الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَكُونُ أَجَلًا لِكُلٍّ إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُنَقِّصُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ لَا غَيْرُ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَمْلِ عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ مَا يَتَحَوَّلُ ظِلُّ عَمُودِ الْمِغْزَلِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَمِنْ هُنَا قَالَ أَصْحَابُنَا: أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا ذُكِرَ هَذَا دَلِيلًا لِلْإِمَامِ عَلِيٍّ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ سَنَتَانِ وَنِصْفُ سَنَةٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَأَمَّا فِي الْمِثَالِ الثَّانِي فَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ (وَكَدَلَالَةِ) مَا يُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (تَمْكُثُ) إحْدَاهُنَّ (شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تُصَلِّي) جَوَابًا لِقَائِلٍ وَمَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ لَمَّا قَالَ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ (عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ) يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِهِ بَيَانُ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَأَمَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قُصِدَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَالْمُبَالَغَةُ تَقْتَضِي ذِكْرَ أَكْثَرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ فَحِينَئِذٍ لَوْ كَانَ زَمَانُ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ زَمَانُ الصَّلَاةِ وَهُوَ وَزَمَانُ الطُّهْرِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ قَضَاءً لِحَقِّ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ (لَوْ تَمَّ) كَوْنُ الْمُرَادِ بِالشَّطْرِ هُنَا النِّصْفَ (لَكِنْ الْقَطْعُ بِعَدَمِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ النِّصْفِ بِهِ) أَيْ بِالشَّطْرِ هُنَا (لِأَنَّ أَيَّامَ الْإِيَاسِ وَالْحَبَلِ وَالصِّغَرِ مِنْ الْعُمُرِ، وَمُعْتَادَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ لَا تَكَادُ تُوجَدُ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعُمُومِ بِوُجُودِهِ فِي فَرْدٍ نَادِرٍ، وَاسْتِعْمَالُ الشَّطْرِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الشَّيْءِ) أَيْ بَعْضٍ مِنْهُ (شَائِعٌ {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَمَكَثْت شَطْرًا مِنْ الدَّهْرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ) أَيْ بَعْضِ الْعُمْرِ هُوَ (الْمُرَادَ بِهِ) أَيْ بِشَطْرِ عُمْرِهَا هُنَا تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ وَاسْتِكْثَارًا لِلْقَلِيلِ، وَفِي تَقْرِيرِ وَجْهِ دَلَالَتِهِ مَا يُوَافِقُهُ ثُمَّ هَذَا بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قَالَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَا يُعْرَفُ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ثُمَّ النَّوَوِيُّ مَعَ زِيَادَةِ بَاطِلٍ بِخِلَافِ دَلِيلِ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ
(تَنْبِيهٌ) ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ جَعَلُوا مَا سَمَّاهُ مَشَايِخُنَا عِبَارَةً وَإِشَارَةً وَاقْتِضَاءً مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ إلَّا أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَجْعَلْ الْمَنْطُوقَ غَيْرَ الصَّرِيحِ مِنْ الْمَنْطُوقِ، وَلَا مِنْ الْمَفْهُومِ بَلْ قَسِيمًا لَهُمَا وَالْبَيْضَاوِيُّ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَغَيْرِ الصَّرِيحِ مِنْ الْمَنْطُوقِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ جُنُوحٍ إلَيْهِ
[أَقْسَام الْمَفْهُومُ]
(وَالْمَفْهُومُ) يَنْقَسِمُ (إلَى مَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ وَهُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ) أَيْ مَعْنَاهُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ (وَلَحْنُهُ) وَهُوَ مَعْنَاهُ أَيْضًا يُسَمَّى تَنْبِيهَ الْخِطَابِ أَيْضًا وَهُوَ (مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ) أَيْ دَلَالَةِ النَّصِّ (إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ) أَيْ الشَّافِعِيَّةِ (مَنْ شَرَطَ أَوْلَوِيَّةَ الْمَسْكُوتِ بِالْحُكْمِ) مِنْ الْمَنْطُوقِ فِي كَوْنِهِ ثَابِتًا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ عَلَى مَا فِي بُرْهَانِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ مَشَى عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشَارِحُو كَلَامِهِ وَعَزَاهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، قَالَ الْمُصَنِّفُ:(وَلَا وَجْهَ لَهُ) أَيْ لِهَذَا الشَّرْطِ (إذْ بَعْدَ فَرْضِ فَهْمِ ثُبُوتِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (لِلْمَسْكُوتِ كَذَلِكَ) أَيْ كَفَهْمِ ثُبُوتِهِ لِلْمَنْطُوقِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ اللُّغَةِ (وَلَا وَجْهَ لِإِهْدَارِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ) نَعَمْ إنْ كَانَ هَذَا شَرْطًا مِنْهُمْ لِمُجَرَّدِ تَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحًا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ كَمَا اصْطَلَحَ بَعْضُهُمْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَعَلَى مَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِيهِ بِلَحْنِ الْخِطَابِ كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَكَالْأُولَى اتِّفَاقًا كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ (وَعِبَارَتُهُمْ) أَيْ بَعْضِ الشَّارِطِينَ لِمَا سَيَظْهَرُ وَهُوَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْمُنْتَهَى
(تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى) مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] كَمَا تَقَدَّمَ (وَقَلْبُهُ) أَيْ وَبِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى (مِثْلُ) قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ اسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيٌّ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ ذَهَبًا فَأَدَّاهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اُؤْتُمِنَ عَلَى دِينَارٍ مَثَلًا
يُؤَدِّهِ إلَى الْمُؤْتَمِنِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى لِأَنَّ مُؤَدِّيَ الْكَثِيرِ مُؤَدِّي الْقَلِيلِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى (وَقَدْ يَكْتَفِي بِالْأَوَّلِ) وَهُوَ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ (عَلَى أَنْ يُرَادَ) بِالْأَدْنَى (الْأَدْنَى مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ) الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ وَبِالْأَعْلَى الْأَكْثَرُ مُنَاسَبَةً لَهُ فَالْحُكْمُ فِي مَنْعِ التَّأْفِيفِ الْإِكْرَامُ وَالتَّأْفِيفُ أَقَلُّ مُنَاسَبَةً بِهِ مِنْ الضَّرْبِ، وَفِي أَدَاءِ الْقِنْطَارِ الْأَمَانَةُ.
وَفِي عَدَمِ أَدَاءِ الدِّينَارِ عَدَمُ الْأَمَانَةِ (فَالْقِنْطَارُ أَقَلُّ مُنَاسَبَةً بِالتَّأْدِيَةِ مِنْ الدِّينَارِ، وَالدِّينَارُ أَقَلُّ مُنَاسَبَةً بِعَدَمِهَا مِنْهُ) أَيْ بِعَدَمِ التَّأْدِيَةِ مِنْ الدِّينَارِ فَشَمِلَ تَنْبِيهُهُ بِالْأَدْنَى جَمِيعَ الصُّوَرِ وَهَذَا تَدْقِيقٌ لَحَظَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ الْعَلَّامَةِ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ التَّنْبِيهَ بِالْأَعْلَى اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ (وَلِاعْتِبَارِ الْحَنَفِيَّةِ الْمُسَاوِيَ) أَيْ وَلِكَوْنِ الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ مُسَاوَاةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ (أَثْبَتُوا الْكَفَّارَةَ) كَمَا عَلَى الْمُظَاهِرِ عَلَى الصَّائِمِ (بَعْدَ الْأَكْلِ) أَوْ الشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مُبِيحٍ شَرْعِيٍّ وَلَا شُبْهَةٍ مُلْحَقَةٍ بِهِ (كَالْجِمَاعِ) أَيْ كَمَا أَوْجَبَهَا النَّصُّ بِالْجِمَاعِ الْعَمْدِ كَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِهَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ (لِتَبَادُرِ أَنَّهَا) أَيْ الْكَفَّارَةَ (فِيهِ) أَيْ فِي الْجِمَاعِ الْعَمْدِ مِنْ غَيْرِ مُبِيحٍ شَرْعِيٍّ مُسْقِطٍ لَهَا (لِتَفْوِيتِ الرُّكْنِ اعْتِدَاءً) أَيْ لِعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاطَ بِهِ فِي النَّصِّ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ الَّتِي مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا أَكْثَرُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ عَمْدًا عُدْوَانًا بِالْإِخْلَالِ بِرُكْنِهِ الَّذِي هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ.
فَإِنَّ هَذَا كَمَا يُوجَدُ بِالْجِمَاعِ يُوجَدُ بِهِمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا هُوَ مُتَبَادَرٌ إلَى فَهْمِ كُلِّ مَنْ عَرَفَ مَعْنَى الصَّوْمِ شَرْعًا، وَسَمِعَ النَّصَّ الْمَذْكُورَ لَا الْوِقَاعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَإِنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ السَّائِلُ فِي النَّصِّ وَمِنْ ثَمَّةَ أَثْبَتْنَا بَقَاءَ الصَّوْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا فِي الْجِمَاعِ نَاسِيًا، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَنَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَاضٍ بِتَسَاوِي الْكَفِّ عَنْ الْجَمِيعِ فِي الرُّكْنِيَّةِ شِدَّةً وَأَشَدِّيَّةً لَا بِأَشَدِّيَّةِ رُكْنِيَّةِ الْكَفِّ عَنْ الْجِمَاعِ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَيَلْزَمُهُ الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ هِيَ الشَّرْطُ وَهَذَا التَّوْجِيهُ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا سَلَكَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ كَمَا يَظْهَرُ لِمَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ مَعَ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ (وَلَمَّا انْقَسَمَ) مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ (إلَى قَطْعِيٍّ) وَهُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالْمَعْنَى، وَكَوْنُهُ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ قَطْعِيَّيْنِ (كَمَا سَبَقَ) فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] لِفَهْمِ كُلِّ عَارِفٍ بِاللُّغَةِ قَطْعًا أَنَّ حُرْمَةَ التَّأْفِيفِ مُعَلَّلَةٌ بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَأَنَّ حُرْمَةَ الضَّرْبِ أَنْسَبُ فِي ذَلِكَ مِنْ حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ (وَظَنِّيٍّ) هُوَ مَا يَكُونُ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِالْمَعْنَى وَكَوْنُهُ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ ظَنِّيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا (كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ) الَّتِي هِيَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ (فِي) الْقَتْلِ (الْخَطَأِ) لِلْمُسْلِمِ بِأَنْ رَمَى شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا أَوْ رَمَى غَرَضًا فَأَصَابَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ (وَغَيْرِ الْغَمُوسِ) أَيْ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ الَّتِي هِيَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ الشَّخْصُ أَهْلَهُ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْتَطِيعِ وَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى الْحَانِثِ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ بِالنَّصِّ عَلَى ذَلِكَ.
(فَفِيهِمَا) أَيْ فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْخَطَأِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَفَّارَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ حَالٍّ أَوْ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ (أَوْلَى) مِنْ وُجُوبِ الْأُولَى فِي الْخَطَأِ وَالثَّانِيَةِ فِي الْمُنْعَقِدَةِ (لِفَهْمِ الْمُتَعَلَّقِ) أَيْ تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِيهِمَا (بِالزَّجْرِ) عَنْ ارْتِكَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَاحْتِيَاجُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعِدْوَانِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ إلَى الزَّاجِرِ أَشَدُّ مِنْ احْتِيَاجِ الْخَطَأِ وَالْمُنْعَقِدَةِ إلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ ظَنِّيٌّ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُوَافِقْهُ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ بَلْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمَنَاطَ لَهَا فِيهِمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ
بِقَوْلِهِ (لَا بِتَدَارُكِ مَا فُرِّطَ بِالثَّوَابِ) أَيْ تَلَافِي مَا فُرِّطَ مِنْ التَّثْبِيتِ فِي الرَّمْيِ وَالتَّحَفُّظِ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ الْيَمِينِ أَوْ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ مَا يَلْزَمُ الْحِنْثُ بِسَبَبِهِ بِجَبْرِهِ بِمَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَخْلُو عَنْهُ.
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمَعْنَى الْعِبَادَةُ فِيهَا أَغْلَبُ أَمْ الْعُقُوبَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ وُجُوبُهَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَالْغَمُوسِ مُسَاوِيًا لِوُجُوبِهَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْمُنْعَقِدَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْبَلَا التَّدَارُكَ وَالتَّلَافِيَ بِهَذَا الْقَدْرِ لِعَظْمِهِمَا وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى فَلَا جَرَمَ (جَازَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا) أَيْ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ الَّتِي هِيَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ (وَالْخَطَأِ) فِيهَا أَيْضًا إذَا كَانَتْ ظَنِّيَّةً (كَمَا ذَكَرْنَا) الْآنَ فِي مَنَاطِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ إذْ لَا بِدَعَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْمَظْنُونَاتِ وَخَطَأِ بَعْضِهَا وَلَا سِيَّمَا الْمُتَعَارِضَةِ مِنْهَا (وَلِذَا) أَيْ وَلِجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَظْنُونِ مِنْهَا (فَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاللِّوَاطَةِ عَلَى دَلَالَةِ نَصِّ وُجُوبِهِ بِالزِّنَا بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِهِ) أَيْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالزِّنَا (بِسَفْحِ الْمَاءِ) أَيْ إرَاقَةِ الْمَنِيِّ (فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى) أَيْ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وَتَمِيلُ إلَيْهِ لِلِّينِ وَالْحَرَارَةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ مَعَ أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي تَضْيِيعِ الْمَاءِ لِانْتِفَاءِ تَوَهُّمِ الْحَبَلِ فِيهَا بِخِلَافِ الزِّنَا.
(وَالْحُرْمَةُ قَوِيَّةٌ) أَيْ وَالْحَالُ أَيْضًا أَنَّ حُرْمَتَهَا أَقْوَى مِنْ حُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا مُؤَبَّدَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الزِّنَا فَإِنَّهَا قَدْ تَنْكَشِفُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ بِالْعَقْدِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَلْحَقُ وُجُوبُ الْحَدِّ بِهَا بِوُجُوبِهِ بِالزِّنَا دَلَالَةً، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (وَالْإِمَامُ) أَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ وُجُوبَ حَدِّهِ فِيهَا لِانْتِفَاءِ وُجُوبِهِ فِيهَا دَلَالَةً فَإِنَّهُ (يَقُولُ السَّفْحُ) فِي الزِّنَا (أَشَدُّ ضَرَرًا) مِنْ السَّفْحِ فِيهَا (إذْ هُوَ) أَيْ السَّفْحُ فِيهِ (إهْلَاكُ نَفْسٍ مَعْنًى) وَمِنْ ثَمَّةَ قَرَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] لِأَنَّ إلْقَاءَ الْبَذْرِ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ مُفْضٍ إلَى النَّبَاتِ ظَاهِرًا، وَالْوَلَدُ مِنْ جِنْسِ النَّبَاتِ فَيَنْبُتُ وَإِذَا نَبَتَ وَلَيْسَ لَهُ مُرَبٍّ وَلَا قَيِّمٌ لِكَوْنِ النِّسَاءِ عَاجِزَاتٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْفَاقِ غَالِبًا يَهْلِكُ وَيَضِيعُ فَيُفْضِي الزِّنَا إلَى الْإِتْلَافِ بِالْآخِرَةِ (وَهُوَ) أَيْ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ بِنَاءً (عَلَى اعْتِبَارِهِ) أَيْ إهْلَاكِ نَفْسٍ مَعْنًى (الْمُنَاطَ) فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الزِّنَا (لَا مُجَرَّدَهُ) أَيْ لَا مُجَرَّدَ سَفْحِ الْمَاءِ الْمُنَاطِ فِيهِ لِحِلِّ سَفْحِ الْمَاءِ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الْمَذْكُورِ بِالْعَزْلِ كَمَا أَفَادَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ فَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا فِي هَذَا الْحُكْمِ.
وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي اللِّوَاطَةِ فَلَمْ يُسَاوِ تَضْيِيعُ الْمَاءِ فِيهَا تَضْيِيعَهُ فِي الزِّنَا فِي الْمُنَاسَبَةِ لِهَذَا الْحُكْمِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَبْلَغَ مِنْهُ (وَالشَّهْوَةُ أَكْمَلُ) فِي الزِّنَا مِنْهَا أَيْضًا (لِأَنَّهَا) أَيْ الشَّهْوَةَ فِيهِ (مِنْ الْجَانِبَيْنِ) الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا لِمَيَلَانِ طَبْعِهِمَا إلَيْهِ بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ فَقَطْ؛ إذْ الْمَفْعُولُ بِهِ يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِطَبْعِهِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ فَيَكُونُ الزِّنَا أَغْلَبَ وُجُودًا، وَأَسْرَعَ حُصُولًا فَيَكُونُ إلَى الزَّاجِرِ أَحْوَجَ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهَا دَلَالَةً (وَهَذَا) الْقَوْلُ (أَوْجَهُ) مِنْ قَوْلِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا (وَالتَّرْجِيحُ) الَّذِي ذَكَرَاهُ (بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الْحُرْمَةِ) فِي اللِّوَاطَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي الزِّنَا (سَاقِطٌ) بِالنِّسْبَةِ إلَى إيجَابِ الْحَدِّ أَلَا يُرَى أَنَّ حُرْمَةَ الدَّمِ وَالْبَوْلِ فَوْقَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُرْمَتَهَا لَا تَزُولُ أَبَدًا أَوْ حُرْمَةُ الْخَمْرِ تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهِمَا كَمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ.
(وَكَذَا قَوْلُهُمَا بِإِيجَابِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ) أَيْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِإِيجَابِ الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْبِنْيَةُ كَالْحَجَرِ الْعَظِيمَةِ وَالْخَشَبَةِ الْجَسِيمَةِ عَمْدًا عُدْوَانًا بِدَلَالَةِ وُجُوبِهِ بِالْقَتْلِ بِمَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ مِنْ سَيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْجَهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِعَدَمِ إيجَابِهِ بِالْمُثْقَلِ (لِظُهُورِ تَعَلُّقِهِ) أَيْ الْقَتْلِ بِمَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ (بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ) لَا بِمُجَرَّدِ إتْلَافِ الْبِنْيَةِ بِمَا يُفَرِّقُ أَجْزَاءَهَا؛ لِأَنَّ الْآلَةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمُوجِبِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قُلْنَا: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِتَعَمُّدِ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ الْأَكْلَ أَوَالشُّرْبَ لِمَا يَصْلُحُ غِذَاءً أَوْ دَوَاءً بِدَلَالَةِ نَصِّ الْوِقَاعِ، وَلَمْ نَقِفْ عِنْدَ كَوْنِ آلَةِ الْإِفْسَادِ وَالْهَتْكِ فِي مُوجِبِيَّتِهَا فِي النَّصِّ الْوِقَاعَ (وَيَتَحَقَّقُ) الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ (بِمَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْبِنْيَةُ) مِنْ الْمُثْقَلِ كَمَا
يَتَحَقَّقُ بِمَا يُفَرِّقُ أَجْزَاءَهَا بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَبْلَغَ بِالْمُثْقَلِ؛ لِأَنَّهُ يُزْهِقُ الرُّوحَ بِنَفْسِهِ وَالْجَارِحَ بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ.
(فَادِّعَاءُ قُصُورِهِ) أَيْ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ (فِي الْعَمْدِيَّةِ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مَرْجُوحٌ) كَمَا هُوَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى اللَّبِيبِ الْمُنْصِفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْلُ بِأَنَّ مِنْ الدَّلَالَةِ قِسْمًا ظَنِّيًّا تَنَازَعَتْهُ آرَاءُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ الْمُبَرَّزِينَ مَعَ أَنَّ الدَّلَالَةَ مَا يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ مُشْكِلٍ لِظُهُورِ عَدَمِ صِدْقِ هَذَا عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ تَوَارُدَ الْأَفْهَامِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خَفَاءٍ وَلَا اخْتِلَافٍ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْقَطْعِيِّ فَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ مَا حَصَرَهَا فِيهِ أَوْ ذُكِرَ شَيْءٌ فِي بَيَانِهَا يُصَحِّحُ صِدْقَهَا عَلَى هَذَا أَيْضًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ
(وَإِلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ وَهُوَ دَلَالَتُهُ) أَيْ اللَّفْظِ (عَلَى) ثُبُوتِ (نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ وَهُوَ أَقْسَامٌ مَفْهُومُ الصِّفَةِ عِنْدَ تَعْلِيقٍ بِمَوْصُوفٍ بِمُخَصِّصٍ) فَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْمَوْصُوفِ بِمَا يُنْقِصُ شُيُوعَ مَعْنَاهُ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِهِ لَهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَبِمُخَصِّصٍ عَلَى بِنَاءِ اسْمِ الْفَاعِلِ مُتَعَلِّقٌ بِمَوْصُوفٍ، وَهُوَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ بِوَصْفٍ مُخَصِّصٍ (لَا كَشْفٍ) أَيْ لَا يُوصَفُ كَاشِفٌ عَنْ مَعْنَى الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20]{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ ثَعْلَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَاهِرٍ لَمَّا سَأَلَهُ مَا الْهَلَعُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبْيَنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الَّذِي إذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ.
وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ، وَمَنَعَ النَّاسَ (وَمَدْحٍ وَذَمٍّ) أَيْ: وَلَا بِوَصْفٍ مَادِحٍ وَلَا ذَامٍّ وَلَا مُتَرَحِّمٍ عَلَى الْمَوْصُوفِ أَيْضًا نَحْوِ جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ، أَوْ الْجَاهِلُ أَوْ الْفَقِيرُ إذَا كَانَ زَيْدٌ مُتَعَيِّنًا قَبْلَ ذِكْرِهَا وَلَا بِوَصْفٍ مُؤَكِّدٍ، وَهُوَ مَا مَوْصُوفُهُ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَاهُ كَأَمْسِ الدَّابِرِ لَا يَعُودُ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا مَوْصُوفَاتِهَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَحَدُهَا بَلْ لِقَصْدِ إفَادَةِ اتِّصَافِهَا بِهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّرَحُّمِ وَالتَّأْكِيدِ (وَمَخْرَجِ الْغَالِبِ كَاَللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أَيْ وَلَا بِوَصْفٍ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَوَصْفِ الرَّبَائِبِ بِاَللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَهُنَّ جَمْعُ رَبِيبَةٍ بِنْتُ زَوْجَةِ الرَّجُلِ مِنْ آخَرَ سُمِّيَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَرُبُّهَا غَالِبًا كَمَا يَرُبُّ وَلَدَهُ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى سُمِّيَتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرُبَّهَا وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ الْهَاءُ مَعَ أَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ اسْمًا فَإِنَّ كَوْنَهُنَّ فِي حُجُورِ أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ هُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِنَّ فَوَصْفُهُنَّ بِهِ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ (فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ) أَيْ فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْكَلَامُ الْمُفِيدُ لِتَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهِنَّ فِي حُجُورِهِمْ وَلَعَلَّ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ تَقْوِيَةُ الْعِلَّةِ وَتَكْمِيلُهَا.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّبَائِبَ إذَا دَخَلْتُمْ بِأُمَّهَاتِهِنَّ، وَهُنَّ فِي احْتِضَانِكُمْ أَوْ بِصَدَدِهِ قَوِيَ الشَّبَهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فَصَارَتْ أَحِقَّاءَ بِأَنْ تُجْرُوهَا مُجْرَاهُمْ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه جَعْلُهُ شَرْطًا حَتَّى إنَّ الْبَعِيدَةَ عَنْ الزَّوْجِ لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَأَسْنَدَهُ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي الْعَكْسَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ لَا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا فَالْمُتَكَلِّمُ يَكْتَفِي بِدَلَالَتِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا عَنْ ذِكْرِهِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لِانْحِصَارِ غَرَضِهِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَادَةً فَغَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ إفْهَامُ السَّامِعِ ثُبُوتَهَا لِلْحَقِيقَةِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ لِخُلُوِّ الْقَيْدِ عَنْ الْفَائِدَةِ لَوْلَاهُ، وَهُوَ إذَا كَانَ الْغَالِبُ يُفْهَمُ مِنْ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ أَوَّلًا لِغَلَبَتِهِ فَذِكْرُهُ بَعْدَهُ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ.
وَهَذِهِ فَائِدَةٌ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَفْهُومِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْغَالِبِ وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ الْغَالِبَ مُلَازِمٌ لِلْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ فَذِكْرُهُ مَعَهَا عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا لِحُضُورِهِ فِي ذِهْنِهِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَانْدَفَعَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الَّذِي أُرَاهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ التَّعْلِيقَ بِالْمَفْهُومِ
لَكِنْ ظُهُورُهُ أَضْعَفُ مِنْ ظُهُورِ غَيْرِهِ (وَجَوَابِ سُؤَالٍ عَنْ الْمَوْصُوفِ) أَيْ وَلَا بِوَصْفٍ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ عَنْ مَوْصُوفٍ بِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ فَقَالَ «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» فَإِنَّ تَقْيِيدَهُ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِيهَا بِالسَّائِمَةِ هُنَا لِبَيَانِ الْجَوَابِ فِي مَحَلِّ السُّؤَالِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِهَا (وَبَيَانِ الْحُكْمِ لِمَنْ هُوَ لَهُ) أَيْ وَلَا بِوَصْفٍ خَرَجَ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِمَنْ يَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لَهُ كَمَا لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ غَنَمٌ سَائِمَةٌ لَا غَيْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» .
