَ، وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ كُبَرَاهُ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَكُلُّ مَقْطُوعٍ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ يُنْتِجُ إذَا سَلِمَتْ مُقَدِّمَتَاهُ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَتَثْبُتُ الصُّغْرَى حِينَئِذٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ تَمَامَ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَسْلِيمِ مُقَدِّمَتَيْهِ أَوْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَمَامِهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ كُلٌّ مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مَسْلَمُ الصُّغْرَى (مَمْنُوعُ الْكُبْرَى) ، وَهِيَ وَكُلُّ مَا قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعِلْمِ بِهِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ بَلْ هَذَا هُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَثَلًا يَقْطَعُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْوِتْرِ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ وُجُوبِ الْوِتْرِ نَفْسِهِ بَلْ إنَّمَا ظَنَّهُ، وَقَطَعَ بِحُكْمٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْمَظْنُونِ فَهُوَ نَفْسُهُ مَظْنُونٌ وَلُزُومُ الْعَمَلِ قَطْعِيٌّ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ مَا ذَكَرَ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ بِهِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ إذَا الْمُقَلِّدُ قَاطِعٌ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ يَعْنِي، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ أَخَصًّ بِخُصُوصِهِ، وَإِنْ بَنَى عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ يَكُونُ ذِكْرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ضَائِعًا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ وَلَا يَمْنَعُ هَذَا اسْتِرْوَاحًا إلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ حِينَئِذٍ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ هَكَذَا الْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مَظْنُونٌ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ بَعْضَ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا فَلَا يُثْبِتُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ كُلُّ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ لِلْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا عَلَى أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى رَأْيٍ غَيْرِ سَدِيدٍ.
هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُصَنِّفِ لِلْفِقْهِ أَنَّهُ مَجْمُوعُ أَمْرَيْنِ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّ ذِكْرَهَا مِمَّا يُجْتَنَبُ فِي التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِي نَفْسِهِ وَخُصُوصًا إذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا التَّهَيُّؤُ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ مُطْلَقُهُ كَانَ الْفِقْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا لِغَيْرِ الْفَقِيهِ لِجَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَرِيبِ فَمُتَفَاوِتُ الْمَرَاتِبِ وَلِهَذَا يُفَضَّلُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا كُلِّيٌّ ضَابِطٌ لَهَا لِيَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فَلَزِمَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمُرَادَةِ مِنْهُ دَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَعْلُومٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَالْمُرَادُ بِالْمَلَكَةِ أَدْنَى مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ) لِلِاجْتِهَادِ بِقَرِينَةِ إضَافَتِهَا إلَى الِاسْتِنْبَاطِ، وَهِيَ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ
فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ، وَمَتَى نَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا (، وَهُوَ) أَيْ أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ ذَلِكَ (مَضْبُوطٌ) فِي شُرُوطِ مُطْلَقِ الِاجْتِهَادِ كَمَا سَيَأْتِي وَتَقَدَّمَتْ الْعِبَارَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ عَنْهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَضْبُوطَةٌ بِأَنْ يُرَادَ بِهَا الِاتِّصَافُ بِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَنِّ، وَلَا يَضُرُّ لُزُومُ اخْتِلَافِهَا بِالزِّيَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَصِحَّ إطْلَاقُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى أَحَدٍ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ قَطْعًا، وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَعَانِي اصْطِلَاحَاتِ هَذَا الْفَنِّ غَيْرُ ضَائِرٍ كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ فَلَا جَهَالَةَ قَادِحَةً فِي صِحَّةِ التَّعْرِيفِ ثُمَّ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ قَدْ بَقِيَ لِهَذَا التَّعْرِيفِ جُزْءٌ آخَرُ كَالصُّورَةِ لَهُ، وَهُوَ الْإِضَافَةُ وَكَمَا تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْجُزْأَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَالْمَادَّةِ لَهُ يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْجُزْءِ فَلِمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَعْنَى إضَافَةِ الْمُشْتَقِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْأَصْلِ اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْإِضَافَةِ مَثَلًا دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهَا فَأَصْلُ الْفِقْهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ وَمُسْتَنَدُهُ.
(وَعَلَى الثَّانِي) أَيْ وَأَمَّا تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ (فَقَالَ كَثِيرٌ أَمَّا تَعْرِيفُهُ) أَوْ حَدُّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ (لَقَبًا) أَيْ حَالَ كَوْنِ هَذَا الِاسْمِ لَقَبًا لِهَذَا الْعِلْمِ أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَعَبَّرُوا بِاللَّقَبِ لَا الْعَلَمِ (لِيُشْعِرُوا بِرَفْعِهِ مُسَمَّاهُ) أَيْ لِيُعْلِمُوا الْوَاقِفِينَ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِالتَّنْوِيهِ بِمُسَمَّى هَذَا الْعِلْمِ مَعَ تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ مُشْعِرٌ مَعَ تَمْيِيزِ الْمُسَمَّى بِرِفْعَتِهِ أَوْ ضِعَتِهِ، وَلَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِابْتِنَاءِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ عَلَى مُسَمَّاهُ، وَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ؛ لِأَنَّ بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ نِظَامَ الْمَعَاشِ وَنَجَاةَ الْمَعَادِ بِخِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنْ اسْمِهِ بِالْعَلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى هَذِهِ الرِّفْعَةِ فَإِنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْعَلَمِ الِاسْمَ، وَهُوَ إنَّمَا وُضِعَ عَلَى الْمُسَمَّى لِمُجَرَّدِ التَّمْيِيزِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَعْظِيمٍ وَلَا تَحْقِيرٍ.
(وَبَعْضُهُمْ عَلَمًا) أَيْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَمًا مَكَانَ لَقَبًا، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ لَقَبًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ؛ لِأَنَّ اللَّقَبَ أَخَصُّ مِنْ الْعَلَمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي اللَّقَبِ قَيَّدَ كَوْنُهُ مُنْبِئًا عَنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي كَوْنِهِ مُعَرَّفًا تَعْرِيفًا حَدِّيًّا، وَإِلَى شَرْحِ هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(لِأَنَّ التَّعْرِيفَ) الْحَدِّيَّ إنَّمَا هُوَ (إفَادَةُ مُجَرَّدِ الْمُسَمَّى لَا) إفَادَةُ الْمُسَمَّى (مَعَ اعْتِبَارِ مَمْدُوحِيَّتِهِ) الَّتِي هِيَ وَصْفٌ لَهُ أَيْضًا (وَإِنْ كَانَتْ) الْمَمْدُوحِيَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (ثَابِتَةً) لِلْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْحَدِّيَّ إنَّمَا هُوَ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ثُمَّ إذْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَمْدُوحِيَّةِ وَصَفًّا ثَابِتًا لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لَهُ بِاعْتِبَارِهَا لَمْ يَكُنْ التَّصْرِيحُ بِحَدِّهِ مُقَيَّدًا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ عَلَمِيَّتِهِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ عَلَى الْمَمْدُوحِيَّةِ نَفْيًا لِلْمَمْدُوحِيَّةِ (فَلَا يَعْتَرِضُ) عَلَى صَاحِبِ الْبَدِيعِ (بِثُبُوتِهَا) أَيْ بِأَنَّ الْمَمْدُوحِيَّةَ ثَابِتَةٌ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ: وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَهُ عَلَمًا لِعِلْمٍ هُوَ صَلَاحُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَدْحٌ لَهُ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَدْحِ فَيَكُونُ لَقَبًا وَجَوَابُهُ بِأَنَّ كَوْنَهُ مَدْحًا بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِهِ الْإِضَافِيِّ لَا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَلْقَابِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي كَوْنِهِ مَدْحًا تَسْمِيَتُهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَدْحِ قَبْلَهَا اهـ.
