المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المقام الثالث في بيان واضع اللغة] - التقرير والتحبير على كتاب التحرير - جـ ١

[ابن أمير حاج]

فهرس الكتاب

- ‌[خِطْبَة الْكتاب]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ أَرْبَعَة أُمُور]

- ‌[الْأَمْرُ الْأَوَّل مَفْهُومُ اسْم هَذَا الْعِلْمِ وَهُوَ لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[الْأَمْر الثَّانِي مَوْضُوع أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[الْأَمْر الثَّالِثُ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَنْطِقِيَّةُ مَبَاحِثُ النَّظَرِ]

- ‌[الْأَمْرُ الرَّابِعُ اسْتِمْدَاد عِلْم أُصُولُ الْفِقْهِ]

- ‌[الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ]

- ‌[الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَعْنَى اللُّغَةِ]

- ‌[الْمَقَامُ الثَّانِي فِي بَيَانِ سَبَبِ وَضْعِ لُغَاتِ الْأَنَاسِيِّ]

- ‌[الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ وَاضِعِ اللُّغَةُ]

- ‌[الْمَقَامُ الرَّابِعُ هَلْ يُحْكَمُ بِاعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ]

- ‌[الْمَقَامُ الْخَامِسُ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لَهُ اللَّفْظُ]

- ‌[الْمَقَامُ السَّادِسُ فِي بَيَانِ طُرُقِ مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ]

- ‌[الْمَقَامُ السَّابِعُ الْقِيَاسَ هَلْ يَجْرِي فِي اللُّغَةِ]

- ‌[الْمَقَامُ الثَّامِنُ فِي تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إلَى مهمل ومستعمل]

- ‌[بَيَانِ الْأَقْسَامِ اللَّاحِقَةِ لِلَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ]

- ‌[أَقْسَام الْمُفْرَدِ وَالْمُرَكَّبِ]

- ‌[أَقِسَام اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي انْقِسَامِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي انْقِسَامِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ]

- ‌[انْقِسَامِ دَلَالَةُ اللَّفْظ إلَى الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ]

- ‌[أَقْسَام الْمَفْهُومُ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ دَلَالَتِهِ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ لِلْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ الْخَفَاء فِي الدَّلَالَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ مُقَايَسَتِهِ إلَى مُفْرَدٍ آخَرَ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهِ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ تَعَدَّى الْمُفْرَدِ إِلَيَّ كُلِّي وجزئي]

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّانِي مَدْلُولُ المفرد إمَّا لَفْظٌ كَالْجُمْلَةِ وَالْخَبَرِ أَوْ غَيْرُهُ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ تَقْسِيم اللَّفْظَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالصِّيغَةِ]

- ‌[مباحث الْعَامُّ]

- ‌[الْبَحْثُ الْأَوَّلُ هَلْ يُوصَفُ بِالْعُمُومِ الْمَعَانِي الْمُسْتَقِلَّةُ كَالْمُقْتَضَى وَالْمَفْهُومِ]

- ‌[الْبَحْثُ الثَّانِي هَلْ الصِّيَغُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ]

- ‌[الْبَحْثُ الثَّالِثُ لَيْسَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ عَامًّا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَيْسَ الْعَامُّ مُجْمَلًا]

- ‌[الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُخَصِّصِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ هَلْ يَشْمَلُ النِّسَاءَ وَضْعًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ الْمُشْتَرَكُ عَامٌّ اسْتِغْرَاقِيٌّ فِي مَفَاهِيمِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ خِطَابِ الْوَاحِدِ لَا يَعُمُّ غَيْرَهُ لُغَةً]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْخِطَابِ الَّذِي يَعُمُّ الْعَبِيدَ لُغَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاتِّفَاقُ عَلَى عُمُومِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ]

- ‌[الْبَحْثُ الرَّابِعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى إطْلَاقِ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَاصِّ وَعَلَى احْتِمَالِهِ]

- ‌[الْبَحْثُ الْخَامِسُ يَرِدُ عَلَى الْعَامِّ التَّخْصِيصُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ]

- ‌[مَسْأَلَة شَرْطُ إخْرَاجِهِ أَيْ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَقَّبَ الِاسْتِثْنَاءُ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا خُصَّ الْعَامُّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِمُجْمَلٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ خَصُّوا بِهِ الْعَامَّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعَادَةِ وَهِيَ الْأَمْرُ الْمُتَكَرِّرُ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ عَقْلِيَّةٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إفْرَادِ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ بِحُكْمِهِ أَيْ الْعَامِّ]

