الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ
التَّوَقُّفُ عِنْدَ الْبَعْضِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ لِاخْتِلَافِ أَعْدَادِ الْجَمْعِ) فَإِنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَدَدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَدَدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَفْلُسٌ يَصِحُّ بَيَانُهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَكُونُ مُجْمَلًا.
(وَإِنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ وَلَوْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ
ــ
[التلويح]
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي مُثْبِتٌ لِحِلٍّ جَدِيدٍ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هَاهُنَا الْعَقْدُ بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَاشْتِرَاطُ الدُّخُولِ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ حَيْثُ قَالَ «لَا حَتَّى تَذُوقِي» جَعَلَ الذَّوْقَ غَايَةً لِعَدَمِ الْعَوْدِ فَإِذَا وُجِدَ ثَبَتَ الْعَوْدُ وَهُوَ حَادِثٌ لَا سَبَبَ لَهُ سِوَى الذَّوْقِ، فَيَكُونُ الذَّوْقُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ، وَبِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ مُحَلِّلًا أَيْ: مُثْبِتًا لِلْحِلِّ فَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْحِلِّ النَّاقِصِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَقْرِيرُ الثَّانِيَةِ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لَفْظَ الْقَطْعِ خَاصٌّ بِالْإِبَانَةِ عَنْ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ إبْطَالِ الْعِصْمَةِ، فَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَطْعَ يُوجِبُ إبْطَالَ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ لِلْمَالِ قَبْلَ الْقَطْعِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ بِهَلَاكِهِ، أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَجَوَابُهُ أَنَّ انْتِفَاءَ الضَّمَانِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {جَزَاءً} [المائدة: 38] فَإِنَّ الْجَزَاءَ الْمُطْلَقَ فِي مَعْرِضِ الْعُقُوبَاتِ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَوُّلُ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ فِعْلِ الْقَطْعِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَالُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُلْحَقًا بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ، وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ اعْتِبَارَاتٌ سُؤَالًا وَجَوَابًا أَعْرَضْنَا عَنْهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ
[فَصْلٌ حُكْمُ الْعَامِّ]
(قَوْلُهُ فَصْلٌ) حُكْمُ الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَشَاعِرَةِ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ عُمُومٍ، أَوْ خُصُوصٍ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ وَالْجُبَّائِيِّ الْجَزْمُ بِالْخُصُوصِ كَالْوَاحِدِ فِي الْجِنْسِ وَالثَّلَاثَةِ فِي الْجَمْعِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ الْأَفْرَادِ قَطْعًا وَيَقِينًا عِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنًّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ حَتَّى يُفِيدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَيَصِحُّ تَخْصِيصُ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَذْهَبِ التَّوَقُّفِ تَارَةً بِبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ادَّعَى عُمُومَهَا مُجْمَلٌ، وَأُخْرَى بِبَيَانِ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أَعْدَادَ الْجَمْعِ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ غَيْرِ أَوْلَوِيَّةٍ لِلْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ مِمَّا يُفِيدُ بَيَانَ الشُّمُولِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ فَهُوَ لِلْبَعْضِ وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ فَيَكُونُ
وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] الْمُرَادُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ السُّعُودِ أَوْ أَعْرَابِيٌّ آخَرُ، وَالنَّاسُ الثَّانِي أَهْلُ مَكَّةَ.
(وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فِي الْجَمْعِ وَالْوَاحِدُ فِي غَيْرِهِ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ تَجِبُ ثَلَاثَةٌ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ لَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا تَثْبُتُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيَثْبُتُ أَخَصُّ الْخُصُوصِ.
(وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْكُلِّ) نَحْوُ جَاءَنِي الْقَوْمُ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَهُوَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ إلَى كُلِّ أَفْرَادٍ تَنَاوَلَهَا الْقَوْمُ.
(لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ) فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ فِي التَّخَاطُبِ قَدْ وُضِعَ
ــ
[التلويح]
مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ فَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُؤَكَّدُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاخْتِلَافِ أَعْدَادِ الْجَمْعِ فَيَكُونُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّوَقُّفِ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْكُلِّ احْتِرَازًا عَنْ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَلَا إجْمَالَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ التَّأْكِيدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَإِلَّا لَكَانَ تَأْسِيسًا لَا تَأْكِيدًا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْمَجَازَ رَاجِحٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلْقَطْعِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكَثِيرِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْجَمْعِ مَجَازًا فِي الْوَاحِدِ مِمَّا أَجَمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ هَاهُنَا مَا يَعُمُّ صِيغَةَ الْجَمْعِ كَالرِّجَالِ وَاسْمِ الْجَمْعِ كَالنَّاسِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَاعَدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُوَافِيَهُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فَلَمَّا دَنَّى الْمَوْعِدُ رَعَبَ وَنَدِمَ وَجَعَلَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُخَوِّفَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أَيْ: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ {إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] أَيْ: أَهْلَ مَكَّةَ {قَدْ جَمَعُوا} [آل عمران: 173] أَيْ: الْجَيْشَ لَكُمْ أَيْ: لِقِتَالِكُمْ.
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ) اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى، وَالْوَاحِدُ فِي الْجِنْسِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الْجَمْعِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْأَقَلُّ فَهُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا فَوْقَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُرَادِ هُوَ الْبَعْضُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْعُمُومُ رُبَّمَا كَانَ أَحْوَطَ فَيَكُونُ أَرْجَحَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّوْضِيحَ بِقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ عَامًّا، وَعَلَى كَوْنِ الْأَقَلِّ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ أَيْضًا هُوَ الثَّلَاثَةُ عَلَى خِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي دَلِيلِ الْإِجْمَالِ.
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ) اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ بِالْمَعْقُولِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى ظَاهِرٌ يَعْقِلُهُ الْأَكْثَرُ وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوضَعَ لَهُ لَفْظٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ كَكَثِيرٍ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا الْأَلْفَاظُ لِظُهُورِهَا إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا، فَقَوْلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَعْنِي: بِالْوَضْعِ لِيُثْبِتَ كَوْنَهُ عَامًّا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ
الْأَلْفَاظُ لَهَا.
(وَقَدْ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حِلِّ وَطْءِ كُلِّ أَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً مَعَ أُخْتِهَا فِي الْوَطْءِ أَوْ لَا.
(وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَهِيَ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَمْعُ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
(فَالْمُحَرَّمُ رَاجِحٌ) كَمَا يَأْتِي فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ.
(وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَعَلَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] حَتَّى جَعَلَ عِدَّةَ حَامِلٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ) .
اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي حَامِلٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَالْأُخْرَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
ــ
[التلويح]
الْوَضْعِ لَهُ خَاصَّةً بِالْمَجَازِ، أَوْ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَخُصُوصِ الرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ الَّتِي اُكْتُفِيَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْإِضَافَةِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ عَلَى أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ الْوَضْعِ بِالْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومَاتِ وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنْ قِيلَ فُهِمَ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ قُلْنَا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلَّفْظِ مَفْهُومٌ ظَاهِرٌ لِجَوَازِ أَنْ يُفْهَمَ بِالْقَرَائِنِ، فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لَنَا لَمْ يَنْقُلُوا نَصَّ الْوَاضِعِ، بَلْ أَخَذُوا الْأَكْثَرَ مِنْ تَتَبُّعِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ.
(قَوْلُهُ وَحَرَّمَتْهُمَا) أَيْ: الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَطْئًا آيَةٌ أُخْرَى هِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] عَطْفًا عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ السَّابِقَةِ قِيلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَمَّا حُرِّمَ نِكَاحًا وَهُوَ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، فَلَأَنْ يُحَرَّمَ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْلَى، فَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا حِينَئِذٍ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ الْمُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ خُصَّتْ مِنْ الْمُبِيحِ الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ، وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأُخْتُ الْمَنْكُوحَةِ فَلَمْ يَبْقَ قَطْعِيًّا فَيُعَارِضُهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثَبَتَ أَيْضًا بِالْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] فِي مَعْنَى مَصْدَرٍ مُعَرَّفٍ بِالْإِضَافَةِ أَوْ اللَّامِ أَيْ: جَمْعُكُمْ أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النِّكَاحِ، أَوْ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
(قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ مَا تَنَاوَلَهُ الْآيَتَانِ) ؛ لِأَنَّ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْغَيْرَ الْحَامِلِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] أَيْ: أَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ الْمُطَلَّقَةَ فَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] بِاعْتِبَارِ إيجَابِ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] بِاعْتِبَارِ إيجَابِ عِدَّةِ
مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ الطُّولَى، وَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَقَوْلُهُ يَتَرَبَّصْنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالْأَشْهُرِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ لَا، وَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَوْ طَلَّقَهَا فَجَعَلَ قَوْلَهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ {يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فِي مِقْدَارِ مَا تَنَاوَلَهُ الْآيَتَانِ وَهُوَ مَا إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَكُونُ حَامِلًا.
(وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ) أَيْ: النُّصُوصُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْعِدَّةِ.
(لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ) أَيْ: تَخْصِيصُ عَامِّ الْكِتَابِ بِكُلِّ
ــ
[التلويح]
غَيْرِ الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
قَوْلُهُ (لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مُوجِبَهُ ظَنِّيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ احْتِمَالًا نَاشِئًا عَنْ الدَّلِيلِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ كُلَّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، وَالتَّخْصِيصُ شَائِعٌ فِيهِ كَثِيرٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَامَّ لَا يَخْلُو عَنْهُ إلَّا قَلِيلًا بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 109] حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَكَفَى بِهَذَا دَلِيلًا عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ احْتِمَالِ الْخَاصِّ الْمَجَازَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَائِعٍ فِي الْخَاصِّ شُيُوعَ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ حَتَّى يَنْشَأَ عَنْهُ احْتِمَالُ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ، فَإِنْ قِيلَ، بَلْ لَا مَعْنَى لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الْمَجَازِ. قُلْنَا احْتِمَالُ الْقَرِينَةِ كَافٍ فِي احْتِمَالِ الْمَجَازِ وَهُوَ قَائِمٌ، إذْ لَا قَطْعَ بِعَدَمِ الْقَرِينَةِ إلَّا نَادِرًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ اسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِهِ أَوَّلًا وَعَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ ثَانِيًا وَأَجَابَ عَنْ تَمَسُّكِهِ ثَالِثًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وُضِعَ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَازِمًا ثَابِتًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ وَالْعُمُومُ مِمَّا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ فَكَانَ لَازِمًا قَطْعًا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ كَالْخَاصِّ يَثْبُتُ مُسَمَّاهُ قَطْعًا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ جَازَ إرَادَةُ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِ الْعَامِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَا يَفْهَمُ السَّامِعُونَ مِنْ الْعُمُومِ وَعَنْ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَامَّةٌ فَلَوْ جَوَّزْنَا إرَادَةَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لَمَا صَحَّ مِنَّا فَهْمُ الْأَحْكَامِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَلَمَا اسْتَقَامَ مِنَّا الْحُكْمُ بِعِتْقِ جَمِيعِ عَبِيدِ مَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّلْبِيسِ
وَاحِدٍ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ.
(لِأَنَّ كُلَّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَهُوَ شَائِعٌ فِيهِ) أَيْ: التَّخْصِيصُ شَائِعٌ فِي الْعَامِّ (وَعِنْدَنَا هُوَ قَطْعِيٌّ مُسَاوٍ لِلْخَاصِّ وَسَيَجِيءُ مَعْنَى الْقَطْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُخَصَّ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى وُضِعَ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَازِمًا لَهُ إلَّا أَنْ تَدُلَّ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ جَازَ إرَادَةُ الْبَعْضِ بِلَا قَرِينَةٍ يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَنْ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَامَّةٌ وَالِاحْتِمَالُ الْغَيْرُ النَّاشِئُ عَنْ دَلِيلٍ لَا يُعْتَبَرُ، فَاحْتِمَالُ الْخُصُوصِ هُنَا كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ فَالتَّأْكِيدُ يَجْعَلُهُ مُحْكَمًا)
هَذَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الْوَاقِفِيَّةُ أَنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِكُلٍّ أَوْ أَجْمَعَ وَأَيْضًا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، فَنَقُولُ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ الْعَامَّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ أَصْلًا، فَاحْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فِيهِ كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ، فَإِذَا أُكِّدَ يَصِيرُ مُحْكَمًا أَيْ: لَا يَبْقَى فِيهِ احْتِمَالٌ أَصْلًا لَا نَاشِئٌ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ
ــ
[التلويح]