فَإِنَّ صَاحِبَ الْبَدِيعِ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ أَنَّهُ يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اسْمَهُ لَقَبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ مُسَمَّى لَفْظِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ إشْعَارِهِ بِذَلِكَ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَقَطْ وَكَذَلِكَ كُلُّ تَعْرِيفٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَقَبًا أَوْ لَا فَيَتَّجِهُ قَوْلُ الْقَائِلِ عَلَمًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَقَبًا ثُمَّ يَحْتَاجُ الْكُلُّ إلَى التَّقَصِّي عَمَّا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ إدْرَاكِهِ الْحَوَاسَّ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخَذْت الْعَوَارِضَ الْمُشَخِّصَةَ فِيهِ فَهِيَ فِي مَعْرِضِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِنْ اُقْتُصِرَ عَلَى مُقَوِّمَاتِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ حَدًّا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَخْصٌ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ الْمَحْدُودُ هُنَا هُوَ الْمُسَمَّى الْمَفْهُومُ لِلْعَلَمِ لَا لِلشَّخْصِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَمَّا تَعْرِيفُهُ عَلَمًا وَلَقَبًا
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ عَلَمٌ شَخْصِيٌّ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا إمَّا تَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَخْصِيٌّ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِّهِ هُنَا مَا يُفِيدُ امْتِيَازُهُ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَفْرَادِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ لَهُ تَعْرِيفًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفِيدُ ذَلِكَ وَالْحَدُّ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَلشَّخْصِيِّ كَمَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُشَخِّصَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا لَيْسَتْ فِي مَعْرِضِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ مَعَ فَرْضِ بَقَاءِ مَاهِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُقَوِّمَاتُ لَهَا حَتَّى مَتَى مَا زَالَتْ زَالَتْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الشَّخْصِيَّاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَخَذَ الْمُصَنِّفُ فِي تَمْهِيدِ تَحْقِيقٍ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ اخْتِلَافُ التَّعْرِيفِ الْعِلْمِيِّ بِاخْتِلَافِ مَا اسْمُ الْعِلْمِ مَوْضُوعٌ بِإِزَائِهِ فَقَالَ (وَكُلُّ عِلْمٍ كَثْرَةُ الْإِدْرَاكَاتِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا) الْإِضَافَةُ فِي كَثْرَة الْإِدْرَاكَاتِ، وَمُتَعَلِّقَاتهَا بَيَانِيَّةٌ أَيْ كُلُّ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَتَيْنِ كَثْرَةٌ هِيَ إدْرَاكَاتٌ وَكَثْرَةٌ هِيَ مُتَعَلَّقَاتُ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ بِفَتْحِ اللَّامِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْعِلْمِ إلَى الْمُتَعَلَّقِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْمَعْلُومِ لَا بُدَّ مِنْهَا إمَّا عَلَى أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَةِ الْعِلْمِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ فِيهَا فَظَاهِرٌ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا عَارِضٌ لَازِمٌ لَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْآخَرُ الرَّاجِحُ فَكَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكَاتِ مَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَاتِ بِالْمَسَائِلِ، وَيَعُمُّ الْمَبَادِئَ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ لَهَا، وَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ أَوْ التَّصْدِيقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الْمَبَادِئَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلْمِ وَشَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ مُوَافِقٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا سَمِعْته مِنْهُ فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ، وَالْإِدْرَاكُ أَيْ وُصُولُ النَّفْسِ إلَى الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ مِنْ نِسْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ عَلَى مَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَ وَالتَّصَوُّرَ، وَلِهَذَا قَدْ يُقْسَمُ إلَيْهِمَا وَيُجْعَلُ جِنْسًا لَهُمَا، وَهُوَ سَائِغٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ، وَمَا يَعُمُّ التَّصْدِيقَ بِهَلِيَةِ ذَاتِ الْمَوْضُوعِ أَيْضًا مَعَ تَصْرِيحِ بَعْضِ أَعْيَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعُلُومِ؛ لِأَنَّ شَيْخَنَا الْمُصَنِّفَ لَمْ يَخْتَرْهُ كَمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ وَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْمُدْرِكَاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكَاتِ التَّصْدِيقَاتِ وَبِالْمُتَعَلِّقَاتِ الْمَسَائِلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَقَاصِدَ الْعُلُومِ بِالذَّاتِ هِيَ مَسَائِلُهَا الَّتِي إدْرَاكَاتُهَا تَصْدِيقَاتٌ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْإِدْرَاكَاتُ التَّصْدِيقِيَّةُ، وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ فَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِيَرْتَبِطَ بَعْضُ الْمَسَائِلِ بِبَعْضٍ ارْتِبَاطًا يَحْسُنُ مَعَهُ جَعْلُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الْكَثِيرَةِ عِلْمًا وَاحِدًا، وَالْمَبَادِئُ اُحْتِيجَ إلَيْهَا لِتَوَقُّفِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَلَيْهَا تَوَقُّفَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْوَسِيلَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتُ التَّصْدِيقِيَّةُ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَمَّى بِاسْمٍ وَحِينَئِذٍ فَلَعَلَّ مَنْ جَعَلَ الْمَوْضُوعَ وَالْمَبَادِئَ مِنْ أَجْزَاءِ الْعُلُومِ تَسَامَحَ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْمَسَائِلِ إلَيْهِمَا فَنَزَلَا مَنْزِلَةِ الْأَجْزَاءِ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَشَارَكَتْ الْعُلُومُ كُلُّهَا فِي كَوْنِهَا تَصْدِيقَاتٍ وَأَحْكَامًا بِأُمُورٍ عَلَى أُخْرَى إنَّمَا صَارَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ عِلْمًا خَاصًّا بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ ارْتَبَطَ بِهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُمْتَازًا عَنْ الطَّوَائِفِ الْأُخَرِ بِحَيْثُ لَوْلَاهُ لَمْ يَعُدَّ عِلْمًا وَاحِدًا وَلَمْ يَسْتَحْسِنُوا إفْرَادَهُ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّعْلِيمِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ أَمَّا مَوْضُوعُ الْعِلْمِ بِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا مَوْضُوعَاتُ مَسَائِلِهِ رَاجِعَةٌ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْعَدَدِ لِلْحِسَابِ، وَأَمَّا غَايَتُهُ كَالصِّحَّةِ فِي مَسَائِلِ الطِّبِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ مَعًا كَمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إذْ الْبَحْثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لِاسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ قَالُوا: وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي جِهَةِ الْوَحْدَةِ هُوَ الْمَوْضُوعُ؛ لِأَنَّ الْمَحْمُولَاتِ صِفَاتٌ مَطْلُوبَةٌ لِذَوَاتِ الْمَوْضُوعَاتِ فَإِنْ اتَّحَدَ فَذَاكَ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنَاسُبِهَا فِي أَمْرٍ وَاتِّحَادِهَا بِحَسَبِهِ إمَّا فِي ذَاتِيٍّ كَأَنْوَاعِ الْمِقْدَارِ الْمُتَشَارِكَةِ فِيهِ لِعِلْمِ الْهَنْدَسَةِ أَوْ عَرَضِيٍّ كَمَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ فِي الِانْتِسَابِ إلَى الصِّحَّةِ وَكَأَقْسَامِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ إنْ جُعِلَتْ مَوْضُوعًا لِهَذَا الْفَنِّ، وَمِنْ ثَمَّةَ نَرَاهُمْ يَقُولُونَ تَمَايُزُ الْعُلُومِ بِتَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ بِأَنْ يَبْحَثَ فِي هَذَا عَنْ أَحْوَالِ شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَنَاسِبَةٍ، وَفِي ذَاكَ عَنْ
أَحْوَالِ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَنَاسِبَةٍ أُخْرَى وَلَا يَعْتَبِرُونَ رُجُوعَ الْمَحْمُولَاتِ إلَى مَا يَعُمُّهَا فَالْمَوْضُوعُ إمَّا وَاحِدٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَمَا إذَا قِيسَ الْمُتَعَدِّدُ إلَى وَحْدَةِ الْغَايَةِ.
وَذَهَبَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِهَةِ الْوَحْدَةِ هِيَ وَحْدَةُ الْغَايَةِ فَقَالَ (وَلَهَا وَحْدَةُ غَايَةٍ تَسْتَتْبِعُ وَحْدَةُ مَوْضُوعِهَا أَوَّلُ الْمُلَاحَظَةِ، وَفِي التَّحَقُّقِ الِاتِّصَافِي بِالْقَلْبِ) أَيْ وَلِلْإِدْرَاكَاتِ، وَمُتَعَلِّقَاتهَا الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْعِلْمِ جِهَةُ وَحْدَةٍ هِيَ غَايَتُهَا الْمَقْصُودَةُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ مِنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ بَلْ، وَمَنْ وَضَعَ مَوْضُوعَ تِلْكَ الْكَثْرَةِ أَيْضًا لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ فَتَحْصُلُ الْكَثْرَتَانِ ثُمَّ هَذِهِ الْوَحْدَةُ تَسْتَتْبِعُ وَحْدَةً أُخْرَى هِيَ وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ أَيْ تَجْعَلُ هَذِهِ الْوَحْدَةُ وَحْدَةَ الْمَوْضُوعِ تَابِعَةً لَهَا بَيَانُهُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ سَائِرِ الْعُلُومِ الَّذِي هُوَ تَعْلِيمُ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ ذَاتِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بَلْ مَعْرِفَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ مَقَاصِدَ أُخْرَى مُهِمَّةٍ، فَأَوَّلُ مَا يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ مَثَلًا طَلَبُ عِصْمَةِ اللِّسَانِ عَنْ الْخَطَأِ فِيمَا تُسَمِّيهِ الْإِعْرَابَ نَفْيًا لِلنَّقْصِ وَالْعَيْبِ عَنْهُ يَأْخُذُ يَنْظُرُ مَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ فَيَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ مَعْرِفَةُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْأَحْكَامِ لِلْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّرْكِيبِ فَيَضَعُ الْكَلِمَ الْعَرَبِيَّةَ لِيَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهَا مَاذَا يَكُونُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ فَمَا وَضَعَ الْمَوْضُوعَ لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِهِ إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْعِصْمَةُ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ الْغَايَةُ هَذَا فِي أَوَّلِ عُرُوضِ حَاجَتِهِ إلَى الْغَايَةِ ثُمَّ إذَا وَضَعَهُ وَبَحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِ وَاتَّصَفَ بِهَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ أَشْيَاءَ اتَّصَفَ بِنَفْسِ الْغَايَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْغَايَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى ذِي الْغَايَةِ مِنْ حَيْثُ التَّصَوُّرُ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ الِاتِّصَافِيُّ فَالِاتِّصَافُ بِنَفْسِ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَّصِفُ بَعْدَهُ بِالْغَايَةِ مَثَلًا بَعْدَ أَنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الْكَلِمِ الْعَرَبِيَّةِ فِي التَّرْكِيبِ اتَّصَفَ بِقُدْرَةٍ عَلَى عِصْمَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَفِي التَّحَقُّقِ الِاتِّصَافِيِّ بِالْقَلْبِ، وَمِنْ هُنَا قَالُوا: غَايَةُ الشَّيْءِ عِلَّةٌ لَهُ فِي الذِّهْنِ مَعْلُولَةٌ لَهُ فِي الْخَارِجِ أَيْ سَابِقَةٌ لَهُ فِي التَّصَوُّرِ فَإِنَّهَا بَاعِثَةٌ لِلْفَاعِلِ عَلَى إيجَادِ ذِي الْغَايَةِ فِي الْخَارِجِ مُتَأَخِّرٌ وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ وُجُودِهِ فِيهِ فَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ أَظْهَرُ ثُمَّ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ (وَأَسْمَاءُ الْعُلُومِ) الْمُدَوَّنَةِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمَا مَوْضُوعَةٌ اصْطِلَاحًا (لِكُلٍّ) مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ رَبَطَ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ وَجَعَلَ الْمَجْمُوعَ شَيْئًا وَاحِدًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ: يَعْنِي اسْمَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ النَّحْوُ مَثَلًا يُوضَعُ تَارَةً بِإِزَاءِ الْكَثْرَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِاعْتِبَارِهِ يُقَالُ هُوَ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْكَلِمِ إلَخْ، وَتَارَةً بِإِزَاءِ الْمَعْلُومَاتِ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ لِلْمُتَعَلَّقَاتِ بِتِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ وَبِاعْتِبَارِهِ يُقَالُ فُلَانٌ يَعْلَمُ النَّحْوَ فَإِنَّ الْمَعْنَى يَعْلَمُ أَحْكَامَ الْكَلِمِ لَا يَعْلَمُ الْعِلْمَ بِأَحْكَامِ الْكَلِمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَرَّةً لِهَذِهِ الْكَثْرَةِ وَلَا يُوضَعُ لِلْأُخْرَى، وَمَرَّةً يُوضَعُ لِلْأُخْرَى دُونَ هَذِهِ بَلْ كُلُّ اسْمٍ لِعِلْمٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ فَرْغٌ مَنْ وَضْعِهِ لِكُلٍّ مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ بِوَضْعَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ كُلَّ اسْمِ عِلْمٍ يُسْتَعْمَلُ عَلَى النَّحْوَيْنِ.