فَإِنَّ تَقْيِيدَ إيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا بِالسَّائِمَةِ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ غَيْرِهِ لِمَنْ هِيَ لَهُ (لِتَقْدِيرِ جَهْلِ الْمُخَاطَبِ بِحُكْمِهِ) أَيْ لِتَقْدِيرِ الْمُتَكَلِّمِ جَهْلَ الْمُخَاطَبِ بِحُكْمِ الْمَوْصُوفِ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِهِ فَضْلًا عَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِجَهْلِ الْمُخَاطَبِ بِهِ (أَوْ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ) أَيْ: أَوْ لِتَقْدِيرِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِحَالِ السُّكُوتِ عَنْهُ كَظَنِّهِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ (أَوْ جَهْلِهِ) أَيْ أَوْ لِتَقْدِيرِ جَهْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَالِ الْمَسْكُوتِ كَالْمَعْلُوفَةِ فِيمَا مَثَّلْنَا إذَا كَانَ قَائِلُهُ غَيْرَ الشَّارِعِ إذْ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمَفْهُومِ بِكَلَامِ الشَّارِعِ حَتَّى يَمْتَنِعَ هَذَا فِيهِ (وَخَوْفٍ يَمْنَعُ ذِكْرَ حَالِهِ) أَيْ وَلَا بِوَصْفٍ يَكُونُ السَّبَبُ فِي ذِكْرِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ خَوْفًا يَمْنَعُ ذِكْرَهُ حَالَ الْمَسْكُوتِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ لِلْمَنْطُوقِ فِيهِ كَقَوْلِ قَرِيبِ الْإِسْلَامِ لِعَبْدِهِ بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمُرَادُهُ وَغَيْرِهِمْ وَتَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّهَمَ بِالنِّفَاقِ (أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَكُونُ فَائِدَةُ ذِكْرِهِ غَيْرَ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْمَفْهُومِ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ ظُهُورِ مَا عَدَا نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ مِنْ الْفَوَائِدِ فَإِذَا ظَهَرَتْ فَائِدَةُ غَيْرِهِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا ثُمَّ مَثَّلَ لِمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَفْهُومُ لِفَرْضِ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ بِقَوْلِهِ (كَفِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ يُفِيدُ) الْوَصْفُ بِالسَّوْمِ (نَفْيَهُ) أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ (عَنْ الْعَلُوفَةِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ الْمَعْلُوفَةِ ثُمَّ كَوْنُ هَذَا مِثَالًا لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ مَحْكِيٌّ عَنْ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ
وَذَكَرَ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ لِاخْتِلَالِ الْكَلَامِ بِدُونِهِ كَاللَّقَبِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى السَّوْمِ الزَّائِدِ عَلَى الذَّاتِ مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ مُلَاحَظُ الْإِرَادَةِ تَقْدِيرًا وَلِلْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمَذْكُورِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا خَاصًّا كَالْغَنَمِ تَعَيَّنَ وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا فِيهِ إذَا كَانَ مَذْكُورًا وَهُوَ أَنَّ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الرَّازِيّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْطُوقَ لَا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي نَوْعٍ آخَرَ فَالْمَفْهُومُ أَوْلَى أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّبَعِ لَهُ وَآخَرِينَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ نَفْيَهَا عَنْ الْمَعْلُوفَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ بِصِفَةٍ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمُ يَتْبَعُ عِلَّتَهُ فِي طَرَفَيْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا خَاصًّا كَانَ الظَّاهِرُ الْقَصْدَ إلَى مَا يَعُمُّ الْأَجْنَاسَ كَالْأَنْعَامِ لِصَلَاحِيَّةِ الْقَصْدِ وَفَقْدِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَوُجُودِ مَانِعٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ إذْ لَيْسَ كَوْنُ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ مُرَادًا دُونَ الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَحِينَئِذٍ يُفِيدُ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ مِنْ سَائِرِهَا (وَالشَّرْطُ) أَيْ وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِحُكْمٍ مُعَلَّقٍ (عَلَى شَرْطٍ) لِمَذْكُورٍ عَلَى نَقِيضِهِ فِي الْمَسْكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فَلَا نَفَقَةَ لِمُبَانَةٍ غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْحَامِلِ مِنْ الْمُبَانَاتِ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ الشَّرْطِ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُبَانَةِ ذَاتَ حَمْلٍ لِمَذْكُورٍ هُوَ ذَاتُ الْحَمْلِ فِي الْمَسْكُوتِ وَهُوَ الْمُبَانَةُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمُطَلَّقَةٍ غَيْرِهَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ لَا (وَالْغَايَةُ) أَيْ وَمَفْهُومُ الْغَايَةِ وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِحُكْمٍ (عِنْدَ مَدِّهِ) أَيْ الْحُكْمِ (إلَيْهَا) أَيْ الْغَايَةِ عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] (فَتَحِلُّ) لِلْأَوَّلِ (إذَا نَكَحَتْ) غَيْرَهُ كَمَا هُوَ مَفْهُومُ الْغَايَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا
مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي بَعْدَ الْغَايَةِ وَالْحِلِّ نَقِيضُ الْحُكْمِ الْمَمْدُودِ إلَيْهَا هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا بَعْدَهَا مَنْطُوقٌ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا فَقَوْلُهُ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارٍ لِضَرُورَةِ تَتْمِيمِ الْكَلَامِ فَهُوَ إمَّا ضِدُّ مَا قَبْلَهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ فَيُقَدَّرُ حَتَّى تَنْكِحَ فَتَحِلَّ قَالَ: وَالْإِضْمَارُ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْفُوظِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضْمَرُ لِسَبْقِهِ إلَى فَهْمِ الْعَارِفِ بِاللِّسَانِ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ وَضْعِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ عَنْ صَاحِبِ الْبَدِيعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْعَدَدُ) أَيْ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ وَهُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِحُكْمٍ (عِنْدَ تَقْيِيدِهِ) أَيْ الْحُكْمِ (بِهِ) أَيْ بِالْعَدَدِ عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْعَدَدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّمَانِينَ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ وُجُوبِ الْجَلْدِ الْمُقَيَّدِ بِالْعَدَدِ فِيمَا عَدَاهُ ثُمَّ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ وَالْمَحْدُودَ وَالْمَعْدُودَ مَوْصُوفَةٌ فِي الْمَعْنَى بِمَضْمُونِ الشَّرْطِ وَالْحَدِّ وَالْعَدَدِ (فَرَجَعَ الْكُلُّ) الْمَاضِي ذِكْرُهُ مِمَّا عَدَا الصِّفَةَ (إلَى الصِّفَةِ مَعْنًى) لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالصِّفَةِ النَّعْتَ بَلْ الْمُتَعَرِّضَ لِقَيْدٍ فِي الذَّاتِ نَعْتًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بَلْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ: حَصَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي وُجُوهٍ مِنْ التَّخْصِيصِ التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ وَالْعَدَدِ وَالْحَدِّ أَيْ الْغَايَةِ وَالتَّخْصِيصِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ثُمَّ قَالَ لَكِنْ لَوْ عَبَّرَ مُعَبِّرٌ عَنْ جَمِيعِهَا بِالصِّفَةِ لَكَانَ مُنْقَدِحًا فَإِنَّ الْمَحْدُودَ وَالْمَعْدُودَ مَوْصُوفًا بِعَدَدِهِمَا وَحْدَهُمَا، وَالْمَخْصُوصُ بِالْكَوْنِ فِي مَكَان وَزَمَانٍ مَوْصُوفٍ بِالِاسْتِقْرَارِ فِيهِمَا قُلْت إلَّا أَنَّهُ وَإِنْ رَجَعَ الْجَمِيعُ إلَيْهَا لَمْ يُعْطَ سَائِرَ أَحْكَامِهَا فَقَدْ قَالُوا قَالَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ مِنْ اللُّغَوِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ كُلُّ مَنْ قَالَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ كُلٌّ مَنْ قَالَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَقَالُوا: أَقْوَى الْأَقْسَامِ مَفْهُومُ الْغَايَةِ ثُمَّ مَفْهُومُ الشَّرْطِ ثُمَّ مَفْهُومُ الصِّفَةِ، وَعِبَارَةُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَالصِّفَةُ الْمُنَاسِبَةُ فَمُطْلَقُ الصِّفَةِ غَيْرُ الْعَدَدِ فَالْعَدَدُ، وَقَالُوا: وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى (وَالِاتِّفَاقُ) بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَى (أَنَّهُ ظَنِّيٌّ) إلَّا أَنَّ بَيْنَ أَقْسَامِهِ تَفَاوُتًا فِي الظَّنِّ كَمَا ذَكَرْنَا (وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ تَعْلِيقٌ بِجَامِدٍ) أَيْ دَلَالَةُ تَعْلِيقِ حُكْمٍ بِاسْمِ جَامِدٍ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ (كَفِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ غَيْرِ الْغَنَمِ
(وَالْفِرَقُ) مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ (عَلَى نَفْيِهِ) أَيْ الْقَوْلِ بِهِ (سِوَى شُذُوذٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَنْفُونَهُ) أَيْ اعْتِبَارَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ (بِأَقْسَامِهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ فَقَطْ) فَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْخَبَّازِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْهِدَايَةِ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيِّ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فِي خِطَابَاتِ الشَّارِعِ فَأَمَّا فِي مُتَفَاهَمِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ يَدُلُّ اهـ.
وَتَدَاوَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَيَتَرَاءَى أَنَّ عَلَيْهِ مَا فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ وَالْخَانِيَّةِ لَوْ قَالَ مَالِكٌ: عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِائَةِ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ عَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ فِي: مَا لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ، وَلَا أَقَلُّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْحَنَفِيَّةِ مُعْظَمُهُمْ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُعَارَضًا بِمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالذِّكْرِ أَوْ ذَا أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ فَخَصَّ بَعْضَهَا بِهِ ثُمَّ عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ، وَكَذَا كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنُ وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا ثُمَّ يُقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَرْخِيِّ عَلَى مَا فِي الْمِيزَانِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِ شَيْخِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْكَرْخِيِّ، وَفِي الْبَدَائِعِ مُشِيرًا إلَى مَا أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْ ابْن عُمَرَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنَا أَنْ
نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ قَالَ لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ» الْحَدِيثَ فَإِنْ قِيلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرْبُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَأَجَابَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، وَهَذَا حَيْدٌ عَنْ الْجَوَابِ أَوْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَذْكُورٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ ثُمَّ ذَكَرَ أَجْوِبَةً مِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمِخْيَطَ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيْدٌ عَنْ الْجَوَابِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَوَابِ عَنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَلَى أَنَّ التَّنْصِيصَ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ عِنْدَنَا فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَأَمَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ اهـ.
فَأَفَادَ مَا تَرَى مِنْ التَّقْيِيدِ ثُمَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ فَقَطْ يُفِيدُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّهُمْ لَا يَنْفُونَهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا لَا يَنْفُونَهُ فِي الْعُرْفِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ فِي النِّضَالِ فِي هَذَا الْمَجَالِ ثُمَّ لَمَّا كَانُوا مُوَافِقِينَ عَلَى غَالِبِ أَحْكَامِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُوهِمًا كَوْنَهُمْ قَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِيهَا حَتَّى وَقَعَ لِصَاحِبِ الْمَطْلَبِ فَعَزَا إلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ لِإِسْقَاطِهِ الزَّكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ أَشَارَ إلَى الْمُسْتَنَدِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَعَ اسْتِطْرَادِ بَيَانِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فِي الْمِثَالِ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ بِحُكْمِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِيهِ فَقَالَ (وَيُضِيفُونَ حُكْمَ الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَمَفْهُومِ الشَّرْطِ (إلَى الْأَصْلِ) أَيْ مَا هُوَ الْحُكْمُ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يُخَالِفُونَهُ (إلَّا لِدَلِيلٍ) يَقْتَضِي مُخَالَفَتَهُ (وَالْأَخِيرَيْنِ) أَيْ مَفْهُومِ الْغَايَةِ وَمَفْهُومِ الْعَدَدِ (إلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ السَّمْعُ) فَيَقُولُونَ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْلُوفَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا وَلَا فِي الْمَعْلُوفَةِ ثُمَّ الشَّارِعُ أَوْجَبَهَا فِي السَّائِمَةِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه الْمُسْنَدُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: وَفِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، وَسَكَتَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ فَبَقِيَ حُكْمُهَا عَلَى مَا كَانَ لِفَقْدِ مَا يُوجِبُ خِلَافَهُ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النَّفْيَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ وَالْبَقَرَةِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» فَفِي كَوْنِهِ نَصًّا فِي الْمَطْلُوبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ نَظَرٌ (وَيَمْنَعُونَ نَفْيَ النَّفَقَةِ) لِلْمُبَانَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحَامِلٍ فَيَقُولُونَ: تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمُبَانَةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ قَبْلَ النِّكَاحِ لِلدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ وَيَقُولُونَ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمُطَلِّقِهَا بِنِكَاحِ غَيْرِهِ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ إذَا خَرَجَتْ مِنْ عِدَّتِهِ اسْتِصْحَابًا بِالْأَصْلِ الْكَائِنِ قَبْلَ هَذَا كُلِّهِ فِيهَا الَّذِي أَقَرَّهُ السَّمْعُ بِعُمُومَاتٍ مُتَنَاوِلَةٍ لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَبِعَدَمِ حِلِّ ضَرْبِ الْقَاذِفِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ مَا يَزِيدُ عَلَى الثَّمَانِينَ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ الْكَائِنِ قَبْلَ ارْتِكَابِ هَذَا السَّبَبِ الَّذِي أَقَرَّهُ السَّمْعُ بِالْعُمُومَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَنْعِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْأَذَى الْمُتَنَاوِلَةِ لَهُ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا فَائِدَةُ وَصْفِ الْأَصْلِ فِي هَذَيْنِ بِهَذَا الْوَصْفِ هَذَا
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ عِنْدَنَا مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّيْءِ انْتِهَاءٌ لَهُ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةٍ فَلَفْظُ الْغَايَةِ أَفَادَ انْتِهَاءَ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ بِهِ وَلَزِمَ مِنْهُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعَدُّ مَفْهُومُ الْغَايَةِ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ (وَأَلْحَقَ بَعْضُ مَشَايِخِهِمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالِفِ فِي النَّفْيِ
(دَلَالَةَ الِاسْتِثْنَاءِ) فَقَالُوا: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّ حُكْمِ الصَّدْرِ لِمَا بَعْدَ إلَّا (وَالْحَصْرِ) أَيْ وَدَلَالَةَ الْحَصْرِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي مِثْلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالْعَالِمُ زَيْدٌ) غَيْرُ مُرَادٍ بِتَعْرِيفِ الْعَالِمِ عَهْدٌ، وَمِنْ الْمُصَرِّحِينَ بِالْأَوَّلِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ، وَبِالثَّانِي صَاحِبُ الْبَدِيعِ
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَعَدُوّهُمَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مَا أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا (عِنْدَنَا عِبَارَةٌ وَمَنْطُوقٌ إلَّا فِي حَصْرِ اللَّامِ وَالتَّقْدِيمِ) كَالْعَالِمِ زَيْدٌ وَصَدِيقِي بَكْرٌ فَإِنَّ
دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ لَيْسَ بِهَذَا الطَّرِيقِ (فَمَا بِالْأَدَاتَيْنِ) أَيْ فَأَمَّا إفَادَةُ النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ مِنْ الْحَصْرِ بِإِنَّمَا وَبِمَا أَوْ لَا أَوْ لَمْ وَإِلَّا (ظَاهِرٌ) غَايَتُهُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ ادِّعَاءً (وَسَيُعْرَفُ) هَذَا وَكَذَا مَا قَبْلَهُ فِي مَوَاضِعِهِ (وَقَدْ نَفَوْا) أَيْ الْحَنَفِيَّةُ (الْيَمِينَ عَنْ الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» الْمُخَرَّجِ فِي الصَّحِيحَيْنِ (بِوَاسِطَةِ الْعُمُومِ) فِي قَوْلِهِ:«وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَإِنَّهُ يُفِيدُ حَصْرَ الْيَمِينِ فِي جِنْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَلَمْ يَبْقَ يَمِينٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُدَّعِي ضَرُورَةَ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَصْرَ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَحَاصِلُ هَذَا تَضْعِيفُ نِسْبَةِ نَفْيِ دَلَالَةِ الْحَصْرِ عَلَى النَّفْيِ إلَى الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ مَشْحُونٌ بِاعْتِبَارِهِ (وَقِيلَ الْعَدَدُ اتِّفَاقٌ) أَيْ اعْتِبَارُ مَفْهُومِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا (لِقَوْلِ الْهِدَايَةِ) فِي دَفْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيْدِ كَالسِّبَاعِ لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى الْأَذَى فَدَخَلَتْ فِي الْفَوَاسِقِ الْمُسْتَثْنَاةِ وَلَنَا أَنَّ السَّبُعَ صَيْدٌ لِتَوَحُّشِهِ وَكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ لِجِلْدِهِ أَوْ لِيُصَادَ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذَاهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْفَوَاسِقِ مُمْتَنِعٌ (لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعَدَدِ) الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ» فَإِنَّ جَوَازَ قَتْلِ غَيْرِهَا إلْحَاقًا بِهَا يَنْفِي فَائِدَةَ تَخْصِيصِ اسْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْدَادِ الْمُحِيطَةِ بِالْمُلْحَقِ وَغَيْرِهِ أَوْ ذَكَرَهُ بِاسْمٍ عَامٍّ مِثْلِ يُقْتَلُ كُلُّ عَادٍ مُنْتَهِبٍ.
(وَالْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ الزَّائِدِ) أَيْ نَفْيَ حِلِّ قَتْلِ مَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ مِمَّا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ ابْتِدَاءً عِنْدَنَا إذَا قُلْنَا بِهِ إنَّمَا هُوَ (بِالْأَصْلِ) الَّذِي أَفَادَهُ السَّمْعُ مِنْ عَدَمِ حِلِّ ذَلِكَ بِالتَّلَبُّسِ بِالْإِحْرَامِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] لَا بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ لِلْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَرِدُ حِلُّ قَتْلِ الذِّئْبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصَّيْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا حِلُّ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَسَائِرِ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُبْقَاةٌ عَلَى الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ لِعَدَمِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ، وَازْدَادَ حِلُّ قَتْلِ بَعْضِهَا تَأْكِيدًا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ الذِّئْبُ وَالْحَيَّةُ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ إلَّا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَا اسْتَثْنَى حِلَّ قَتْلِهِ مِمَّا عَرَضَ لَهُ التَّحْرِيمُ بِالْإِحْرَامِ (وَقَوْلُهُ) أَيْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ الْمَذْكُورُ (يَكْفِي إلْزَامًا) لِلشَّافِعِيِّ لَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ يَعْنِي أَنَّك تَقُولُ بِحُجِّيَّةِ هَذَا الْمَفْهُومِ فَإِلْحَاقُك غَيْرَ الْخَمْسَةِ بِهَا يَكُونُ إبْطَالًا لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا (عَلَى مَا ظُنَّ) لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَائِلٌ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَفْهُومِ (لَكِنَّهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةَ (قَدْ زَادُوا عَلَى الْخَمْسِ) فَأَجَازُوا لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الذِّئْبِ فَأَبْطَلُوا الْعَدَدَ، فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَوْجَبَ نَفْيَ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ.
قُلْنَا: وَكَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي السَّبُعِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُلْت إلَّا أَنَّ جَوَازَ قَتْلِ الذِّئْبِ ابْتِدَاءً قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَرَضِيِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ وَإِلَّا فَفِي شَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ لَا تُبِيحُونَ قَتْلَ الذِّئْبِ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ» فَذَكَرَ الْخَمْسَ مَا هُنَّ فَذِكْرُهُ الْخَمْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْخَمْسِ حُكْمُهُ غَيْرُ حُكْمِهِنَّ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْخَمْسِ مَعْنًى اهـ ثُمَّ إنَّمَا يَتِمُّ التَّعَقُّبُ بِجَوَازِ قَتْلِهِ ابْتِدَاءً عَلَى قَوْلِهِ بِهِ إذَا كَانَ صَيْدًا كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَقَدَّمْنَاهُ وَكِلَاهُمَا فِي الْخَانِيَّةِ وَفِي الْبَدَائِعِ الْأَسَدُ وَالذِّئْبُ وَالنَّمِرُ وَالْفَهْدُ يَحِلُّ قَتْلُهَا وَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَصِلْ لِأَنَّ عِلَّةَ إبَاحَةِ قَتْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ هِيَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى وَالْعَدْوُ عَلَى النَّاسِ غَالِبًا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تِلْكَ وُرُودًا فِي هَذِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ فَإِنَّ الْمَسْطُورَ فِيهَا أَنَّهُ يَقْتُلُ سَائِرَ السِّبَاعِ إذَا صَالَتْ عَلَيْهِ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ خِلَافًا لِزُفَرَ لَا إذَا لَمْ تَصِلْ حَتَّى لَوْ قَتَلَهَا حِينَئِذٍ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ اللَّهُمَّ إلَّا الْأَسَدَ عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا فِي الْخَانِيَّةِ.
ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ الْهِدَايَةِ الْمَذْكُورِ الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَمَّا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ مَا سِوَى الْخَمْسِ مِنْ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ فَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
بِالْأَصْلِ، وَقَوْلُ الْهِدَايَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ قَتْلُ الذِّئْبِ أَوْ وَالسَّبُعِ ابْتِدَاءً بِلَا جَزَاءٍ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الصُّيُودِ الْبَرِّيَّةِ سِبَاعًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا فَلِمُشَارَكَتِهِمْ الشَّافِعِيَّ فِي اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ إبْطَالُ الْعَدَدِ فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ عَنْهُ فَهُوَ جَوَابُهُ وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ قَتْلُ مَا سِوَاهُنَّ مِنْ السِّبَاعِ الْمَذْكُورَةِ ابْتِدَاءً بِلَا جَزَاءٍ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ فَأَظْهَرُ لِعَدَمِ تَأَتِّي الدَّفْعِ الْمَذْكُورِ حِينَئِذٍ لِاتِّحَادِ الْمَذْهَبَيْنِ هَذَا، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: وَقَدْ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ شُيُوخِنَا يَقُولُونَ فِي الْمَخْصُوصِ بِعَدَدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» أَنَّهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مَا عَدَاهُنَّ وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُبَاحٍ، وَأَحْسَبُ مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ قَدْ احْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا وَلَسْت أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي ذَلِكَ اهـ.
قُلْت: وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ ظَاهِرٌ فِي هَذَا أَيْضًا وَهُوَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ثُمَّ لَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخَ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا إلْحَاقُ كُلٍّ مِنْهُمْ قَتْلَ الذِّئْبِ بِالْخَمْسِ، وَمِنْ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ قَتْلَ السِّبَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلِظَنِّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعَدَدُ لِكَوْنِ الثَّابِتِ دَلَالَةً ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَيَعْزُبُ أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ أَبْطَلَ خُصُوصَ الْخَمْسِ وَيَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَذَكَرَ عَدَدًا يُحِيطُ بِهِ مَعَهَا أَوْ اسْمًا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ثُمَّ قَدْ ظَهَرَ عَدَمُ اتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قَالَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْجُمْلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَيْضَاوِيِّ فَلَا تَتِمُّ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ.
(قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ (صَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) بِلَفْظِ الْمُصَغَّرِ بِلَا هَاءٍ فِي آخِرِهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْأَكْثَرُ، أَوْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بِلَفْظِ الْمُصَغَّرِ بِهَاءٍ فِي آخِرِهِ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى كَمَا فِي بُرْهَانِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ (فَهْمُهُ) أَيْ مَفْهُومُ الصِّفَةِ (مِنْ لَيِّ الْوَاجِدِ وَمَطْلِ الْغَنِيِّ) أَيْ مِنْ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالطَّبَرَانِيُّ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَلَيُّهُ بِفَتْحِ اللَّامِ مَطْلُهُ وَهُوَ مُدَافَعَتُهُ وَالتَّعَلُّلُ فِي أَدَاءِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَحِلُّ عِرْضِهِ أَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَذَكَرَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ عَنْهُ حِلَّ عِرْضِهِ أَنْ يَشْكُوَهُ، فَقَالَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَيَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لَا يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ، وَمِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» فَقَالَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَطْلَ غَيْرِ الْغَنِيِّ لَيْسَ بِظُلْمٍ (وَكَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ) فَهْمُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ مِنْ الْمُقَيَّدِ بِهَا (نَقَلَهُ عَنْهُ خَلْقٌ) كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ (وَهُمَا) أَيْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ (عَالِمَانِ بِاللُّغَةِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَهْمَهُمَا ذَلِكَ لُغَةً؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا لَا يَفْهَمُونَ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ إلَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً لَا اجْتِهَادًا، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا جَائِزًا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقَوْلِ أَئِمَّتِهَا مَعْنَاهُ كَذَا، وَهَذَا التَّجْوِيزُ قَائِمٌ فِيهِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي إفَادَتِهِ ظَنُّ ذَلِكَ ثُمَّ فِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ دَلِيلُ الْمَفْهُومِ اللُّغَةُ لَا الْعُرْفُ الْعَامُّ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَلَا الشَّرْعُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ.