عَلَى السَّامِعِ وَتَكْلِيفِهِ بِالْمُحَالِ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ الْبَاطِنَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَلَزِمَنَا الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهَا بَقِيَتْ فِي حَقِّ الْعِلْمِ فَلَمْ يَلْزَمْنَا الِاعْتِقَادُ الْقَطْعِيُّ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ لَا يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ قُلْنَا لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا الْوُقُوفُ عَلَى الْبَاطِنِ لَمْ تُعْتَبَرْ الْإِرَادَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّنَا لَا عِلْمًا وَلَا عَمَلًا، وَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْبَاطِلِ تَيْسِيرًا، وَبَقِيَ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْعُمُومِ الظَّاهِرِ قَطْعِيًّا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْعِلْمَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَلَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ الْإِرَادَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّ التَّبَعِ وَهُوَ الْعَمَلُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ التَّبَعِ احْتِيَاطٌ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى مِنْ التَّبَعِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْوَى مُثْبِتُ التَّبَعِ عَلَى إثْبَاتِ الْأَصْلِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِ الْمُخَالِفِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَتْبِعُ الْجَوَابَ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي الْعُمُومِ بِأَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعِينَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِاحْتِمَالِ الْعَامِّ التَّخْصِيصَ مُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْقَطْعَ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاحْتِمَالِ النَّاشِئِ عَنْ الدَّلِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ قَطْعِيًّا مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ احْتِمَالًا غَيْرَ نَاشِئٍ عَنْ الدَّلِيلِ كَمَا أَنَّ الْخَاصَّ قَطْعِيٌّ مَعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فَيُؤَكَّدُ الْعَامُّ بِكُلٍّ وَأَجْمَعِينَ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا وَلَا يَبْقَى فِيهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ أَصْلًا كَمَا يُؤَكَّدُ الْخَاصُّ فِي مِثْلِ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ أَوْ عَيْنُهُ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَجِيءَ رَسُولُهُ أَوْ كِتَابُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ احْتِمَالًا نَاشِئًا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ شَائِعٌ فِيهِ) وَهُوَ دَلِيلُ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَالِاحْتِمَالُ شَائِعٌ فِيهِ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ
دَلِيلٍ، فَإِنْ قِيلَ احْتِمَالُ الْمَجَازِ الَّذِي فِي الْخَاصِّ ثَابِتٌ فِي الْعَامِّ مَعَ احْتِمَالٍ آخَرَ، وَهُوَ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَيَكُونُ الْخَاصُّ رَاجِحًا فَالْخَاصُّ كَالنَّصِّ وَالْعَامُّ كَالظَّاهِرِ، قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْعَامُّ مَوْضُوعًا لِلْكُلِّ كَانَ إرَادَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَكَثْرَةُ احْتِمَالَاتِ الْمَجَازِ لَا اعْتِبَارَ لَهَا فَإِذَا كَانَ لَفْظٌ خَاصٍّ لَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ مَجَازِيٌّ، وَلَفْظٌ خَاصٌّ آخَرُ لَهُ مَعْنَيَانِ مَجَازِيَّانِ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا قَرِينَةَ لِلْمَجَازِ أَصْلًا، فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِلَا تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَعُلِمَ أَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا قَرِينَةَ لَهُ مُسَاوٍ لِاحْتِمَالِ مَجَازَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا قَرِينَةَ لَهَا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعَامِّ شَائِعٌ بِلَا قَرِينَةٍ فَإِنَّ الْمُخَصِّصَ إذَا كَانَ هُوَ الْعَقْلُ أَوْ نَحْوَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَلَا يُورِثُ شُبْهَةً فَإِنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ كَوْنُهُ غَيْرَ دَاخِلٍ لَا يَدْخُلُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ، بَلْ هُوَ نَاسِخٌ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمُخَصِّصِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَوْصُولًا وَقَلِيلٌ مَا هُوَ.
(وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ) مَعَ أَنَّ فِي الْوَاقِعِ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ لَكِنْ لَمَّا جَهِلْنَا النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ حَمَلْنَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
(فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله
ــ
[التلويح]
الْقِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ بِالْعَامِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْخَصْمِ بِالتَّخْصِيصِ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ أَوْ بِمُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ أَوْ مُتَرَاخٍ، وَلَا شَكَّ فِي شُيُوعِهِ وَكَثْرَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ، أَوْ بِالْمُسْتَقِلِّ الْمُتَرَاخِي فَلَهُ أَنْ يَقُولَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ شَائِعٌ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَعْضِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي تَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فِي الْعَامِّ سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ مُخَصِّصٌ أَمْ لَا، وَيَصِيرُ دَلِيلًا عَلَى احْتِمَالِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا وَالْمُصَنِّفُ تَوَهَّمَ أَنَّ مُرَادَ الْخَصْمِ أَنَّ التَّخْصِيصَ شَائِعٌ فِي الْعَامِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي تَنَاوُلِهِ لِجَمِيعِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَلِهَذَا قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعَامِّ شَائِعٌ بِلَا قَرِينَةٍ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَيْ: الْقَصْرَ عَلَى الْبَعْضِ شَائِعٌ كَثِيرًا فِي الْعُمُومِيَّاتِ بِالْقَرَائِنِ الْمُخَصِّصَةِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ الْبَعْضِيَّةِ فِي كُلِّ عَامٍّ فَيَصِيرُ ظَنِّيًّا فِي الْجَمِيعِ وَحِينَئِذٍ لَا يَنْطَبِقُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ بِلَا قَرِينَةِ مَعْنًى، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ مَا أَرَادَهُ الْخَصْمُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ فِي مَنْعِ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ الْأَخَصِّ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا) أَيْ: كَوْنُ الْعَامِّ
يَخُصُّ بِهِ، وَعِنْدَنَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي قَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا يَنْسَخُ الْخَاصَّ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا يَخُصُّهُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا يَنْسَخُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عِنْدَنَا) أَيْ: فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ، وَالْخَاصُّ وَلَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِلْعَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ فِي
ــ
[التلويح]
قَطْعِيًّا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِأَنْ يَدُلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، وَالْآخَرُ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْوَاقِعِ نَاسِخًا لِتَأَخُّرِهِ مُتَرَاخِيًا، وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا لِتَقَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ فِي الْوَاقِعِ مَوْصُولًا بِالْعَامِّ فَيَكُونَ مُخَصِّصًا لَا نَاسِخًا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ وَالْخَاصُّ قَطْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ وَعِنْدَنَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ جَمِيعًا لَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَفَرَّدَ الْعَامُّ بِتَنَاوُلِهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ ثَابِتٌ بِلَا مُعَارِضٍ وَسَيَجِيءُ حُكْمُ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] عَلَى رَأْيِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا فِي الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ، إذْ لَا يَتَنَاوَلُهَا الْأَوَّلُ، وَلَا فِي غَيْرِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إذْ لَا يَتَنَاوَلُهَا الثَّانِي، فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَامٌّ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ هَاهُنَا الْخَاصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْضَ أَفْرَادِهِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ خَاصًّا فِي نَفْسِهِ أَوْ عَامًّا مُتَنَاوِلًا لِشَيْءٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا فِي الْمِثَالِ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ فَيَكُونُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مُطْلَقًا كَمَا فِي اُقْتُلُوا الْكَافِرِينَ وَلَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْعَامُّ وَإِمَّا الْخَاصُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْعَامُّ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ، وَعَلَى الثَّانِي الْخَاصُّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ إنْ كَانَ مَوْصُولًا بِهِ وَنَاسِخٌ لَهُ فِي قَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ إنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] مُتَرَاخٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَخَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ مِثَالًا لِتَأَخُّرِ الْعَامِّ عَنْ الْخَاصِّ وَعَكْسُهُ وَيَكُونُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] فِي حَقِّ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنْ قُلْت انْتِسَاخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يُقَيَّدَ بِقَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَاصَّ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ أَفْرَادًا لَا يَتَنَاوَلُهَا الْعَامُّ فَلَا يُنْسَخُ فِي حَقِّهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] فِي حَقِّ غَيْرِ الْحَامِلِ قُلْت هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يَكُونُ عَامًّا لَا خَاصًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَاصًّا مِنْ حَيْثُ تَنَاوُلُهُ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، فَالْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ يُنْسَخُ بِالْعَامِّ فِي حَقِّ كُلِّ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَاصٌّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَامِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامًّا مِنْ حَيْثُ