(وَكَذَا) نَقُولُ اسْتِطْرَادًا (الْقَاعِدَةُ وَالْقَضِيَّةُ) يُقَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا اصْطِلَاحًا لِكُلٍّ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَعَلَّقِ بِهَا الْعُلُومُ الْكَائِنَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ وَالنِّسْبَةِ، وَمِنْ الْعِلْمِ الْمُتَعَلَّقِ بِالنِّسْبَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّى بِالْحُكْمِ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْحُكْمَ مِنْ قَبِيلِ الْإِدْرَاكَاتِ فَهُوَ كَيْفٌ لَا فِعْلٌ لِلنَّفْسِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْكَارَ لَيْسَتْ مُوجِدَةً لِلنَّتَائِجِ بَلْ مُعَدَّاتٍ لِلنَّفْسِ لِقَبُولِ صُوَرِ النَّتَائِجِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ وَاهِبِهَا، وَهُوَ عِنْدَنَا اللَّهُ تبارك وتعالى. وَالنَّتِيجَةُ هِيَ الْعِلْمُ الثَّالِثُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ هُوَ إلَّا حُكْمًا بِأَنَّ كَذَا لِكَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّفْسِ فِيهِ فِعْلٌ وَتَأْثِيرٌ كَانَ صُورَةً إدْرَاكِيَّةً مُفَاضَةً مِنْ الْوَهَّابِ جل جلاله بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ فَلَزِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ فِعْلًا لَهَا كَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله قُلْت. وَمِنْ إطْلَاقِهِمَا مُرَادًا بِهِمَا الْإِدْرَاكُ إطْلَاقُ الْقَاعِدَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَجَازَ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، وَقَوْلُهُمْ الْقَضِيَّةُ إمَّا صَادِقَةٌ أَوْ كَاذِبَةٌ، وَمِنْ إطْلَاقِهِمَا مُرَادًا بِهِمَا الْمُدْرَكُ قَوْلُهُمْ الْقَاعِدَةُ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ كُبْرَى لِصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ وَالْقَضِيَّةُ قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ ثُمَّ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَدِيرَ بِكُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا بِحَدِّهِ أَوْ رَسْمِهِ لِيَكُونَ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَوْ زِيَادَتِهَا فِي طَلَبِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعِلْمِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ وَحْدَةِ الْمَوْضُوعِ أَوْ الْغَايَةِ أَوْ كِلْتَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِلْمِ تَتَمَيَّزُ عَنْ الْحَقَائِقِ الْأُخَرِ بِتِلْكَ الْجِهَةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ كَوْنُ التَّعْرِيفِ حَقِيقِيًّا أَوْ رَسْمِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ الْجَدِيرُ بِالطَّالِبِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ بِوَجْهٍ اسْتَحَالَ طَلَبُهُ وَلَوْ تَوَجَّهَ إلَى تَصَوُّرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ بِخُصُوصِهِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَعَسَّرَ وَلَوْ انْدَفَعَ إلَى طَلَبِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جُزْئِيٌّ لِلْمَفْهُومِ الْعَامِّ قَبْلَ ضَبْطِهَا بِجِهَةِ الْوَحْدَةِ لَمْ يَتَمَيَّزْ عِنْدَهُ الْمَطْلُوبُ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ الطَّلَبُ إلَى غَيْرِهِ فَيَفُوتَ مَا يَعْنِيهِ وَيَضِيعَ عُمُرُهُ فِيمَا لَا يُغْنِيهِ.
فَحِينَئِذٍ الْجَدِيرُ بِطَالِبِ عِلْمِ الْأُصُولِ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ أَوَّلًا بِحَدِّهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذْ كَانَ التَّعْرِيفُ لَهُ اسْمِيًّا، وَأَسْمَاءُ الْعُلُومِ تُقَالُ عَلَيْهَا بِكُلٍّ مِنْ الِاعْتِبَارَيْنِ فَحَسُنَ أَنْ يُعْرَفَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (فَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ فَيُقَالُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (هُوَ) أَيْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ (إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ) فَإِدْرَاكٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ الْقَوَاعِدَ جِنْسٌ صَالِحٌ؛ لَأَنْ تَكُونَ هِيَ مُتَعَلَّقَةٌ وَغَيْرُهَا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَبِإِضَافَتِهِ إلَى الْقَوَاعِدِ خَرَجَ إدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَمَا عَدَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْمُرَادُ بِإِدْرَاكِهَا التَّصْدِيقُ بِهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ كَمَا سَيَظْهَرُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ هُنَا الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا عِنْدَ تَعَرُّفِ أَحْكَامِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا حِينَئِذٍ الْمَعْلُومَاتُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُهُ.
وَبِقَوْلِهِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ خَرَجَتْ الْقَوَاعِدُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهَا مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا أَوْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى غَيْرِ الْفِقْهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ أَوْ الْعُلُومِ، وَمِنْهُ عِلْمُ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حِفْظِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَوْ هَدْمِهَا لَا إلَى اسْتِنْبَاطِهَا، وَمِنْهُ عِلْمُ الْجَدَلِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حِفْظِ رَأْيٍ أَوْ هَدْمِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا فَنِسْبَتُهُ إلَى الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْجَدَلِيَّ إمَّا مُجِيبٌ يَحْفَظُ وَضْعًا أَوْ مُعْتَرِضٌ يَهْدِمُ وَضْعًا نَعَمْ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ مِنْ مَسَائِلَ الْفِقْهِ، وَبَنَوْا نِكَاتَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تَوَهَّمَ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِهِ وَانْطَبَقَ التَّعْرِيفُ عَلَى مُسَمَّى أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ؛ لِإِخْرَاجِ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ كَمَا فَعَلَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ قُلْت مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِقْهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْحَدِّ إدْرَاكُ الْقَوَاعِدِ الْمُتَوَصَّلِ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ.
قُلْت لَا ضَيْرَ فِيهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِنْبَاطِ التَّصْدِيقِ الْمَذْكُورِ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِضَمِّ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي تَقَعُ كُبْرَى إلَى الصُّغْرَى السَّهْلَةِ الْحُصُولِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ لِيَخْرُجَ الْمَطْلُوبُ الْفِقْهِيُّ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ وَلَا نَكِيرَ فِي هَذَا غَايَتُهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا لِلْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ ثُمَّ تَرْكِيبُهَا مَعَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنْتِجِ لِلْمَطْلُوبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَةِ الشَّرَائِطِ وَالْقُيُودِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى قِيَامِ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ بِالْمُحَصَّلِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ هُوَ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا بَأْسَ بِالْقَوْلِ بِاخْتِصَاصِ قِيَامِ هَذَا الْعِلْمِ أَجْمَعَ بِمَنْ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ إمَّا عَادِمٌ لَهُ أَوْ ذُو حَظٍّ مِنْهُ بِحَسَبِهِ، وَلَا يُقَالُ التَّعْرِيفُ صَادِقٌ عَلَى الْعِلْمِ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِالتَّوَصُّلِ بِمَعْرِفَتِهَا التَّوَصُّلُ الْقَرِيبُ بِمُسَاعَدَةِ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ إذْ الْبَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْوَاسِطَةِ، وَمِنْهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا الْوَضْعِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يُقْتَدَرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِقَوَاعِدِ الْكَلَامِ إلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَوُجُوبِ صِدْقِهِمَا؛ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ التَّوَصُّلُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ فَيَكُونُ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْأُصُولِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ وَصْفَ الْقَوَاعِدِ بِالتَّوَصُّلِ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ اخْتِصَاصٍ لَهَا بِالْأَحْكَامِ، وَلَا كَذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَنْطِقِ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ يُتَوَصَّلُ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ طَرِيقٌ إلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ لِنَفْسِهِ، وَإِلَى أَنَّ غَايَتَهُ حُصُولُ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعُلُومِ الْآلِيَّةِ كَمَا أَنَّ غَايَةَ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ حُصُولُ نَفْسِهِ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ إذْ لَيْسَ مُسَمَّى الْغَايَةِ إلَّا مَا عَلِمْت اهـ.
وَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلَى وَحْدَةِ غَايَتِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْهُ هِيَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ (وَقَوْلُهُمْ) أَيْ جَمْعٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِ (عَنْ) الْأَدِلَّةِ (التَّفْصِيلِيَّةِ) بَعْدَ قَوْلِهِمْ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ كَمَا هُوَ تَعْرِيفُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَصَاحِبِ الْبَدِيعِ وَغَيْرِهِمَا (تَصْرِيحٌ بِلَازِمٍ) ظَاهِرٍ لِلِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا هُوَ دَاخِلٌ بِدُونِ ذِكْرِهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْإِجْمَالِيَّةِ حَتَّى يُحْتَرَزَ بِذِكْرِ التَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ فَلَا ضَيْرَ فِي تَرْكِهِ بَلْ لَعَلَّ تَرَكَهُ أَدْخَلُ فِي بَابِ التَّحْقِيقِ فِي شَأْنِ الْحُدُودِ. (وَإِخْرَاجُ) عِلْمِ (الْخِلَافِ) عَنْ تَعْرِيفِ عِلْمِ الْأُصُولِ (بِهِ) أَيْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدِيعِ فَإِنَّ قَوْلَ الْخِلَافِيِّ مَثَلًا ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ أَوْ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي وَلَمْ يُبَيِّنْهُ تَمَسُّكٌ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ (غَلَطٌ) فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي أَوْ الْمُنَافِي، وَإِنْ أَجْمَلَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَيَقُولُ ثَبَتَ مَعَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ كَذَا أَوْ مَعَ الْمُنَافِي، وَهُوَ كَذَا وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّ هُنَاكَ مُقْتَضِيًا أَوْ نَافِيًا.
مِثَالُهُ لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ الْمُعَلِّلُ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتَرْ فَلَيْسَ مِنِّي» كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ الشَّافِعِيُّ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ إذْ لَوْ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لَكَانَ مَعَ الْمُنَافِي بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَهُ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ» فَيَحْتَاجُ الْمُعَلِّلُ إمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ يُرَجِّحَ حَدِيثَ الْحَاكِمِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ، وَالْقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَّا دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا فَظَهَرَ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ لَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهِمْ عَنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ بَلْ إنَّمَا وَقَعَ بِمَا فِي الْحَدِّ مِنْ وَصْفِ الْقَوَاعِدِ بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ ثُمَّ نَقُولُ اسْتِطْرَادًا:(وَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ) تَعْرِيفِ (الْفِقْهِ) تَغْلِيبًا لِأَحَدِ جُزْأَيْهِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ إدْرَاكٌ، وَهُوَ كَالْأَصْلِ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ كَابْنِ الْحَاجِبِ تَعْرِيفُ الْأُصُولِ بِالْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ، وَفَسَّرَهُ أَعْيَانٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَسِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَسَعْدِ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيِّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ وَالْجَزْمِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا أَفَاضَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فَقَالَ (وَجَعْلِ الْجِنْسَ) فِي تَعْرِيفِ الْأُصُولِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْإِدْرَاكِ (الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ) لِلْوَاقِعِ لِمُوجِبٍ احْتِرَازًا بِالْجَزْمِ عَنْ الظَّنِّ وَبِالْمُطَابَقَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَحَذَفُوا هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا لِلْعِلْمِ بِهِمَا (مُشْكِلٌ بِقِصَّةِ الْمُخْطِئِ فِي) عِلْمِ (الْكَلَامِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَعْلِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ الظَّنِّيِّ لِلْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ لَهَا الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ صَرَّحَ
الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُخَالِفَ، وَإِنْ خُطِّئَ سَوَاءٌ بُدِّعَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَفِيمَا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَوْ كُفِّرَ كَالْمُجَسِّمَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَلَا عِلْمِهِ الَّذِي يَقْتَدِرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ عَقَائِدِهِ الْبَاطِلَةِ وَلَا مَسَائِلِهِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ عِلْمُ الْكَلَامِ يُقَالُ لِمَا يُبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهُ مَا يَصِيرُ مَعَهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً أَوْ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ الْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهِ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَأَلْزَمُهَا قَطْعًا بِالْمَسَائِلِ فَفِي الْأُصُولِ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ إدْرَاكَ الْمُخْطِئِ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي كُلِّ عِلْمٍ فَلَزِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا، وَيُرَادُ بِهِ ذَلِكَ. قُلْت: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْعُلُومِ إنَّمَا وُضِعَتْ بِإِزَاءِ مَا أَدَّى إلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ مَوْضُوعِهَا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ أَوْ الْمَسَائِلِ طَابَقَتْ أَوْ لَمْ تُطَابِقْ ثُمَّ هَذَا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُطَابِقِ هُنَا.
وَأَمَّا بَيَانُ الْمُقْتَضِي لِدُخُولِ التَّصْدِيقِ الظَّنِّيِّ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلِأَنَّا نَمْنَعُ اشْتِرَاطَهُ) أَيْ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ الْمُطَابِقَ (فِي الْأُصُولِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ مِمَّا يَكْفِي الظَّنُّ فِي أَنْ تُنْسَبَ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا، وَهِيَ الْكُلِّيَّاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خُصُوصِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ أَحْكَامُهَا كَالْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ يَجُوزُ وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَعُمُّ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَارِيَاتُ عَلَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَخَبَرُ الْقَهْقَهَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قُلْت: ثُمَّ هُنَا تَنْبِيهَاتٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنْ هَذَا الْمَنْعَ الثَّانِيَ الصَّرِيحَ الْمُتَسَلِّطَ عَلَى اشْتِرَاطِ جُمْلَةِ هَذَا الْمُرَكَّبِ التَّقْيِيدِيِّ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْجَزْمِ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ الْأَوَّلَ بِالْقُوَّةِ إنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ مِنْهُ وَلَا رَيْبَ فِي صِحَّةِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِجُمْلَةِ الْمُرَكَّبِ بِدُونِ وُجُودِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ. ثَانِيهَا: إنْ قُلْت كَيْفَ يَسُوغُ هَذَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَمْنَعُ قُلْت لَيْسَ هَذَا بِالْمَنْعِ الْمَمْنُوعِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ خَلَلٍ فِي الْحَدِّ أَوْجَبَ عَدَمَ كَوْنِهِ جَامِعًا، وَمِثْلُهُ لَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ. ثَالِثُهَا: إنْ قُلْت إذَا كَانَ هَذَا الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ طَرِيقًا إلَى الْفِقْهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ ظَنٌّ لِقَاعِدَةٍ مَظْنُونَةٍ فِي نَفْسِهَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْإِدْرَاكُ الْخَاصُّ الْمُتَعَلَّقُ بِجُزْئِيَّاتِهَا ظَنًّا أَيْضًا، وَأَنْ تَكُونَ جُزْئِيَّاتُ الْقَاعِدَةِ الْمَظْنُونَةِ مَظْنُونَةً أَيْضًا فَلَا يَتِمَّ كَوْنُ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ فَقَدْ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا بِمَا حَاصِلُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، وَمَنَعَ تَمَامَ كَوْنِ الْفِقْهِ التَّصْدِيقَ الْقَطْعِيَّ اصْطِلَاحًا، وَأَفَادَ أَنَّ ظَنَّ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ كَوُجُوبِ الْوِتْرِ وَحُرْمَةِ الْيَرَاعِ وَالشِّطْرَنْجِ وَاسْتِنَانِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ الْمَظْنُونَةِ مُتَعَلَّقَاتٌ لِلْفِقْهِ لَا مِنْ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِقْهِ لَيْسَتْ مِنْ ذَاتِهِ ثُمَّ إذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّازِمَ أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي تَعْرِيفِ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ لَفْظُ الْعِلْمِ جِنْسًا وَيُرَادُ بِهِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ (فَالْأَوْجَهُ كَوْنُهُ) أَيْ مَعْنَى الْعِلْمِ جِنْسًا فِي تَعْرِيفِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ (أَعَمَّ) مِنْ الْجَازِمِ وَالْمُطَابِقِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَذَا إنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ الْجَزْمَ بِالْمَسَائِلِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنْ اكْتَفَى بِهِ فَأَحْرَى.