- ‌[مَسْأَلَةُ رُجُوعِ الضَّمِيرِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْعَامِّ إلَى الْبَعْضِ مِنْ أَفْرَادِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ تَّخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ مُنْتَهَى التَّخْصِيصِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ إذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ صِيغَةُ الْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَبَادُرِ كَوْنِ الصِّيغَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ مَجَازًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصِّيغَة أَيْ الْمَادَّة بِاعْتِبَارِ الْهَيْئَة الْخَاصَّةِ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْفَوْر للأمر ضروري لِلْقَائِلِ بِالتَّكْرَارِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْآمِرُ لِشَخْصٍ بِالْأَمْرِ لِغَيْرِهِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ آمِرًا لِذَلِكَ الْمَأْمُورِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَاقَبَ أَمْرَانِ غَيْرُ مُتَعَاطِفَيْنِ بِمُتَمَاثِلَيْنِ فِي مَأْمُورٍ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالنَّفْسِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالْفِعْلِ]

الفصل: ‌[المقام الثالث في بيان واضع اللغة]

كُلُّ لُغَةٍ إلَى أَهْلِهَا) أَوْ يَجْرِي عَلَيْهَا صِفَةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِمْ فَيُقَالُ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ تَمْيِيزًا لَهَا عَمَّا سِوَاهَا.

[الْمَقَامُ الثَّانِي فِي بَيَانِ سَبَبِ وَضْعِ لُغَاتِ الْأَنَاسِيِّ]

ِّ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِمَصَالِحِهِ فِي مَعَاشِهِ مِنْ مَأْكُولٍ، وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ، وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْحَاجِيَّةِ، وَفِي مَعَادِهِ مِنْ اسْتِفَادَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ التَّشْرِيفِيَّةِ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ الْمُوجَبَةِ لِخَيْرَيْ الدَّارَيْنِ مُفْتَقِرًا إلَى مُعَاضَدَةِ غَيْرِهِ مِنْ بَنِي نَوْعِهِ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَتْ الْمُعَاضَدَةُ لَا تَتَأَتَّى لَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ مَا فِي الضَّمِيرِ، وَالْوَاقِعُ إمَّا بِاللَّفْظِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَحَرَكَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ أَوْ بِالْمِثَالِ، وَهُوَ الْجِرْمُ الْمَوْضُوعُ عَلَى شَكْلِ الشَّيْءِ لِيَكُونَ عَلَامَةً عَلَيْهِ وَكَانَ فِي الْمِثَالِ عُسْرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ عَدَمِ عُمُومِهِ إذْ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَأَتَّى لَهُ مِثَالٌ، وَقَدْ يَبْقَى الْمِثَالُ أَيْضًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَاجَةِ فَيَقِفُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُرِيدُ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَيْضًا وَكَيْفَ، وَهِيَ لَا تَقَعُ إلَّا فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَوْ مَا أُجْرِيَ مَجْرَاهَا وَالْكِتَابَةُ فِيهَا مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَانَتْ الْأَلْفَاظُ أَيْسَرَ عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّهَا كَيْفِيَّاتٌ تَحْدُثُ مِنْ إخْرَاجِ النَّفْسِ الضَّرُورِيِّ الْحُصُولِ لِلْإِنْسَانِ الْمُمْتَدِّ لِلطَّبِيعَةِ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا تَكَلُّفٍ مَعَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ تُوجَدُ مَعَ وُجُودِهَا وَتَنْقَضِي مَعَ انْقِضَائِهَا، وَأَعَمَّ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلتَّعْبِيرِ بِهَا عَنْ كُلِّ مُرَادٍ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ مَعْدُومٍ أَوْ مَوْجُودٍ مَعْقُولٍ أَوْ مَحْسُوسٍ قَدِيمٍ أَوْ حَادِثٍ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمِنْ لُطْفِهِ الظَّاهِرِ تَعَالَى، وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ) أَيْ، وَمِنْ إفَاضَةِ الْإِحْسَانِ بِرِفْقٍ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَ أُولِي الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَآثَارُ صِفَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْمَقْدُورَاتِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا الْغَالِبَةِ لِعُقُولِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ لِشُمُولِهَا كُلَّ الْمُمْكِنَاتِ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ مِنْ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ (الْإِقْدَارُ عَلَيْهَا) أَيْ إعْطَاؤُهُ تَعَالَى إيَّاهُمْ الْقُدْرَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السَّهْلَةِ الْحُصُولِ عَلَيْهِمْ مَتَى شَأَوْا (وَالْهِدَايَةُ لِلدَّلَالَةِ بِهَا) أَيْ، وَهِدَايَتُهُمْ؛ لَأَنْ يُعْلِمُوا غَيْرَهُمْ بِهَا مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ مَتَى أَرَادُوا ثُمَّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الْإِقْدَارُ تَرْجِعُ إلَى الْقُدْرَةِ، وَالْهِدَايَةُ إلَى اللُّطْفِ فَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوَّشٌ (فَخَفَّتْ الْمُؤْنَةُ) بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ التَّعْرِيفِ لِيُسْرِهِ وَسُهُولَتِهِ (وَعَمَّتْ الْفَائِدَةُ) لِشُمُولِهِ، وَإِحَاطَتِهِ وَوَضْعُ الضَّمِيرِ مَوْضِعِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ، وَمِنْ لُطْفِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَزِيَادَةِ وُضُوحِهِ أَوْ لِأَنَّهُ بَلَغَ مِنْ عِظَمِ الشَّأْنِ إلَى أَنْ صَارَ مُتَعَقِّلَ الْأَذْهَانِ.

[الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ وَاضِعِ اللُّغَةُ]

الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ الْوَاضِعِ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ. أَحَدُهَا: وَهُوَ مُخْتَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَنَسَبَهُ السُّبْكِيُّ إلَى الْجُمْهُورِ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ وَقَفَ الْعِبَادَ عَلَيْهَا بِوَحْيِهِ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِخَلْقِهِ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ فِي جِسْمٍ ثُمَّ إسْمَاعِهِ إيَّاهَا لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ إسْمَاعَ قَاصِدٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي أَوْ بِخَلْقِهِ تَعَالَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ لَهُمْ بِهَا، وَمِنْ ثَمَّةَ يُعْرَفُ هَذَا بِالْمَذْهَبِ التَّوْقِيفِيِّ وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ بَعْضُ تَفْصِيلٍ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْوَاضِعُ لِلْأَجْنَاسِ) أَسْمَاءً، وَأَعْلَامًا لِلْأَعْيَانِ وَالْمَعَانِي مُقْتَرِنَةً بِزَمَانٍ وَغَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهِ (أَوَّلًا اللَّهُ سُبْحَانَهُ) هَذَا (قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ) ، وَقَالَ لِلْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ وَاضِعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ السَّمْعِ وَالْأَعْلَامِ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَبَعْضِ الْأَعْلَامِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَالَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ سَيُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَى بَعْضِهَا وَضْعَانِ لِلَّهِ أَوَّلًا وَلِلْعِبَادِ ثَانِيًا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا (وَلَا شَكَّ فِي أَوْضَاعٍ أُخَرَ لِلْخَلْقِ عِلْمِيَّةٍ شَخْصِيَّةٍ) حَادِثَةٍ بِإِحْدَاثِهِمْ إيَّاهَا، وَمُوَاضَعَتِهِمْ عَلَيْهَا لَمَّا يَأْلَفُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَكَيْفَ لَا، وَالْوِجْدَانُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ بَلْ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا تَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَلَا بِمُوَاضَعَاتِ أَهْلِهَا وَاصْطِلَاحِهِمْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ فَيُسَمِّي نَفْسَهُ، وَفَرَسَهُ وَغُلَامَهُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا غَيْرَ مَحْظُورٍ عَنْ ذَلِكَ، وَقَيَّدَ بِالشَّخْصِيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْقَطْعِ بِهَذَا الْحُكْمِ لِلْعِلْمِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ (وَغَيْرِهَا) أَيْ وَغَيْرِ هَذِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَأَعْلَامِهَا (جَائِزٌ) أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَضْعَانِ سَابِقٌ لِلْحَقِّ وَلَا حَقٌّ لِلْخَلْقِ بِأَنْ يَضَعَ الْبَارِي تَعَالَى اسْمًا مِنْهَا لِمَعْنًى ثُمَّ يَضَعَهُ الْخَلْقُ لِآخَرِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ

ص: 69

الِاسْمُ مِنْ قَبِيلِ الْأَضْدَادِ إنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ أَوْ يَضَعُوا لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ اسْمًا آخَرَ أَيْضًا (فَيَقَعُ التَّرَادُفُ) بَيْنَ ذَيْنِك الِاسْمَيْنِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا التَّجْوِيزِ فَيَتَحَرَّرُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، وَأَعْلَامُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ.

وَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ تَعَالَى آدَمَ عليه السلام جَمِيعَهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِهَا ظَاهِرٌ فِي إلْقَائِهَا عَلَيْهِ مُبِينًا لَهُ مَعَانِيهَا إمَّا بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ بِهَا فِيهِ أَوْ إلْقَاءٍ فِي رَوْعِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى سَابِقَةِ اصْطِلَاحٍ لِيَتَسَلْسَلَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى سَابِقَةِ وَضْعٍ، وَالْأَصْلُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَضْعُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ، وَمِمَّنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الزَّمَانِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ثَانِيهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَأَصْحَابُ أَبِي هَاشِمٍ) الْمُعْتَزِلِيِّ الْمَشْهُورِ يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْبَهْشَمِيَّةِ يَقُولُونَ الْوَاضِعُ (الْبَشَرُ آدَم وَغَيْرُهُ) بِأَنْ انْبَعَثَتْ دَاعِيَتُهُمْ إلَى وَضْعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا ثُمَّ عَرَفَ الْبَاقُونَ بِتَعْرِيفِ الْوَاضِعِ أَوْ بِتَكْرَارِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَعَ قَرِينَةِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا أَوْ غَيْرِهَا كَمَا فِي تَعْلِيمِ الْأَطْفَالِ وَيُسَمَّى هَذَا بِالْمَذْهَبِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أَيْ بِلُغَةِ قَوْمِهِ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ وَبُعِثَ فِيهِمْ، وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ عَلَى اللُّغَةِ مَجَازٌ شَائِعٌ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ سَبَبِهِ الْعَادِي، وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ (أَفَادَ) هَذَا النَّصُّ (نِسْبَتَهَا) أَيْ اللُّغَةِ (إلَيْهِمْ) سَابِقَةً عَلَى الْإِرْسَالِ إلَيْهِمْ (وَهِيَ) أَيْ وَنِسْبَتُهَا إلَيْهِمْ كَذَلِكَ (بِالْوَضْعِ) أَيْ يَتَعَيَّنُ ظَاهِرًا أَنْ تَكُونَ بِوَضْعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا النِّسْبَةُ الْكَامِلَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَمْلُ عَلَى الْكَامِلِ (وَهُوَ) أَيْ، وَهَذَا الْوَجْهُ (تَامٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ) أَيْ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ الْوَاضِعَ الْبَشَرُ (وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ) أَيْ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا النَّصِّ (دَوْرًا) أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الدُّورُ الْمَمْنُوعُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاضِعُ اللَّهَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَرَّرَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ (كَذَا دَلَّ) هَذَا النَّصُّ (عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ الْإِرْسَالَ) إلَى النَّاسِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إفَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا لِلْقَوْمِ لِسَانٌ أَيْ لُغَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ لَهُمْ فَيُبْعَثُ الرَّسُولُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ إلَيْهِمْ (وَلَوْ كَانَ) أَيْ حُصُولُ اللُّغَاتِ لَهُمْ (بِالتَّوْقِيفِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا يُتَصَوَّرُ) التَّوْقِيفُ (إلَّا بِالْإِرْسَالِ) لِلرُّسُلِ إلَيْهِمْ (سَبَقَ الْإِرْسَالُ لِلُّغَاتِ فَيَدُورُ) لِتَقَدُّمِ كُلٍّ مِنْ الْإِرْسَالِ وَاللُّغَاتِ عَلَى الْآخَرِ وَحَيْثُ كَانَ الدَّوْرُ بَاطِلًا كَانَ مَلْزُومُهُ، وَهُوَ كَوْنُ الْوَاضِعِ هُوَ اللَّهَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَلْزُومَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ (فَغَلَطٌ لِظُهُورِ أَنَّ كَوْنَ التَّوْقِيفِ لَيْسَ إلَّا بِالْإِرْسَالِ إنَّمَا يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى التَّوْقِيفِ لَا) أَنَّهُ يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ (اللُّغَاتِ بَلْ) هَذَا النَّصُّ (يُفِيدُ سَبْقَهَا) أَيْ اللُّغَاتِ عَلَى الْإِرْسَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِهَا عَلَيْهِ سَبْقُ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِجَوَازِ وُجُودِهَا بِدُونِهِ فَلَا دَوْرَ.