(وَعُورِضَ) قَوْلُهُمَا (بِقَوْلِ الْأَخْفَشِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ) الْمُفِيدِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ التَّقْيِيدُ بِهَا عَلَى نَفْيِ حُكْمِهِ عَمَّا عَدَاهُ وَهُمَا إمَامَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، أَمَّا مُحَمَّدٌ فَنَاهِيك بِهِ، وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ قَالَ: تَرَكَ أَبِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقْت خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا عَلَى النَّحْوِ وَالشَّعْرِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا عَلَى الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ ثُمَّ إنَّهُ لَجَدِيرٌ بِمَا قِيلَ
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ
…
كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ
وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا أَيَّ الْأَخَافِشِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورِينَ هُوَ أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ أَوْ أَبُو الْحَسَنِ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ صَاحِبُ سِيبَوَيْهِ أَوْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ صَاحِبُ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ فَلَا ضَيْرَ لِأَنَّ كُلًّا إمَامٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَلَا يَنْهَضُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ ذَيْنِك الْإِمَامَيْنِ مَعَ مُعَارَضَةِ
قَوْلِ ذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ (وَلَوْ ادَّعَى السَّلِيقَةَ فِي الشَّافِعِيِّ فَالشَّيْبَانِيُّ مَعَ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ أَوْ الْعِلْمِ وَصِحَّةِ النَّقْلِ لِلِاتِّبَاعِ فَكَذَا) أَيْ فَإِنْ زَعَمَ زَاعِمٌ تَرَجَّحَ الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ الْقَائِلَ بِهِ ذُو طَبْعٍ سَلِيمٍ وَفَهْمٍ مُسْتَقِيمٍ أَوْ أَنَّهُ غَزِيرُ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ أَيْضًا فِي الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَائِلِ بِنَفْيِهِ مَعَ عِلَاوَةٍ فِي جِهَةِ مُحَمَّدٍ لَهَا مَدْخَلٌ فِي تَرَجُّحِ جَانِبِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ فِي مِثْلِ هَذَا وَهُوَ تَقَدُّمُ زَمَانِهِ عَلَى زَمَانِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
وَعَلَى أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَالشَّافِعِيُّ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ وَتُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ إذْ فِي مُتَقَدِّمِ الزَّمَانِ مِنْ إدْرَاكِ صِحَّةِ الْأَلْسِنَةِ مَا لَيْسَ فِي مُتَأَخِّرِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَغْنَى الصَّدْرُ الْأَوَّلُ عَنْ تَدْوِينِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَوُجِدَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِيمَا يَلِي زَمَانَهَا أَوْ فِي آخِرِهِ ثُمَّ مَازَالَ تَشْتَدُّ حَتَّى صَارَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ، وَمَا اسْتَفَاضَ مِنْ السَّبَبِ فِي تَدْوِينِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ لِلنَّحْوِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ شَاهِدُ صِدْقٍ لِذَلِكَ ثُمَّ كِلَاهُمَا مِمَّنْ تُلْمِذَ لَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ وَخُصُوصًا الشَّافِعِيَّ حَتَّى ذَكَرَ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حَمَلْت عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقُرَى بَخْتِيٍّ كُتُبًا وَأَسْنَدَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْت سَمِينًا أَخَفَّ رُوحًا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَمَا رَأَيْت أَفْصَحَ مِنْهُ كُنْت إذْ رَأَيْته يَقْرَأُ كَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الطَّبَقَاتِ وَرَوَى الرَّبِيعُ قَالَ: كَتَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى مُحَمَّدٍ وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ كُتُبًا يَنْسَخُهَا فَأَخَّرَهَا عَنْهُ
قُولُوا لِمَنْ لَمْ تَرَ عَيْ
…
نُ مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ
وَمَنْ كَأَنَّ مَنْ رَآ
…
هـ قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهُ
الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ
…
أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهُ
لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ
…
لِأَهْلِهِ لَعَلَّهُ
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَا رَأَيْت أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِوَاسِطَةِ قَائِلِهِ (فَإِنْ قِيلَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى) بِالْقَبُولِ مِنْ النَّافِي عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ النَّافِيَ إنَّمَا يَنْفِي لِعَدَمِ الْوِجْدَانِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ إلَّا ظَنًّا وَالْمُثْبِتُ يُثْبِتُ لِلْوِجْدَانِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ قَطْعًا فَيَتَرَجَّحُ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ.
(قُلْنَا ذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الْمُثْبِتِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ النَّافِي عِنْدَ التَّعَارُضِ إنَّمَا هُوَ (فِي نَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّارِعِ وَنَفْيِهِ أَمَّا هُنَا) أَيْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ اللُّغَوِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ (فَلَا أَوْلَوِيَّةَ) لِلْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي (وَسَيَظْهَرُ) وَجْهُهُ قَرِيبًا وَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ (قَالُوا) أَيْ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ مُطْلَقًا (لَوْ لَمْ يَدُلَّ) تَخْصِيصُ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ غَايَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (خَلَا التَّخْصِيصُ) بِذَلِكَ (عَنْ فَائِدَةٍ) لِأَنَّ الْفَرْضَ عَدَمُ فَائِدَةِ غَيْرِهِ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ لِفَرْضِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَخُصُوصًا إنْ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ (أُجِيبَ بِمَنْعِ انْحِصَارِ الْفَائِدَةِ فِيهِ) أَيْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْ تَقْوِيَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَذْكُورِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ خُرُوجُهُ بِتَخْصِيصٍ، وَمِنْ نَيْلِ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ بِالْقِيَاسِ فَائِدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ لَكِنْ فِي هَذَا كَلَامٌ سَيَتَعَرَّضُ لَهُ الْمُصَنِّفُ وَنَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ (وَبِأَنَّهُ) أَيْ وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ (إثْبَاتُ اللُّغَةِ أَيْ وَضْعُ التَّخْصِيصِ) بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ (لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ بِأَنَّهُ) أَيْ التَّخْصِيصَ بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ جُعِلَ مَوْضُوعًا لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (مُفِيدٌ وَهُوَ) أَيْ إثْبَاتُ اللُّغَةِ (بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْوَضْعُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّقْلِ أَوْ بِاسْتِنْبَاطِ الْعَقْلِ مِنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَوَضْعُ بِالرَّفْعِ تَفْسِيرُ:" إثْبَاتُ اللُّغَةِ " وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
(وَتَحْقِيقُ الِاسْتِدْلَالِ) الْمَذْكُورِ (يَدْفَعُهُ) أَيْ هَذَا الْجَوَابَ (وَهُوَ) أَيْ تَحْقِيقُهُ (أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ) أَيْ التَّتَبُّعَ لِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ (دَلَّ عَنْهُمْ أَنَّ مَا مِنْ
التَّخْصِيصِ) بِوَصْفٍ أَوْ غَيْرِهِ (ظَنُّ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ سِوَى كَذَا) مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةً لَهُ فِي كَلَامِ الْعُقَلَاءِ (تَعَيَّنَ) ذَلِكَ مُرَادًا مِنْهُ (وَحَاصِلُهُ) أَيْ هَذَا التَّحْقِيقِ (أَنَّ وَضْعَ التَّخْصِيصِ) بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ (لِفَائِدَةٍ) مُعْتَبَرَةٍ لِلْعُقَلَاءِ (فَإِنْ ظُنَّتْ) الْفَائِدَةُ أَمْرًا (غَيْرَ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ فَهِيَ) أَيْ فَالْفَائِدَةُ الْمَظْنُونَةُ هِيَ الْمَوْضُوعُ لَهَا التَّخْصِيصُ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُظَنَّ فِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرَ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (حُمِلَ) التَّخْصِيصُ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُفِيدَهُ) أَيْ مُفِيدَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلسَّامِعِ فَائِدَةٌ فَالْفَائِدَةُ الْمُرَادَةُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (نَقْلُ اللَّفْظِ) أَيْ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ عَنْ الْوَاضِعِ أَوْ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ وُضِعَ لِذَلِكَ (وَلَا مَعْنَى لَهُ لِاخْتِلَافِ الْفَهْمِ) لِأَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّهُ وُضِعَ التَّخْصِيصُ بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ دَالًّا عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ وَعَدَمُ الظُّهُورِ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِفْهَامِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ أُخْرَى لِشَخْصٍ وَتَظْهَرُ لِآخَرَ (فَكَانَ) التَّخْصِيصُ حِينَئِذٍ (وَضْعًا لِلْإِفَادَةِ مُؤَدِّيًا لِلْجَهْلِ) بِالْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ.
(وَالِاسْتِقْرَاءُ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُودَ الِاسْتِعْمَالِ) أَيْ اسْتِعْمَالِ الْمُخَصَّصِ بِالْوَصْفِ أَوْ غَيْرِهِ فِي مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ مَنْفِيًّا حُكْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْكُوتَاتِ (ثُمَّ غَايَةُ مَا يُعْلَمُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ وُجُودِ الِاسْتِعْمَالِ (انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ، الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ وَلَا كَلَامَ فِي وُجُودِ الِانْتِفَاءِ عَنْ الْمَسْكُوتِ فِي الْجُمْلَةِ، إنَّمَا النِّزَاعُ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي تِلْكَ الْمَوَادِّ (فِي أَنَّهُ) أَيْ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (مَدْلُولُ اللَّفْظِ أَوْ الْأَصْلِ أَوْ عِلْمِ الْوَاقِعِ) أَيْ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ خَارِجٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ (لَا يُفِيدُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنُهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ (الِاسْتِقْرَاءَ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ كَوْنُهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ الِاسْتِقْرَاءَ (نَفَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَالْمُرَادَاتِ لَمْ تَخْفَ عَنْهُمْ) فَإِنَّ مَا كَانَ مُفِيدُهُ الِاسْتِقْرَاءَ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ مِنْ أَئِمَّةِ ذَلِكَ بَلْ يَشْتَرِكُونَ فِي مَعْرِفَتِهِ (وَهَذَا) أَيْ: إنَّمَا لَمْ يُفِدْهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الِاسْتِقْرَاءَ (لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا انْتَفَى فِيهِ الْحُكْمُ عَنْ الْمَسْكُوتِ يُوَافِقُ الْأَصْلَ) الْمُقَرَّرَ لَهُ قَبْلَ ظُهُورِ تَعَلُّقِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْمُخَصِّصِ.
(وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُهُ) أَيْ اسْتِقْرَاءُ الْمِثْلِ يُفِيدُ مُوَافَقَةَ الْأَصْلِ مِنْهَا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَلَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» فَإِنَّ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَحِلُّ الْعِرْضِ وَالْعُقُوبَةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الثَّابِتُ عِنْدَ عَدَمِ الْغِنَى (فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ) أَيْ إثْبَاتِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (بِاللَّفْظِ) لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الِانْتِفَاءِ يُقَالُ لَهُ: لِمَ لَمْ يَكُنْ لِدَلَالَةِ الْأَصْلِ عَلَيْهِ؛ إذْ كَانَ الْأَصْلُ الْعَدَمَ (وَفِيهِ) أَيْ وَفِي إثْبَاتِهِ بِاللَّفْظِ (النِّزَاعُ وَإِذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الدَّلِيلَ) لِلِانْتِفَاءِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (الْفَهْمُ) لَهُ (وَفِي مُفِيدِهِ) أَيْ الْفَهْمِ (احْتِمَالٌ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ احْتِمَالِ كَوْنِهِ اللَّفْظَ أَوْ النَّظَرَ إلَى الْأَصْلِ أَوْ عِلْمَ الْوَاقِعِ (اتَّحَدَ حَالُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ) فَيَجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ وَلَا يُنْفَى إلَّا بِنَقْلِ اللُّغَةِ بِطَرِيقِهَا فِيهِ.
(فَإِنْ أُجِيبَ عَنْ الْمَنْعِ) أَيْ عَنْ الْجَوَابِ الْقَائِلِ بِمَنْعِ انْحِصَارِ الْفَائِدَةِ فِي النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ بِتَسْلِيمِ الْمَنْعِ ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ (وَضْعُ التَّخْصِيصِ لِلْفَائِدَةِ وَضْعُ الْمُشْتَرَكِ الْمَعْنَوِيِّ) بَيْنَ أَفْرَادِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِإِفَادَةِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ لَغْوًا (وَكُلُّ فَائِدَةِ فَرْدٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ (تَتَعَيَّنُ) أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ (بِالْقَرِينَةِ) الْمُعَيِّنَةِ لَهَا (فِي الْمَوْرُودِ وَهِيَ) أَيْ الْقَرِينَةُ الْمُعَيِّنَةُ لِلْفَائِدَةِ الَّتِي هِيَ النَّفْيُ عَنْ الْمَسْكُوتِ (عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةٍ) غَيْرِ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ لُزُومُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ النَّفْيُ عَنْ الْمَسْكُوتِ هُوَ الْفَائِدَةَ حِينَئِذٍ مِنْ ذَلِكَ (فَيَجِبُ) النَّفْيُ عَنْ الْمَسْكُوتِ حِينَئِذٍ (مَدْلُولًا لَفْظِيًّا) ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاطِئَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ بِاللَّفْظِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْدَ هُوَ الْمُرَادُ (قُلْنَا: لَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ) بِخُصُوصِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ (فَلَيْسَ) النَّفْيُ عَنْ الْمَسْكُوتِ مَدْلُولًا (لَفْظِيًّا بَلْ) الدَّلَالَةُ (لِلْقَرِينَةِ) الْمُعَيِّنَةِ لَهُ قُلْت لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: إنْ تَمَّ هَذَا فَإِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ لَا عَلَى الْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ مَدْلُولُ اللَّفْظِ.
وَلَا يَنْزِلُ إرَادَةُ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ بِقَرِينَةٍ مُعَيِّنَةٍ لَهُ بِاللَّفْظِ الْمُؤَدِّي لَهُ عَلَى إرَادَةِ
مَجَازِيٍّ لِلَّفْظِ بِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إلَيْهِ فِي كَوْنِهِ مَدْلُولًا لَفْظِيًّا فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْيِ انْتِفَاءِ الْقَرِينَةِ عَلَى غَيْرِ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (وَالثَّابِتُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِقَرِينَةِ الْغَيْرِ) أَيْ غَيْرِ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (لَا عَدَمُهَا) أَيْ قَرِينَةِ غَيْرِ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالْقَرِينَةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْقَرِينَةِ إذْ مِنْ الْجَائِزِ وُجُودُهَا وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِهَا لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ (فَيَكُونُ) الْمُتَوَاطِئُ (مُجْمَلًا فِي الْمَسْكُوتِ وَغَيْرِهِ) لِخَفَاءِ الْمُرَادِ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ كَوْنُهُ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمُعَيِّنِ لَهُ (لَا مُوجِبًا فِيهِ) أَيْ فِي الْمَسْكُوتِ (شَيْئًا كَرَجُلٍ بِلَا قَرِينَةٍ فِي زَيْدٍ) فَإِنَّ رَجُلًا مُجْمَلٌ فِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ يَتَوَقَّفُ كَوْنُهُ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ عَلَى قَرِينَةٍ تُعَيِّنُهُ وَلَا يُوجِبُهُ بِخُصُوصِهِ مُجَرَّدُ إطْلَاقِهِ لِكَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَاهُ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الثَّابِتِ عَدَمَ الْعِلْمِ بِقَرِينَةِ غَيْرِ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ لَا عَدَمَ الْقَرِينَةِ (بَلْ) عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى قَرِينَةِ مَا سِوَاهُ (ظَاهِرٌ فِي عَدَمِهَا) أَيْ قَرِينَةِ غَيْرِ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (بَعْدَ فَحْصِ الْعَالِمِ) عَنْ الْقَرِينَةِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ.
(قُلْنَا) ظُهُورُ عَدَمِهَا (مَمْنُوعٌ، وَإِلَّا) أَيْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الظُّهُورُ مَمْنُوعًا (لَمْ يَتَوَقَّفْ فِي حُكْمٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْأَئِمَّةِ) أَيْ لَكِنْ ثَبَتَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ ظُهُورِهَا قُلْت لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ عَدَمِ التَّوَقُّفِ فِي حُكْمٍ أَصْلًا لِظُهُورِ قَرِينَةِ مَا سِوَى النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِلظُّهُورِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ الْمُسَاوِي وَالرَّاجِحِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمُدَّعَى، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى مُجَرَّدُ الظُّهُورِ (فَإِنْ قِيلَ) التَّوَقُّفُ (نَادِرٌ) فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الظُّهُورِ.
(قُلْنَا: فَمَوَاضِعُ الْخِلَافِ كَثِيرَةٌ تُفِيدُ عَدَمَ الْوُجُودِ بِالْفَحْصِ لِلْعَالِمِ) أَيْ تَفَحُّصُ الْمُخْطِئِ فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ مُجْتَهِدٌ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْ فَانْتَفَى الظُّهُورُ قُلْت: إلَّا أَنَّهُ يَطْرُقُ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْخِلَافَ مِنْ الْمُخْطِئِ الْفَاحِصِ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ عَنْ عَدَمِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْفَحْصِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ظَفِرَ بِالْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ لِعَارِضٍ هُوَ عِنْدَهُ أَرْجَحُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ لَيْسَ كَمَا عِنْدَهُ، وَهَذَا كَثِيرٌ بَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْطُوقَاتِ الدَّلَائِلِ فَضْلًا عَنْ مَفَاهِيمِهَا الْمُحْتَمَلَةِ (وَلَوْ سُلِّمَ) أَنَّ فَحْصَ الْعَالِمِ مَعَ عَدَمِ الْوِجْدَانِ ظَاهِرٌ فِي انْتِفَاءِ قَرِينَةِ غَيْرِ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ حَتَّى يُلْزِمُ النَّفْيُ عَنْهُ الْمَسْكُوتَ (فِي غَيْرِ الشَّارِعِ اقْتَصَرَ) أَيْ وَجَبَ أَنْ يَقْتَصِرَ الْحُكْمُ عَنْ الْمَسْكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ الظُّهُورِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِ الشَّارِعِ (فَقُلْنَا بِهِ) أَيْ بِالِاقْتِصَارِ (فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الشَّارِعِ (مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ لِلُزُومِ الِانْتِفَاءِ) أَيْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ (لَوْلَاهُ) أَيْ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (أَمَّا الشَّارِعُ فَلِلْقَطْعِ بِقَصْدِهَا) أَيْ الْفَائِدَةِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الشَّارِعِ فِي تَخْصِيصِهِ (يَجِبُ تَقْدِيرُهَا) أَيْ الْفَائِدَةِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُهَا غَيْرَ النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهَا إيَّاهُ لِجَوَازِ كَوْنِهَا غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ.
وَالْعِلْمُ وَاقِعٌ بِسَعَةِ اعْتِبَارَاتِ الشَّرْعِ بِمَا يَقْصُرُ عَنْ دَرْكِهِ الْعَقْلُ (فَلَا يَلْزَمُ الِانْتِفَاءُ) أَيْ انْتِفَاءُ الْفَائِدَةِ (لَوْلَا الِانْتِفَاءُ) أَيْ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (فَإِثْبَاتُهُ) أَيْ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ هُوَ الْفَائِدَةُ الْمُرَادَةُ حِينَئِذٍ (إقْدَامٌ عَلَى تَشْرِيعِ حُكْمٍ بِلَا مُلْجِئٍ) أَيْ مُوجِبٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ كَانَ لُزُومَ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ مِنْ تَخْصِيصِهِ لَوْلَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ، وَهَذَا الْمُوجِبُ مُنْتَفٍ هُنَا؛ لِأَنَّا نَحْكُمُ بِإِرَادَةِ فَائِدَةٍ غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْلَمُهَا إذْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَعْيِينِهَا دَلِيلٌ كَذَا أَفَادَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(فَإِنْ قِيلَ) : نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (ظَنِّيٌّ) فَيَكْفِي فِي ثُبُوتِهِ ظَنُّ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ سِوَاهُ (قُلْنَا) : كَوْنُهُ ظَنِّيًّا مُسَلَّمٌ لَكِنْ ظَنُّهُ (ظَنُّ) الْفَرْدِ (الْمُعَيَّنِ) مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَوَاطِئِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهَا، وَذَلِكَ (عِنْدَ انْتِفَاءِ مُعَيِّنِهِ مَمْنُوعٌ) ؛ إذْ لَا مُوجِبَ لَهُ حِينَئِذٍ وَهَذَا الظَّنِّيُّ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعَيِّنَ لَهُ كَمَا قَالَ (وَعَلِمْت أَنَّهُ) أَيْ الْمُعَيِّنَ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (لُزُومُ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ) عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَائِهِ (وَانْتِفَاءَهُ) أَيْ وَعَلِمْت انْتِفَاءَ لُزُومِ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ لِسَعَةِ اعْتِبَارَاتِ الشَّارِعِ بِمَا يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِهَا فَلَا يُجْدِي مُجَرَّدُ ظَنِّ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ سِوَى ثُبُوتِهِ (وَانْدَفَعَ بِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّ
مُفِيدَ كَوْنِ الْفَائِدَةِ الْمُرَادَةِ مِنْ التَّخْصِيصِ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ هُوَ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ عَنْ الْوَاضِعِ أَوْ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ مَشْرُوحًا وَمِنْ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِقَصْدِ الْفَائِدَةِ فِي التَّخْصِيصِ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ وَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِاتِّسَاعِ دَائِرَةِ اعْتِبَارَاتِهِ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاؤُهَا فِي كَلَامِهِ لَوْلَا أَنْ يَكُونَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ
(قَوْلُهُمْ) أَيْ الْمُثْبِتِينَ لِلْمَفْهُومِ أَيْضًا (تَثْبُتُ دَلَالَةُ الْإِيمَاءِ دَفْعًا لِلِاسْتِبْعَادِ) كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ (فَالْمَفْهُومُ) أَيْ فَلْتَثْبُتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ (لِدَفْعِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ) عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ الْفَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ (أَوْلَى) لِأَنَّ الْحَذَرَ مِنْ لُزُومِ غَيْرِ الْمُفِيدِ أَجْدَرُ مِنْ لُزُومِ الْبَعِيدِ وَفِي قَوْلِهِ: (وَلَوْ جَعَلَ) هَذَا (إثْبَاتًا لِإِثْبَاتِ الْوَضْعِ بِالْفَائِدَةِ) إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ افْتِرَاقِ حَالِ هَذَا فِي الِانْدِفَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا ثَانِيًا لِلْجَوَابِ الْقَائِلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إثْبَاتُ الْوَضْعِ بِالْفَائِدَةِ بَلْ بِالِاسْتِقْرَاءِ عَنْ اعْتِرَاضِ النَّافِينَ بِأَنَّ فِي الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إثْبَاتَ الْوَضْعِ بِالْفَائِدَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ شَارِحِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ حَتَّى يَكُونَ تَقْرِيرُهُ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ: لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ إثْبَاتِ الْوَضْعِ بِالْفَائِدَةِ، وَالسَّنَدُ أَنَّهُ جَازَ ذَلِكَ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ الْمُسْتَبْعَدِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ الْمُمْتَنِعِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَاءِ إلَى أَنْ لِلْقَوْمِ فِي ذَلِكَ طَرِيقَيْنِ، وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمُقْتَرِنِ بِحُكْمِ الصَّالِحِ لِعَلِيَّتِهِ دَالًّا عَلَيْهَا دَفْعًا لِاسْتِبْعَادِ اقْتِرَانِهِ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِهِ لَهُ مُعَيِّنٌ مَعَ إفْضَاءِ الْقَوْلِ بِهِ إلَى نِسْبَةِ الْوَاضِعِ الْحَكِيمِ إلَى إيقَاعِ السَّامِعِينَ فِي الْجَهْلِ، وَأَيْضًا نَمْنَعُ انْتِفَاءَ الْفَائِدَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الْمَفْهُومِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِدَلَالَةِ الْإِيمَاءِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِيهِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلَوِيَّةِ.
(وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ) مِنْ النَّافِينَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَوْلِ الْمُثْبِتِينَ لَوْ لَمْ يَدُلَّ التَّخْصِيصُ بِالْوَصْفِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ غَيْرِهِ لَخَلَا عَنْ الْفَائِدَةِ (بِأَنَّ تَقْوِيَةَ دَلَالَتِهِ) أَيْ الْمَوْصُوفِ (عَلَى الثُّبُوتِ فِي الْمَوْصُوفِ) أَيْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي أَفْرَادِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُهَا مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ (فَائِدَةٌ) ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِهَا النَّفْيَ عَنْ الْمَسْكُوتِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: يُفِيدُ التَّقْوِيَةَ الْمَذْكُورَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْعَامِّ دُونَهَا أَمْكَنَ تَخْصِيصُهُ بِالِاجْتِهَادِ فَفِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْلُوفَةَ تَخْصِيصًا فَإِذَا ذَكَرَ السَّائِمَةَ زَالَ هَذَا الْوَهْمُ (وَكَذَا ثَوَابُ الْقِيَاسِ) أَيْ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ بِالْمَذْكُورِ بِمَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا فَائِدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَيْضًا فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ ذِكْرِهَا النَّفْيَ عَنْ الْمَسْكُوتِ فَإِذَنْ لَا يَتَحَقَّقُ مَفْهُومُ الصِّفَةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ (فَدُفِعَ الْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنَّ تَقْوِيَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَائِدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَفْهُومِهَا (بِأَنَّهُ) أَيْ جَوَازَ التَّخْصِيصِ فِي الْمَوْصُوفِ (فَرْعُ عُمُومِ الْمَوْصُوفِ فِي نَحْوِ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ وَلَا قَائِلَ بِهِ) أَيْ بِعُمُومِ الْمَوْصُوفِ فِي مِثْلِ الْغَنَمِ الْمَوْصُوفَةِ بِالسَّائِمَةِ حَتَّى تَكُونَ الْغَنَمُ مُتَنَاوِلَةً لِلسَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ وَإِنْ كَانَ الْغَنَمُ بِدُونِ التَّقْيِيدِ بِأَحَدِهِمَا عَامًّا مُتَنَاوِلًا لَهُمَا فَيَجِبُ رَدُّهُ.