ثُمَّ إنَّ الْأُصُولَ لَيْسَتْ كَالْكَلَامِ فَإِنَّ بَعْضَ مَسَائِلِهِ ظَنِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَلِهَذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى جَعْلِ الْجِنْسِ الْإِدْرَاكَ الْأَعَمَّ مِنْ الْيَقِينِ الْكَائِنِ فِي الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْكَائِنِ مِنْ الْمُخْطِئِ فِي خِلَافِيَّاتِهِ وَالظَّنِّ الْكَائِنِ فِي الظَّنِّيَّةِ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَعَلَى الثَّانِي) أَيْ وَيُقَالُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْمُدْرَكِ (الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا) إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا حَذَفَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ حَتَّى لَوْ أُرِيدَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ ذِكْرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ ثُمَّ عَرَفْت أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الْقَطْعُ وَلَا الْمُطَابَقَةُ، وَأَنَّ وَصْفَهَا بِكَوْنِهَا يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا تَوَصُّلًا قَرِيبًا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ مُخْرِجٌ لِمَا عَدَاهَا ثُمَّ لَا بَأْسَ أَنْ يُقَالَ تَوْضِيحًا (وَالْقَوَاعِدُ هُنَا) أَيْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ (مَعْلُومَاتٌ أَعْنِي الْمَفَاهِيمَ
التَّصْدِيقِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ نَحْوِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ) وَالنَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَخَبَرِ الْوَاحِدُ يُفِيدُ الظَّنَّ لَا نَفْسَ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ. (وَلِذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِلَفْظِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْلُومَاتُ (قُلْنَا) يُتَوَصَّلُ (بِمَعْرِفَتِهَا) ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مَعْرُوفَةً مُدْرَكَةً، وَإِلَّا كَانَ الْمَعْنَى يُتَوَصَّلُ بِعِلْمِ الْعِلْمِ كَذَا عَنْ الْمُصَنِّفِ يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْإِدْرَاكَاتِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُدْرَكَةً لِلْإِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي نَفْسِهَا إدْرَاكًا أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ شَخْصِيٌّ بَلْ التَّوَصُّلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَتِهَا بَلْ بِرِعَايَتِهَا وَاسْتِعْمَالِ مُقْتَضَيَاتِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُدْرِكَاتٍ أَوْ إدْرَاكَاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا صَالِحَةً لِلتَّوَصُّلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْآلَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَحْصِيلِ مَا وُضِعَتْ لِتَحْصِيلِهِ. نَعَمْ الشَّائِعُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا هُوَ مُدْرَكٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهِ، وَفِيمَا هُوَ إدْرَاكٌ فِي نَفْسِهِ يُتَوَصَّلُ بِهِ تَحَاشِيًا عَنْ صُورَةِ التَّكْرَارِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ فِي ظَنِّي إنِّي كُنْت قَدْ سَأَلَتْ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْقَوَاعِدَ هُنَا مَعْلُومَاتٌ مَعَ أَنَّهَا فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ فَأَجَابَنِي بِمَا مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا كَذَلِكَ هُنَاكَ لَبْسٌ وَاحْتِمَالٌ بِخِلَافِهَا هُنَا.
(وَمَعْنَاهَا) أَيْ الْقَاعِدَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُرَادًا بِهَا الْمَعْلُومُ فَيَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَاصَدَقَاتِهَا كَغَيْرِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تَضَمَّنَتْهَا، وَالْمُقَيَّدُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُطْلَقِ (كَالضَّابِطِ وَالْقَانُونِ وَالْأَصْلِ وَالْحَرْفِ) أَيْ مِثْلَ مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ اصْطِلَاحًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ لِمَعَانٍ غَيْرِ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لَهَا أَمَّا مَا عَدَا الْقَانُونَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْقَانُونُ فَلِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَفْظٌ سُرْيَانِيٌّ رُوِيَ أَنَّهُ اسْمُ الْمُسَطِّرِ بِلُغَتِهِمْ إمَّا مُسَطِّرُ الْكِتَابَةِ أَوْ الْجَدْوَلِ وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ الْمُتَرَادِفَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيهِ (قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ كُبْرَى سَهْلَةُ الْحُصُولِ) أَيْ لِقَضِيَّةٍ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ فَيَخْرُجُ الْفَرْعُ بِتَرْتِيبِهَا مَعَهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا لِلْعِلْمِ بِهِ ثُمَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا يُقَالُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ مُنْطَبِقٌ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ عِنْدَ تَعَرُّفِ أَحْكَامِهَا مِنْهُ فَإِذَنْ مَا فِي الْكِتَابِ أَجْلَى وَأَوْلَى ثُمَّ إنَّمَا وَصَفَ الْقَضِيَّةَ، وَقَدَّمْنَا تَعْرِيفَهَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْجُزْئِيَّةَ أَوْ الشَّخْصِيَّةَ لَا تُسَمَّى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَبِكَوْنِهَا كُبْرَى؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقِّقُ لِتَسْمِيَتِهَا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَبِكَوْنِ صُغْرَاهَا سَهْلَةَ الْحُصُولِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ حَمْلِ الْكُلِّيِّ عَلَى مَا هُوَ جُزْئِيٌّ لَهُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى سَبَبِ سُهُولَتِهَا بِقَوْلِهِ (لِانْتِظَامِهَا) أَيْ لِكَوْنِ صُغْرَاهَا مُنْتَظِمَةً (عَنْ) أَمْرٍ (مَحْسُوسٍ) وَالْمُرَادُ بِالْفَرْعِ الَّذِي يَخْرُجُ بِجَعْلِهَا كُبْرَى لِتِلْكَ الصُّغْرَى مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ حُكْمُ ذَلِكَ الْجُزْئِيِّ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ الْكُلِّيَّ ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (كَهَذَا نَهْيٌ، وَأَمْرٌ) إلَى مِثَالَيْنِ لِلصُّغْرَى الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْأُصُولِ، وَهُمَا أَنْ يُقَالَ مَثَلًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] هَذَا أَوْ {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] نَهْيٌ، وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 83] هَذَا أَوْ {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] أَمْرٌ إذْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 83] شَيْءٌ مَحْسُوسٌ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الْقَاعِدَةَ الَّتِي هِيَ وَكُلُّ نَهْيٍ لِلتَّحْرِيمِ وَكُلُّ أَمْرٍ لَلْوُجُوبِ انْتَظَمَتْ مَعَهُ كُبْرَى، وَخَرَجَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْفَرْعُ، وَهُوَ {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] لِلتَّحْرِيمِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 83] لِلْوُجُوبِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَمِثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ قَوْلُنَا كُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ لِلْمُوصَى بِهِ انْتَظَمَتْ الصُّورَةُ السَّهْلَةُ الْمُسْنَدَةُ إلَى الْحِسِّ، وَهُوَ قَوْلُنَا هَذَا تَصَرُّفٌ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ وَتُضَمُّ الْكُبْرَى هَكَذَا وَكُلُّ تَصَرُّفٍ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُوصَى بِهِ فَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَيَخْرُجُ الْفَرْعُ هَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ هُنَا تَنْبِيهٌ وَتَكْمِيلٌ فَالتَّنْبِيهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ عَلَى اعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْمُدْرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ التَّعَرُّضُ لِتَعْرِيفِهِ إلَّا لِوُقُوعِهِ جُزْءًا مِنْ تَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ وَحَيْثُ عَرَّفَهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِهِ، وَأَنْتَ إذَا أَرَدْت تَعْرِيفَهُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ لِلْكَثْرَةِ الْمُدْرَكَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْك مِمَّا تَقَدَّمَ
فَعَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي سَلَكَهُ الْمُصَنِّفُ الْمَسَائِلُ الَّتِي مَوْضُوعَاتُهَا أَعْمَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ، وَمَحْمُولَاتُهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَعَلَى سَبِيلِ مَنْ خَصَّصَهُ بِالظَّنِّ إبْدَالُ الْقَطْعِيَّةِ بِالظَّنِّيَّةِ، وَعَلَى طَرِيقِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا التَّكْمِيلُ فَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْعِلْمِ كَمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ كُلٍّ مِنْ الْكَثْرَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوضَعُ بِإِزَاءِ الْمَلَكَةِ وَيُعَرَّفُ بِاعْتِبَارِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شَرْحِ غَيْرِ مَا تَعْرِيفٍ بَلْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَفَاضِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعِلْمَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِدْرَاكِ مَجَازٌ فِي الْقَوَاعِدِ الْمُدْرَكَةِ إطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَلَمْ يُجْعَلْ حَقِيقَةً فِيهَا تَرْجِيحًا لِلْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَكَذَا إطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَلَكَةِ مَجَازٌ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمَلَكَةُ أَوْ الْقَوَاعِدُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا آيَةُ النَّقْلِ فَلَفْظُ الْعِلْمِ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ وَاصْطِلَاحِيَّةٌ اهـ. وَعَلَى هَذَا فَتَعْرِيفُهُمَا عَلَى مِنْهَاجِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَالَ: الْأُصُولُ الْمَلَكَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَتِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْفِقْهِ هَذَا إنْ أُرِيدَ بِالْفِقْهِ إحْدَى الْكَثْرَتَيْنِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَكَةُ قِيلَ إلَى حُصُولِ الْفِقْهِ أَوْ إلَى الْفِقْهِ، وَالْفِقْهُ الْمَلَكَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِاعْتِقَادٍ وَلِاسْتِنْبَاطٍ.
(وَهَذَا) التَّعْرِيفُ (اسْمِيٌّ) وَكَذَا مَا تَقَدَّمَهُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّصَهُ لِقُرْبِهِ وَظُهُورِ جَرَيَانِ هَذَا فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حُدُودًا اسْمِيَّةً؛ لِأَنَّهَا تَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ، وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ مَا الَّتِي لِطَلَبِ مَفْهُومِ الِاسْمِ، وَمُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ، وَهُوَ هُنَا لِإِفَادَةِ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ إجْمَالًا، وَمِنْ ثَمَّةَ تَعَدَّدَ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي اللَّفْظِ وَلَوْ كَانَ حَدًّا ذَاتِيًّا تَامًّا لَمْ يَتَعَدَّدْ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ لَهُ حَدَّانِ ذَاتِيَّانِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعِبَارَةِ بِأَنْ يَذْكُرَ بَعْضَ الذَّاتِيَّاتِ بِالْمُطَابَقَةِ تَارَةً وَبِالتَّضَمُّنِ أُخْرَى بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ جَائِزُ التَّعَدُّدِ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّلُ الْوَاضِعِ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ فَيَتَحَدَّ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ وَالْحَقِيقِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ يَكُونُ اسْمِيًّا وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقِيًّا.
مَثَلًا: تَعْرِيفُ الْمُثَلَّثِ فِي مَبَادِئِ الْهَنْدَسَةِ بِشَكْلٍ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ بِالْبُرْهَانِ الْهَنْدَسِيِّ يَصِيرُ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَالَ (وَلَا يُنَافِي) التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ التَّعْرِيفَ (الْحَقِيقِيَّ) ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَثْبُتْ خِلَافٌ صَرِيحُ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ وَغَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ حَيْثُ هُمَا وَلَا فِي جَوَازِ كَوْنِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي جَوَازِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ:(وَاخْتُلِفَ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ حَيْثُ إنَّهُ هَلْ يَكُونُ (مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ) فِي الْعِلْمِ (وَلَا خِلَافَ فِي خِلَافِهِ كَمَا قِيلَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي خِلَافِ الْحَقِيقِيِّ الْمَذْكُورِ مُقَدِّمَةٌ لِلشُّرُوعِ، وَهُوَ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُقَدِّمَةً لَهُ فَإِنَّهُ جَائِزًا لِوُجُودٍ بِلَا خِلَافٍ عَلَى مَا قِيلَ (لِإِمْكَانِ تَصَوُّرِ مَا تَتَّصِفُ بِهِ) النَّفْسُ مِنْ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَلَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ التَّصْدِيقِ الَّذِي اتَّصَفَتْ بِهِ النَّفْسُ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ إذْ لَا خَفَاءَ فِي إمْكَانِ تَصَوُّرِ النِّسْبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَاَلَّتِي لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ التَّصَوُّرِ إذْ قَدْ يُسْتَبْعَدُ تَصَوُّرُهُ بِوَاسِطَةِ أَنَّ حُصُولَ الشَّيْءِ فِي النَّفْسِ هُوَ تَصَوُّرُهُ خَصَّهُ بِإِزَالَةِ الْوَهْمِ فَقَالَ (وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ (تَصَوُّرًا إذْ الْحُصُولُ لَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ تَصَوُّرُ الْحَاصِلِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدَّ تَصَوُّرُ ذَاتِ الْمَحْدُودِ إجْمَالًا وَغَايَةُ حَادِّ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالْعِلْمِ بِجَمِيعِ مَسَائِلِهِ، وَالِاتِّصَافُ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ كَالشُّجَاعِ مُتَّصِفٌ بِالشُّجَاعَةِ، وَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ الْعَالِمِ بِالْمَسَائِلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّصَوُّرَاتِ تَصَوُّرٌ لَهَا عَلَى سَبِيلِ