وَحِينَئِذٍ (فَالْجَوَابُ) مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لِلِاصْطِلَاحِيَّةِ (بِأَنَّ آدَمَ عُلِّمَهَا) بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَبُنِيَ لَهُ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ أَيْ عَلَّمَ اللَّهُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ (وَعَلَّمَهَا) آدَم غَيْرَهُ (فَلَا دَوْرَ) إذَا تَعْلِيمُهُ بِالْوَحْيِ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوَحْيِ عَلَى اللُّغَاتِ لَا تَقَدُّمَ الْإِرْسَالِ إذْ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ وَحْيٌ بِاللُّغَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا إرْسَالَ لَهُ إلَى قَوْمٍ لِعَدَمِهِمْ وَبَعْدَ أَنْ وُجِدُوا وَتَعْلَمُوا اللُّغَاتِ مِنْهُ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ (وَبِمَنْعِ حَصْرِ) طَرِيقِ (التَّوْقِيفِ عَلَى الْإِرْسَالِ) أَيْ وَالْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا أَيْضًا (لِجَوَازِهِ) أَيْ التَّوْقِيفِ مِنْ اللَّهِ (بِالْإِلْهَامِ) بِأَنْ أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي رَوْعِ الْعَاقِلِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُ أَنَّ وَاضِعًا مَا وَضَعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِإِزَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِي (ثُمَّ دَفْعَهُ) أَيْ هَذَا الْجَوَابُ (بِخِلَافِ الْمُعْتَادِ) أَيْ بِأَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَادُ فِي التَّعْلِيمِ التَّفْهِيمُ بِالْخِطَابِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا لَمْ يَقْطَعْ بِعَدَمِهِ فَلَا أَقِلَّ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ مُخَالَفَةً قَوِيَّةً فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِمُجَرَّدِهِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ (ضَائِعٌ) خَبَرُ قَوْلِهِ فَالْجَوَابُ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَوَجْهُ ضَيَاعِهِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَا بُنِيَ هَذَا كُلُّهُ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الدَّوْرِ لَمْ يَتِمَّ

ص: 70

(بَلْ الْجَوَابُ) مِنْ قِبَلِ التَّوْقِيفِيَّةِ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ لِلِاصْطِلَاحِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ التَّامِّ بِمَطْلُوبِهِمْ (أَنَّهَا) أَيْ الْإِضَافَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4](لِلِاخْتِصَاصِ) أَيْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مَقَاصِدِهِمْ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ اللُّغَاتِ (وَلَا يَسْتَلْزِمُ) اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا (وَضَعَهُمْ) أَيْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْوَاضِعِينَ لَهَا (بَلْ يَثْبُتُ مَعَ تَعْلِيمِ آدَمَ بَنِيهِ إيَّاهَا وَتَوَارُثِ الْأَقْوَامِ فَاخْتَصَّ كُلٌّ بِلُغَةٍ) أَيْ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُخْتَصِّينَ بِهَا بِعَدَمِ وَضْعِهِ تَعَالَى إيَّاهَا وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَيْهَا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَضَعَهَا، وَعَلَّمَهَا لِآدَمَ ثُمَّ آدَم عَلَّمَهَا لِبَنِيهِ ثُمَّ مَا زَالَ الْخَلَفُ مِنْهُمْ يَتَوَارَثُهَا مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنْ تَمَيَّزَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِإِرْثِ لُغَةٍ وَاخْتَصَّ بِهَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ الْإِضَافَةَ وَلَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ طَافِحٌ بِإِضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَمَا الظَّنُّ بِمِثْلِ هَذَا، وَهَذَا الْجَائِزُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ الْجَائِزِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ هَذَا بِمُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] ، وَمُخَالَفَةِ ذَاكَ لِهَذَا الظَّاهِرِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَالَفَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضِينَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَيَتَعَيَّنُ (، وَأَمَّا تَجْوِيزُ كَوْنِ عَلَّمَ) أَيْ كَوْنُ الْمُرَادِ بِعَلَّم آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (أَلْهَمَهُ الْوَضْعَ) بِأَنْ بَعَثَ دَاعِيَتَهُ لَهُ، وَأَلْقَى فِي رَوْعِهِ كَيْفِيَّتَهُ حَتَّى فَعَلَ وَسَمَّى ذَلِكَ تَعْلِيمًا مَجَازًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] ، وَأَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ، وَأَرَادَ وَضَعْهَا لِكَوْنِهَا مُتَعَلَّقَةً كَمَا هَذَا تَأْوِيلٌ مِنْ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِدَفْعِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْقِيفِيَّةِ (أَوْ مَا سَبَقَ وَضْعُهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ) أَيْ أَوْ أَلْهَمَهُ الْأَسْمَاءَ السَّابِقَ وَضْعُهَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ آدَمَ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ جَانًّا قَبْلَ آدَمَ، وَأَسْكَنَهُمْ الْأَرْضَ ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ لُغَةً كَمَا هَذَا تَأْوِيلٌ آخَرُ مِنْ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِدَفْعِ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّوْقِيفِيَّةِ (فَخَالَفَ الظَّاهِرُ) مِنْ الْآيَةِ مُخَالَفَةً قَوِيَّةً وَنَحْنُ نَدَّعِي الظُّهُورَ، وَالِاحْتِمَالَاتُ الْبَعِيدَةُ لَا تَدْفَعُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ تَعْرِيفُ اللَّهِ إيَّاهُ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا وَتَفْهِيمُهُ بِالْخِطَابِ لَا بِالْإِلْهَامِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وَضْعٍ سَابِقٍ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ الْمُشَارَ إلَيْهِمْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُودُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ كَانَتْ لَهُمْ وَلَا يُصَارُ إلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَالْإِجْمَاعِ فِي، وَعَلَّمْنَاهُ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا ثُمَّ لَمَّا لَزِمَ مِنْ هَذَا ظَنُّ كَوْنِ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةً وَاشْتُهِرَ أَنْ لَا ظَنَّ فِي الْأُصُولِ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّهُ لَا ضَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِهِ.