(وَلَوْ ثَبَتَ) الْعُمُومُ (فِي مَادَّةٍ) كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ مَثَلًا (فَصَارَ الْمَعْنَى فِي الْغَنَمِ سِيَّمَا السَّائِمَةَ) زَكَاةٌ (خَرَجَ عَنْ النِّزَاعِ) لِأَنَّ النِّزَاعَ فِيمَا لَا شَيْءَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ فِيهِ سِوَى مُخَالَفَةِ الْمَسْكُوتِ لِلْمَذْكُورِ وَدَفَعَ التَّخْصِيصَ فَائِدَةٌ سِوَاهَا
(وَالثَّانِي) أَيْ وَدُفِعَ أَنَّ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ بِالْمَذْكُورِ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا فَائِدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ (بِأَنَّا شَرَطْنَا فِي دَلَالَتِهِ) أَيْ التَّخْصِيصِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (عَدَمَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنَاطِ وَالرُّجْحَانِ وَسَيَدْفَعُ هَذَا) أَيْ عَدَمَ مُسَاوَاةِ الْمَسْكُوتِ لِلْمَنْطُوقِ فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِحُكْمِهِ، وَعَدَمَ كَوْنِهِ أَوْلَى مِنْ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ حِينَئِذٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يَظْهَرَ أَوْلَوِيَّةٌ فِي
الْمَسْكُوتِ، وَلَا مُسَاوَاةَ، (وَنَقْضُهُ) أَيْ دَلِيلِ مُثْبِتِيهِ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا (بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ) أَيْ بِأَنَّهُ يَجِيءُ فِيهِ أَيْضًا مِثْلُهُ بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَيَلْزَمُ أَنْ يُعْتَبَرَ، وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ إلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ (مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ) أَيْ ذِكْرَ اللَّقَبِ (لِيَصِحَّ الْأَصْلُ) فَإِنَّهُ يَخْتَلُّ بِإِسْقَاطِهِ، وَعَدَمُ الِاخْتِلَالِ أَعْظَمُ فَائِدَةً فَلَمْ يَصْدُقْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْمَفْهُومُ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ مُفِيدًا وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِ الْمَفْهُومِ فَتَنْتَفِي دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَتَعَقَّبَ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ إيَّاهُ بِأَنَّهُ لَوْ حَذَفَ فِي السَّائِمَةِ مِنْ: فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ لَاخْتَلَّ الْكَلَامُ فَلَمْ يَبْقَ الْفَرْقُ قَائِمًا اهـ غَيْرُ مُتَّجَهٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلُّ الْكَلَامُ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ بِحَذْفِهَا إذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ مَذْكُورًا، وَهُوَ فِي هَذَا غَيْرُ مَذْكُورٍ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَنَّهُ الْأَوْجَهُ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمْت ثَمَّةَ أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ عِنْدَ السُّبْكِيّ
(وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ (الْمُزَيَّفَةِ) أَيْ الْمُضَعِّفَةِ لِمَفْهُومِ الصِّفَةِ (لَوْ لَمْ يَكُنْ) ذِكْرُ الصِّفَةِ (لِلْحَصْرِ) أَيْ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (لَزِمَ اشْتِرَاكُ الْمَسْكُوتِ وَالْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ اخْتِصَامِهِ بِالْمَذْكُورِ بَيْنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ (وَهُوَ) أَيْ لَكِنْ اللَّازِمُ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاكُ (مُنْتَفٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ) أَيْ الْحُكْمَ (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمَسْكُوتِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَذْكُورِ (بَلْ) كَوْنُهُ لِلْمَسْكُوتِ أَيْضًا (مُحْتَمَلٌ) فَتَعَيَّنَ الْحَصْرُ (وَدُفِعَ) هَذَا الدَّلِيلُ (بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذِكْرَ الْوَصْفِ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ تَعَيَّنَ الِاشْتِرَاكُ (بَلْ اللَّازِمُ عَدَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِصَاصٍ وَلَا اشْتِرَاكَ بَلْ) الدَّلَالَةُ (عَلَى مُجَرَّدِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ) وَهَذَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَصْرِ وَالِاشْتِرَاكِ فَدَعْوَى عَدَمِهَا مَمْنُوعٌ (وَلِلْإِمَامِ) أَيْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ اسْتِدْلَالٌ (قَرِيبٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَهُوَ ذِكْرُ الْوَصْفِ (لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ) أَيْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ وَنَفْيَهُ عَنْ الْمَسْكُوتِ (لَمْ يُفِدْ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ) بِالْمَذْكُورِ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَصْرِ فِيهِ إلَّا اخْتِصَاصُهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَحْصُلْ (لَكِنَّهُ) أَيْ الْوَصْفَ (يُفِيدُهُ) أَيْ الِاخْتِصَاصَ (فِي الْمَذْكُورِ) بِهِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (وَجَوَابُهُ مَنْعُ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ عَدَمِ إفَادَتِهِ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ (بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ) هَذَا الْكَلَامُ (الْحُكْمَ عَلَى الْمَذْكُورِ لَا اخْتِصَاصَهُ) أَيْ الْحُكْمِ (بِهِ) أَيْ بِالْمَذْكُورِ (مَعَ مَا فِي تَرْكِيبِهِ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلِ مِنْ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ (إذْ هُوَ) فِي الْمَعْنَى (لَوْ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ لَمْ يُفِدْ الْحَصْرَ) غَايَتُهُ أَنَّ لَفْظَ الِاخْتِصَاصِ أَوْضَحُ دَلَالَةً مِنْ الْحَصْرِ فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ فِي تَالِي هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ فِي مُقَدَّمِهَا فَلَا يُعَدُّ مِنْ اسْتِلْزَامِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ وَفِي نَقِيضِ تَالِيهَا تَفْصِيلٌ لَيْسَ فِي نَقِيضِ مُقَدَّمِهَا فَلَا يُعَدُّ مِنْ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بَلْ هُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ التَّفْصِيلِ عَلَى الْجُمْلَةِ اهـ ثُمَّ إنَّمَا قَالَ: وَلِلْإِمَامِ قَرِيبٌ مِنْهُ مَعَ أَنَّ حَاصِلَهُمَا وَاحِدٌ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي الْمُقَدِّمَاتِ.
(وَمَا رُوِيَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ) أَيْ وَمِنْ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ عَلَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَرَفَةَ ابْنِ سَلُولَ قَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاك رَبُّك أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ» وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ وَالطَّبَرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا بِلَفْظِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ خِلَافُ حُكْمِهَا (وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ ذِكْرَ السَّبْعِينَ فِي الْآيَةِ (لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ ذِكْرَهَا لِلْمُبَالَغَةِ) فِي الْكَثْرَةِ عَلَى عَادَةِ ذِكْرِهِمْ إيَّاهَا فِي مَعْرِضِ التَّكْثِيرِ (وَاتِّحَادِ الْحُكْمِ) أَيْ وَلِلْعِلْمِ بِاتِّحَادِ الْحُكْمِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَغْفِرَةِ (فِي الزَّائِدِ) عَلَيْهَا، وَفِيهَا (فَكَيْفَ يَفْهَمُ) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الِاخْتِلَافَ) بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّائِدِ عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ (فَلَأَزِيدَنَّ تَأْلِيفٌ وَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ) أَيْ اخْتِلَافَ السَّبْعِينَ وَالزَّائِدِ عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ (جَائِزٌ) فِي جِنْسِ هَذَا الْمَقَامِ (إنْ ثَبَتَ يَجِبُ
كَوْنُهُ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ وَهُوَ قَبُولُ دُعَائِهِ) صلى الله عليه وسلم لَا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَعِلْمٌ مُبْتَدَأً وَيَجِبُ خَبَرُهُ.
وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ أَجَابَ بِجَوَابَيْنِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ السَّبْعِينَ كِنَايَةٌ عَنْ السَّبْعِينَ فَمَا زَادَ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ الزَّائِدِ مِثْلَ حُكْمِ السَّبْعِينَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ فَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ فَقَوْلُهُ لَأَزِيدَنَّ تَأْلِيفٌ لِقُلُوبِ أَقَارِبِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِ الْحَدَبِ عَلَيْهِمْ وَبُلُوغِ الْغَايَةِ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ، وَلَا يُقَالُ فَهُوَ حِينَئِذٍ شُغْلٌ بِمَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الِاسْتِغْفَارِ تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَطْلُوبٌ مَعَ أَنَّهُ يُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّأْلِيفِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالثَّانِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِينَ خُصُوصُهَا فَيُعْلَمُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ السَّبْعِينَ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا جَائِزٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ حَتَّى زَادَ عَلَيْهَا جَازَ كَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْأَصْلِ مِنْ قَبُولِ دُعَائِهِ لَا اللَّفْظِ اهـ هَذَا وَقَدْ ذَهِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَسَاطِينِ عَنْ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَأَنْكَرُوا صِحَّتَهُ بِالتَّصْمِيمِ فَلَا يُتَّبَعُونَ فِيهِ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] «وَقَوْلُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ مَا بَالُنَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا فِي الشَّرْطِ فَقَالَ عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ» ) أَيْ وَمِنْ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ الْمُزَيَّفَةِ عَلَى مَفْهُومِ الشَّرْطِ هَذَا الْمَرْوِيُّ فَإِنَّ عُمَرَ وَيَعْلَى رضي الله عنهما فَهِمَا تَقْيِيدَ قَصْرِ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ قَصْرِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ، وَأَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْلَا إفَادَتُهُ ذَلِكَ لُغَةً لَمَا كَانَا ثَمَّ هَذَا مُخْرِجُ لَفْظِ أَكْثَرِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ وَمُسْنَدَيْ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى وَالْبَاقِي فِيهَا مَعْنًى وَفِي آخِرِهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ.
(وَالْجَوَابُ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَازَمَ فَهْمَهُمَا عَدَمُ الْقَصْرِ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالْخَوْفِ؛ إذْ مِنْ الْجَائِزِ (جَوَازُ بِنَائِهِمَا) الْعَجَبَ مِنْ الْقَصْرِ (عَلَى الْأَصْلِ) فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّفَرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الْخَوْفُ (وَهُوَ الْإِتْمَامُ، وَإِنَّمَا خُولِفَ) الْأَصْلُ فِيهَا (فِي الْخَوْفِ) بِالْآيَةِ وَلِهَذَا ذَكَرَاهَا عِنْدَ التَّعَجُّبِ أَيْ الْقَصْرُ حَالَ الْخَوْفِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْآيَةِ فَمَا بَالُ حَالِ الْأَمْنِ لَمْ يَبْقَ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا مِنْ الْإِتْمَامِ قُلْت إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الْأَصْلُ فِيهَا الْقَصْرُ وَالْإِتْمَامُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بِعَارِضِ الْإِقَامَةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ الرُّبَاعِيَّةَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَرْبَعًا إنْ أَتَى بِالْقَعْدَةِ الْأُولَى أَسَاءَ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَيَشْهَدُ لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَيُشْكِلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ الْحَامِلُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَصْرِ فِيهَا قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا الذَّاتِ يَعْنِي إبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ مَعَ تَخْفِيفِ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ لَا أَعْدَادَ الرَّكَعَاتِ وَالْحَدِيثُ يَنْبُو عَنْهُ سِيَاقًا وَنَصًّا، وَاَلَّذِي سَنَحَ لِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ غَفَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يُقَالَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ -: لَمَّا تَقَرَّرَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْإِقَامَةِ كَانَ مَظِنَّةَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّفَرِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اخْتِلَافِ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ فِي الْأَحْكَامِ فَأَبَانَتْ الْآيَةُ اخْتِلَافَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ وَسَمَّتْ تَقْرِيرَ الْحَالَةِ الْأُولَى قَصْرًا نَظَرًا إلَى مَا اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ إقَامَةً وَخَرَجَ التَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَإِنَّمَا تَعَجَّبَا لِظَنِّهِمَا ثُبُوتَ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ الْغَيْرِ الْخَائِفِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمِنْ كَوْنِ الشَّرْطِ غَيْرَ خَارِجٍ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَكَانَ تَرْكُ الزِّيَادَةِ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا - كَمَا وَقَعَتْ فِي الْإِقَامَةِ مُطْلَقًا - صَدَقَةً مِنْ اللَّهِ، وَصَدَقَةُ اللَّهِ لَا تُرَدُّ فَانْزَاحَ الْإِشْكَالُ
(وَإِنَّ فِي الْقَوْلِ بِهِ تَكْثِيرَ الْفَائِدَةِ) أَيْ وَمِنْ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ الْمُزَيَّفَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا هَذَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ بِخِلَافِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِهِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ، وَمَا كَثُرَتْ فَائِدَتُهُ رَاجِحٌ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِمُلَاءَمَتِهِ لِغَرَضِ الْعُقَلَاءِ (وَنُقِضَ) هَذَا الدَّلِيلُ نَقْضًا إجْمَالِيًّا (بِلُزُومِ الدَّوْرِ) وَالْمُعْتَرِضِ بِهِ الْآمِدِيُّ وَحَاصِلُهُ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَزِمَ
أَنْ تَتَوَقَّفَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَفْهُومِ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَفْهُومِ أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفْيِ تَتَوَقَّفُ عَلَى وَضْعِهِ لَهُ، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وَضْعَهُ لَهُ مُعَلَّلًا بِتَكْثِيرِهَا فَيَكُونُ عِلَّةً لِوَضْعِهِ لَهُ، وَالْمَعْلُولُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى عِلَّتِهِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ تَكْثِيرَ الْفَائِدَةِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الثُّبُوتِ لِلْمَنْطُوقِ وَالنَّفْيِ عَمَّا عَدَاهُ فَمَتَى لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الثُّبُوتِ لِلْمَنْطُوقِ لَا غَيْرُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكْثِيرُهَا، وَهَذَا دَوْرٌ ظَاهِرٌ.
(وَلَيْسَ) هَذَا النَّقْضُ (بِشَيْءٍ) قَادِحٍ فِي صِحَّةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ (لِظُهُورِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ) أَيْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ (وَتَعَقُّلُهَا) أَيْ تَعَقُّلُ الْوَاضِعِ كَثْرَةَ الْفَائِدَةِ (وَاقِعَةٌ) فِي وَضْعِ اللَّفْظِ لِلنَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ مَعَ الثُّبُوتِ لِلْمَذْكُورِ ثُمَّ وَضْعُهُ لِذَلِكَ لَا حُصُولُ كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ الْمُسَبَّبِ عَنْ الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ (وَتَحَقُّقُهَا) أَيْ: وَحُصُولُ كَثْرَةِ الْفَائِدَةِ فِي الْخَارِجِ (وَهُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الدَّلَالَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعُ الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ فَلَا دَوْرَ لِاخْتِلَافِ جِهَتَيْ التَّوَقُّفِ (بَلْ الْجَوَابُ) عَنْ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ (مَا تَقَدَّمَ) مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْفَائِدَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ (وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَسْكُوتُ مُخَالِفًا لَزِمَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ قَبْلَ السَّبْعِ فِي طُهُورِ إنَاءِ أَحَدِكُمْ) أَيْ وَمِنْ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ الْمُزَيَّفَةِ عَلَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَسْكُوتُ مُخَالِفًا لِلْمَذْكُورِ فِي حُكْمِهِ لَلَزِمَ حُصُولُ طَهَارَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا فِيمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» (وَالتَّحْرِيمُ) أَيْ وَحُصُولُ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الشَّخْصِ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الرَّضَاعِ فِي مُدَّتِهِ (قَبْلَ الْخَمْسِ فِي خَمْسِ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ) أَيْ قَبْلَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ فِيمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ الْإِثْبَاتَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا (وَيَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ) حِينَئِذٍ فِي كِلَيْهِمَا لِحُصُولِ كُلٍّ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْرِيمِ قَبْلَ السَّبْعِ وَالْخَمْسِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَإِثْبَاتُ السَّبْعِ الطَّهَارَةَ وَالْخَمْسِ التَّحْرِيمَ كَذَلِكَ وَهُوَ يُنَاقِضُ النَّصَّ الْمُفِيدَ لِكُلٍّ مِنْ إثْبَاتِ السَّبْعِ الطَّهَارَةَ وَالْخَمْسِ التَّحْرِيمَ (وَالْجَوَابُ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْمَسْكُوتِ لَزِمَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْرِيمِ قَبْلَ السَّبْعِ وَالْخَمْسِ فِيهِمَا (بَلْ اللَّازِمُ) فِيهِمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ (عَدَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْرِيمِ) قَبْلَ وُجُودِ السَّبْعِ وَالْخَمْسِ (وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ) مِنْ التَّحْرِيمِ قَبْلَ الْخَمْسِ (لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ) فِيمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْأَثَرُ (عَدَمَ التَّحْرِيمِ) لَكِنْ الْفَرْضُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ (فَيَبْقَى) هَذَا الْأَصْلُ فِيهِ مُسْتَمِرًّا (إلَى وُجُودِ مَا عُلِّقَ بِهِ) وَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ (ضِدُّهُ) وَهُوَ التَّحْرِيمُ (وَكَذَا صَارَتْ النَّجَاسَةُ مُتَقَرِّرَةً بِالدَّلِيلِ فَيَبْقَى كَذَلِكَ) أَيْ إنَّمَا يَلْزَمُ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ قَبْلَ السَّبْعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الْمُتَقَرِّرُ لَهُ بَعْدَ الْوُلُوغِ فِيهِ النَّجَاسَةَ بِدَلِيلِهَا، وَهُوَ الْعِلْمُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْوُلُوغِ الطَّهَارَةَ لَكِنْ الْأَصْلُ الْمُتَقَرِّرُ لَهُ إنَّمَا هُوَ ذَلِكَ فَتَبْقَى النَّجَاسَةُ مُسْتَمِرَّةً إلَى وُجُودِ مَا عُلِّقَ بِهِ، وَهُوَ الْغَسْلُ سَبْعًا ضِدُّهَا، وَهُوَ الطَّهَارَةُ هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيَّةِ.
(وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالتَّحْرِيمُ) بِالرَّضَاعِ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُمْ عَلَى خَمْسٍ بَلْ يَثْبُتُ (بِقَلِيلِهِ، وَالطَّهَارَةُ قَبْلَهُ) أَيْ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّبْعِ بَلْ تَثْبُتُ قَبْلَ السَّبْعِ (بِالثَّلَاثِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي إشَارَتِهِ وَهُوَ أَيْضًا مُقْتَضَى نَقْلِ بَعْضِهِمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وُجُوبَهَا، وَاسْتِحْبَابُ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَهَا وَبِغَلَبَةِ ظَنِّ زَوَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَبَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَوْقِيتَ فِي غَسْلِهَا بَلْ الْعِبْرَةُ فِيهِ لِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلَوْ مَرَّةً وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُهُمْ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ (وَهُمَا) أَيْ تَوَقُّفُ
التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ عَلَى خَمْسٍ، وَطَهَارَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ الْكَلْبُ عَلَى سَبْعٍ عِنْدَهُمْ (مَنْسُوخَانِ اجْتِهَادًا) مِنْهُمْ (بِالتَّرْجِيحِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْ بِسَبَبِ تَرْجِيحِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُعَارِضِ فَإِنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ فَرَجَّحَ الْمُجْتَهِدُ أَحَدَهُمَا يَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ الْقَوْلُ بِمَنْسُوخِيَّةِ الْآخَرِ، وَإِلَّا كَانَ تَرْكًا لِدَلِيلٍ صَحِيحٍ عَنْ الشَّارِعِ فَتَأَمَّلْ اهـ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ غَفَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ: وَالْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ فِي طَهَارَةِ الْإِنَاءِ بِالثَّلَاثِ مَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُهْرِقْهُ وَلْيَغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» مَعَ مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ أَهْرَاقَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا يَضُرُّ رَفْعُ الْأَوَّلِ قَوْلَ ابْنِ عَدِيٍّ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ الْكَرَابِيسِيِّ وَالْكَرَابِيسِيُّ لَمْ أَجِدْ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا غَيْرَ هَذَا فَقَدْ قَالَ أَيْضًا: لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ: صَدُوقٌ فَاضِلٌ ثُمَّ كَمَا مَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ الْحُكْمَ بِالضَّعْفِ وَالصِّحَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَجُوزُ صِحَّةُ مَا حُكِمَ بِضَعْفِهِ ظَاهِرًا، وَثُبُوتُ كَوْنِ مَذْهَبِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذَلِكَ قَرِينَةً تُفِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَجَادَهُ الرَّاوِي الْمُضَعَّفُ، وَحِينَئِذٍ فَيُعَارِضُ حَدِيثَ السَّبْعِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعَ حَدِيثِ السَّبْعِ دَلَالَةَ التَّقَدُّمِ بِمَا كَانَ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي أَمْرِ الْكِلَابِ أَوَّلَ الْأَمْرِ حَتَّى أَمَرَ بِقَتْلِهَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي سُؤْرِهَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ إذْ ذَاكَ، وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ.
فَإِذَا عَارَضَ قَرِينَهُ مُعَارِضٌ كَانَ التَّقَدُّمَةُ لَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بِالسَّبْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَبِغَلَبَةِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ هَذَا مَعَ زِيَادَةٍ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنْ لَيْسَ الْغَسْلُ مِنْهَا تَعَبُّدِيًّا بَلْ لِأَجْلِهَا فَيَكُونُ الْمَنَاطُ ظَنَّ زَوَالِهَا كَمَا فِي الطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْغَيْرِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَوُقُوعُ غَسْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثَلَاثًا جَارِيًا مَجْرَى الْغَالِبِ لَا أَنَّهُ ضَرْبَةُ لَازِبٍ كَمَا قَالُوا مِثْلَهُ فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ وَالْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ الرَّضَاعِ إطْلَاقُ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَالسُّنَّةُ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .
وَيُقَدَّمُ إطْلَاقُ الْكِتَابِ لِقَطْعِيَّتِهِ، وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْقَوَادِحِ سَنَدًا وَمَتْنًا بِخِلَافِ حَدِيثِ الْخَمْسِ فَقَدْ قَالَ الطَّحَاوِيُّ مُنْكَرٌ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ عَائِشَةَ أَحَالَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَلَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلَا إثْبَاتُهُ فِي الْمُصْحَفِ؛ إذْ الْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهِ (أَوْ نَقْلًا) أَيْ أَوْهَمَا مَنْسُوخَانِ نَقْلًا، وَالْمُفِيدُ لِلنَّسْخِ نَقْلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعَلُّقِ طَهَارَةِ الْإِنَاءِ بِغَسْلِهِ سَبْعًا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ عَمَلُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: ظَنِّيَّةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ رَاوِيهِ فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى رَاوِيهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْعِيٌّ حَتَّى يَنْسَخَ بِهِ الْكِتَابَ إذَا كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ فِي مَعْنَاهُ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إلَّا لِقَطْعِهِ بِالنَّاسِخِ؛ إذْ الْقَطْعِيُّ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِقَطْعِيٍّ فَبَطَلَ تَجْوِيزُهُمْ تَرْكَهُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ نَاسِخٍ فِي اجْتِهَادِهِ الْمُحْتَمِلِ لِلْخَطَأِ، وَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ كَانَ تَرْكُهُ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ بِلَا شُبْهَةٍ فَيَكُونُ الْآخَرُ مَنْسُوخًا بِالضَّرُورَةِ غَيْرَ أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ لُزُومِ الثَّلَاثِ لَا يَكُونُ الِاقْتِصَارُ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مِنْهُ جَارِيًا مَجْرَى الْغَالِبِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبَةُ لَازِبٍ بِخِلَافِهِ عَلَى غَيْرِ تَقْدِيرِ لُزُومِهَا فَلْيُتَأَمَّلْ
وَالْمُفِيدُ لِلنَّسْخِ نَقْلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَا رَوَى الْمَشَايِخُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ الرَّضْعَةَ لَا تُحَرِّمُ قَالَ كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ آلَ أَمْرُ الرَّضَاعِ إلَى أَنَّ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْقَلِيلَ يُحَرِّمُ ثُمَّ تَكُونُ هَذِهِ الْآثَارُ صَالِحَةً لِنَسْخِ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ تُكَافِئْهُ فِي صِحَّةِ السَّنَدِ ظَاهِرًا لِانْقِطَاعِهِ بَاطِنًا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ ثُبُوتِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ مَعْدُودٌ بُطْلَانُهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ فَتَقْوَى هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى نَسْخِهِ وَيَقَعُ الْقَطْعُ
بِمَضْمُونِهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَا قَدَّمْنَاهُ (فَاللَّازِمُ حَقٌّ) أَيْ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّ حُصُولَ الطَّهَارَةِ قَبْلَ السَّبْعِ بِالثَّلَاثِ أَوْ بِغَلَبَةِ ظَنِّ زَوَالِهَا وَالتَّحْرِيمُ قَبْلَ وُجُودِ خَمْسِ رَضَعَاتٍ حَقٌّ (فَيَسْقُطَانِ) أَيْ الدَّلِيلَانِ الْمَذْكُورَانِ
(تَنْبِيهٌ) وَلَوْ حُوِّلَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ فِي السَّبْعِ إلَى الثَّلَاثِ بَعْدَ الْقَوْلِ بِلُزُومِهَا عِنْدَ مَشَايِخِنَا لِيَتِمَّ عَلَى قَوْلِهِمْ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِثْلُ مَا أُجِيبَ بِهِ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي السَّبْعِ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِمَّا بَيَّنَّاهُ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ بَعْدَ مَا فِيهِمَا إنَّمَا يَتَمَشَّيَانِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ دَلِيلَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعُ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْأَكْثَرِ ثُمَّ قَدْ كَانَ الْأَحْسَنُ ذِكْرَهُمَا وَلَاءَ قَوْلِهِ وَمَا رُوِيَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى سَبْعِينَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ) مِنْ الْحُجَّةِ (فِي نَفْيِ الْمَفْهُومِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَوْلِ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (عَدَمُ مَا يُوجِبُهُ) أَيْ الْقَوْلَ بِهِ (إذْ عُلِمَ أَنَّ الْأَوْجُهَ) الْمَذْكُورَةَ لِإِثْبَاتِهِ (لَمْ تُفِدْهُ) أَيْ إثْبَاتَهُ (وَأَيْضًا الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُصَيِّرَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْقَوْلِ بِهِ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَ عَدَمِ فَائِدَةٍ أُخْرَى) سِوَاهُ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ (وَهِيَ لَازِمَةٌ) أَيْ لَكِنْ الْفَائِدَةُ الَّتِي لَيْسَتْ إيَّاهُ لَازِمَةٌ لَهُ أَبَدًا فِي كُلِّ صُورَةٍ (إذْ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ لِلْإِلْحَاقِ) أَيْ لِإِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ بِالْمَذْكُورِ فِي حُكْمِهِ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا إنْ أَمْكَنَ (فَائِدَةٌ لَازِمَةٌ) لَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ لَا تَحَقُّقَ لَهُ أَصْلًا كَمَا سَلَفَ (وَالدَّفْعُ) لِهَذَا (بِأَنَّ شَرْطَهُ) أَيْ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ (عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ) وَالرُّجْحَانُ فِي الْمَنَاطِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مَعَ ظُهُورِهِ (فَعِنْدَهَا) أَيْ الْمُسَاوَاةِ أَوْ الرُّجْحَانِ ذَلِكَ الْمَحَلُّ (غَيْرُ) مَحَلِّ (النِّزَاعِ) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (لَيْسَ بِشَيْءٍ) يَقْوَى عَلَى دَفْعِهِ (لِأَنَّ فَائِدَةَ الثَّوَابِ) أَيْ الْفَائِدَةَ الَّتِي هِيَ الثَّوَابُ (تَلْزَمُ الِاجْتِهَادَ) السَّائِغَ مُطْلَقًا كَمَا عُرِفَ (أَوْصَلَ) الِاجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدَ (إلَى ظَنِّ الْمُسَاوَاةِ) أَيْ مُسَاوَاةِ الْمَسْكُوتِ فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْكُوتِ أَيْضًا (أَوْ) أَوْصَلَهُ (إلَى عَدَمِهَا) أَيْ الْمُسَاوَاةِ الْمَذْكُورَةِ (أَوْ لَا) أَيْ أَوْ لَمْ يُوصِلْهُ إلَى أَحَدِهِمَا (ثُمَّ يَنْتَفِي الْحُكْمُ) لِلْمَذْكُورِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَخِيرَيْنِ (بِالْأَصْلِ) وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّ الْمُصِيبَ أَكْثَرُ أَجْرًا ثُمَّ لَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاجْتِهَادُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ التَّخْصِيصِ وَعَدَمُ مُسَاوَاةِ الْمَسْكُوتِ لِلْمَذْكُورِ فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِحُكْمِهِ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَيَمْتَنِعُ الِاجْتِهَادُ؛ إذْ لَا قِيَاسَ مَعَ انْتِفَائِهَا، قَدَّرَهُ مُجِيبًا عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
(وَعَدَمُ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا لِكُلِّ تَخْصِيصٍ لِيَمْتَنِعَ الِاجْتِهَادُ لِاسْتِكْشَافِ حَالِ الْمَسْكُوتِ) لِظُهُورِ عَدَمِهَا لِسَامِعِهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ فَيَكُونُ حَالُ الْمَسْكُوتِ مَكْشُوفًا بِدُونِ الِاجْتِهَادِ حِينَئِذٍ لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ فِي تَسْلِيمِ كَوْنِ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ لَيْسَ لَازِمًا بَيِّنًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّخْصِيصِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ تَأَمُّلًا ثُمَّ هَذَا مَا تَقَدَّمَ الْوَعْدُ بِهِ بِقَوْلِهِ وَسَيُدْفَعُ (وَلَهُمْ) أَيْ وَلِلْحَنَفِيَّةِ كَأَنَّهُمْ ذَكَرُوا بِذِكْرِ نَفْيِ الْمَفْهُومِ إذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ النَّافِيَ (غَيْرُهُ) أَيْ هَذَا الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ (أَدِلَّةٌ مَنْظُورٌ فِيهَا) غَالِبُهَا فِي الْحَقِيقَةِ اعْتِرَاضَاتٌ (مِنْهَا انْتِفَاؤُهُ) أَيْ الْمَفْهُومِ (فِي الْخَبَرِ نَحْوِ فِي الشَّامِ غَنَمٌ سَائِمَةٌ) فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَعْلُوفَةِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ قَطْعًا (مَعَ عُمُومِ أَوْجُهِ الْإِثْبَاتِ) لَهُ فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْجِئَ لِلْقَوْلِ بِهِ لُزُومُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ لِلتَّخْصِيصِ لَوْلَاهُ، وَهَذَا قَائِمٌ فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي الْإِنْشَاءِ فَحَيْثُ انْتَفَى فِي الْخَبَرِ انْتَفَى فِي الْإِنْشَاءِ فَانْتَفَى أَصْلًا.