الْإِجْمَالِ فَيَكُونُ تَصَوُّرًا مُتَعَلَّقًا بِتَصَوُّرٍ حَاصِلٍ لِيَصِيرَ مُتَصَوَّرًا إجْمَالًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَسَائِلَ تَفْصِيلًا لَا يَصِيرُ عَالِمًا دَائِمًا بِتَفْصِيلِهَا فِي مَشَاهِدِ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ لِبَسَاطَتِهَا لَا تُدْرِكُ الْمُتَعَدِّدَ التَّفْصِيلِيَّ إلَّا عَلَى التَّعَاقُبِ، وَإِذَا تَمَّ كَذَلِكَ صَارَ عِنْدَهَا صُورَةٌ إجْمَالِيَّةٌ مِنْهُ حَاصِلَةٌ فَصَحَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا تَصَوُّرٌ لَهَا اهـ. فَظَهَرَ أَنَّ التَّصَوُّرَ لَا حَجْرَ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّصَوُّرِ، وَعَدَمِ التَّصَوُّرِ ثُمَّ كَمَا أَنَّ الْحُصُولَ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّصَوُّرَ كَذَلِكَ التَّصَوُّرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُصُولَ وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ لِلْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ ارْتِسَامَ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ تَرْتَسِمَ فِيهَا بِنَفْسِهَا فِي ضِمْنِ جُزْئِيَّاتِهَا وَذَلِكَ حُصُولُهَا وَلَيْسَ تَصَوُّرُهَا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ عَلَى قِيَاسِ حُصُولِ الشَّجَاعَةِ لِلنَّفْسِ الْمُوجِبَةِ لِاتِّصَافِهَا بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَصَوَّرَهَا وَالثَّانِي أَنْ تَرْتَسِمَ فِيهَا بِمِثَالِهَا وَصُورَتِهَا، وَهَذَا هُوَ تَصَوُّرُهَا لَا حُصُولُهَا عَلَى قِيَاسِ تَصَوُّرِ الشَّجَاعَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ اتِّصَافَ النَّفْسِ بِهَا ثُمَّ أَفَاضَ فِي بَيَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فَقَالَ (فَقِيلَ لَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقِيقِيُّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ (لِأَنَّ الْكَثْرَةَ) الْخَاصَّةَ الْإِدْرَاكِيَّةَ أَوْ الْمُدْرَكِيَّةَ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ، وَقَدْ وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهَا لَهَا جِهَةُ وَحْدَةٍ اعْتِبَارِيَّةٍ هِيَ وَحْدَةُ الْغَايَةِ أَوْ الْمَوْضُوعِ كَمَا سَلَفَ. وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ (بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ) الِاعْتِبَارِيَّةِ (لَا تَصِيرُ نَوْعًا حَقِيقِيًّا) ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ يَكُونُ بِذِكْرِ الذَّاتِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ الْكُلِّيُّ لِلْمَحْدُودِ وَالْمُمَيَّزُ الْكُلِّيُّ الدَّاخِلُ، وَهُوَ الْفَصْلُ وَجِهَةُ الْوَحْدَةِ الْمَأْخُوذَةُ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ إنَّمَا هِيَ عَارِضَةٌ مِنْ عَوَارِضِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْمُنْتَزَعُ مِنْ تِلْكَ الْكَثْرَةِ جِنْسًا وَفَصْلًا حَقِيقِيَّيْنِ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ حَدًّا حَقِيقِيًّا بَلْ رَسْمًا وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَمُقْتَضَى هَذَا) التَّعْلِيلِ (نَفْيُهُ مُطْلَقًا) أَيْ نَفْيُ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ وَغَيْرَ مُقَدِّمَةٍ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَفِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنْ الدَّعْوَى فَلَوْ صَحَّ لَبَطَلَ مَا الْمُبْطِلُ مُعْتَرَفٌ بِصِحَّتِهِ، وَهُوَ جَوَازُ وُجُودِ الْحَقِيقِيِّ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ مَنْعَ الْجَوَازِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ (بِسَرْدِ الْعَقْلِ كُلَّ الْمَسَائِلِ) أَيْ بِتَصَوُّرِ جَمِيعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْمَحْدُودِ أَوْ بِتَصَوُّرِ جَمِيعِ التَّصْدِيقَاتِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِهَا لِمَا عَرَفْت أَنَّ حَقِيقَةَ كُلِّ عِلْمٍ مَسَائِلُهُ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْمَعْلُومَاتِ أَوْ التَّصْدِيقُ بِمَسَائِلِهِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ (وَلَيْسَ) الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إذْ كَانَ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرْنَا (الْمُقَدِّمَةَ) لِلشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْحَقِيقِيَّ حِينَئِذٍ بِمَعْرِفَتِهَا نَفْسِهَا، وَذَلِكَ هُوَ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ نَفْسِهِ لَا مُقَدِّمَةَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ هُوَ مُقَدِّمَةُ الشُّرُوعِ فِيهِ (وَقِيلَ نَعَمْ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ (لِأَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا) أَيْ مُتَعَلَّقَاتِ الْإِدْرَاكَاتِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسُ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وَضْعِ اسْمِ الْعِلْمِ بِإِزَائِهِ (كَالْمَادَّةِ) لِمُسَمَّى الْعِلْمِ فَيَنْتَزِعُ الْعَقْلُ مِنْهَا وَاحِدًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ سَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا (وَوَحْدَتِهَا) أَيْ وَحْدَةِ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَهِيَ وَحْدَةُ الْمَوْضُوعِ (الدَّاخِلَةُ) فِي مُسَمَّى الْعِلْمِ اصْطِلَاحًا (كَالصُّورَةِ) لِمُسَمَّى الْعِلْمِ فَيَنْتَزِعُ الْعَقْلُ مِنْهَا كُلِّيًّا خَاصًّا بِذَلِكَ الْمُسَمَّى (فَيَنْتَظِمُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ أَوْ مُتَعَلَّقَاتِهَا، وَمِنْ وَحْدَتِهَا (جِنْسًا، وَفَصْلًا) بِأَنْ يَكُونَ مَا هُوَ كَالْمَادَّةِ جِنْسًا قَرِيبًا، وَمَا هُوَ كَالصُّورَةِ فَصْلًا قَرِيبًا فَيَتَحَقَّقُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ (مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ) فِي انْتِظَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمَا حَدًّا حَقِيقِيًّا (إلَى سَرْدِ الْكُلِّ) أَيْ إلَى تَصَوُّرِ كُلِّ الْمَسَائِلِ أَوْ تَصَوُّرِ كُلِّ التَّصْدِيقَاتِ بِهَا عَلَى التَّقْدِيرِ، وَإِذَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُهُ بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ مُقَدِّمَةً لِلشُّرُوعِ فِي الْعِلْمِ قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَانْدَفَعَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَضَمَّنَ دَفْعَ الثَّانِيَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ حَدُّ الْعِلْمِ الْحَقِيقِيِّ بِأَمْرَيْنِ كُلِّيَّيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ بِمَعْرِفَةِ عَيْنِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ جُزْئِيَّاتٌ، وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِهَا بَلْ بِالْمُنْتَزَعِ الْكُلِّيِّ مِنْهَا كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ الْمُنْتَزَعِ مِنْ زَيْدٍ اهـ.
وَفِي انْدِفَاعِ الْأَوَّلِ بِمَا سَبَقَ مَا لَا يَخْفَى بَلْ