فَقَالَ (وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْمَبَادِئُ فِيهَا تَغْلِيبٌ) أَيْ، وَإِطْلَاقُ الْمَبَادِئِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ تَغْلِيبٌ لِمَا هُوَ مِنْهَا لِكَثْرَتِهِ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْهَا لِقِلَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ التَّغْلِيبِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ الطُّوفِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ الْفَنِّ لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ اهـ. عَلَى أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَلْفَاظِ قَدْ يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ بَلْ قَدْ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ فِي الْأُصُولِ كَمَا فِي كَيْفِيَّةِ إعَادَةِ الْمَعْدُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلَّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْقَطْعُ فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرَهُ الْفَاضِلُ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ فِي دَرْسِهِ مِنْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِلْمِيَّةٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَيَانِ ظَاهِرِيَّةِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ إذْ الظُّنُونُ لَا تُفِيدُ إلَّا فِي الْعَمَلِيَّاتِ. وَقَوْلُهُ (كَاَلَّتِي تَلِيهَا) أَيْ كَمَا أَنَّ الْأُمُورَ السَّابِقَةِ عَلَى هَذِهِ مِنْ تَعْرِيفِ اللُّغَةِ وَبَيَانِ سَبَبِ وَضْعِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ لِهَذَا الْعِلْمِ، وَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا فَفَاعِلُ تَلِيهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَفْعُولُهُ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْصُوفِ الْمُقَدَّرِ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَيْ كَالْأُمُورِ الَّتِي تَلِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ كَمَا أَنَّ الْأُمُورَ الْآتِيَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ بَيَانِ هَلْ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُعْتَبَرَةٌ؟ . وَبَيَانُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَطُرُقُ مَعْرِفَةِ اللُّغَاتِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ لِهَذَا الْعِلْمِ، وَالْمَبْدَئِيَّةُ فِيهَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا فَفَاعِلُ تَلِيهَا ضَمِيرُهُ مُسْتَتِرٌ يَرْجِعُ إلَى الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمُقَدَّرُ، وَمَفْعُولُهُ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ يَرْجِعُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْ كَالْأُمُورِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السَّوَابِقَ، وَهَذِهِ

ص: 71

اللَّوَاحِقُ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ نَوْعَ بَصِيرَةٍ فِيهِ.

فَإِذَنْ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْجِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ ثُمَّ هَذَا مِمَّا يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ صَدْرَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ الْمَبَادِئَ عَلَى مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ (وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِعَرَضِهِمْ) أَيْ، وَمَا قِيلَ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ دَفْعًا لِاحْتِجَاجِ التَّوْقِيفِيَّةِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِمَعَانِيهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصَّهَا بِأَنْ عَلَّمَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخَيْلِ كَذَا، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَقَر كَذَا، وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْحَرْثِ، وَهَلُمَّ جَرًّا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ لِلسُّؤَالِ عَنْ أَسْمَاءِ الْمَعْرُوضَاتِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْرُوضُ نَفْسَ الْأَلْفَاظِ عَلَى أَنَّ عَرْضَهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَبِتَلَفُّظٍ بِهَا يَأْبَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ؛ وَلِأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي هُوَ هُمْ لِلْأَسْمَاءِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ، وَهِيَ إنَّمَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْحَقَائِقُ لِإِمْكَانِهِ حِينَئِذٍ تَغْلِيبًا لِذَوِي الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ (مُنْدَفِعٌ بِالتَّعْجِيزِ بِ {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: 31] ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْإِنْبَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ وَالْإِظْهَارِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ، وَأَضَافَ فِيهِ الْأَسْمَاءَ إلَى هَؤُلَاءِ، وَهِيَ الْمُسَمَّيَاتُ.

وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُسَمَّيَاتِ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا فَكَذَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ التَّعْلِيمِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ الْإِلْزَامُ بِطَلَبِهِ الْأَنْبَاءَ بِالْأَسْمَاءِ ثُمَّ إنْبَائِهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ بِهَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ إنَّمَا تَكُونُ لَوْ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ عَمَّا عَلَّمَ آدَمَ لَا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَالضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ضِمْنًا إذْ التَّقْدِيرُ: أَمَّا أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسَمًّى، وَعَوَّضَ عَنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ لِلْمُسَمَّيَاتِ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْبَاقِينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا إشْكَالَ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ وَبَيْنَ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي هِيَ مَا أُضِيفَتْ الْأَسْمَاءُ إلَيْهِ أَوْ كَانَتْ مُتَعَلَّقَةً بِهَا هَذَا وَلَا يَبْعُدُ عِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ - غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِخْدَامٌ أَعْنِي يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ فِي {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] الْأَلْفَاظَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَرَضَهُمْ رَاجِعًا إلَى الْأَسْمَاءِ مُرَادًا بِهَا الْمُسَمَّيَاتِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ

إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ

رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا

، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ (وَبُعْدِ عَلَّمَ الْمُسَمَّيَاتِ) أَيْ، وَمُنْدَفِعٌ أَيْضًا بِبُعْدِ أَنْ يُقَالَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْمُسَمَّيَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأَشْخَاصِ وَالذَّوَاتِ إلَّا بِنَوْعٍ مَقْبُولٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ الِاسْتِعْمَالَاتِ فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ الْقَرِيبُ السَّالِمُ مِنْ تَكَلُّفِ تَأْوِيلٍ لِاحْتِمَالٍ خَفِيٍّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ.

ثَالِثُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَنَقَلَهُ فِي الْحَاصِلِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي الْمَحْصُولِ وَالتَّحْصِيلِ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعُهُ التَّوَقُّفُ وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا عَدَمَ الْقَوْلِ بِمُعَيَّنٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُمْكِنَةِ فِيهَا، وَقَالُوا فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهَا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَوَجَبَ الْوَقْفُ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي) عَنْ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ (لِعَدَمِ) دَلِيلٍ (الْقَطْعِ) بِذَلِكَ (لَا يَنْفِي الظَّنَّ) بِأَحَدِهَا، وَهُوَ مَا الدَّلِيلُ يُفِيدُ ظَنَّهُ بَلْ يُجَامِعُ الظَّنَّ بِأَحَدِهَا عَدَمُ الْقَطْعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ فَقَطْ (وَالْمُبَادِرُ) إلَى الذِّهْنِ وَالْأَحْسَنُ وَلَكِنَّ الْمُبَادِرَ (مِنْ قَوْلِهِ) أَيْ الْقَاضِي (كُلٌّ) مِنْ الْمَذَاهِبِ فِيهَا (مُمْكِنٌ عَدَمُهُ) أَيْ الظَّنِّ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِاحْتِمَالٍ عَلَى آخَرَ (وَهُوَ) أَيْ عَدَمُ الظَّنِّ بِأَحَدِهَا (مَمْنُوعٌ)

ص: 72

لِوُجُودِ مَا يُفِيدُ ظَنَّ أَحَدِهَا رَاجِحًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَعَلَّهُ دَلِيلُ الْأَشْعَرِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ عِبَارَةَ الْبَدِيعِ وَالْقَاضِي كُلٌّ مِنْ هَذِهِ مُمْكِنٌ وَالْوُقُوعُ ظَنِّيٌّ فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا لَفْظُهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ بِظَنِّ أَحَدِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ يَعْنِي لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ ثُمَّ النَّظَرُ إلَى الْوَاقِعِ يُفِيدُ ظَنَّ وُقُوعِ أَحَدِهَا سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْوَقْفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا هُوَ عِنْدَهُ فَهُوَ قَائِلٌ بِهِ كَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَنْ الْقَطْعِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاقِفًا عَنْ الْقَطْعِ بَلْ يَكُونُ قَاطِعًا بِعَدَمِ الْقَطْعِ بِأَحَدِهَا وَلَا يُنَافِيهِ ظَنُّ أَحَدِهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنَّ لَوْ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الْقَطْعَ بِذَلِكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَا فِي الْوَاقِعِ مُوجِبًا لَهُ فِي نَظَرِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ لِمَانِعٍ قَامَ عِنْدَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَانِعٍ فِي الْوَاقِعِ فَأَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي فِي هَذِهِ شَيْئًا فَأَطْلَقَ الْوَقْفَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوْلِهِ عَنْ الْقَطْعِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ تَبَادُرِ ذَلِكَ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ. رَابِعُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوَاضِعُ فِي تَعْرِيفِ النَّاسِ اصْطِلَاحَهُ لِيُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ تَوْقِيفِيٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا عَدَاهُ مُمْكِنٌ ثُبُوتُهُ بِكُلٍّ مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ أَوْ هُوَ ثَابِتٌ بِالِاصْطِلَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ النَّقْلِ عَنْهُ فِي هَذَا كَمَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا وَيُعْرَفُ هَذَا بِالْمَذْهَبِ التَّوْزِيعِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ فِي ضِمْنِ رَدِّهِ بِقَوْلِهِ (وَلَفْظُ كُلَّهَا) فِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] (يَنْفِي اقْتِصَارَ الْحُكْمِ عَلَى كَوْنِ مَا وَضَعَهُ سُبْحَانَهُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ) وَالْأَحْسَنُ يَنْفِي اقْتِصَارَ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ (إذْ يُوجِبُ) لَفْظُ كُلَّهَا (الْعُمُومَ) لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا مَعَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ تُفِيدُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَنَصُّ فِيهِ ثُمَّ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ خَصَّصَ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ (فَانْتَفَى) بِهَذَا (تَوَقُّفُ الْأُسْتَاذِ فِي غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ بِعَيْنِهِ فِيهِ مِنْ التَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ (كَمَا نُقِلَ عَنْهُ) أَيْ الْأُسْتَاذِ لِعَدَمِ مُوجِبِ التَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ.

وَمِنْ النَّاقِلِينَ عَنْهُ هَذَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَنَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيّ وَالْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ اصْطِلَاحِيٌّ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ بَدَلُ هَذَا فَانْتَفَى قَوْلُهُ بِالِاصْطِلَاحِ فِي غَيْرِهِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ وَجْهُ قَوْلِهِ دَعْوَى لُزُومِ الدَّوْرِ عَلَى تَقْدِيرِ انْتِفَاءِ التَّوْقِيفِ فِي الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ بِالتَّوْقِيفِ لَتَوَقَّفَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالِاصْطِلَاحِ فَيَلْزَمُ تَوَقُّفُهُ عَلَى سَبْقِ الِاصْطِلَاحِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ الدَّوْرُ هَذَا تَقْرِيرُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ، وَأَمَّا الْعَلَّامَةُ، وَمَنْ تَبِعَهُ فَبَنَوْا لُزُومَ الدَّوْرِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الِاصْطِلَاحِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ تَنَاهِي الِاصْطِلَاحَاتِ أَوْ دَعْوَى التَّسَلْسُلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَعْرِيفِ الِاصْطِلَاحِ بِالتَّوْقِيفِ لَتَوَقَّفَ مَعْرِفَةُ الِاصْطِلَاحِ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِاصْطِلَاحٍ آخَرَ سَابِقٍ، وَهُوَ عَلَى آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرَّا وَالدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلَانِ فَمَلْزُومُهُمَا بَاطِلٌ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا مُصَرِّحًا بِانْتِفَائِهِمَا فَقَالَ (وَإِلْزَامُ الدَّوْرِ أَوْ التَّسَلْسُلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَوْقِيفُ الْبَعْضِ مُنْتَفٍ) ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ تَوَقُّفَ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ قَوْلُكُمْ الْمَفْرُوضُ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالِاصْطِلَاحِ مَمْنُوعٌ بَلْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُعْرَفَ بِالِاصْطِلَاحِ بَلْ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ كَالْأَطْفَالِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُ تَوَقُّفِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى سَبْقِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ (بَلْ التَّرْدِيدُ مَعَ الْقَرِينَةِ كَافٍ فِي الْكُلِّ) .

ثُمَّ لَمَّا لَزِمَ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ الْجُنُوحُ إلَى الْمَذْهَبِ التَّوْقِيفِيِّ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ لَهُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا إنَّمَا تُثْبِتُ

ص: 73