(وَأُجِيبَ) بِوَجْهَيْنِ (بِالْتِزَامِهِ) أَيْ الْمَفْهُومِ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا (إلَّا لِدَلِيلٍ) خَارِجِيٍّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إرَادَتِهِ فِيهِ (وَمِنْهُ) أَيْ: وَمِنْ الْخَبَرِ الَّذِي دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْمَفْهُومِ فِيهِ (الْمِثَالُ) الْمَذْكُورُ فَإِنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِوُجُودِ الْمَعْلُوفَةِ فِي الشَّامِ (وَبِالْفَرْقِ) بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ (بِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْكُوتِ فِي الْخَبَرِ غَيْرُ مُخْبَرٍ عَنْهُ) كَمَا هُوَ الْحَالُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ فِيهِ (لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) لِلْمَسْكُوتِ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِخْبَارِ عَنْ الشَّيْءِ عَدَمُهُ فِي الْخَارِجِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ مَا لَمْ يُخْبَرْ عَنْهُ قَطُّ (بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ) مِنْ الْإِنْشَاءِ
(فَإِنَّهُ لَا خَارِجَ لَهُ) أَيْ لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ، وَهُوَ النِّسْبَةُ الْخَارِجِيَّةُ (يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ غَيْرَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي الْخَارِجِ (فَإِذَا انْتَفَى تَعَرُّضُهُ) أَيْ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ (لِلْمَسْكُوتِ يَنْتَفِي الْحُكْمُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمَسْكُوتِ (فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَدُفِعَ الْأَوَّلُ) وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَفْهُومِ فِي الْخَبَرِ (بِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَالثَّانِي) وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ (بِإِفَادَتِهِ السُّكُوتَ عَنْ الْمَسْكُوتِ وَهُوَ) أَيْ السُّكُوتُ عَنْ الْمَسْكُوتِ (قَوْلُ النَّافِينَ) فَإِنَّ حَاصِلَ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْحُكْمَ مُنْتَفٍ عَنْ الْمَسْكُوتِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ فِيهِ فَعَدَمُ ثُبُوتِهِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّفْيَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى اللَّفْظِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ النَّافِينَ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالدَّافِعُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ.
(وَمِنْهَا) أَيْ الْأَدِلَّةِ الْمَنْظُورِ فِيهَا (لَوْ ثَبَتَ الْمَفْهُومُ) أَيْ اعْتِبَارُهُ (ثَبَتَ التَّعَارُضُ) فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ كَثِيرًا (لِثُبُوتِ الْمُخَالَفَةِ كَثِيرًا) لِمُقْتَضَى الْمَفْهُومِ بِثُبُوتِ مِثْلِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي الْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَإِنَّ مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ حِلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَغَيْرُهُ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ كَالْإِجْمَاعِ وَسَنَدُهُ يَثْبُتُ حُرْمَتَهُ كَذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ التَّعَارُضُ (خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ) فَلَا يَجُوزُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَمَا أَوْجَبَ كَثْرَةَ التَّعَارُضِ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ إلَّا اعْتِبَارُ الْمَفْهُومِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبَالِيَ بِلُزُومِ كَثْرَةِ التَّعَارُضِ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ إذَا أَدَّى إلَى خِلَافِ الْأَصْلِ قُلْنَا (فَإِنْ أُقِيمَ) الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ (فَبَعْدَ صِحَّتِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ (كَانَ دَلِيلُنَا) عَلَى بُعْدِهِ (مُعَارِضًا) لَهُ فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ اعْتِبَارِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمُعَارَضَةِ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ وُجُودِ مُعَارِضِهِ وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُرَجَّحْ عَلَيْهِ فَقَالَ (وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ يَخْرُجُ عَنْ الْأَصْلِ بَعْدَ صِحَّتِهِ) أَيْ الدَّلِيلِ وَيُعَارِضُهُ مَا يُوَافِقُ الْأَصْلَ (يُقَدَّمُ) الْمُخَرَّجُ عَلَى الْمُوَافِقِ (وَإِلَّا لَزِمَ مِثْلُهُ فِي حُجِّيَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ وَضْعَ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ التَّكَالِيفِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَالتَّكْلِيفُ مُطْلَقًا خِلَافُ الْأَصْلِ (وَيُدْفَعُ) مِنْ قِبَلِ الْحَنَفِيَّةِ (بِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ التَّرْجِيحَ مُثْبِتٌ خِلَافَ الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ (عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا) أَيْ الدَّلِيلَيْنِ (فِي اسْتِلْزَامِ الْمَطْلُوبِ وَأَدِلَّتُكُمْ) عَلَى اعْتِبَارِهِ (بَيِّنًا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَهُ) أَيْ الْمَفْهُومِ.
(وَمِثْلُهُ) أَيْ الْمَذْكُورِ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ مِنْ مَقْبُولِ الْأَدِلَّةِ كَعَدَمِ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ لَوْلَاهُ وَمُزَيَّفُهَا كَتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُثْبِتِ وَمِنْ الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا مِنْ جَانِبِ النَّافِي يَكُونُ (فِي الشَّرْطِ) أَيْ فِي مَفْهُومِهِ (مِنْ الْجَانِبَيْنِ) الْمُثْبِت وَالنَّافِي مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِحَدِيثِ يَعْلَى (وَشَرْطُهُ) أَيْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ (مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ خُرُوجِهِ) أَيْ الْمُقَيِّدِ وَهُوَ الشَّرْطُ هُنَا (مَخْرَجَ الْغَالِبِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ (وَنَحْوُهُ) أَيْ هَذَا الشَّرْطِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ مَعَهُ مَفْهُومُ الشَّرْطِ كَالْخَوْفِ (وَيَخُصُّهُ) أَيْ مَفْهُومَ الشَّرْطِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ عَلَى قَوْلِ مُثْبِتِيهِ (قَوْلُهُمْ: إنَّهُ) أَيْ الشَّرْطَ (سَبَبٌ) لِلْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ السَّبَبِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُسَبَّبِ مُتَّحِدًا كَانَ السَّبَبُ أَوْ مُتَعَدِّدًا (فَعَلَى اتِّحَادِهِ ظَاهِرٌ) لِامْتِنَاعِ الْمُسَبَّبِ بِدُونِ سَبَبِهِ (وَعَلَى جَوَازِ التَّعَدُّدِ) أَيْ تَعَدُّدِ السَّبَبِ كَمَا فِي الْمُسَبَّبَاتِ النَّوْعِيَّةِ (الْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ السَّبَبِ الْمَذْكُورِ (فَإِذَا انْتَفَى) السَّبَبُ الْمَذْكُورُ (انْتَفَى مُطْلَقًا) أَيْ مُطْلَقُ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ حَتَّى يَثْبُتَ وُجُودُهُ وَهَذَا مَعْنَى (مُلَاحَظَةً لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُودِ) أَيْ وُجُودِ سَبَبٍ آخَرَ لِلْجَزَاءِ.
وَالْفَرْضُ عَدَمُهُ (مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا اسْتَقْصَى الْبَحْثَ عَنْ آخَرَ فَلَمْ يُوجَدْ) آخَرُ (فَإِنَّ احْتِمَالَ وُجُودِهِ) أَيْ آخَرَ حِينَئِذٍ (يَضْعُفُ فَيَتَرَجَّحُ الْعَدَمُ) أَيْ عَدَمُ آخَرَ (وَالْمَفْهُومُ ظَنِّيٌّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ) الْمَرْجُوحُ فَيَنْتَفِي الْمُسَبَّبُ ظَاهِرًا حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِ قَطْعًا كَمَا فِي الِاتِّحَادِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْمَطْلُوبِ وَتَعَقَّبَ
الْمُصَنِّفُ هَذَا بِقَوْلِهِ (وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ عَنْ أَنَّهُ) أَيْ مَفْهُومَ الشَّرْطِ (مَدْلُولُ اللَّفْظِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى انْتِفَاءِ السَّبَبِ وَهُوَ) أَيْ وَالْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ هُوَ (قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ) أَيْ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ (يَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيُّ فِي التَّحْقِيقِ وَالْأَقْرَبُ لَهُمْ) أَيْ لِمُثْبِتِيهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ (إضَافَتُهُ) أَيْ مَفْهُومِ الشَّرْطِ (إلَى شَرْطِيَّةِ اللَّفْظِ الْمُفَادَةِ لِلْأَدَاةِ) بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ مَا يَنْتَفِي الْجَزَاءُ بِانْتِفَائِهِ فَيَكُونُ) انْتِفَاءُ الْجَزَاءِ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ (مَدْلُولًا) لَفْظِيًّا حِينَئِذٍ (لِلْأَدَاةِ مَنَعَ كَوْنَ الشَّرْطِ سِوَى مَا جُعِلَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ) أَيْ مَنَعَ كَوْنَهُ غَيْرَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَدَاةٌ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ وَمُسَبَّبِيَّةِ الثَّانِي ذِهْنًا أَوْ خَارِجًا سَوَاءٌ كَانَ عِلَّةً لِلْجَزَاءِ كَإِنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ، أَوْ مَعْلُولًا كَإِنْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ.
(وَالِانْتِفَاءُ) أَيْ انْتِفَاءُ الْجَزَاءِ (لِلِانْتِفَاءِ) أَيْ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ (لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِهِ) أَيْ الشَّرْطِ (بَلْ) انْتِفَاءُ الْجَزَاءِ (لَازِمٌ لِتَحَقُّقِهِ) أَيْ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ قَدْ يَخْتَلِفُ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ (وَيَجِيءُ الْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنَّ انْتِفَاءَ الْجَزَاءِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ لِعَدَمِ دَلِيلِ ثُبُوتِهِ (وَيَتَّحِدُ) قَوْلُ مُثْبِتِيهِ (بِقَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ) إنَّ عَدَمَ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ هُوَ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَمَا فِيمَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ هَذَا، وَفِي شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ مُشِيرًا إلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُوجِبُهُ عِنْدَنَا بَلْ عَدَمُ الْحُكْمِ مُبْقًى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حِينَئِذٍ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ غَيْرُ طَالِقٍ فَدَخَلَتْ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَائِلٌ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِالطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَفْهُومِ وَبِمِثْلِهِ لَا تَزُولُ حُقُوقُ الْعِبَادِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهَا بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَالِكٌ لِنَوَاصِي الْعِبَادِ مُطَاعٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ تَجِبُ طَاعَتُهُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فَجَازَ إثْبَاتُ حُقُوقِهِ بِمِثْلِهِ.
وَلِذَا لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ: لَا تُعْتِقْ عَبْدِي الْأَسْوَدَ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِإِعْتَاقِ عَبِيدِهِ الْبِيضِ وَالشُّقْرِ وَنَحْوِهِمَا وَمَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْوَصْفِ عِنْدَهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَيْدٍ أَعْتِقْ عَبِيدِي الْبِيضَ ثُمَّ قَالَ أَعْتِقْ عَبِيدِي السُّودَ قَبْلَ إعْتَاقِهِ أَنْ يَنْعَزِلَ عَنْ وَكَالَتِهِ الْأُولَى وَإِنْ قِيلَ بِعَدَمِ الْعَزْلِ فَلَهُ وَجْهٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنْ الْمَفْهُومِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى عُلِّقَ بِأَمْرٍ مُسَاوٍ لَهُ كَانَ عِلَّةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَزِنَا الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ أَوْ كَالرَّجْمِ مَعَ إحْصَانِ الزَّانِي أَوْ بِالْإِبْدَالِ كَجَوَازِ التَّيَمُّمِ مَعَ فَقْدِ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمُتَعَلِّقَاتِ فِيهَا دَائِرَةٌ مَعَ الْمُعَلَّقِ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِالِاتِّفَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِذَنْ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ الْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِأَمْرٍ ابْتِدَاءً بِصِلَةِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُسَاوِيًا لَهُ وَلَا شَرْطًا عَقْلِيًّا كَالْعِلْمِ لِلْإِرَادَةِ وَلَا يَكُونُ الْمُعَلَّقُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْمُعَلَّقُ حَالَ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عِلَّةً مُجَوِّزَةً لِلْحُكْمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ نَفْيُهُ عَلَى نَفْيِهِ وَيَنْعَقِدُ عِلَّةً مُجَوِّزَةً.
(وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ النَّفْيَ) أَيْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْمَشْرُوطِ (حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عِنْدَهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مِنْ مَدْلُولِ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ الْمَذْكُورِ (وَعَدَمٌ أَصْلِيٌّ عِنْدَهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ لِعَدَمِ تَعَرُّضِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ (فَلَا يَخُصُّ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بِمَفْهُومِ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [النساء: 25] الْآيَةَ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ الِاتِّصَالُ كَقَوْلِهِ وَلَا يَنْسَخُ عَلَى قَوْلِنَا الْمُتَأَخِّرِ نَاسِخٌ خِلَافًا لَهُ) أَيْ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَنَا عُمُومُ وقَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مَخْصُوصًا بِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] وَإِنْ تَنَزَّلْنَا إلَى أَنَّ اتِّصَالَ الْمُخَصَّصِ بِالْمُخَصِّصِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا مَنْسُوخًا بِهِ عَلَى قَوْلِنَا فِي الْمُخَصَّصِ
الْمُتَرَاخِي أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ فِي الْقَدْرِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي مُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ وَحِلُّ نِكَاحِ مَنْ عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَمَةِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ حُكْمٌ ثُبُوتِيٌّ شَرْعِيٌّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا وَلَا نَاسِخًا فَيَجُوزُ عِنْدَنَا نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عُمُومُ الْآيَةِ الْأُولَى مَخْصُوصًا بِمَفْهُومِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْمُؤْمِنَاتِ لِلتَّشْرِيفِ لَا لِلشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] الْآيَةَ فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ وَالْكِتَابِيَّةَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ (وَمَا قِيلَ مِنْ بِنَاءِ الْخِلَافِ) فِي أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَهُوَ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ أَمْ لَا أَنَّهُ كَمَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ عَزْوًا إلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ بِنَاءً (عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ) مُوجِبًا لِلْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا لَا مَانِعٌ مِنْ الْحُكْمِ فَقَطْ (فَعَدَمُ الْحُكْمِ) عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ثَابِتٌ (بِالْأَصْلِ عِنْدَنَا) وَهُوَ عَدَمُ سَبَبِهِ لَا بِعَدَمِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لَمَّا كَانَ مُتَحَقِّقًا قَبْلَ التَّعْلِيقِ.
وَكَانَ الشَّرْطُ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ سَبَبِهِ اسْتَمَرَّ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ سَبَبِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِهِ، فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى عَدَمِ سَبَبِهِ لَا إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ (وَمِنْ الْحُكْمِ عِنْدَهُ) أَيْ وَمَانِعٌ مِنْ الْحُكْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ) أَيْ الْحُكْمِ لَا مَانِعَ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ لِلطَّلَاقِ، وَلِهَذَا يَقَعُ بِهِ لَوْلَا التَّعْلِيقُ، وَإِذَا كَانَ سَبَبًا شَرْعِيًّا لَهُ وَجَبَ تَرَتُّبُهُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ بِوَاسِطَةِ التَّعْلِيقِ ظَهَرَ أَنَّ تَأْثِيرَ تَعْلِيقِهِ فِي تَأْخِيرِ حُكْمِهِ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا فِي مَنْعِ انْعِقَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ حِسًّا كَالتَّأْجِيلِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لِلْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ إلَى حِينِ الْأَجَلِ لَا مَانِعٌ سَبَبَهُ عَنْ الِانْعِقَادِ.
وَهُوَ وُجُوبُ الدَّيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ صَحَّ وَكَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَأْخِيرِ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ سَبَبًا لَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَكَالْإِضَافَةِ فِي الطَّلَاقِ الْمُضَافِ نَحْوِ هِيَ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَإِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْحُكْمِ دُونَ انْعِقَادِ السَّبَبِ أَيْضًا فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُضَافًا إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ لَا إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ عَدَمُ السَّبَبِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّعْلِيقِ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْقِنْدِيلِ بِحَبَلٍ مِنْ السَّقْفِ يُوجِبُ وُجُودَهُ فِي الْهَوَاءِ وَيَمْنَعُ وُصُولَهُ إلَى الْأَرْضِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ثِقَلِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ السُّقُوطِ بِالْإِعْدَامِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ السُّقُوطُ فَكَذَا التَّعْلِيقُ إذَا دَخَلَ عَلَى عِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِهَا، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ حُكْمِهَا لَا غَيْرُ حَتَّى إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا كَالْقِنْدِيلِ إذَا انْقَطَعَ الْحَبْلُ انْجَذَبَ إلَى أَسْفَلَ وَعَمِلَ الثِّقَلُ عَمَلَهُ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ حِسًّا فَلَا يُعْقَلُ إعْدَامُهُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَانِعِ الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ الشَّرْطُ وَسَيَجِيءُ وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُفَصَّلًا.
(وَانْبَنَى عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى هَذَا الْمَبْنَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ الْخِلَافُ الْآتِي فِي الْفُرُوعِ الْآتِيَةِ فَانْبَنَى عَلَى أَصْلِنَا (صِحَّةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ) أَيْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فِي الطَّلَاقِ وَبِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْعَتَاقِ (عِنْدَنَا) حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلِأَمَةِ الْغَيْرِ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَ الْأَجْنَبِيَّةَ وَمَلَكَ الْأَمَةَ طَلُقَتْ وَعَتَقَتْ (وَعَدَمُهُ عِنْدَهُ) أَيْ وَانْبَنَى عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ اعْتِبَارُ هَذَا التَّعْلِيقِ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى لَا تَطْلُقَ بِمُجَرَّدِ تَزَوُّجِهِ بِهَا وَلَا تُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ مِلْكِهِ إيَّاهَا وَإِيضَاحُ الْوَجْهِ فِيهِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلِأَنَّ الْفَرْضَ عِنْدَهُ انْعِقَادُ السَّبَبِ فِي الْحَالِ حَالَةَ التَّعْلِيقِ مَعَ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ مَحَلِّهِ، وَالْمِلْكُ غَيْرُ قَائِمٍ حَالَتَئِذٍ فَلَا انْعِقَادَ لِلسَّبَبِ
حِينَئِذٍ فَكَانَ هَذَا لَغْوًا كَقَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِأَمَةِ الْغَيْرِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْمِلْكِ،.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَلِأَنَّ الْفَرْضَ عِنْدَنَا عَدَمُ انْعِقَادِ السَّبَبِ بِالتَّعْلِيقِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ الْمِلْكُ الَّذِي هُوَ الْمَحَلُّ بَلْ كَانَ قَبْلَ الشَّرْطِ يَمِينًا، وَمَحَلُّ الِالْتِزَامِ بِالْيَمِينِ الذِّمَّةُ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ ثُمَّ الْمِلْكُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا قَبْلَهُ، وَالْمِلْكُ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ هُنَا مُتَيَقَّنٌ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ فِيمَا هُوَ حَاصِلٌ حَالَةَ التَّعْلِيقِ غَيْرُ ثَابِتٍ يَقِينًا حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ بَلْ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِصْحَابِ فَفِيمَا هُوَ ثَابِتٌ يَقِينًا حَالَةَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (بَلْ الصِّحَّةُ) أَيْ صِحَّةُ تَعْلِيقِهِمَا بِالْمِلْكِ (أَوْلَى مِنْهَا) أَيْ مِنْ صِحَّةِ تَعْلِيقِهِمَا (حَالَةَ قِيَامِهِ) أَيْ الْمِلْكِ بِأَمْرٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ (لِلتَّيَقُّنِ بِوُجُودِ الْمَحَلِّ عِنْدَ الشَّرْطِ) فِي هَذَا دُونَ غَيْرِهِ (وَكَذَا) انْبَنَى عَلَى هَذَا الْمَبْنَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمِ هَذَا الْفَرْعِ، وَهُوَ (تَعْجِيلُ الْمَنْذُورِ الْمُعَلَّقِ) بِشَرْطٍ قَبْلَ الشَّرْطِ كَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَقُلْنَا (يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا) التَّعْجِيلُ بِهِ (خِلَافًا لَهُ) أَيْ لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ عَنْ نَذْرِهِ قَبْلَ شِفَائِهِ ثُمَّ شُفِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ حِينَئِذٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِنَا يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ يَكُونُ أَدَاءً بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ وَهُوَ جَائِزٌ.
(تَنْبِيهٌ) ثُمَّ هَكَذَا وَقَعَ ذِكْرُ هَذَا الْخِلَافِ فِي حُكْمِ هَذَا الْفَرْعِ لِلْبَزْدَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَيَّدَهُ غَيْرُ مَا شَارِحٍ مِنْ جِهَتِهِ بِالنَّذْرِ الْمَالِيِّ كَمِثَالِنَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَدَنِيِّ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا وَقَعَ لَهُ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَيُذْكَرُ وَجْهُهُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهُوَ شَاهِدٌ بِصِحَّتِهِ هُنَا فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ خِلَافًا لَهُ فِي الْمَالِيِّ ثُمَّ غَيْرُ خَافٍ أَنَّ مَا قِيلَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (غَلَطٌ؛ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ الشَّافِعِيُّ سَبَبًا يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ) الَّتِي هِيَ هَلْ يَدُلُّ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً أَمْ لَا قُلْنَا: لَا وَقَالَ: نَعَمْ إنَّمَا هُوَ (مَعْنَى لَفْظِ الشَّرْطِ) وَهُوَ مَا يَنْتَفِي الْجَزَاءُ بِانْتِفَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ لَهُمْ (لَا الْجَزَاءُ وَالْخِلَافُ الْمُشَارُ إلَيْهِ) فِي أَنَّ الشَّرْطَ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ كَقَوْلِنَا أَوْ مِنْ الْحُكْمِ فَقَطْ كَقَوْلِهِ (هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَثْبُتُ سَبَبِيَّتُهُ شَرْعًا لِحُكْمٍ إذَا جُعِلَ جَزَاءً لِشَرْطٍ) أَيْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَدَاةٌ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ وَمُسَبَّبِيَّةِ الثَّانِي (هَلْ يَسْلُبُهُ) أَيْ الْجَعْلَ الْمَذْكُورَ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ (سَبَبِيَّتَهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ) .
فَقُلْنَا: نَعَمْ وَقَالَ: لَا فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا (كَأَنْتِ طَالِقٌ وَحُرَّةٌ جُعِلَ) كُلٌّ مِنْهُمَا شَرْعًا (سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ) أَيْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالرَّقَبَةِ وَلَوْلَا السِّيَاقُ وَالسِّبَاقُ لَفَسَّرْنَاهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَقَطْ جَاعِلِينَ أَنْتِ طَالِقٌ سَبَبَ زَوَالِهِ بِطَرِيقِ الصَّرَاحَةِ، وَأَنْتِ حُرَّةٌ سَبَبَ زَوَالِهِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ (فَإِذَا دَخَلَ الشَّرْطُ) عَلَيْهِمَا كَإِنْ دَخَلْت (مَنَعَ) دُخُولَهُ عَلَيْهِمَا (الْحُكْمَ) وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا غَيْرُ مِنْ الْوُجُودِ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ (عِنْدَهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ لَا انْعِقَادُ السَّبَبِ مِنْ السَّبَبِيَّةِ حَالَتَئِذٍ (وَعِنْدَنَا مَنَعَ سَبَبِيَّتَهُ) أَيْ كَوْنَهُ سَبَبًا حِينَئِذٍ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ قَصْدًا، وَحُكْمُهُ إلَى وَقْتَئِذٍ أَيْضًا تَبَعًا (فَتَفَرَّعَتْ الْخِلَافِيَّاتُ) الْمَذْكُورَةُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا وَجْهَ تَفْرِيعِهَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَظَهَرَ أَنَّ مَحَلَّ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ مِمَّا اُعْتُبِرَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعًا كَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا بَلْ هُوَ نَفْسُ الْحُكْمِ الْخَبَرِيِّ كَ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9]{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] أَوْ غَيْرِهِ كَإِذَا جَاءَ فَأَكْرِمْهُ يُفِيدُ نَفْيَ إكْرَامِهِ إنْ لَمْ يَجِئْ فَكَيْفَ يُبْنَى مَا هُوَ أَوْسَعُ دَائِرَةً عَلَى مَا هُوَ بَعْضُ صُوَرِهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُبْتَنَى عَلَى مَا ذَكَرَ مَا إذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ نَفْسَ الْحُكْمِ اهـ.
وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ مَحَلَّ كَلَامِ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْمَشْرُوطِ لَفْظًا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ الْمُعَلَّقِ مِمَّا اُعْتُبِرَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعًا كَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ أَمْ لَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ عَنْ هَذَا كَمَا أَفْصَحَ فِي مَحَلِّ
كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اكْتِفَاءً بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقَابِلُهُ، وَالْمَدْلُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ، وَأَيْضًا هَذَا أَمْرٌ لُغَوِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ اعْتِبَارُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ عَلَى تَصَرُّفٍ لَفْظِيٍّ مِنْ حَيْثُ يُوجِبُ أَمْرًا شَرْعِيًّا هُوَ كَذَا أَمْ لَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ مَا يُفِيدُ كَوْنَ أَحَدِهِمَا مَبْنَى الْآخَرِ فَلْيُرَاجَعْ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عَنْ عَدَمِهِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مَبْنِيٌّ كَمَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ الشُّرُوطَ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَالْمَشْرُوطُ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالتَّعْلِيقُ قَيَّدَهُ بِتَقْدِيرِ مُعَيَّنٍ، أَوْ عَدَمِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْعَدَمِ.
وَأَصْحَابُنَا اعْتَبَرُوا الْمَشْرُوطَ مَعَ الشَّرْطِ فَهُمَا كَلَامٌ وَاحِدٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى تَقْدِيرٍ وَسَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ انْعَقَدَ سَبَبًا عِنْدَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا، وَإِنَّمَا التَّعْلِيقُ أَخَّرَ حُكْمَهُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا عِنْدَنَا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَإِنَّمَا يَتَفَرَّعَانِ) أَيْ هَذَانِ الْقَوْلَانِ (مَعًا عَلَى الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الْجَزَاءِ مِنْ التَّرْكِيبِ الشَّرْطِيِّ مُفِيدًا حُكْمَهُ) أَيْ حَالَ كَوْنِ الْجَزَاءِ مُفِيدًا حُكْمَ نَفْسِهِ (عَلَى عُمُومِ التَّقَادِيرِ) الْمُمْكِنَةِ لَهُ مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَغَيْرِهِمَا (خَصَّصَهُ) أَيْ عُمُومَ التَّقَارِيرِ (الشَّرْطُ بِإِخْرَاجِ مَا سِوَى مَا تَضَمَّنَهُ) حُكْمُ الْجَزَاءِ مِنْ عُمُومِ التَّقَادِيرِ الثَّابِتِ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ (عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ) الْكَائِنِ لَهُ حَالَ كَوْنِهِ (مَعَهُ) أَيْ مَعَ الشَّرْطِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الشَّرْطَ قَصْرُ عُمُومِ التَّقَادِيرِ الَّتِي لِحُكْمِ الْجَزَاءِ عَلَى بَعْضِهَا، وَهُوَ مَا قُيِّدَ مِنْهَا بِالشَّرْطِ فَصَارَ التَّرْكِيبُ الشَّرْطِيُّ دَالًّا عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ الْمُقَيَّدِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ وَعَلَى عَدَمِ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سِوَاهُ (فَيَكُونُ النَّفْيُ) أَيْ نَفْيُ حُكْمِ الْجَزَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ (مُضَافًا إلَيْهِ) أَيْ الشَّرْطِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّرْطَ (دَلِيلُ التَّخْصِيصِ) فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا، وَيَكُونُ الشَّرْطُ مَانِعًا مِنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ إلَى حِينِ الشَّرْطِ لَا مِنْ انْعِقَادِهِ سَبَبًا.
وَهَذَا ظَاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ، لَا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَزَاءُ وَحْدَهُ، وَالشَّرْطُ قَيْدٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَالْحَالِ حَتَّى إنَّ الْجَزَاءَ إنْ كَانَ خَبَرًا فَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَإِنْشَائِيَّةٌ أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ حُكْمًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَضْلًا عَنْ الْحُكْمِ عَلَى عُمُومِ التَّقَادِيرِ بَلْ إنَّمَا مَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ دَالٌّ عَلَى رَبْطِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَثُبُوتُهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الِانْتِفَاءِ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ، وَكُلٌّ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ جُزْءٌ مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِمَعْنَى هَذَا وَبِمَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَأَهْلُ النَّظَرِ يَمْنَعُونَ إفَادَتَهُ شَيْئًا) أَيْ إفَادَةَ جَزَاءِ الشَّرْطِ فَائِدَةً تَامَّةً (حَالَ وُقُوعِهِ) جَزَاءً لِلشَّرْطِ بِدُونِهِ (بَلْ هُوَ) أَيْ الْجَزَاءُ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ وُقُوعِهِ جَزَاءً لِلشَّرْطِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً تَامَّةً بِدُونِهِ (كَزَايِ زَيْدٍ) مِنْ زَيْدٍ حَالَ كَوْنِهِ (جَزَاءَ الْكَلَامِ الْمُفِيدِ) وَإِنْ كَانَ الزَّايُ مِنْ زَيْدٍ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا بِخِلَافِ الْجَزَاءِ (فَضْلًا عَنْ إيجَابِهِ عَلَى عُمُومِ التَّقَادِيرِ) أَيْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ عَلَى عُمُومِ التَّقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ تَخْصِيصًا وَقَصْرًا لَهُ عَلَى بَعْضِهَا
(وَالْمَجْمُوعُ) أَيْ بَلْ مَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ عِنْدَهُمْ (يُفِيدُ حُكْمًا مُقَيَّدًا بِالشَّرْطِ فَإِنَّمَا دَلَالَتُهُ) أَيْ الْمَجْمُوعِ (عَلَى الْوُجُودِ) أَيْ وُجُودِ الْحُكْمِ (عِنْدَ وُجُودِهِ) أَيْ الشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا (فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ) الشَّرْطُ (بَقِيَ مَا قَيَّدَ وُجُودَهُ) مِنْ الْحُكْمِ (بِوُجُودِهِ) أَيْ الشَّرْطِ مُسْتَمِرًّا (عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ) الْكَائِنِ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِعَدَمِ دَلِيلِ ثُبُوتِهِ لَا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّظْمِ فَمَالَ الشَّافِعِيُّ إلَى الْأَوَّلِ، وَأَصْحَابُنَا إلَى الثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ: لَوْ كَانَ مَعْنَى: إنْ ضَرَبَنِي زَيْدٌ ضَرَبْته أَضْرِبْهُ فِي وَقْتِ ضَرْبِهِ إيَّايَ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا إلَّا إذَا تَحَقَّقَ الضَّرْبُ مَعَ ذَلِكَ الْقَيْدِ فَإِذَا فُرِضَ انْتِفَاءُ الْقَيْدِ أَعْنِي وَقْتَ ضَرْبِهِ إيَّاكَ لَمْ يَكُنْ الضَّرْبُ الْمُقَيَّدُ بِهِ وَاقِعًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى وُقُوعِهِ كَاذِبًا سَوَاءٌ وُجِدَ مِنْك ضَرْبٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَذَلِكَ
بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَضْرِبْك وَلَمْ تَضْرِبْهُ، وَكُنْت بِحَيْثُ إنْ ضَرَبَك ضَرَبْته عُدَّ كَلَامُك هَذَا صَادِقًا عُرْفًا وَلُغَةً وَإِذَا وَقَعَ الْجَزَاءُ إنْشَاءً كَإِنْ جَاءَك زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ كَانَ مُؤَوَّلًا أَيْ إنْ جَاءَك فَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِكْرَامِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّ هُوَ أَنْ تُؤْمَرَ بِإِكْرَامِهِ عَلَى قِيَاسِ تَأْوِيلِهِ إذَا وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ يَظْهَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِمَنْ تَأَمَّلَ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ مَنْعُ كَوْنِ الِانْتِفَاءِ لِلِانْتِفَاءِ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ مُؤَخَّرًا لِلْحُكْمِ فَقَطْ وَوُعِدَ رَدُّهُ وَسَيَحْصُلُ الْوَفَاءُ بِهِ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا نَظَّمَ كَثِيرٌ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَدْرِ الشَّرِيعَةِ جَوَازَ تَعْجِيلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْمَالِ مِنْ عِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتِهِمْ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ إبْطَالِهِ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَتَجْوِيزِهِ تَعْجِيلَ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ يَنْعَقِدُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَأَثَرُ الشَّرْطِ فِي تَأْخِيرِ حُكْمِهِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ لَا غَيْرُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالظَّاهِرِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ ثَمَّةَ وَذَكَرَهُ هُنَا مَقْرُونًا بِاعْتِذَارٍ لَهُمْ فِيهِ ثُمَّ بِالتَّعَقُّبِ لَهُ فَقَالَ (وَأَمَّا تَفْرِيعُ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ) أَيْ جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِلْيَمِينِ (قَبْلَ الْحِنْثِ) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا فَعَلُوهُ (فَقُبِلَ) لِأَنَّهُ مَبْنَاهُ (بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ حَلَفَ فَلْيُكَفِّرْ إنْ حَنِثَ (وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ) فَإِنَّ سَائِرَ التَّكَالِيفِ الْمَنُوطَةِ بِأَسْبَابِهَا يَتَأَتَّى فِيهَا مِثْلُ هَذَا وَلَا قَائِلَ بِأَنَّهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْوَجْهُ عَدَمُ ذِكْرِهِ مِنْ أَفْرَادِهِ ثُمَّ إنَّمَا قَيَّدَهَا بِالْمَالِيَّةِ لِمُوَافَقَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى أَنَّ الْبَدَنِيَّةَ، وَهِيَ الصَّوْمُ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ، وَفَرَّقَ لَهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ فِي تَأْخِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَالْحَقُّ الْمَالِيُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ لِتَغَايُرِ الْمَالِ وَالْفِعْلِ فَجَازَ اتِّصَافُ الْمَالِ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ، وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا فِي الْحَقِّ الْمَالِيِّ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْحَقِّ الْبَدَنِيِّ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهِ عَنْ نَفْسِ وُجُوبِهِ بَلْ نَفْسُ وُجُوبِهِ وُجُوبُ أَدَائِهِ فَلَوْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ أَدَائِهِ هُنَا انْتَفَى الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ حِينَئِذٍ.
وَمِنْ ثَمَّةَ جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ (وَالْأَوْجَهُ خِلَافُ قَوْلِهِ) أَيْ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ قَوْلُنَا (لِعَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْحِنْثِ) لِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ (لَا الْيَمِينِ) أَيْ دُونَ عَقْلِيَّةِ سَبَبِيَّةِ الْيَمِينِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي التَّحْقِيقِ لِسَتْرِ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِخْلَالِ بِتَوْفِيرِ مَا يَجِبُ لِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى وَتَلَافِيهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الْحِنْثِ لَا عَنْ الْيَمِينِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَأَيْضًا أَقَلُّ مَا فِي السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ، وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ عَدَمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ (وَإِنْ أُضِيفَتْ) الْكَفَّارَةُ (إلَيْهِ) أَيْ الْحَلِفِ (فِي النَّصِّ) أَيْ قَوْلِهِ ذَلِكَ: كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ فَإِنَّهَا مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى شَرْطِهِ تَوَسُّعًا (كَإِضَافَةِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) أَيْ الْإِضَافَةِ الَّتِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ (عِنْدَنَا) فَإِنَّ عِنْدَنَا الْفِطْرَ شَرْطُهَا وَسَبَبُهَا رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُهَا فَالْحِنْثُ شَرْطُ وُجُوبِهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ، وَالْمَشْرُوطُ لَا يُوجَدُ قَبْلَ شُرُوطِهِ فَلَا تَقَعُ وَاجِبَةً قَبْلَهُ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ، وَلَا عِنْدَ ثُبُوتِهِ بِفِعْلٍ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.
وَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالزَّكَاةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الْعِبَادِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهُوَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْمَرْءُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ - تَعَالَى بِإِذْنِهِ، وَالْمَالُ آلَةٌ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ كَمَنَافِعِ الْبَدَنِ فَيَكُونُ الْمَالِيُّ كَالْبَدَنِيِّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُجُوبِ الْأَدَاءُ، وَأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ فِيهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ فِي الْبَدَنِيِّ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ جَازَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى مَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ نَقُولُ:(وَوَجْهُهُ) أَيْ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ سَبَبِيَّةِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ لِحُكْمِهِ (أَوَّلًا أَنَّ السَّبَبَ) لِلْحُكْمِ هُوَ (الْمُفْضِي إلَى الْحُكْمِ) وَالطَّرِيقُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ (وَالتَّعْلِيقُ) أَيْ وَتَعْلِيقُ الْجَزَاءِ
الْمَفْرُوضِ سَبَبِيَّتُهُ فِي نَفْسِهِ لِحُكْمٍ بِشَرْطٍ (مَانِعٍ مِنْ الْإِفْضَاءِ) أَيْ إفْضَائِهِ إلَى حُكْمِهِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ (لِمَنْعِهِ) أَيْ التَّعْلِيقِ (مِنْ الْمَحَلِّ) أَيْ وُصُولِ الْمُعَلَّقِ إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ وُقُوعُ حُكْمِهِ فِي الْحَالِ.
(وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَصِيرُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ أَسْبَابًا) لِعَدَمِ الْإِفْضَاءِ كَمَا لَا تَكُونُ قَبْلَ تَمَامِهَا أَسْبَابًا كَمُجَرَّدِ إيجَابِ الْبَيْعِ فِيمَا يَمْلِكُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْغَيْرِ ذَلِكَ الْمَبِيعَ (فَضَعَّفَ قَوْلَهُ) أَيْ الشَّافِعِيِّ (السَّبَبُ) لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ (أَنْتِ طَالِقٌ وَالشَّرْطُ) الَّذِي هُوَ إنْ دَخَلْت (لَمْ يَعْدَمْهُ) أَيْ كَوْنُهُ سَبَبًا (فَإِنَّمَا أَخَّرَ) الشَّرْطَ (الْحُكْمُ) أَيْ حُكْمُ السَّبَبِ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَيْهِ، وَالشَّرْطُ هُنَا قَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا (وَأُورِدَ) عَلَيْنَا إذَا كَانَ مَثَلًا إنْ دَخَلْت مَانِعًا مِنْ وُصُولِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى مَحَلِّهِ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ (فَيَجِبُ أَنْ يَلْغُوَ) أَنْتِ طَالِقٌ فِيهِ فَلَا يَقَعُ وَإِنْ دَخَلَتْ (كَالْأَجْنَبِيَّةِ) أَيْ كَمَا لَوْ قَالَهُ مُنَجَّزًا لِأَجْنَبِيَّةٍ بِجَامِعِ عَدَمِ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ فِيهِمَا (وَأُجِيبَ لَوْ لَمْ يَرْجُ) الْوُصُولَ إلَى مَحَلٍّ بِأَنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَيْهِ (لَغَا كَطَالِقٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ) فَإِنَّ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - فِيمَا لَا يُعْلَمُ وُقُوعُهُ لَا عِلْمَ لِلْعِبَادِ بِتَعَلُّقِهَا بِهِ فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِالْمُوجِبِ فِي هَذَا (وَغَيْرِهِ) وَهُوَ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْوُصُولِ إلَى مَحَلِّهِ (بِعَرْضِيَّةِ السَّبَبِيَّةِ) لِحُكْمِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِوُجُودِ شَرْطِهِ (فَلَا يَلْغُو تَصْحِيحًا) لَهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ كَشَطْرِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ بِعُرْضَةِ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا بِوُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَلْغُ مَا دَامَ ذَلِكَ مَرْجُوًّا لَهُ (وَثَانِيًا) أَيْ وَوَجْهُ قَوْلِنَا ثَانِيًا: أَنَّ السَّبَبَ إذَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ (تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْطِ) ضَرُورَةً (فَصَارَ) السَّبَبُ الْمُعَلَّقُ بِهِ (كَجُزْءِ سَبَبٍ) لِمَا مَرَّ، وَجُزْءُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ سَبَبًا.
وَمِنْ هُنَا زَعَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّعْلِيقَ صَيَّرَ الْمَجْمُوعَ مِنْ الشَّرْطِ وَمَا كَانَ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا قَبْلَهُ عِنْدَنَا وَرَدَّهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا عِنْدَهُ وُجُودُ الشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا، وَالسَّبَبُ مَا بِهِ الشَّيْءُ، وَيَكُونُ مُؤَثِّرًا فَلَا يَصِيرُ الشَّرْطُ جُزْءًا لِلسَّبَبِ لِتَنَافِي مُوجِبِهِمَا وَهَذَا (بِخِلَافِ) مَا أَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ التَّعْلِيقَ بِهِ مِنْ (الْبَيْعِ الْمُؤَجَّلِ) فِيهِ الثَّمَنُ (وَبِشَرْطِ الْخِيَارِ وَالْمُضَافِ كَطَالِقٍ غَدًا) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا (سَبَبٌ فِي الْحَالِ) أَمَّا فِي الْبَيْعِ الْمُؤَجَّلِ فِيهِ الثَّمَنُ (لِأَنَّ الْأَجَلَ دُخُولُهُ عَلَى الثَّمَنِ) لِيُفِيدَ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ (لَا) عَلَى (الْبَيْعِ) فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِهِ مِنْ الِانْعِقَادِ، وَلَا لِحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ، وَثُبُوتُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ عَنْ الثُّبُوتِ؛ إذْ لَا وَجْهَ لِتَأْثِيرِ الشَّيْءِ فِيمَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كَمْيَّةِ مُدَّتِهِ فَمُسَلَّمٌ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ لَكِنْ لِأَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ هُنَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَالْخِيَارُ) أَيْ شَرْعِيَّتُهُ نَصًّا فِي الْبَيْعِ ثَابِتٌ (بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ) أَيْ النَّقْصِ الْمُتَوَهَّمِ فِيهِ بِاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ وَالتَّرَوِّي فِي اخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ فِي زَمَانِهِ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ إجْمَاعًا، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَقْصَى مُدَّتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْخِلَافِ الْقِيَاسُ (لِأَنَّ إثْبَاتَ مِلْكِ الْمَالِ) الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ (لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَرَ) أَيْ التَّعْلِيقَ بِمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ (لِصَيْرُورَتِهِ قِمَارًا) وَهُوَ حَرَامٌ ثُمَّ حَيْثُ شُرِعَ وَكَانَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ دَفْعِ الْغَبْنِ الْوَاقِعِ فِيهِ (فَاكْتَفَى بِاعْتِبَارِهِ) أَيْ الشَّرْطِ (فِي الْحُكْمِ) أَيْ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَهُوَ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ أَيْضًا فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ سَبَبًا وَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى سُقُوطِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَتَى أَمْكَنَ دَفْعُهَا بِأَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُصَارُ إلَى أَعْلَاهُمَا.
وَالشَّافِعِيُّ مُوَافِقُنَا عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ جَعَلَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِيمَا ابْتَاعَ» انْتَهَيْنَا إلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
هَذَا التَّحْقِيقُ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ عَنْ هَذَا (وَالْحَقُّ أَنَّهُ) أَيْ انْعِقَادَ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ سَبَبًا فِي الْحَالِ مَعَ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ إلَى سُقُوطِهِ (مُقْتَضَى اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ بِعَلَى
لِتَعْلِيقِ مَا بَعْدَهُ) أَيْ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ اللَّفْظِ عَلَى بِمَا قَبْلَهُ (فَقَطْ فَآتِيك عَلَى أَنْ تَأْتِيَنِي الْمُعَلَّقُ إتْيَانُ الْمُخَاطَبِ) عَلَى إتْيَانِ الْمُتَكَلِّمِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ بِإِنْ وَأَخَوَاتِهَا كَمَا تَرَى فِي آتِيك إنْ أَتَيْتنِي فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ إتْيَانُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى إتْيَانِ الْمُخَاطَبِ وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ (فَبِعْتُك عَلَى أَنِّي) أَوْ أَنَّك أَوْ أَنَّنَا (بِالْخِيَارِ أَيْ فِي الْفَسْخِ فَهُوَ) أَيْ الْفَسْخُ (الْمُعَلَّقُ وَالْبَيْعُ مُنْجَزٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ) الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ (دَفْعًا لِلضَّرَرِ) عَمَّنْ لَهُ الْخِيَارُ (لَوْ تَصَرَّفَ) مَنْ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ دُونَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْبَيْعُ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْمُوجِبِ لِتَعَلُّقِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي ثُمَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ لِمَا ذَكَرْنَا (بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ) فَإِنَّ كُلًّا (إسْقَاطٌ مَحْضٌ يَحْتَمِلُهُ) أَيْ الشَّرْطُ لِعَدَمِ أَدَائِهِ إلَى الْقِمَارِ فَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حُكْمُهُ عَنْهُ، وَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا هُوَ الْكَامِلُ؛ إذْ الْأَصْلُ الْكَمَالُ، وَالنُّقْصَانُ لِعَارِضٍ وَلَا عَارِضَ هُنَا
(وَإِنْ كَانَ الْعَتَاقُ إثْبَاتًا لَكِنَّهُ لَيْسَ إثْبَاتًا لِمِلْكِ الْمَالِ) بَلْ إثْبَاتُ قُوَّةٍ شَرْعِيَّةٍ هِيَ قُدْرَةٌ عَلَى تَصَرُّفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْوِلَايَاتِ كَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَإِنْكَاحِ نَفْسِهِ وَابْنَتِهِ الْمَمْنُوعِ مِنْهَا بِالرِّقِّ فَلَا يَكُونُ دُخُولُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ مُؤَدِّيًا إلَى الْقِمَارِ (فَبَطَلَ إيرَادُ أَنَّهُ إثْبَاتٌ أَيْضًا) كَمَا فِي التَّلْوِيحِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ عَدَمُ صِحَّةِ دُخُولِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ فَلَا يَلْحَقُ الْبَيْعُ بِالْخِيَارِ بِهِمَا فِي أَنَّ الشَّرْطَ دَاخِلٌ عَلَيْهِمَا ثُمَّ هُنَا أَمْرَانِ يَحْسُنُ التَّنَبُّهُ لَهُمَا الْأَوَّلُ مَنْعُهُمْ صِحَّةَ تَعْلِيقِ مَا هُوَ إثْبَاتُ مِلْكِ الْمَالِ لِشُبْهَةٍ بِالْقِمَارِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ فَعُلِّلَ الشَّبَهُ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ بِدُخُولِهِ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ تَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقِمَارُ مَا حُرِّمَ لِمَعْنَى الْخَطَرِ بَلْ بِاعْتِبَارِ تَعْلِيقِ الْمِلْكِ بِمَا لَمْ يَضَعْهُ الشَّارِعُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَضَعْ ظُهُورَ الْعَدَدِ الْفُلَانِيِّ فِي وَرَقَةٍ مَثَلًا لِلْمِلْكِ، وَالْخَطَرُ طَرْدٌ فِي ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ نَعَمْ يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: اعْتَبَرْنَاهُ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلًا لِخِلَافِ الْأَصْلِ اهـ.
وَأَقُولُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقِمَارَ حُرِّمَ لِكَوْنِ الشَّارِعِ لَمْ يَضَعْهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ لَكِنْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ مَحْضٍ بَلْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرٍ مَعْقُولٍ يَصْلُحُ مَنَاطًا لِلتَّحْرِيمِ فَإِذْ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ الْخَطَرُ فَلَعَلَّهُ مَا فِيهِ مِنْ إذْهَابِ الْمَالِ لَا فِي مُقَابَلَةِ غَرَضٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَتَمَلُّكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ كَذَلِكَ ثُمَّ كَوْنُ الْخَطَرِ فِيهِ أَمْرًا طَرْدِيًّا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ عِلَّةً لِفَسَادِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَابِ إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّهْيِ عَنْ أُمُورٍ أُخْرَى اشْتَمَلَ عَلَيْهَا وَخُيِّلَ فِيهَا عِلِّيَّتُهُ لِلتَّحْرِيمِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا فَقَالَ: وَمَعْنَى النَّهْيِ كُلٌّ مِنْ الْجَهَالَةِ وَتَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى إذَا وَقَعَ حَجَرِي عَلَى ثَوْبٍ فَقَدْ بِعْته مِنْك أَوْ بِعْتنِيهِ بِكَذَا اهـ غَيْرَ أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ مَنْعَ التَّعْلِيقَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الْخَطَرِ الْمُفْضِي إلَى الْفَسَادِ شَرْعًا لَا إلَى الْقِمَارِ كَمَا قَالُوهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَحْثَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ فِي مُجَرَّدِ دَعْوَى كَوْنِ احْتِمَالِهِ الْخَطَرَ مُفْضِيًا إلَى الْقِمَارِ لَيْسَ غَيْرُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ
الثَّانِي أَنَّ الْمُفَسَّرَ بِإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْإِعْتَاقُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّلْوِيحِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ فَإِنَّهُمَا مُفَسَّرَانِ بِخُلُوصٍ حُكْمِيٍّ عَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِيهِ بِالرِّقِّ، وَيَلْزَمُهُ ثُبُوتُ قُوَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِقُدْرَتِهِ بِسَبَبِ هَذَا عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَعَنْ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ تَسَامَحُوا بِإِطْلَاقِ الْعَتَاقِ مَوْضِعَ الْإِعْتَاقِ وَأَجْرَوْا عَلَيْهِ مَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ لِلْإِعْتَاقِ مَلْزُومًا وَلَازِمًا مِنْ أَنَّهُ إسْقَاطٌ، وَإِثْبَاتٌ لِظُهُورِ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَوَافَقَهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَمُسَلَّمٌ كَوْنُهَا غَيْرَ مَانِعَةٍ كَوْنَ الْمُضَافِ سَبَبًا فِي الْحَالِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُ التَّعْلِيقِ بِهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ امْتِنَاعُ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ وَعَدَمِ نُزُولِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ (وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ وَهِيَ) أَيْ الْيَمِينُ تُعْقَدُ (لِلْبِرِّ إعْدَامُ مُوجِبِ الْمُعَلَّقِ) لَا وُجُودِهِ (فَلَا يُفْضِي إلَى الْحُكْمِ) أَيْ فَلَا يَصِلُ الْمُعَلَّقُ بِالتَّعْلِيقِ إلَى الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَكُونَ مَانِعُ الشَّيْءِ طَرِيقًا إلَيْهِ كَمَا تَرَاهُ ظَاهِرًا فِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ (أَمَّا الْإِضَافَةُ
فَلِثُبُوتِ حُكْمِ السَّبَبِ فِي وَقْتِهِ) أَيْ لِتَعَيُّنِ زَمَانِ وُقُوعِهِ (لَا لِمَنْعِهِ) أَيْ الْحُكْمِ مِنْ الْوُقُوعِ فَالْغَرَضُ مِنْ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَعْيِينُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ لَا مَنْعُهَا مِنْ الْوُقُوعِ (فَيَتَحَقَّقُ) فِي الْإِضَافَةِ (السَّبَبُ بِلَا مَانِعٍ إذْ الزَّمَانُ) الْمُضَافُ إلَيْهِ (مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ) لِلْحُكْمِ أَوْ السَّبَبِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي نَفْيِ أَحَدِهِمَا، وَلَا وُجُودَ فَلَا يَسْتَقِيمُ إلْحَاقُ التَّعْلِيقِ بِهَا فِي ذَلِكَ (وَيَرِدُ) عَلَى إطْلَاقِ مَا عُلِّلَ بِهِ مَنْعُ التَّعْلِيقِ مِنْ سَبَبِيَّةِ الْمُعَلَّقِ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ لَكِنْ (كَوْنُ الْيَمِينِ تُوجِبُ الْإِعْدَامَ) لِمُوجِبِ الْمُعَلَّقِ إنَّمَا هُوَ (فِي الْمَنْعِ) أَيْ إذَا كَانَتْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَإِنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ.
(أَمَّا الْحَمْلُ) أَيْ أَمَّا إذَا كَانَتْ لِلْحَمْلِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ (فَلَا) تُوجِبُ الْإِعْدَامَ لِمُوجِبِ الْمُعَلَّقِ (كَإِنْ بَشَّرْتنِي بِقُدُومِ وَلَدِي فَأَنْتَ حُرٌّ) وَكَيْفَ لَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ غَرَضَ الْمُتَكَلِّمِ فِي هَذَا حَثُّ عَبْدِهِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى إدْخَالِ الْمَسَرَّةِ عَلَيْهِ بِإِخْبَارِهِ بِوُصُولِ مَحْبُوبِهِ إلَيْهِ، لَا مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ إطْلَاقُ كَوْنِ التَّعْلِيقِ مَانِعًا مِنْ إفْضَاءِ الْمُعَلَّقِ إلَى الْحُكْمِ، وَالْإِطْلَاقُ هُوَ الْمَطْلُوبُ (فَالْأَوْلَى) فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَوْنِ الْإِضَافَةِ غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ سَبَبِيَّةِ الْمُضَافِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَكَوْنِ التَّعْلِيقِ مَانِعًا مِنْهُ سَبَبِيَّةَ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ (الْفَرْقُ بِالْخَطَرِ وَعَدَمِهِ) أَيْ بِأَنَّ فِي وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ خَطَرًا أَيْ تَرَدُّدًا بِخِلَافِ الْمُضَافِ.
قُلْت: وَلَعَلَّ تَوْجِيهَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا فِي الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شَكًّا فِي تَحَقُّقِ الْمُعَلَّقِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ سَابِقَةِ الْعَدَمِ، وَفِي الْإِضَافَةِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا إلَى مَا هُوَ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْمُضَافَ وُجِدَ وَفُرِّعَ مِنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَعْقُبْهُ حُكْمُهُ لَا غَيْرُ لِعُرُوضِ هَذَا الْعَارِضِ فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ الْإِعْدَامُ، فَلَا يَسْتَقِيمُ إلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي لَازِمِ مَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَصْلِ فِيهِ إلَّا بِمُقْتَضٍ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالْأَصْلِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي شَرْحٍ لِلْبَزْدَوِيِّ.
فَإِنْ قُلْت فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قُلْت الْحُكْمُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى عِلَّتِهِ إمَّا فِي الْحَالِ أَوْ مُتَرَاخِيًا فِي الْإِضَافَةِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَإِنْ قُلْت فِي الْإِضَافَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ الْمُسْتَقْبَلِ إذَا بَقِيَ الْمَحَلُّ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْقَ فَلَا يُمْكِنُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى عِلَّتِهِ يَقِينًا.
قُلْت: الْأَصْلُ فِي كُلِّ ثَابِتٍ بَقَاؤُهُ فَإِذَنْ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْإِضَافَةِ ظَاهِرًا فَإِنْ قُلْت فَفِيمَا إذَا عُلِّقَ بِأَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالنِّكَاحِ وَالْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ الْعِلَّةُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عِلَّتِهِ قَطْعًا كَمَا فِي الْإِضَافَةِ بَلْ أَوْلَى قُلْت: إلَّا أَنَّ ثَمَّ مَانِعًا آخَرَ، وَهُوَ عَدَمُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ، وَالْعِلَّةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّهَا لَكِنْ يَطْرُقُ هَذَا الْفَرْقَ - أَيْضًا - أَنَّهُ كَمَا قَالَ (ثُمَّ يَقْتَضِي) هَذَا الْفَرْقُ (كَوْنَ) أَنْتَ حُرٌّ (يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ كَإِنْ قَدِمَ فِي يَوْمٍ) عَيَّنَهُ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَنْتَ حُرٌّ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْتَ حُرٌّ فِيهِ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْقُدُومَ فِيهِمَا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ (وَيَسْتَلْزِمُ) التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ (عَدَمُ جَوَازِ التَّعْجِيلِ) بِالصِّرْفَةِ (فِيمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَدَقَةٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَعْجِيلٌ قَبْلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِوُجُودِ الْخَطَرِ فِي الْمُضَافِ، وَالتَّعْجِيلُ قَبْلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ (وَإِنْ كَانَ) هَذَا النَّذْرُ مَذْكُورًا (بِصُورَةِ إضَافَةٍ) كَمَا رَأَيْت لَكِنْ ظَاهِرُ إطْلَاقِ قَوْلِهِمْ: الْمُضَافُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ حُكْمِهِ قَبْلَ وُجُودِ الزَّمَانِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَالْمُعَلَّقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ حُكْمِهِ قَبْلَ وُجُودِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفَارِقَ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ.
قَوْلُهُ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ حُرٌّ فِي الْأَوَّلِ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ، وَأَنْ يَجُوزَ التَّعْجِيلُ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ فِي: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، وَهَذَا الْفَرْعُ الْأَخِيرُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ (وَكَوْنُ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ كَإِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ) أَيْ وَيَقْتَضِي هَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا تَسَاوِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي حُكْمِ الثَّانِيَةِ الَّذِي هُوَ
عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ خُصُوصِ الْمَادَّةِ وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ أَنْتَ حُرٌّ وَارْتِفَاعِ الْمَانِعِ الْمَفْرُوضِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِعَدَمِ الْخَطَرِ) فِي كُلٍّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْغَدِ وَالْمَوْتِ أَمْرٌ كَائِنٌ أَلْبَتَّةَ (فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْغَدِ) فِي الْأُولَى (كَمَا يَمْتَنِعُ قَبْلَ الْمَوْتِ) فِي الثَّانِيَةِ (لِانْعِقَادِهِ) أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فِي كُلٍّ (سَبَبًا) لِحُرِّيَّةِ الْمُخَاطَبِ (فِي الْحَالِ عَلَى مَا عُرِفَ) مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ سَبَبًا نَاجِزًا لِلتَّحْرِيرِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا مُفْضِيًا إلَيْهِ مَعَ فَرْضِ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
(لَكِنَّهُمْ) أَيْ الْحَنَفِيَّةَ (يُجِيزُونَ بَيْعَهُ) فِي الْأُولَى (قَبْلَ الْغَدِ، وَالْأَجْوِبَةُ) الْمَذْكُورَةُ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا (عَنْهُ) أَيْ عَنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الْأُولَى قَبْلَ الْغَدِ وَمَنْعِ بَيْعِهِ فِي الثَّانِيَةِ مُطْلَقًا (لَيْسَتْ بِشَيْءٍ) يُفِيدُ فَرْقًا مُؤَثِّرًا بَيْنَهُمَا لِهَذِهِ التَّفْرِقَةِ بَلْ حَيْثُ خُصِّصَتْ الدَّعْوَى بِجَعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَى مَا لَا خَطَرَ فِيهِ مِثْلُ الْمُضَافِ فِي ثُبُوتِ سَبَبِهِ فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الْخَطَرِ فِيهِمَا فَلَا جَرَمَ أَنْ ذَكَرَهَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مُتَعَقِّبًا لَهَا فَمِنْهَا مَنْعُ كَوْنِ الْغَدِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْغَدِ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِمَجِيءِ الْغَدِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ السَّاعَةِ مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمَا أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ مَجِيءُ الْغَدِ مُحَقَّقٌ كَالْمَوْتِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَغْلَبِ فَيَلْحَقُ الْفَرْدُ النَّادِرُ بِهِ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ هَذَا اعْتِرَافٌ بِالْإِيرَادِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ التَّعْلِيقِ بِمِثْلِ مَجِيءِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، وَمِنْهَا أَنَّ التَّعْلِيقَ الَّذِي هُوَ التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ خِلَافُهُ فِي الْحَالِ كَالْوَارِثَةِ.
وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّدْبِيرُ الْمُطْلَقُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَلَمْ يَتِمَّ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ أَيْضًا قُلْت: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِلْفَارِقِ بِهَذَا الْفَرْقِ أَنْ يَلْتَزِمَ كَوْنَ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ كَإِنْ قَدِمَ فِي يَوْمِ كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ فِي كَوْنِ أَنْتَ حُرٌّ لَيْسَ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَحَقِّيَّةِ اسْتِلْزَامِهِ عَدَمَ جَوَازِ التَّعْجِيلِ بِالصَّدَقَةِ فِي مِثْلِ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي شَرْحٍ لِلْبَزْدَوِيِّ فَإِنْ قُلْت فَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ مِتُّ أَوْ إنْ مِتُّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ قُلْت نَعَمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَعَكْسُهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ حِينَ قُدُومِ زَيْدٍ أَوْ حِينَ دُخُولِك الدَّارَ اهـ.
أَقُولُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُمْ الْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ كَفَالَةٌ وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ عَدَمِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ وَمَا فِي نِكَاحِ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَتَعْلِيقُ النِّكَاحِ بِشَرْطٍ مَعْلُومٍ لِلْحَالِ يَجُوزُ وَيَكُونُ تَحْقِيقًا بِأَنْ قَالَ لِلْآخَرِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَك فَقَالَ قَدْ زَوَّجْتهَا قَبْلَ هَذَا مِنْ فُلَانٍ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْخَاطِبُ فَقَالَ أَبُو الْبِنْتِ: إنْ لَمْ أَكُنْ زَوَّجْتهَا مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ زَوَّجْتهَا مِنْك وَقَبِلَ الْآخَرُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا يَنْعَقِدُ هَذَا النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَحْقِيقٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ السَّمَاءُ فَوْقَنَا، أَوْ الْأَرْضُ تَحْتَنَا فَإِنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ فَيَكُونُ تَنْجِيزًا، وَمَا فِي فَوَائِدِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ قَالَ لِغَرِيمِهِ إنْ كَانَ لِي عَلَيْك دَيْنٌ فَقَدْ أَبْرَأْتُك وَلِلطَّالِبِ عَلَيْهِ كَذَا دِينَارًا صَحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ فَيَكُونُ تَنْجِيزًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُمِلَ فِيهِ بِجَانِبِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ فَلَا بِدَعَ فِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ: الْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ الْمُضَافِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا لَا خَطَرَ فِيهِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا وَالتَّعْلِيقُ مَانِعٌ مِنْ سَبَبِيَّةِ الْمُعَلَّقِ فِي الْحَالِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُعَلَّقُ فِيهِ خَطَرٌ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ هَذَا وَإِنَّمَا لَمْ أَقُلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا فِي الْحَالِ عَلَى مَا عُرِفَ يَعْنِي فِي بَابِ التَّدْبِيرِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ وَزَوَالِهِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لَهُمَا وَالْمَوْتُ سَالِبٌ لِهَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ حَالَ حَيَاتِهِ سَبَبًا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَزِمَتْ سَبَبِيَّتُهُ فِي الْحَالِ وَإِلَّا انْتَفَتْ أَصْلًا لَكِنَّهَا لَمْ تَنْتَفِ شَرْعًا فَثَبَتَ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ يُفِيدُ أَنَّ سَبَبِيَّةَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فِي بَابِ التَّدْبِيرِ إنَّمَا تُثْبِتُ ضَرُورَةَ زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ إذَا وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ
وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ فِي ثُبُوتِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِي مَسْأَلَةِ التَّدْبِيرِ لِلضَّرُورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ الْمَذْكُورِ؛ إذْ لَيْسَ مَوْتُ الْقَائِلِ بِمَظْنُونٍ قَبْلَ الْغَدِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُحَقَّقًا وَيَكُونُ الْجَوَابُ بِهَذَا لِمَنْ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْفَرْعَ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّدْبِيرِ دَافِعًا لِلْإِشْكَالِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمَاضِيَةِ ثُمَّ أَنَّى يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ بِالْخَطَرِ وَعَدَمِهِ مُسْتَلْزِمًا الْمُسَاوَاةَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لِإِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْغَدِ كَمَا قَبْلَ الْمَوْتِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَعْلِ الْمَنَاطِ فِي مَسْأَلَةِ التَّدْبِيرِ عَدَمَ الْخَطَرِ بَلْ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ قَوْلِ الْمُدَبَّرِ شَرْعًا، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمَقِيسَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ
(وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ فِي نَحْوِ قَوْلِنَا: الْمُعَلَّقُ لَيْسَ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَالْعِلَّةِ، وَفِي الْمُضَافِ) أَيْ وَبِالسَّبَبِ فِي قَوْلِنَا: الْمُضَافُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ (بِسَبَبِ الْمُفْضِي وَهُوَ) أَيْ السَّبَبُ الْمُفْضِي (السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ) كَمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ (وَحِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إذْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ فِيهِمَا ذَلِكَ (لَا خِلَافَ) فِي الْمَعْنَى بَيْنَ نَفْيِ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْمُعَلَّقِ، وَاثِبَاتِهَا لِلْمُضَافِ لِيَكُونَ بَيْنَهُمَا تَقَابُلُ الْإِثْبَاتِ وَالسَّلْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْ الْمُعَلَّقِ لَيْسَ الْمُثْبِتَ لِلْمُضَافِ بَلْ غَيْرَهُ حَتَّى يَصِحَّ نَفْيُ السَّبَبِيَّةِ عَنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْتهَا بِهِ عَنْ الْمُعَلَّقِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ (وَارْتَفَعَتْ الْإِشْكَالَاتُ) السَّالِفَةُ فَيُقَالُ: عَدَمُ جَوَازِ التَّعْجِيلِ فِي إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ عِلَّةِ الْوُجُوبِ وَجَوَازِ التَّعْجِيلِ فِي لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ لِوُجُودِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ كَمَا فِي تَعْجِيلِ زَكَاةِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَجَوَازِ بَيْعِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْغَدِ فِي: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لِعَدَمِ وُجُودِ عِلَّةِ عِتْقِهِ.
ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى هَذَا جَوَازَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ قَبْلَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَتْ السُّنَّةُ مِنْ بَيْعِهِ لَزِمَ لِضَرُورَةِ ذَلِكَ انْعِقَادُ السَّبَبِيَّةِ لَهُ فِي الْحَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (وَصِدْقُ الْمُضَافِ لَيْسَ سَبَبًا أَيْضًا فِي الْحَالِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى) وَهُوَ الْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِانْتِفَاءِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ (إلَّا أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ) لَهُمَا (حَيْثُ قَالُوا: الْمُضَافُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ) لِحُكْمِهِ (فَجَازَ تَعْجِيلُهُ) أَيْ حُكْمُهُ إذَا كَانَ عِبَادَةً سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْهُمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِيمَا عَدَا الْمَالِيَّةَ وَلِزُفَرَ فِي الْكُلِّ.
(وَالْمُعَلَّقُ لَيْسَ سَبَبًا فِي الْحَالِ) لِحُكْمِهِ (فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ) أَيْ حُكْمِهِ مُطْلَقًا بِالِاتِّفَاقِ (بِنَفْيِهِ) أَيْ نَفْيِ الْخِلَافِ بَيْنَ نَفْيِ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْمُعَلَّقِ وَإِثْبَاتِهَا لِلْمُضَافِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ اللَّوَازِمُ يُوجِبُ اخْتِلَافَ دَلَائِلِهَا الَّتِي هِيَ الْمَلْزُومَاتُ هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ لِي فِي تَوْجِيهِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلِي فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَالْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ بَيْنَ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْمُعَلَّقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ حَقِيقَةً لِانْتِفَاءِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْإِفْضَاءُ إلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ وُجُوبٌ، وَلَا وُجُودٌ، وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَلِ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ فِي مَوْضِعِهِ نَعَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عِلَّةٌ مَجَازًا لِكَوْنِهِ عِلَّةً اسْمًا، وَلَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَسَبَبٌ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَيْضًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ سَبَبٌ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْعِلَلِ، وَأَنَّ الْإِيجَابَ الْمُضَافَ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَهُوَ يُشْبِهُ السَّبَبَ فَمِنْ أَيْنَ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ: مَا ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُنْتَفِيَةً عَنْ الْمُعَلَّقِ قَبْلَ الشَّرْطِ إذْ لَا مُوجِبَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى أَنَّهَا مُنْتَفِيَةٌ مَعَ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ أَيْضًا عِنْدَنَا مَعَ أَنَّا لَسْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إلَّا بِصَدَدِ بَيَانِ مَا فِيهِ الْخِلَافُ لَا الْوِفَاقُ وَكَأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَاحَظَ تَقْرِيرَ كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَمَا حَذَا حَذْوَهُ لِقَوْلِنَا: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ بِمَا يُوهِمُ هَذَا كَمَا يُعْرَفُ ثَمَّةَ وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ مَا قَرَّرُوهُ مِنْ تَقْسِيمِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ إلَى الْأَقْسَامِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِهَا
كَمَا سَيَأْتِي اسْتِيفَاؤُهُ إذَا أَفَضْت النَّوْبَةُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَعَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: الْمُعَلَّقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِي الْحَالِ وَالْمُضَافُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَقَ أَيْضًا أَنَّ الْمُضَافَ لَيْسَ سَبَبًا بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِلسَّبَبِ الْمَنْفِيِّ فِي " الْمُعَلَّقُ لَيْسَ سَبَبًا " لَا يَصْدُقُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ سَبَبٌ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِلسَّبَبِ الْمُثْبِتِ فِي " الْمُضَافُ سَبَبٌ " لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا عَرَفْت ثُمَّ لَيْسَ غَرَضُ الْقَائِلِ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ مِنْ إلْحَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمُضَافِ فِي ذَلِكَ إلَّا إلْزَامَ الْقَائِلِ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِهِ يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ فِي الْحَالِ لَا إلْزَامُهُ بِإِثْبَاتِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْمُعَلَّقِ كَمَا الْمُخَالِفُ قَائِلٌ بِذَلِكَ فِي الْمُضَافِ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِيَّةِ فِي الْمُضَافِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ظَنَّهُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَتَأَتَّى هَذَا ثُمَّ مِنْ هُنَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا الْمَانِعُ مِنْ إلْحَاقِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطَرُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا ضَيْرَ فِي الْتِزَامِ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ ثُمَّ قَدْ وَضَحَ انْتِفَاءُ النَّظِيرِيَّةِ بَيْنَ تَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ وَالتَّعْلِيقِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ بَانَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمُمْتَنِعِ بَلْ فِي مَعْدُومٍ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ، وَالتَّعْلِيقُ الْحِسِّيُّ إنَّمَا يَكُونُ لِأَمْرٍ مَوْجُودٍ فَالتَّعْلِيقُ فِيهِ لَا يَكُونُ لِابْتِدَاءِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بَلْ نَقْلًا لَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَمَعَ انْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ لَا تَصِحُّ الْمُقَايَسَةُ بَلْ نَظِيرُهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الرَّمْيُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ وَلَكِنْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا إذَا اتَّصَلَ بِالْمَحَلِّ فَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ تُرْسٌ مَنَعَ الرَّمْيَ مِنْ انْعِقَادِهِ عِلَّةً لِلْقَتْلِ لَا أَنَّهُ مَنَعَ الْقَتْلَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ مِنْ الْمَفَاهِيمِ) الْمُخَالِفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (مَفْهُومُ اللَّقَبِ نَفَاهُ الْكُلُّ إلَّا بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ وَشُذُوذًا) كَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَكَالدَّقَّاقِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ (وَهُوَ) أَيْ مَفْهُومُ اللَّقَبِ (إضَافَةُ نَقِيضِ حُكْمٍ) مُسَمًّى (مُعَبَّرٍ عَنْهُ) أَيْ الْمُسَمَّى، وَجَازَ حَذْفُهُ أَوَّلًا وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ ثَانِيًا لِقَرِينَةٍ (بِاسْمِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (عَلَمًا أَوْ جِنْسًا إلَى مَا سِوَاهُ) أَيْ الْمُسَمَّى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَبَرًا أَوْ طَلَبًا (وَقَدْ يُقَالُ: الْعَلَمُ وَالْمُرَادُ الْأَعَمُّ) أَيْ يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ الْعَلَمِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ نَوْعَيْهِ عَلَمَ الشَّخْصِ، وَعَلَمَ الْجِنْسِ وَاسْمَ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا لَيْسَ بِصِفَةٍ مَجَازًا مَشْهُورًا عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: التَّنْصِيصُ عَلَى الشَّيْءِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا تَجَوَّزَ غَيْرُهُمْ فِي إطْلَاقِ اللَّقَبِ مُرِيدًا بِهِ الِاسْمَ الْأَعَمَّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَشْمَلُهُ وَالْكُنْيَةَ وَالِاسْمَ الْقَسِيمَ لَهُمَا وَاسْمَ الْجِنْسِ. وَإِذَا ظَهَرَ الْمُرَادُ فَلَا مُشَاحَّةَ ثُمَّ الْمَشْهُورُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَجْنَاسِ
وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ كَالْغَنَمِ لَا الْأَشْخَاصِ كَزَيْدٍ (وَالْمُعَوَّلُ) فِي نَفْيِهِ (عَدَمُ الْمُوجِبِ) لِلْقَوْلِ بِهِ كَمَا مَضَى فِي نَفْيِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مُطْلَقًا (وَلِلُزُومِ ظُهُورِ الْكُفْرِ) فَضْلًا عَنْ الْكَذِبِ (مِنْ نَحْوِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ رِسَالَةُ غَيْرِهِ قِيلَ وَوَقَعَ الْإِلْزَامُ بِهِ لِلدَّقَّاقِ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ بِبَغْدَادَ فَتَوَقَّفَ (وَفُلَانٌ مَوْجُودٌ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ - تَعَالَى (وَهُوَ) أَيْ لُزُومُ الْكُفْرِ مِنْ هَذَيْنِ وَأَضْرَابِهِمَا (مُنْتَفٍ) بِالْإِجْمَاعِ قَطْعًا فَالْقَوْلُ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَأُورِدَ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا تَحَقَّقَ شَرَائِطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ هُنَا مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ كَوْنِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَوُجُودِ فُلَانٍ وَلَا طَرِيقَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ حَاصِلَةٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: ظُهُورُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ بِحَسَبِ الظُّهُورِ لَا الْقَطْعِ (وَاسْتَدَلَّ) عَلَى نَفْيِهِ (بِلُزُومِ انْتِفَاءِ الْقِيَاسِ) عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ كَمَا اعْتَمَدَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ لَكِنْ الْقِيَاسُ حَقٌّ فَالْمُفْضِي إلَى إبْطَالِهِ بَاطِلٌ فَالْقَوْلُ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ بَاطِلٌ، بَيَانُ اللُّزُومِ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ إنْ تَنَاوَلَ الْفَرْعَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالنَّصِّ وَإِلَّا دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَفْهُومِ؛ إذْ الْفَرْضُ حَقِّيَّتَهُ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا قِيَاسَ (وَالْجَوَابُ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّصَّ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْفَرْعَ وَقِيلَ بِانْتِفَاءِ
الْحُكْمِ فِيهِ يَنْتَفِي الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَدْعِي مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَلَا جَرَمَ (إذَا ظَهَرَ الْمُسَاوَاةُ) بَيْنَهُمَا فِيهِ فَقَدْ ظَهَرَتْ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا فَيَتَعَارَضَانِ لِاقْتِضَاءِ كُلٍّ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ ثُمَّ (قُدِّمَ) الْقِيَاسُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا (لِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ) فَلَمْ يَلْزَمْ إبْطَالُ الْقِيَاسِ وَلَا نَفْيُ الْمَفْهُومِ (قَالُوا) أَيْ الْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ: (لَوْ قَالَ لِمُخَاصِمِهِ: لَيْسَتْ أُمِّي زَانِيَةً أَفَادَ) قَوْلُهُ هَذَا (نِسْبَتَهُ) أَيْ الزِّنَا (إلَى أُمِّهِ) أَيْ الْمُخَاصِمِ وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَائِلِ إذَا كَانَتْ عَفِيفَةً، وَلَوْلَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا تَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ نِسْبَةُ الزِّنَا إلَيْهَا، وَلَمَا وَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَهُمَا إذْ لَا مُوجِبَ لِلتَّبَادُرِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِهِ.
(أُجِيبَ بِأَنَّهُ) أَيْ الْمُتَبَادِرَ الْمَذْكُورَ (بِقَرِينَةِ الْحَالِ) وَهِيَ الْخِصَامُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْأَذَى وَالتَّقْبِيحِ فِيمَا يُورَدُ فِيهِ غَالِبًا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَفْهُومِ الَّذِي يَكُونُ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيهِ لُغَةً بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُفِيدَ نِسْبَةِ الزِّنَا إلَيْهَا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَكَانَ فِي ثُبُوتِهَا شُبْهَةٌ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ بِمِثْلِهَا ثُمَّ لَمَّا مَضَى عُدَّ دَلَالَةُ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَكَانَ الظَّاهِرُ خِلَافَهُ تَرْجَمَ بَيَانَهُ بِمَسْأَلَةٍ جَعَلَ مَوْضُوعَهَا أَحَدَ جُزْأَيْ مَعْنَى الْحَصْرِ وَهُوَ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْآخَرَ الَّذِي هُوَ الْإِثْبَاتُ لِلْمَذْكُورِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَيْهِ مَنْطُوقًا فَقَالَ
(مَسْأَلَةٌ النَّفْيُ فِي الْحَصْرِ بِإِنَّمَا لِغَيْرِ الْآخَرِ) أَيْ نَفْيُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَحْصُورِ فِيهِ وَهُوَ مَا يُذْكَرُ آخِرًا عَنْ غَيْرِهِ بِإِنَّمَا (قِيلَ بِالْمَفْهُومِ) قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي جَمَاعَةٍ (وَقِيلَ بِالْمَنْطُوقِ) قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَرْجَحُ وَنَسَبَ لِلْحَنَفِيَّةِ عَدَمَهُ) أَيْ النَّفْيِ عَنْ غَيْرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ وَأَنَّهَا تُفِيدُ الْإِثْبَاتَ لَا غَيْرُ.
(فَإِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ قَائِمٌ) فِي عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ الْقِيَامِ عَنْ زَيْدٍ إذْ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ مِنْ التَّأْكِيدِ مَا يَزِيدُ عَلَى: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ثُمَّ هَذَا مُخْتَارُ الْآمِدِيِّ وَأَبِي حَيَّانَ وَنَسَبَهُ إلَى النَّحْوِيِّينَ الْبَصْرِيِّينَ وَنَسَبَهُ إلَى الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبُ الْبَدِيعِ وَتَعَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَتَكَرَّرَ مِنْهُمْ) أَيْ الْحَنِيفَةِ (نِسْبَتُهُ) أَيْ الْحَصْرِ إلَى إنَّمَا مَعْنَى لَهَا كَمَا فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَالْكَافِي وَجَامِعِ الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهَا (وَأَيْضًا لَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِمَنْعِ إفَادَتِهَا) أَيْ إنَّمَا الْحَصْرَ (فِي الِاسْتِدْلَالِ «بِإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَى شَرْطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ) بِمَا مُلَخَّصُهُ: الْوُضُوءُ عَمَلٌ، وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَلَا وُضُوءَ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَمَّا الصُّغْرَى فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (بَلْ بِتَقْدِيرِ الْكَمَالِ أَوْ الصِّحَّةِ) أَيْ بَلْ إنَّمَا أَجَابُوا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ عُمُومِ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُرَادَةٍ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ بَعْضِهَا بِلَا نِيَّةٍ كَعَمَلِ السَّاهِي فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا، وَهُوَ إمَّا أُخْرَوِيٌّ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَمَالِ، أَوْ دُنْيَوِيٌّ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ الشَّرْعِيُّ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالصِّحَّةِ وَالْأُخْرَوِيُّ مُرَادٌ اتِّفَاقًا فَلَا يَجُوزُ إرَادَةُ الدُّنْيَوِيِّ مَعَهُ أَيْضًا إمَّا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ.
وَهَذَا طَرِيقُ الْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّفْظَ صَارَ مَجَازًا عَنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِوُجُودِ الصِّحَّةِ، وَلَا ثَوَابَ وَالْفَسَادِ، وَلَا عِقَابَ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالْوَضْعِ النَّوْعِيِّ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَهَذَا طَرِيقُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَخِيهِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ فَلَا يَصِحُّ التَّشَبُّثُ بِالْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ يُطْرَقُ هَذَا الْجَوَابُ مُنِعَ كَوْنُ الثَّوَابِ مُرَادًا اتِّفَاقًا، وَإِنْ اُتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ الثَّوَابِ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحُكْمِ لِلدَّلِيلِ لَا تَقْتَضِي إرَادَتَهُ وَثُبُوتَهُ بِهِ لِيَلْزَمَ عُمُومُ الْمُقْتَضَى أَوْ الْمُشْتَرَكِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِأَثَرِ الشَّيْءِ وَلَازِمِهِ فَيَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْإِثْمَ كَمَا يَعُمُّ الْحَيَوَانُ الْفَرَسَ وَالْإِنْسَانَ، فَإِرَادَةُ النَّوْعَيْنِ لَا تَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَانَ الْتِزَامُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَالِ صِحَّتُهَا - كَمَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ - هُوَ الْوَجْهَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَرَرٌ فِي مَطْلُوبِ الْحَنَفِيَّةِ تَمَّمَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَالَ:(وَهُوَ) أَيْ تَقْدِيرُ الصِّحَّةِ (الْحَقُّ) ؛ لِأَنَّهُ الْمَجَازُ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ الْكَمَالِ إلَيْهَا وَلَمْ يَقُمْ مَا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ.
وَإِنَّمَا
قُلْنَا: لَا يَضُرُّهُمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ فِي الْحَدِيثِ مَخْصُوصَةٌ بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَاللَّازِمُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ عِبَادَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ حَتَّى كَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْوُضُوءُ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَالْوُضُوءُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَلِلْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا إنْ كَانَ الْمُرَادُ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ فَلَا نُسَلِّمُهَا، أَوْ بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ فَنُسَلِّمُهَا، وَنَقُولُ:(وَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ عِبَادَةٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ مَنَعُوا تَوَقُّفَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى وُضُوءٍ هُوَ عِبَادَةٌ كَبَاقِي الشُّرُوطِ) فَيَسْلُكُونَ فِي الْجَوَابِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ وَلِلْعَبْدِ الضَّعِيفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَحْثٌ ذَكَرْته فِي حَلَبَةِ الْمُجَلِّي فَعَدَمُ مَنْعِهِمْ كَوْنَ إنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِهِمْ بِإِفَادَتِهَا ذَلِكَ قُلْت لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُ الْمُخَالِفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِانْتِهَاضِ تَعْرِيفِ الْأَعْمَالِ بِهِ، فَإِنَّ أَدَاةَ التَّعْرِيفِ فِيهَا لِلْعُمُومِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ، وَعَلَيْهِ مَشَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْجَوَابِ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إفَادَةِ إنَّمَا لِلْحَصْرِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمُنْتَهَى: وَأَمَّا «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَالْحَصْرُ بِغَيْرِ إنَّمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُمُومِ.
وَمِنْ ثَمَّةَ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى افْتِرَاضِ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِدُونِ إنَّمَا كَمَا هُوَ رِوَايَةٌ ثَابِتَةٌ رَوَاهَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَ هَذِهِ الْعِلَاوَةِ نَعَمْ فِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَجَامِعِ الْأَسْرَارِ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهَا فِي الْحَدِيثِ مُفِيدَةً لِذَلِكَ (لَنَا) عَلَى إنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَأَنَّهَا لِلنَّفْيِ عَنْ غَيْرِ الْآخِرِ مَنْطُوقًا أَنَّهُ (يُفْهَمُ مِنْهُ) أَيْ إنَّمَا (الْمَجْمُوعُ) مِنْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ مَوَارِدَ لَا تُحْصَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98](فَكَانَ) إنَّمَا لَفْظًا مَوْضُوعًا (لَهُ) أَيْ لِلْمَجْمُوعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفَهْمِ تَبَعُهُ لِلْوَضْعِ ثُمَّ كَمَا أَنَّهُ لِلْإِثْبَاتِ مَنْطُوقًا فَلِلنَّفْيِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ مَعْنًى وَاحِدٌ مُطَابِقِيٌّ لَهَا فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّفْيِ مَفْهُومًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ جُزْأَيْ مَعْنَاهُ تَضَمُّنًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُفِيدُ النَّفْيَ مَنْطُوقًا، وَأَدَاتُهُ الْمَعْهُودُ إفَادَتُهَا إيَّاهُ كَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ
(وَكَوْنُ النَّافِي الْمَعْهُودِ) لِإِفَادَةِ النَّفْيِ مَنْطُوقًا كَمًّا وَلَا (مُنْتَفِيًا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَهُ) أَيْ كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْآخِرِ مَنْطُوقًا (لِأَنَّ مُوجِبَ الِانْتِقَالِ) أَيْ انْتِقَالِ الْفَهْمِ مِنْ النَّافِي إلَى مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ النَّفْيُ مَنْطُوقًا هُوَ (الْوَضْعُ) أَيْ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهُ، وَالْمَعْلُومُ ذَلِكَ لِلْفَاهِمِ بِقَرِينَةِ التَّبَادُرِ (لَا بِشَرْطِ لَفْظٍ خَاصٍّ) حَتَّى إذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يُفِيدَهُ أَدَاةٌ مَخْصُوصَةٌ لِوَضْعِهَا لَهُ خَاصَّةً جَازَ أَنْ يُفِيدَهُ غَيْرُهَا لِوَضْعِهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مَعًا، وَكَمَا كَانَ الْفَهْمُ عَلَى ذَاكَ الْوَجْهِ دَلِيلَ الْوَضْعِ لَهُ فَكَذَا يَكُونُ الْفَهْمُ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلَ الْوَضْعِ لَهُمَا كَذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا لَا يَكْفِي لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ إنَّمَا النَّفْيُ عَنْ الْغَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لِوَضْعِ اللَّفْظِ لَهُ بِالذَّاتِ لِيَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْهُ مَنْطُوقًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِوَضْعِهِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنْهُ مَفْهُومًا وَمَعَ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَا قَدَّمْنَاهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَنْطُوقٌ (وَكَوْنُ فَهْمِهِ) أَيْ النَّفْيِ مِنْهُ (لَا يَسْتَلْزِمُهُ) أَيْ كَوْنُهُ بِالْمَنْطُوقِ (لِجَوَازِهِ) أَيْ فَهْمِهِ (بِالْمَفْهُومِ لَا يَنْفِي الظُّهُورَ) ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَقُولُ هُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ ثُمَّ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَفْهُومِ.
(وَلَوْ ثَبَتَ) كَوْنُهُ كَذَلِكَ (كَانَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ) لِصِدْقِهِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ (وَهُوَ) أَيْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ (مَنْفِيٌّ) اتِّفَاقًا أَوْ إلْزَامًا فَلَا يَصِحُّ لِلْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ حِينَئِذٍ أَصْلًا، فَإِنْ قُلْت: مِثْلُ جَوَازِ إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ لَا قَاعِدٌ بِخِلَافِ مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ لَا قَاعِدٌ، وَمِثْلُ: إنَّ صَرِيحَ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إصْرَارِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِخِلَافِ إنَّمَا مِنْ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ لَا مَنْطُوقٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ قُلْت: الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ نَفْيُ حُسْنِ مُجَامَعَةِ لَا الْعَاطِفَةِ لِلنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَا نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَتَصْرِيحُ الْمِفْتَاحِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ مُتَعَقَّبٌ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَعْوَى مُسْتَنَدِهِ إلَى الْوَضْعِ فَلَا بُدَّ
مِنْ ذِكْرِهَا وَبَيَانِهَا وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَعْنَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ جَارَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْكَشَّافِ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي قَوْله تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] أَيْ الْمُزَيَّنُ لَهُمْ حُبُّهُ مَا هُوَ إلَّا شَهَوَاتٌ لَا غَيْرُ اهـ.
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ الْبَلَاغَةِ لَا الْعَرَبِيَّةِ؛ إذْ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَمِنْ ثَمَّةَ سَاغَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنَّفِينَ مِنْ الْأَعْيَانِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ إلَّا فِيمَا هُوَ مُفَادُهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ بِحَسَبِ الْوَضْعِ لُغَةً، وَمِمَّا يَزِيدُهُ وُضُوحًا أَنَّ السَّكَّاكِيَّ شَرَطَ فِي صِحَّةِ مُجَامَعَةِ النَّفْيِ بِلَا الْعَاطِفَةِ لِإِنَّمَا أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصْفُ بَعْدَ إنَّمَا مِمَّا لَهُ فِي نَفْسِهِ اخْتِصَاصٌ بِالْمَوْصُوفِ الْمَذْكُورِ وَعَلَّلُوهُ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الِاخْتِصَاصِ فَهَذَا يُفِيدُ أَنْ لَيْسَ عِلَّةُ الْمَنْعِ كَوْنَ النَّفْيِ مَنْطُوقًا، وَلَا عِلَّةُ الْجَوَازِ كَوْنَهُ مَفْهُومًا عَلَى مَا فِي هَذَا التَّعْلِيلِ مِنْ بَحْثٍ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَيْضًا انْدِفَاعُ التَّشَبُّثِ بِالْإِمَارَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَفْهُومِ لَا بِالْمَنْطُوقِ عَلَى أَنَّا لَسْنَا نَقُولُ: النَّفْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إنَّمَا مَنْطُوقًا كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ قَالُوا: السَّبَبُ فِي إفَادَتِهَا الْقَصْرَ تَضَمُّنُهَا مَعْنَى مَا وَإِلَّا لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: لَمْ يَعْنُوا بِهِ أَنَّ الْمَعْنَى فِي إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي مَا وَإِلَّا بِعَيْنِهِ وَأَنَّ سَبِيلَهُمَا سَبِيلُ اللَّفْظَيْنِ يُوضَعَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ
قُلْت: وَمِمَّا يَشْهَدُ بِهَذَا اخْتِلَافُ مَا وَلَا بِمَعْنَى لَيْسَ وَلِنَفْيِ الْجِنْسِ وَلَيْسَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا عُرِفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِأَنَّ النَّفْيَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَفْهُومٌ، وَلَا مَنْطُوقٌ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَنْعُ كَوْنِ النَّفْيِ فِي إنَّمَا غَيْرَ صَرِيحٍ، وَالْإِيجَابِ فِيهَا صَرِيحًا وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى ذَلِكَ بَلْ الْوَجْهُ أَنَّ كُلًّا مَنْطُوقٌ صَرِيحٌ (تَنْبِيهٌ) وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَنَمَّا بِالْفَتْحِ كَإِنَّمَا بِالْكَسْرِ
(وَأَمَّا الْحَصْرُ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ) أَيْ الَّتِي لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أَحَدِ جُزْأَيْ الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةً كَالْعَالِمِ أَوْ اسْمَ جِنْسٍ كَالرَّجُلِ مُقَدَّمًا فِي الذِّكْرِ أَوْ مُؤَخَّرًا فِي الْجُزْءِ الْآخَرِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ عَلَمًا كَانَ كَزَيْدٍ أَوْ غَيْرَ عَلَمٍ كَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَمَا أَشَارَ إلَى جُمْلَةِ هَذَا بِقَوْلِهِ (وَالْآخَرُ أَخَصُّ كَالْعَالِمِ وَالرَّجُلِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ) لِفَهْمِ ذَلِكَ مِنْهُ ظَاهِرًا حَتَّى إنَّ مَنْ خَالَفَ فِيهِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحْسُنُ ارْتِكَابُهُ (وَلَوْ نَفَى الْمَفْهُومَ) الْمُخَالِفَ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ (بِخِلَافِ) مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إلَيْهِ أَحَدُهُمَا عَلَمٌ، وَالْآخَرُ صِفَةٌ مُعَرَّفَةٌ بِالْإِضَافَةِ نَحْوُ (صَدِيقِي زَيْدٌ) فَإِنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْحَصْرَ إذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لَا (إذَا أُخِّرَ) الِاسْمُ الصِّفَةُ عَنْ الْعَلَمِ كَأَنْ يُؤَخَّرَ صَدِيقِي عَنْ زَيْدٍ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ حِينَئِذٍ (لِانْتِفَاءِ عُمُومِهِ) أَيْ عُمُومِ الِاسْمِ الصِّفَةِ الْمُضَافِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَصَدِيقِي فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِذَا لَمْ يَحْسُنْ الِاخْتِلَافُ فِي حَصْرِ مَا فِيهِ اللَّامُ كَمَا ذَكَرْنَا لَزِمَ أَنْ لَا يَحْسُنَ الِاخْتِلَافُ فِي إفَادَةِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ مُرَكَّبٌ مِنْ إثْبَاتٍ وَنَفْيٍ (وَيَنْدَرِجُ) كَوْنُ كُلٍّ مِنْ الْمُعَرَّفِ وَصَدِيقِي فِي التَّرْكِيبِ الْخَاصِّ دَالًّا عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ مَعْنَى الْحَصْرِ (فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ إذْ ثُبُوتُ الْجِنْسِ بِرُمَّتِهِ لِوَاحِدٍ بِالضَّرُورَةِ يَنْتَفِي عَنْ غَيْرِهِ) فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ جَعْلُ جَمِيعِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْعَالِمُ هُوَ زَيْدٌ وَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ زَيْدٌ هُوَ جَمِيعُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْعَالِمُ فِي: زَيْدٌ الْعَالِمُ، وَالْعَالِمُ زَيْدٌ نَفْيُ وُجُودِ مَا صَدَقَ لِلْعَالِمِ غَيْرِ زَيْدٍ وَمَا صَدَقَ لِزَيْدٍ غَيْرِ الْعَالِمِ ضَرُورَةَ فَرْضِ صِدْقِ كَوْنِ جَمِيعِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ وَجَمِيعِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْعَالِمُ هُوَ زَيْدٌ نَعَمْ إفَادَةُ الْحَصْرِ فِيهِمَا كَغَيْرِهِمَا قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً إمَّا مُطْلَقًا كَ: اللَّهُ الْخَالِقُ، وَالْخَالِقُ اللَّهُ وَخَالِقِي اللَّهُ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى عُرْفٍ خَاصٍّ مِثْلُ: وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَالَغَةً وَادِّعَاءً كَمَا هُوَ كَثِيرٌ بَثِيرٌ فِي الْمُحَاوَرَاتِ الْخَطَابِيَّةِ إمَّا بِجَعْلِ مَا عَدَا الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ بَلَغَ مِنْ النُّقْصَانِ مَبْلَغًا انْحَطَّ بِهِ عَنْهُ، وَعَنْ أَنْ يُسَمَّى بِهِ فَهُوَ فِيمَا عَدَا الْمَقْصُورَ عَلَيْهِ كَالْعَدَمِ، وَإِمَّا بِجَعْلِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ قَدْ ارْتَقَى فِي الْكَمَالِ إلَى حَدٍّ
صَارَ مَعَهُ كَأَنَّهُ الْجِنْسُ كُلُّهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَدَّعِ إفَادَةَ اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ لِلْحَصْرِ إفَادَتَهَا لَهُ حَقِيقَةً مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَوْرِدٍ بَلْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ التَّفْصِيلِيِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَيْضًا الْقَوْلُ بِالْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِلْحَقِيقَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَعَدَمُ صِحَّةِ نَفْيِ كَوْنِ اللَّامِ فِي مِثْلِ: الْعَالِمُ زَيْدٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ صِحَّةِ كُلُّ عَالِمٍ زَيْدٌ، وَإِنَّ قَوْلَ الْمَانِعِ لِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ بِمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْكَامِلُ وَالْمُنْتَهِي فِي الْعِلْمِ كَمَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي الرَّجُلِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ يُفِيدُ كَوْنَ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي مِثْلِهِ لَفْظِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَ الْمَانِعِ أَيْضًا لَوْ أَفَادَ الْعَالِمُ زَيْدٌ الْحَصْرَ لَأَفَادَ عَكْسُهُ أَيْضًا صَحِيحٌ مُلْتَزَمٌ.
وَمَنْعُ صِحَّةِ اللَّازِمِ مَمْنُوعٌ، وَدَعْوَى مَنْعِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ بَلْ إنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعَرَّفَ إنْ جُعِلَ مُبْتَدَأً فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ وَإِنْ جُعِلَ خَبَرًا فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ كَمَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَأَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا ثُمَّ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا كَيْفَمَا دَارَ يُفِيدُ الِانْحِصَارَ السَّكَّاكِيُّ وَالطِّيبِيُّ (وَتَكَرَّرَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلُهُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلِ (فِي نَفْيِ الْيَمِينِ عَنْ الْمُدَّعَى بِقَوْلِهِ عليه السلام «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ) فَفِي الْهِدَايَةِ جَعْلُ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ الْجِنْسِ شَيْءٌ وَفِي الِاخْتِيَارِ جَعْلُ جِنْسِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَذَلِكَ يَنْفِي رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي (وَغَيْرِهِ) أَيْ: وَفِي غَيْرِ نَفْيِ الْيَمِينِ عَنْ الْمُدَّعِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَقُودُ إلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ لِكَوْنِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا» عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَبَطَلَ عَدُّ كَوْنِ الْحَصْرِ فِي مِثْلِ الْعَالِمُ زَيْدٌ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
وَنَفْيُ قَوْلِ مَشَايِخِنَا بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدِيعِ هَذَا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَاصِلُ مَا أَرَادَهُ أَنَّهُ خَالَفَ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي طَرِيقِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْمُعَرَّفِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ وَتَأْخِيرِهِ فَلَا يُفِيدُهُ كَزَيْدٌ الْعَالِمُ وَحَكَمَ بِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إفَادَةِ الْحَصْرِ بِنَاءً عَلَى نِسْبَةِ الْحَصْرِ لِلضَّرُورَةِ بِسَبَبِ الْعُمُومِ كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ يَمِينٍ عَلَى الْمُنْكِرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى يَمِينٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْمُوجِبُ لَا يَخْتَلِفُ بِتَقْدِيمِ مَعْرُوضِهِ وَتَأْخِيرِهِ ثُمَّ هَذَا الْمُوجِبُ، وَهُوَ الْعُمُومُ مُنْتَفٍ فِي صَدِيقِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِصَدَاقَتِي فَلَا عُمُومَ فِيهِ نَفْسِهِ فَلَزِمَ أَنْ لَا حَصْرَ إذَا تَأَخَّرَ فَفَارَقَ ذَا اللَّامِ حَيْثُ جَعَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ يُفِيدُهُ وَسَكَتَ عَنْ تَقَدُّمِهِ، وَمَفْهُومُ شَرْطِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ حِينَئِذٍ، وَإِذْ بَيَّنَ أَنْ لَا عُمُومَ فِيهِ كَإِنْ حَصَرَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَلْبَتَّةَ وَهِيَ عِنْدَهُ التَّقْدِيمُ فَإِنَّهُ يُفِيدُهُ كَمَا فِي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِأَنَّ صَدِيقِي مَوْضِعُهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ زَيْدِ فَإِذَا قُدِّمَ كَانَ الْحَصْرُ فَائِدَةَ التَّقْدِيمِ اهـ.
قُلْت: وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا إنْ جُعِلَ صَدِيقِي زَيْدٌ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ بِمَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ فِي مِثْلِهِ أَنَّ الِاسْمَ مُتَعَيِّنٌ لِلِابْتِدَاءِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ، وَالصِّفَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْخَبَرِ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَمْرٍ نِسْبِيٍّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ الْمَنْسُوبُ وَالذَّاتُ هِيَ الْمَنْسُوبُ إلَيْهَا، وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَنْسُوبُ فَسَوَاءٌ قِيلَ: زَيْدٌ صَدِيقِي أَوْ صَدِيقِي زَيْدٌ يَكُونُ زَيْدٌ مُبْتَدَأً وَصَدِيقِي خَبَرًا لَكِنْ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَدَأَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُقَدَّمُ كَائِنًا مَا كَانَ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ مُعَرِّفَةً لِكَوْنِ الْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ
وَأَجَابُوا: بِأَنَّا لَا نَجْعَلُ اسْمَ الصِّفَةِ مُبْتَدَأً إلَّا حَالَ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ الَّذِي لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّاتَ وُصِفَتْ بِانْتِسَابِ أَمْرٍ نِسْبِيٍّ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَهُ لِيَكُونَ مُسْنَدًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَلَا نَجْعَلُ اسْمَ الذَّاتِ كَزَيْدٍ خَبَرًا إلَّا حَالَ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ مَفْهُومٌ مُسَمًّى بِزَيْدٍ فَيَكُونُ الْوَصْفُ مُسْنَدًا إلَى الذَّاتِ دُونَ الْعَكْسِ وَمِنْ ثَمَّةَ عُلِّقَ الظَّرْفُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] أَيْ الْمَعْبُودُ فِيهَا أَوْ الْمَعْرُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ (وَالتَّشْكِيكُ بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ) أَيْ الْمَحْصُورِ بِاللَّامِ (لِوَاحِدٍ وَلِآخَرَ غَيْرُ مَقْبُولٍ) رَدٌّ لِمَا فِي شَرْحِ الشَّيْخِ سِرَاجِ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ لِلْبَدِيعِ مِنْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي أَنَّ " الْعَالِمُ زَيْدٌ " يُفِيدُ الْحَصْرَ دُونَ " زَيْدٌ الْعَالِمُ " بَعْدَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّامَ