المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل لا بد للمأمور به من الحسن] - التلويح على التوضيح لمتن التنقيح - جـ ١

[السعد التفتازاني - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ]

- ‌ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى]

- ‌[قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى]

- ‌(فَصْلٌ: الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ)

- ‌(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ

- ‌(فَصْلٌ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ]

- ‌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ (الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَنْ وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ كُلُّ وَجَمِيعُ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ: حِكَايَةُ الْفِعْلِ) لَا تَعُمُّ

- ‌(مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ)

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌(التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ عَنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ)

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ]

- ‌[حُرُوف الْمَعَانِي]

- ‌[حُرُوفُ الْجَرِّ]

- ‌(كَلِمَاتُ الشَّرْطِ)

- ‌[أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي الصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ]

- ‌التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ مَفْهُوم الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[أَقْسَامِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ]

- ‌ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ

- ‌[التَّعْلِيق بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ]

- ‌[الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ لِلْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ]

- ‌الْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ

- ‌[الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ]

- ‌الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ

- ‌[الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ]

- ‌[الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ]

- ‌(فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ)

- ‌[أَقْسَامُ الْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقَّت]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل الْوَقْت الضَّيِّق وَالْفَاضِل عَنْ الواجب]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي كون الْوَقْت مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَوْن الْوَقْت مِعْيَارًا لَا سَبَبًا]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْحَجُّ يُشْبِهُ الظَّرْفَ وَالْمِعْيَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْكُفَّار هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا]

- ‌[فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا]

الفصل: ‌[فصل لا بد للمأمور به من الحسن]

عَلَيْهَا) أَيْ إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ مُتَقَوِّمَةً فَكَيْفَ يُرَدُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ؟ (قُلْنَا بِإِقَامَةِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا فَإِنْ قِيلَ: هِيَ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمَةٌ) أَيْ الْمَنَافِعُ فِي الْعَقْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِتَقَوُّمِهَا فِي عَقْدِ النِّكَاح (لِأَنَّ ابْتِغَاءَ الْبُضْعِ)، وَهُوَ النِّكَاحُ (لَا يَجُوزُ إلَّا بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (وَيَجُوزُ) أَيْ ابْتِغَاءُ الْبُضْعِ (بِمَنْفَعَةِ الْإِجَارَةِ) فَتَكُونُ مَنْفَعَةُ الْإِجَارَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَالًا مُتَقَوِّمًا (فَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا كَذَلِكَ) أَيْ لَمَّا كَانَتْ الْمَنَافِعُ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمَةً كَانَتْ فِي نَفْسِهَا مُتَقَوِّمَةً (لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَصِيرُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا؛ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَهَا لَيْسَ لِاحْتِيَاجِ الْعَقْدِ إلَيْهِ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِهِ فَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا كَذَلِكَ (لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَصِحُّ بِدُونِهِ كَالْخُلْعِ) فَإِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَالِ الْخُرُوجِ عَنْ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَالِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ فَمَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ حَالَ الْخُرُوجِ يَصِحُّ مُقَابَلَتُهَا بِالْمَالِ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ عَقْدُ الْخُلْعِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقَوُّمِهَا فَتَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ لَيْسَ لِضَرُورَةِ الْعَقْدِ، وَلَمَّا ثَبَتَ تَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ تَكُونُ فِي نَفْسِهَا مُتَقَوِّمَةً (قُلْنَا تَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ ثَبَتَ بِالرِّضَا) هَذَا مَنْعٌ لِقَوْلِهِ إنَّ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَصِيرُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا بَلْ يَصِيرُ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا بِالرِّضَا (بِخِلَافِ

ــ

[التلويح]

وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الْخَطَأِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ الدَّمِ الْمَعْصُومِ عَنْ الْهَدَرِ بِالْكُلِّيَّةِ

[الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ]

(قَوْلُهُ: وَالْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ) كَتَسْلِيمِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ، وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، وَهَذَا جَهَالَةٌ فِي الْوَصْفِ لَا فِي الْجِنْسِ كَمَا فِي تَسْمِيَةِ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ فَيُحْتَمَلُ فِيمَا يُبْنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالنِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ فِي الْبَيْعِ فَتَسْلِيمُ عَبْدٍ وَسَطُ أَدَاءً، وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ قَضَاءٌ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا مِثْلَ الْوَاجِبِ لَا عَيْنَهُ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَدَاءَ لِمَا فِي الْقِيمَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَصَالَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِجَهَالَةٍ، وَصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِتَعْيِينِهِ، وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقَوُّمِ فَصَارَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى إنْ كَانَ الْعَبْدُ خَلَفًا عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَعَيَّنَ الْقِيمَةُ وَلَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ أَدَاءِ الْعَبْدِ وَالْقِيمَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ هُوَ كَمَا لَوْ أَمْهَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ أَمْهَرَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَصَارَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ كَأَنَّهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ فَيُخَيَّرُ الزَّوْجُ إذْ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَيُّهُمَا أَدَّى تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ.

فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَيْضًا الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ الْوَسَطُ، وَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَصْلُحُ وَجْهًا بِرَأْسِهِ فِي أَصَالَةِ الْقِيمَةِ بَلْ هُوَ تَوْضِيحٌ، وَتَتْمِيمٌ لِمَا سَبَقَ عَلَى مَا قَرَّرْنَا إذْ بِمُجَرَّدِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْعَبْدُ لَا يَتَحَقَّقُ أَصَالَةُ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ لِجَرَيَانِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ

[فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ]

(قَوْلُهُ: فَصْلٌ) مِنْ قَضَايَا الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَلَا امْتِنَاعَ

ص: 329

الْقِيَاسِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَقَوُّمَ بِلَا إحْرَازٍ (فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ) فَيَشْمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُقَاسُ تَقَوُّمُ الْمَنَافِعِ فِي الْغَصْبِ عَلَى تَقَوُّمِهَا فِي الْعَقْدِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُقَاسُ كَوْنُ الْمَنَافِعِ مُقَابَلًا بِالْمَالِ فِي الْغَصْبِ عَلَى كَوْنِهَا مُقَابَلًا بِالْمَالِ فِي الْعَقْدِ.

(لِهَذَا) أَيْ لِكَوْنِهِ التَّقَوُّمَ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ (وَلِلْفَارِقِ أَيْضًا، وَهُوَ الرِّضَا) دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي (فَإِنَّ لَهُ أَثَرًا فِي إيجَابِ الْمَالِ مُقَابَلًا بِغَيْرِ الْمَالِ، وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ الْقِصَاصَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ) هَذَا تَفْرِيعٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِهِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ لَا يُقْضَى إلَّا بِنَصٍّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ الْقِصَاصِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْعَفْوِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنَا (وَلَا غَيْرُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ إذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ) أَيْ لَا يَضْمَنُ غَيْرُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ إذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ، وَقَاتِلَ الْقَتِيلِ لَمْ يُفَوِّتُوا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ شَيْئًا إلَّا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَهُوَ مَعْنًى لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ.

(، وَالْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ كَالْقِيمَةِ فِيمَا إذَا أَمْهَرَ عَبْدًا غَيْرَ

ــ

[التلويح]

لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ اشْرَبْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ أَمْرٌ لُغَةً، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أَحْسَنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَمْرِ أَوْ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمُعَرِّفٌ لَهُ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَبْلَ تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ، وَالدَّلَائِلِ أَجْمَلَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِالْعَقْلِ قَبْلَهُ قَالَ فِي الْمِيزَانِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ بَعْضِ الْمَشْرُوعَاتِ كَالْإِيمَانِ، وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ كَانَ الْأَمْرُ دَلِيلًا، وَمُعَرِّفًا لِمَا ثَبَتَ حُسْنُهُ فِي الْعَقْلِ، وَمُوجِبًا لِمَا لَمْ يُعَرِّفْ بِهِ.

(قَوْلُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ) يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَبْوَابِهِ بَابُ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَهُوَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقُبْحَ النَّهْيِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَبَاحِثُ مِنْ أَنَّ الْحُسْنَ حُسْنٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَمِنْ مُهِمَّاتِ مَبَاحِثِ الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ) يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ عِلْمَ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِالْمَعْقُولِ الْكَلَامَ، وَبِالْمَنْقُولِ الْفِقْهَ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَلَامِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ عَنْ أَفْعَالِ الْبَارِي تَعَالَى هَلْ تَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ، وَهَلْ تَدْخُلُ الْقَبَائِحُ تَحْتَ إرَادَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَهَلْ تَكُونُ بِخَلْقِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَأُصُولِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بَحْثٌ عَنْ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْأَمْرِ يَكُونُ حَسَنًا، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ يَكُونُ قَبِيحًا ثُمَّ إنَّ مَعْرِفَتَهُمَا أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ لِئَلَّا يُثْبِتَ بِالْأَمْرِ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ، وَبِالنَّهْيِ مَا لَيْسَ بِقَبِيحٍ.

(قَوْلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ) زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَصْلٌ لِفُرُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَفَرْعٌ لِأَصْلٍ عَمِيقٍ صَعْبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مُتَعَسِّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَبَوَادِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ الْمُدْرِكَاتُ الَّتِي تُطْلَبُ فِيهَا الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهَا، وَمَبَادِيهَا الْمُقَدِّمَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ بِالْقُوَى

ص: 330

مُعَيَّنٍ فَإِنَّهَا قَضَاءٌ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ مَجْهُولًا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ ثَبَتَ الْعَجْزُ) أَيْ عَنْ أَدَاءِ الْأَصْلِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ (فَوَجَبَ الْقِيمَةُ فَكَأَنَّهَا أَصْلٌ، وَلَمَّا كَانَ) أَيْ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْعَبْدُ (مَعْلُومًا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ يَجِبُ هُوَ) أَيْ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْعَبْدُ (فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْقِيمَةِ، وَأَيُّهُمَا أَدَّى تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ) ، وَأَيْضًا الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ الْوَسَطُ، وَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ فَقَضَاؤُهَا يُشْبِهُ الْأَدَاءَ.

(فَصْلٌ: لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَمُهِمَّاتِ مَبَاحِثِ الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ الَّذِي زَلَّتْ فِي بِوَادِيهَا أَقْدَامُ الرَّاسِخِينَ، وَضَلَّتْ فِي مَبَادِيهَا أَفْهَامُ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَغَرِقَتْ فِي بِحَارِهَا عُقُولُ الْمُتَبَحِّرِينَ، وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ فِيهَا أَعْنِي الْحَقَّ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا خَوَاصُّ عِبَادِهِ، وَهَا أَنَا

ــ

[التلويح]

الْفِكْرِيَّةِ لِلْوُصُولِ إلَيْهَا، وَبِحَارُهَا مَا وَصَلَ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقُوَّةِ فِكْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ مُجَاوَزَتَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ زَلَّ قَدَمُهُ فِي الْبَوَادِي أَوْ ضَلَّ فَهْمُهُ فِي الْمَبَادِي فَقَدْ يُرْجَى عَوْدُهُ إلَى طَرِيقِ الْحَقِّ أَوْ اعْتِرَافُهُ بِالْعَجْزِ، وَمَنْ غَرِقَ فِي بَحْرِهِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ لِلْخَطَأِ فِي مُقَدِّمَاتِهِ فَقَدْ هَلَكَ.

(قَوْلُهُ: وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ) الْجَبْرُ إفْرَاطٌ فِي تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ جَمَادٍ لَا إرَادَةَ لَهُ، وَلَا اخْتِيَارَ، وَالْقَدَرُ تَفْرِيطٌ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِ مُسْتَقِلًّا فِي إيجَادِ الشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ أَيْ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إلْحَاقُ أَيْ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ حَيْثُ قَالَ: لَا جَبْرَ، وَلَا تَفْوِيضَ، وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ احْتِرَازٌ عَنْ مَجَازِهِ أَيْ عَمَّا يُشْبِهُ الْحَقَّ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ.

(قَوْلُهُ وَقَّفْتُ) أَيْ جَعَلْتُ وَاقِفًا عَلَيْهِ، وَوَفَّقْتُ أَيْ جَعَلْتُ الْأَسْبَابَ مُتَوَافِقَةً لِإِيرَادِهِ فَالْأَوَّلُ مِنْ التَّوْقِيفِ، وَالثَّانِي مِنْ التَّوْفِيقِ (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ) تَحْرِيرٌ لِلْمَبْحَثِ، وَتَلْخِيصٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: الْحُلْوُ حَسَنٌ، وَالْمُرُّ قَبِيحٌ، وَبِالثَّانِي الْعِلْمُ حَسَنٌ، وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ، وَبِالثَّالِثِ الطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ قَبِيحَةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ أَوْ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ شَرْعًا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَ الْعَفْوِ، وَلِذَا قَالُوا كَوْنُهُ مُتَعَلَّقَ الْعِقَابِ، وَلَمْ يَقُولُوا كَوْنُهُ بِحَيْثُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ هُوَ الثَّالِثُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ، وَقَبِيحَةٌ لِذَوَاتِهَا، أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا فَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ، وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَظَرِيٌّ كَحُسْنِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، وَقُبْحِ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالشَّرْعِ كَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقُبْحِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ

ص: 331

بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ أَوْرَدْت مَعَ الْعَجْزِ عَنْ دَرْك الْإِدْرَاكِ قَدْرَ مَا وَقَفْت عَلَيْهِ، وَوَقَفْت لِإِيرَادِهِ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ يُطْلَقَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ كَوْنُ الشَّيْءِ مُلَائِمًا لِلطَّبْعِ، وَمُنَافِرًا لَهُ، وَالثَّانِي كَوْنُهُ صِفَةَ كَمَالٍ، وَكَوْنُهُ صِفَةَ نُقْصَانٍ، وَالثَّالِثُ كَوْنُ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ عَاجِلًا، وَالثَّوَابِ آجِلًا، وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ عَاجِلًا، وَالْعِقَابِ آجِلًا فَالْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَثْبُتَانِ بِالْعَقْلِ اتِّفَاقًا أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتَانِ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالشَّرْعِ فَقَطْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ لِأَجْلِهَا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ كَوْنَهُ مُتَعَلَّقَ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ بِالشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَقْبُحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثِيبَ الْعَبْدَ أَوْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ

ــ

[التلويح]

إلَيْهِ لَكِنَّ الشَّرْعَ إذَا وَرَدَ بِهِ كَشْفٌ عَنْ حُسْنٍ، وَقُبْحٍ ذَاتِيَّيْنِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتُ الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدَهُمَا أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ، وَقُبْحَهُ لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٍ بِنَاءً عَلَى تَحَقُّقِ مَا بِهِ الْحُسْنُ أَوْ الْقُبْحُ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ بِاسْتِحْقَاقٍ فِي الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْفَاعِلِ فِيهِ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا لِيَثْبُتَ مَذْهَبُهُ بَلْ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ مَطْلُوبِهِ بَلْ، وَلَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى مَذْهَبِهِ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ الْأَمْرَيْنِ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ لَا يُنْسَبَانِ إلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا قَبِيحَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ كُلُّ أَفْعَالِهِ حَسَنَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى نَهْجِ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأُمُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَلَا غَايَةَ لِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُفَسِّرُونَ الْحُسْنَ بِمَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَجَمِيعُ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَبِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةَ كَمَالِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ تَفْسِيرِ الْحَسَنِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَالْقَبِيحِ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَاصَّةً، وَكَوْنُ الْمُبَاحِ دَاخِلًا فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ عِنْدَهُمْ مَحَلُّ نَظَرٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَلَّقِ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ بِلَا نِزَاعٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَسَنِ. وَالْأَوْضَحُ أَنْ يُقَالَ: الْقَبِيحُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِيَشْمَلَ الْمُبَاحَ، وَفِعْلَ الْبَارِي تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ) لِكُلٍّ مِنْ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا الْحُسْنُ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَالْقُبْحُ مَا يُذَمُّ عَلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا الْحَسَنُ مَا يَكُونُ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْقَبِيحُ مَا لَيْسَ

ص: 332

لِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ لَا يُنْسَبَانِ إلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ فَالْحَسَنُ، وَالْقَبِيحُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ يَكُونَانِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَلِهَذَا قَالَ (فَالْحُسْنُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مَا أُمِرَ بِهِ) سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ (وَالْقَبِيحُ مَا نُهِيَ عَنْهُ) سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهَةِ (وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ) سَوَاءٌ كَانَ يُحْمَدُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحُسْنِ (وَمَا يُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْقَبِيحِ (وَبِالتَّفْسِيرِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَوْ يَفْعَلُهُ) احْتَرَزَ بِالْقَيْدَيْنِ عَنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ آخَرُ لِلْحَسَنِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ فَسَّرُوا الْحَسَنَ، وَالْقَبِيحَ بِتَفْسِيرَيْنِ فَالْحَسَنُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَبِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَ أَيْضًا.

(وَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ الْقَبِيحُ مَا لَيْسَ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَكِلَا تَفْسِيرَيْ الْقَبِيحِ مُتَسَاوِيَانِ لَا يَتَنَاوَلَانِ إلَّا الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهَ فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلْحَسَنِ الْمُبَاحِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا (فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ) لِمَا ذَكَرْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عِنْدَهُ عَلَى

ــ

[التلويح]

لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَاحْتَرَزُوا بِالْقَادِرِ أَيْ الَّذِي إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ الْمُضْطَرِّ، وَبِالْعَالِمِ عَنْ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ مَا لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ قَدْ لَا يَكُونُ حَسَنًا بَلْ قَبِيحًا فَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَانْتَقَضَ التَّعْرِيفَانِ جَمْعًا وَمَنْعًا، وَالْحَسَنُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي أَعَمُّ لِتَنَاوُلِهِ الْمُبَاحَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْمَنْدُوبِ إذْ لَا مَدْحَ عَلَى الْمُبَاحِ، وَلَا ذَمَّ كَالتَّنَفُّسِ مَثَلًا فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لَا وَاسِطَةَ لِأَنَّ الْحُسْنَ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْقَبِيحَ يَشْمَلُ الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهُ كَمَا يَشْمَلُهُمَا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَالْقَبِيحُ بِكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ لَا يَشْمَلُ إلَّا الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهَ فَيَكُونُ التَّفْسِيرَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهَاهُنَا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفِعْلَ الْغَيْرَ الْمَقْدُورِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ مِمَّا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلُهُ فَيَكُونُ وَاسِطَةً بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْقَبِيحِ إذْ لَيْسَ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْعِلْمِ بِحَالِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَهُمْ يُمْدَحُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْقَبِيحِ بَلْ يَكُونُ وَاسِطَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُمْدَحُ تَارِكُهُ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ قَبِيحٌ بِالتَّفْسِيرَيْنِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ بِمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ فَالْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ دَاخِلٌ فِي الْحَسَنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ شَأْنِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فِي الْقَبِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْعَلَ

ص: 333

أَصْلَيْنِ أَوْرَدْت عَلَى مَذْهَبِهِ دَلِيلَيْنِ لِإِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ) أَيْ ضَعْفُ هَذَا الدَّلِيلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ اتِّصَافُهُ بِهِ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ كَقَوْلِنَا: هَذِهِ الْحَرَكَةُ سَرِيعَةٌ أَوْ بَطِيئَةٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا شَرْعِيَّيْنِ أَيْضًا نَحْوُ: هَذَا الْفِعْلُ حَسَنٌ شَرْعًا أَوْ قَبِيحٌ شَرْعًا، وَإِنْ عُنِيَ أَنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِعَرَضٍ آخَرَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ جَوْهَرٍ يَقُومُ بِهِ الْعَرَضَانِ فَالْقِيَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ يَقُومُ الْفِعْلُ الْحَسَنُ بِهِ، وَإِنْ عُنِيَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَإِنْ تَمَكَّنَ فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا، وَإِنْ تَوَقَّفَ يَجِبُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا، وَلِئَلَّا يَتَرَجَّحَ الْمَرْجُوحُ، وَلَا يَكُونُ الْمُرَجَّحُ بِاخْتِيَارِهِ لِئَلَّا يَتَسَلْسَلَ فَيَكُونُ اضْطِرَارِيًّا، وَالِاضْطِرَارِيُّ، وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِهِمَا اتِّفَاقًا) تَقْرِيرُهُ أَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ

ــ

[التلويح]

مَا يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِهِ الْمَدْحَ لَمْ يَكُنْ كِلَا تَفْسِيرَيْ الْقَبِيحِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ الثَّانِي أَعَمُّ لِشُمُولِهِ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ.

(قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ إنَّمَا يَثْبُتَانِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَنَهْيِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَذَكَرَ الْأَدِلَّةَ لِإِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَنَقْلِيَّةٌ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا تَتَعَرَّضُ لِنَفْيِ كَوْنِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ نَعَمْ هَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ إذْ لَوْ كَانَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِمَا كَانَ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلَانِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ قَدْ اعْتَرَفُوا بِضَعْفِهِمَا، وَعَدَمِ تَمَامِهِمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَسَنَ مَفْهُومٌ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِ الْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِهِ إذْ قَدْ يُعْقَلُ الْفِعْلُ، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ حُسْنُهُ، ثُمَّ هُوَ وُجُودِيٌّ؛ لِأَنَّ نَقِيضَةَ لَا حُسْنٌ، وَهُوَ عَدَمِيٌّ، وَإِلَّا لَمَا صَدَقَ عَلَى الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُسْنٍ ضَرُورَةً أَوْ الْوُجُودِيُّ يَقْتَضِي مَحَلًّا مَوْجُودًا فَهُوَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْمَحَلِّ وُجُودِيٌّ فَيَكُونُ عَرَضًا ثُمَّ هُوَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ فَيَكُونُ قَائِمًا بِهِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يُوصَفَ الشَّيْءُ بِمَعْنًى هُوَ قَائِمٌ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَحَلِّ الْفِعْلِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ قِيَامُهُمَا مَعًا بِالْجَوْهَرِ إذْ هُمَا مَعًا حَيْثُ الْجَوْهَرُ تَبَعًا لَهُ.

وَحَقِيقَةُ قِيَامِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ هُوَ كَوْنُهُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ، وَأَيْضًا مَعْنَى قِيَامِهِ بِهِ أَنَّهُ حَيْثُ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَحَيْثُ ذَلِكَ الْعَرَضِ هُوَ حَيْثُ ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَرَضِ فَهُمَا مَعًا حَيْثُ ذَلِكَ

ص: 334

اضْطِرَارِيٌّ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ إذْ لَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ أَمْ لَا فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ إلَى الِاضْطِرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ إنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا يَكُونُ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا أَيْ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ

ــ

[التلويح]

الْجَوْهَرُ، وَقَائِمَانِ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَايَتُهُ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْجَوْهَرِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ الْآخَرِ بِهِ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ اخْتِصَاصُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا مَنْعُوتًا، وَيُسَمَّى مَحَلًّا، وَالْآخَرُ نَاعِتًا، وَيُسَمَّى حَالًا فَمَا ذَكَرْتُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ وَاقِعٌ كَاتِّصَافِ الْحَرَكَةِ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ فَالْقِيَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَلْزَمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلْفِعْلِ ثَابِتًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ بَلْ تَابِعًا لِلْجَوْهَرِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ: الثَّانِي أَنَّ الصِّدْقَ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَقْتَضِي الْعَدَمِيَّةَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومٌ كُلِّيٌّ يَصْدُقُ عَلَى مَوْجُودٍ فَتَكُونُ حِصَّةٌ مِنْهُ مَوْجُودَةً، وَعَلَى مَعْدُومٍ فَتَكُونَ حِصَّةٌ مِنْهُ مَعْدُومَةً كَاللَّامُمْتَنِعِ الصَّادِقِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ.

وَبِالْجُمْلَةِ عَدَمِيَّةُ صُورَةِ النَّفْيِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ وُجُودِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّامَعْدُومَ وُجُودِيٌّ فَلَوْ أَثْبَتَ وُجُودِيَّةَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ بِعَدَمِيَّةِ صُورَةِ النَّفْيِ لَزِمَ الدَّوْرُ الثَّالِثُ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِاتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْإِمْكَانِ الْوُجُودِيِّ بِعَيْنِ مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمْكَانُ ذَاتِيًّا لَهُ.

الرَّابِعُ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ أَيْضًا عَرَضٌ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُ مِنْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِهِ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ قِيلَ: هُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ، وَمِثْلُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْحَسَنِ الْعَقْلِيِّ وُجُودِيًّا، قُلْنَا: الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى إثْبَاتِ وُجُودِيَّةِ الْحُسْنِ الْعَقْلِيِّ جَازَ هَاهُنَا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَازِمَ الصُّدُورِ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّرْكُ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى مُرَجِّحٍ فَمَعَ الْمُرَجِّحِ يَعُودُ التَّقَسُّمُ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ لَازِمًا فَاضْطِرَارِيٌّ، وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى مُرَجِّحٍ بَلْ يَصْدُرُ عَنْهُ تَارَةً، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ أُخْرَى مَعَ تَسَاوِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَحَدُّدِ أَمْرٍ مِنْ الْفَاعِلِ فَهُوَ اتِّفَاقِيٌّ، وَالِاتِّفَاقِيُّ، وَالِاضْطِرَارِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ عَقْلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا جِهَةَ لِلتَّخْصِيصِ بِفِعْلِ الْقَبِيحِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ عَلَى تَقْدِيرِ

ص: 335

الْفِعْلِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْفِعْلُ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصُدُورُ الْفِعْلِ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَارَةً، وَعَدَمُ صُدُورِهِ أُخْرَى يَكُونُ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ عَدَمُهُ لَكِنْ عَدَمُهُ يُوجِبُ رُجْحَانَ الْمَرْجُوحِ، وَهُوَ أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَلَّا نَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّسَلْسُلِ أَوْ الِاضْطِرَارِ، وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَالِاضْطِرَارِيُّ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدُوا هَذَا الدَّلِيلَ يَقِينِيًّا، وَالْبَعْضُ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا لَمْ يُورِدُوا عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ مَنْعًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ شَيْءٌ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كُلِّ الْفَرِيقَيْنِ مَوَاقِعُ الْغَلَطِ فِيهِ، وَأَنَا أُسْمِعُكَ مَا سَنَحَ لِخَاطِرِي، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ (الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْفِعْلَ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الْمَصْدَرُ بِإِزَائِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى

ــ

[التلويح]

عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ اضْطِرَارِيًّا إذْ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِيَارِيِّ إلَّا مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا، وَرُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ إنْ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ التَّوَقُّفِ عَلَى مُرَجِّحٍ مِنْ عِنْدِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عِبَارَةِ الْبَعْضِ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الرُّجْحَانِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَإِنَّ نَفْيَ الْخَاصِّ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْعَامِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ التَّوَقُّفِ عَلَى مُرَجِّحٍ أَصْلًا يَصِحُّ كَوْنُهُ اتِّفَاقِيًّا إذْ لَا بُدَّ لِلِاتِّفَاقِيِّ مِنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَعْنِي جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَقَعُ بِدُونِ عِلَّتِهِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيًّا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ نَفْسُ اخْتِيَارِهِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّا نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَنْتَهِي إلَى مُرَجِّحٍ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ صِفَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ لَا أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّسَلْسُلُ بِانْقِطَاعِ الِاعْتِبَارِ أَوْ يَكُونَ اخْتِيَارُ الِاخْتِيَارِ عَيْنَ اخْتِيَارٍ.

وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ إنَّا نَجِدُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، وَالِاخْتِيَارِيَّة كَالسُّقُوطِ، وَالصُّعُودِ، وَحَرَكَتَيْ الْأَخْذِ، وَالرَّعْشَةِ فَيَكُونُ مَا ذَكَرْتُمْ اسْتِدْلَالًا فِي مُقَابَلَةِ الضَّرُورَةِ فَلَا يُسْمَعُ، وَيَكُونُ بَاطِلًا، الثَّانِي أَنَّهُ يَجْرِي فِي فِعْلِ الْبَارِي تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا وَهُوَ بَاطِلٌ، الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَوْ لَا يُوصَفُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ شَرْعًا؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِغَيْرِ الْمُخْتَارِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.

الرَّابِعُ أَنَّا نَخْتَارُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، وَسَوَاءً قُلْنَا يَجِبُ بِهِ الْفِعْلُ أَوْ لَا يَجِبُ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا إذْ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِيَارِيِّ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ بِالِاخْتِيَارِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقُدْرَةِ، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَالْمُرَجِّحُ

ص: 336

الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ إذَا تَحَرَّكَ زَيْدٌ فَقَدْ قَامَتْ الْحَرَكَةُ بِزَيْدٍ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحَرَكَةِ الْحَالَةُ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَهِيَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا إيقَاعُ تِلْكَ الْحَالَةِ فَهِيَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَمْرٌ يَعْتَبِرُهُ الْعَقْلُ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ لَهُ مَوْقِعٌ، ثُمَّ إيقَاعُ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ يَكُونُ وَاقِعًا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي طَرَفِ الْمَبْدَأِ فِي الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ الْفَاعِلُ شَيْئًا وَاحِدًا فَقَدْ أَوْجَدَ أُمُورًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا بَدِيهِيُّ الِاسْتِحَالَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِيقَاعِ أَمْرًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ أَظْهَرُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ التَّكْوِينَ عِنْدَهُ أَمْرٌ غَيْرُ

ــ

[التلويح]

هُوَ الْإِرَادَةُ الَّتِي يَجِبُ الْفِعْلُ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ ضَرُورَةً هُوَ وُجُودُ الْقُدْرَةِ لَا تَأْثِيرُهَا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَجِّحَ فَاعِلِيَّتِهِ قَدْ تَمَّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ مُتَجَدِّدٍ إذْ عِلَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمُرَجِّحِ عِنْدَنَا الْحُدُوثُ دُونَ الْإِمْكَانِ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِيَارِ، وَمَقْدُورِيَّةِ الْفِعْلِ كَافٍ فِي الشَّرْعِ، وَعِنْدَكُمْ لَوْلَا اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ، وَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِيهِ لَقَبُحَ التَّكْلِيفُ عَقْلًا وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا يَجِبُ الْفِعْلُ عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِهِ فَقَبُحَ التَّكْلِيفُ عِنْدَكُمْ كَمَا إذَا كَانَ مُوجِدَ الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُمْ لَمْ يُورِدُوا عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ مَنْعًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ خَفِيَ مَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا، وَاَلَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ الْمَنْعَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّهُ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْإِيقَاعِ كَمَا لِلْمُتَحَرِّكِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ نَفْسُ الْإِيقَاعِ، وَبَنَى تَحْقِيقَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ.

(قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى) إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَصَادِرِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ لِلْفَاعِلِ مَعْنًى ثَابِتٌ قَائِمٌ بِهِ كَمَا إذَا قَامَ فَحَصَلَ هَيْئَةٌ هِيَ الْقِيَامُ أَوْ تَسَخَّنَ فَحَصَلَ لَهُ صِفَةٌ هِيَ الْحَرَارَةُ أَوْ تَحَرَّكَ فَحَصَلَ لَهُ حَالَةٌ هِيَ الْحَرَكَةُ فَلَفْظُ الْفِعْلِ، وَكَثِيرٌ مِنْ صِيَغِ الْمَصَادِرِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ إيقَاعِ الْفَاعِلِ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ، وَيُسَمَّى تَأْثِيرًا كَإِحْدَاثِ الْحَرَكَةِ، وَإِيجَادِهَا فِي ذَاتِ الْمُوقِعِ، وَالْمُحْدِثِ فَإِنَّهُ تَحَرَّكَ لَا كَإِيقَاعِ الْحَرَكَةِ فِي جِسْمٍ آخَرَ حَتَّى يَكُونَ تَحْرِيكًا، وَكَإِيقَاعِ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ فِي ذَاتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْفِ الْحَاصِلِ لِلْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْإِيقَاعِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ وَصْفًا كَالْقِيَامِ أَوْ كَيْفِيَّةً كَالْحَرَارَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُحَرِّكِ مَا دَامَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْمَبْدَأِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْأَوَّلُ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْجُزْءُ مِنْ

ص: 337

مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ.

(الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ) كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى مُوجِدٍ، وَأَلَّا يَكُونَ وَاجِبًا بِالذَّاتِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُوجَدْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، وَإِلَّا أَمْكَنَ وُجُودُهُ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ وَهَاهُنَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَقَعَ بِدُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لَمْ تَكُنْ هِيَ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَالْمَفْرُوضُ خِلَافُهُ، وَإِنْ وُجِدَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَهَا، وَإِلَّا أَمْكَنَ عَدَمُهُ فَفِي حَالِ الْعَدَمِ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ فَوُجُودُهُ مَعَ الْجُمْلَةِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى رُجْحَانٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِدَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُحَالٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْمَعْنَى قُلْت قَدْ لَزِمَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ

ــ

[التلويح]

مَفْهُومِ الْفِعْلِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ لَهُ مَوْقِعٌ فَيَكُونُ لَهُ إيقَاعٌ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، وَكُلُّ إيقَاعٍ مَعْلُولٌ لِإِيقَاعِهِ.

وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْإِيقَاعَاتِ أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي جَانِبِ الْمَبْدَأِ أَيْ الْعِلَّةِ فِي أُمُورٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا هُوَ الْمَفْرُوضُ لَا فِي أُمُورٍ اعْتِبَارِيَّةٍ حَتَّى يَنْقَطِعَ بِانْقِطَاعِ الِاعْتِبَارِ أَوْ يَكُونَ إيقَاعُ الْإِيقَاعِ بَيْنَ الْإِيقَاعِ كَمَا فِي لُزُومِ اللُّزُومِ، وَإِمْكَانِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي الْمَبْدَأِ؛ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ التَّسَلْسُلِ فِي جَانِبِ الْعِلَّةِ مِمَّا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَعْلُولِ فَإِنَّهُ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَبُرْهَانُ التَّطْبِيقِ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، الثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ عِنْدَ إيجَادِ الْفَاعِلِ شَيْئًا أَنْ يُوجَدَ أُمُورٌ مُتَحَقِّقَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ هِيَ الْإِيقَاعَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ، وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ قَاطِعَةٌ بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لَوْ كَانَ إيقَاعُ الْإِيقَاعِ أَيْضًا فِعْلُهُ أَمَّا لَوْ أَوْجَدَ شَيْئًا بِإِيقَاعِهِ، وَكَانَ إيقَاعُهُ بِإِيقَاعِ فَاعِلٍ آخَرَ كَالْبَارِي تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَإِذَا انْتَهَى إلَى إيقَاعٍ قَدِيمٍ كَالْوَصْفِ الَّذِي يُسَمَّى تَكْوِينًا لَمْ يَلْزَمْ التَّسَلْسُلُ أَيْضًا. الثَّالِثُ وَهُوَ جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ أَنَّ الْإِيقَاعَ مَعْنَاهُ التَّكْوِينُ، وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالْإِلْزَامُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ التَّكْوِينَ لَيْسَ صِفَةً حَقِيقَةً أَزَلِيَّةً مُغَايِرَةً لِلْقُدْرَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ التَّكْوِينِ الْحَادِثِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ بَلْ الْعُمْدَةُ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ هُوَ لُزُومُ التَّسَلْسُلِ فِي الْإِيقَاعَاتِ، وَيَمْتَنِعُ انْتِهَاؤُهُ إلَى إيقَاعٍ قَدِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِدَمَ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعًا بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَقَعُ بِهِ.

(قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ عِلَّةٍ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا فَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِهَا مُمْتَنِعٌ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ بِالْغَيْرِ مَا تَوَقَّفَ وُجُودُ الْمُمْكِنُ عَلَى عِلَّةٍ مُوجِدَةٍ فَضَرُورِيٌّ وَاضِحٌ

ص: 338

إنْ أَمْكَنَ عَدَمُهُ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِهِ مُحَالٌ لَكِنَّهُ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي زَمَانِ عَدَمِهِ لَمْ يُوجِدْهُ شَيْءٌ فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي وُجِدَ إنْ وُجِدَ بِإِيجَادِ شَيْءٍ آخَرَ إيَّاهُ يَكُونُ الْإِيجَادُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ

ــ

[التلويح]

مِنْ مُلَاحَظَةِ مَفْهُومِ الْمُمْكِنِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ وُجُودُهُ، وَلَا عَدَمُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ لِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ مَفْهُومِ الْإِمْكَانِ أَوْ مَعْنَى الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمُوجِدِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ قَدْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ بِصُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ فَلِهَذَا قَالَ، وَإِلَّا أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ عَلَى مُوجِدٍ لَكَانَ وَاجِبًا إذْ لَا نَعْنِي بِالْوَاجِبِ إلَّا مَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُوجِدٍ، وَأَمَّا كَوْنُ عِلَّةِ الْمُمْكِنِ بِحَيْثُ يَجِبُ عَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَيَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَشَرَائِطِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِجُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَحَاصِلُهُ مُقَدِّمَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَوْلُنَا: كُلَّمَا عَدِمَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ امْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا: كُلَّمَا وُجِدَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ وَجَبَ وُجُودُهُ أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصْدُقْ لَصَدَقَ قَوْلُنَا قَدْ يَكُونُ إذَا عَدِمَتْ الْجُمْلَةُ لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بَلْ أَمْكَنَ بِالْإِمْكَانِ الْعَامِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا الْمُلَازَمَةُ؛ فَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ اللَّازِمِ تُوجِبُ اسْتِحَالَةَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمَلْزُومِ، وَالْمُسْتَحِيلُ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا، وَأَمَّا بُطْلَانُ اللَّازِمِ فَلِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِدُونِ وُجُودِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَبَيَانُ الْمَلْزُومِ ظَاهِرٌ.

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصْدُقْ لَصَدَقَ قَوْلُنَا: قَدْ يَكُونُ إذَا وُجِدَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ لَمْ يَجِبْ وُجُودُهُ بَلْ أَمْكَنَ عَدَمُهُ بِالْإِمْكَانِ الْعَامِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُمْكِنِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَ مُمْكِنًا لِمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ.

لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ عَدَمِ الْمُمْكِنِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الْوُجُودُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَوْ لَا، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً لِبَقَاءِ شَيْءٍ آخَرَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِاسْتِلْزَامِهِ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ تُرَجِّحَ الْوُجُودَ أَوْ الْعَدَمَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَعَدَمَ كَوْنِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةً مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ فَعَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ مُحَالٌ فَوُجُودُهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ قِيلَ: إنْ أَرَدْتُمْ الرُّجْحَانَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وُجُودَ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِدَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَيْ

ص: 339

عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةً، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ غَيْرِ إيجَادِ شَيْءٍ آخَرَ إيَّاهُ لَزِمَ مَا سَلَّمْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ، وَلَوْلَاهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ جُمْلَةٍ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْحُكَمَاءِ

ــ

[التلويح]

مُغَايِرٌ لِذَاتِ الْمُمْكِنِ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُمْكِنِ مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عِلَّةٌ مُوجِدَةٌ غَايَتُهُ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَجِبُ مَعَهَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ تَحَقُّقِ الْمَعْلُولِ مَعَ عِلَّتِهِ الْمُوجِدَةِ تَارَةً، وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ مَعَهَا أُخْرَى فَلَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْإِيجَادَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ حَالَةَ الْعَدَمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فَفِي حَالَةِ الْوُجُودِ إنْ تَحَقَّقَ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةَ مَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهِ الْإِيجَادُ، وَقَدْ كَانَ مُنْتَفِيًا فِي حَالَةِ الْعَدَمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَزِمَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا إيجَادِ شَيْءٍ إيَّاهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - زِيَادَةً لَا حَاجَةَ إلَيْهَا إذْ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: قَدْ لَزِمَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي زَمَانِ عَدَمِهِ لَمْ يُوجِدْهُ شَيْءٌ إلَى الْآخَرِ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِكُمْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ أَوْ يَجِبُ وُجُودُهُ الِامْتِنَاعَ، وَالْوُجُوبَ بِحَسَبِ الذَّاتِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُمْكِنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِحَسَبِ الْغَيْرِ فَالْإِمْكَانُ لَا يُنَاقِضُهُمَا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِكُمْ، وَإِلَّا لَأَمْكَنَ وُجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ.

قُلْنَا الْمُرَادُ بِامْتِنَاعِ الْوُجُودِ اسْتِحَالَتُهُ بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَبِإِمْكَانِهِ عَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَكَذَا الْمُرَادُ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ اسْتِحَالَةُ الْعَدَمِ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَبِإِمْكَانِ الْعَدَمِ عَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي تَنَاقُضِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إنَّ الْمُمْكِنَةَ تُنَاقِضُ الضَّرُورِيَّةَ فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْلُولُ النَّوْعِيُّ قَدْ يَتَعَدَّدُ عِلَلُهُ كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنَّارِ لِلضَّوْءِ، وَمَعَ انْتِفَاءِ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ قُلْنَا إذَا اعْتَبَرْت الْمَعْلُولَ نَوْعِيًّا فَعِلَّتُهُ أَحَدُ الْأُمُورِ، وَانْتِفَاؤُهُ، إنَّمَا يَكُونُ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَادَ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ اعْتِبَارٌ عَقْلِيٌّ يَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ مِنْ اعْتِبَارِ إضَافَةِ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ فَهُوَ فِي الذِّهْنِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمَا، وَفِي الْخَارِجِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ أَصْلًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ عَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ كَانَ وُجُودُهُ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى تَخْصِيصًا بِلَا مُخَصِّصٍ، وَتَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَبُطْلَانَهُ ضَرُورِيٌّ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكْفِي فِي وُقُوعِ الْمُمْكِنِ أَوْلَوِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ عَدَمُهُ مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ إنَّمَا يُفِيدُ

ص: 340

لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجِدَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ مَحْفُوفٌ بِوَجْهَيْنِ سَابِقٍ، وَلَاحِقٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ السَّبْقُ الزَّمَانِيُّ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ

ــ

[التلويح]

أَوْلَوِيَّتَهُ لَا وُجُوبَهُ؟ قُلْنَا: إنْ أَمْكَنَ الْعَدَمُ مَعَ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ فَوُقُوعُهُ إنْ كَانَ لَا لِسَبَبٍ لَزِمَ رُجْحَانُ الْمَرْجُوحِ وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ عَدَمُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ.

(قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ) ، وَهِيَ احْتِيَاجُ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَى عِلَّةٍ يَجِبُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَعْنِي أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا أَوَّلِيَّةً مَشْهُورَةً لَمْ يُنَازِعْ فِيهَا إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْفِعْلُ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ وَاجِبٌ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ، بِإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادَ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُخْتَارٌ، وَالْمَعْلُولُ حَادِثٌ، وَاعْتِرَاضُ الْحُكَمَاءِ عَلَيْهِ بِأَنَّ اخْتِيَارَهُ إنْ كَانَ قَدِيمًا يَلْزَمُ قِدَمُ الْمَعْلُولِ لِامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَوْ قِدَمُ الْمَعْلُولِ (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مُمْكِنٍ مَحْفُوفٌ بِوُجُوبَيْنِ سَابِقٍ، وَهُوَ وُجُوبُ صُدُورِهِ عَنْ الْعِلَّةِ، وَلَاحِقٍ، وَهُوَ وُجُوبُ وُجُودِهِ مَا دَامَ مَوْجُودًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ لِمَا مَرَّ، وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ امْتَنَعَ الْعَدَمُ مَا دَامَ الْوُجُودُ مُتَحَقِّقًا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِسَبَقِ الْوُجُوبِ عَلَى الْوُجُودِ السَّبَقُ الزَّمَانِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِ تَحَقُّقِ الْمُتَأَخِّرِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ فِي زَمَانِ عَدَمِ الْمُمْكِنِ، وَهُوَ مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ السَّبْقُ الِاحْتِيَاجِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُ كَسَبْقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَنْ الْعِلَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الِاحْتِيَاجُ فِي الْعَقْلِ فَظَاهِرٌ أَنَّ تَعَقُّلَ وُجُودِ الْمُمْكِنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَقُّلِ وُجُوبِهِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَإِنْ أُرِيدَ فِي الْخَارِجِ، وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْعِلَّةِ التَّامَّةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ إذْ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ مَعَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ أَمْ لَا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوُجُودُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَكَانَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَيَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ بِجَمِيعِ

ص: 341

يَلْزَمُ وُجُوبُ وُجُودِ الشَّيْءِ حَالَ عَدَمِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ سَبْقُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَكَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ لَا يَجِبُ، وَمَعَ التَّامَّةِ لَا يَكُونُ الْوُجُوبُ مِنْهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْوُجُوبَ مَعْلُولُهَا فَالْوُجُوبُ لَيْسَ إلَّا مُقَارِنًا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ الْوُجُودُ إلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَثَرُ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ ثُمَّ الْعَقْلُ قَدْ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ مُؤَخَّرًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ فِي التَّعَقُّلِ، وَمُقَدَّمًا مِنْ حَيْثُ إنَّ

ــ

[التلويح]

أَجْزَائِهَا، وَشَرَائِطهَا وَجَبَ الْمَعْلُولُ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ أَثَرًا لِلْعِلَّةِ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، وَكَوْنُهُ جُزْءًا مِنْهَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَهُ عَلَيْهَا هَذَا مُحَالٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَ الْوُجُوبِ أَثَرًا لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ يُنَافِي سَبْقَهُ عَلَى الْوُجُودِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْوُجُودِ إلَيْهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الشَّيْءِ أَثَرَ الشَّيْءِ، وَجُزْءًا مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَوَّلُ فَيَنْتَفِي الثَّانِي، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ السَّبْقُ لِاحْتِيَاجٍ إلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِمَا مَرَّ فَالْوُجُوبُ أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ لَكِنَّهُمْ حِينَ قَالُوا يَجِبُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ أَرَادُوا بِهَا جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُمْكِنُ سِوَى الْوَاجِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اعْتِبَارٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْوُجُودِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ هُوَ فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ مَا سِوَى الْوُجُوبِ عِلَّةٌ نَاقِصَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَنَقُولُ: إنْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ لَا يَجِبُ الْوُجُودُ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ فَهُوَ لَا يَضُرُّنَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْعِلَلِ النَّاقِصَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِنْ الْعِلَلِ النَّاقِصَةِ مَا إذَا تَحَقَّقَتْ تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ، وَهِيَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ سِوَى الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ أَثَرٌ لَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا بِالذَّاتِ، وَسَابِقٌ عَلَى الْوُجُوبِ بِالذَّاتِ بِمَعْنَى الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ) أَوْ التَّامَّةِ أَرَادَ الْمَعِيَّةَ الزَّمَانِيَّةَ، وَإِلَّا فَالْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ بِالذَّاتِ لَا مَحَالَةَ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْعَقْلُ) كَأَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْشَأِ الْغَلَطِ فِي سَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا مَعًا مَعْلُولَا عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فَلَا يُمْكِنُ تَحَقُّقٌ بِأَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ النَّهَارِ، وَإِضَاءَةِ الْعَالَمِ الْمَعْلُولَيْنِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ فَلِلْعَقْلِ أَنْ يَعْتَبِرَهُمَا مَعًا نَظَرًا إلَى تَرَتُّبِهِمَا عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَنْ يَعْتَبِرَ أَحَدَهُمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْآخَرِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْآخَرَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ كَالْإِخْوَةِ مَثَلًا فَإِنَّ أُخُوَّةَ زَيْدٍ مُقَارِنَةٌ لِأُخُوَّةِ عَمْرٍو، وَمُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، وَمُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا لَكِنْ بِحَسَبِ اعْتِبَارَاتِ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ: لَهُ دَوْرُ الْمَعِيَّةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى احْتِيَاجِ الْوُجُودِ إلَى الْوُجُوبِ جَزَمَ بِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْوُجُودِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ مُقَارَنَتَهُمَا بِالذَّاتِ، وَتَأَخُّرَ الْوُجُوبِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْوُجُودِ وَقَدْ نَبَّهْنَاكَ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا لَا يَتَوَقَّفُ

ص: 342

الْآخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَيْضًا مُقَارِنًا مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ.

(الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ يَلْزَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَا مَعْدُومَةٌ كَالْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْحَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ زَيْدٍ الْحَادِثِ لَا يَكُونُ تَمَامُهَا قَدِيمًا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ إنْ أَوْجَبَهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَحُدُوثُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ تَمَامُ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ قَدِيمًا، وَإِنْ أَوْجَبَهُ لَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَحُدُوثُهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ رُجْحَانٌ مِنْ غَيْرِ

ــ

[التلويح]

عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، وَهُوَ نَفْسُ الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونَانِ مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ بَلْ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ مُقَارَنَتَهُمَا، وَلَا يُنَافِي تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْآخَرِ إلَيْهِ، وَأَيْضًا لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَ صُدُورُهُ فَوُجِدَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ فَوَجَبَ صُدُورُهُ إنَّ تَوَقُّفَ الْمَعِيَّةِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ كَمَا بَيْنَ وُجُودِ النَّهَارِ، وَإِضَاءَةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ، وَالْوُجُودَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُضَافَيْنِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ وَصْفُ الْمُقَارَنَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ.

(قَوْلُهُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ مَثَلًا، وَهَذَا قَوْلٌ بِالْحَالِ، وَانْقِسَامُ الْمَفْهُومِ إلَى الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ وَالْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَوْنٌ فَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَإِلَّا فَإِنْ اسْتَقَلَّ بِالْكَائِنِيَّةِ فَمَوْجُودٌ، وَإِلَّا فَحَالٌ، وَهِيَ صِفَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ قَائِمَةٌ بِمَوْجُودٍ، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ الْحَارِثِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحُدُوثِ إنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ قَبْلَ الْوَقْتِ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهَا كَانَ حُدُوثُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ إيجَادِ شَيْءٍ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ إيجَادٌ، وَبَعْدَهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ فَلَزِمَ الْوُجُودُ بِلَا إيجَادٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الْإِرَادَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا تَرْجِيحُ مَا شَاءَ مَتَى شَاءَ؟ وَالْأَخْصَرُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ وُجُوبِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، لَكَانَتْ إمَّا مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ، وَالْأَقْسَامُ بَاطِلَةٌ بِأَسْرِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ فِي طَرَفِ الْمَبْدَأِ فَحِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ تِلْكَ

ص: 343

مُرَجِّحٍ فَيَكُونُ بَعْضُهَا حَادِثَةً فَحِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ فَهِيَ، إمَّا مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ إمَّا قِدَمُ الْحَادِثِ أَوْ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ لَا تَصْلُحُ عِلَّةَ الْمَوْجُودِ، وَأَيْضًا وُجُودُ زَيْدٍ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَجْزَائِهِ الْمَوْجُودَةِ، وَإِمَّا الْمَوْجُودَاتُ مَعَ مَعْدُومَاتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا زَيْدٌ يُوجَدُ زَيْدٌ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو مَثَلًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِهِ الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ

ــ

[التلويح]

الْمَوْجُودَاتِ مَعْدُومًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ بِالزَّمَانِ ضَرُورَةَ دَوَامِ الْمَعْلُولِ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ.

وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا مَعْدُومًا فَعَدَمُهُ يَكُونُ بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْدِيرِهِ: إنَّ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ إنْ انْتَهَتْ إلَى الْوَاجِبِ كَانَتْ قَدِيمَةً، وَلَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ إلَيْهِ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ، وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ، وَإِنَّ عَدَمَ انْتِهَاءِ الْمُمْكِنَاتِ إلَى الْوَاجِبِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءً. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَعْدُومَ الْمَحْضَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ، وَهَذَا بَدِيهِيٌّ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْمُرَكَّبِ، وَوُجُودُ الْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ أَجْزَائِهِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَكُونُ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَادِثِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَاتٍ مَعَ مَعْدُومَاتٍ لَمَّا كَانَ وُجُودُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ الْحَادِثِ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْمَعْدُومَاتِ أَيْضًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْوُجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ لَوُجِدَ زَيْدٌ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ مَا إذْ لَوْ تَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ، وَلْنَفْرِضْهُ عَدَمَ عَمْرٍو فَأَمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى عَدَمِهِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى عَدَمِهِ اللَّاحِقِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ عَدَمَهُ السَّابِقَ قَدِيمٌ أَيْ أَزَلِيٌّ فَيَلْزَمُ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْعَدَمَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ قَدِيمٌ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ قِدَمُ مَجْمُوعِ الْعِلَّةِ حَتَّى يَلْزَمَ قِدَمُ الْمَعْلُولِ قُلْنَا: مِنْ جِهَةِ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِلَى عَدَمٍ قَدِيمٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ قَدِيمَةٌ فَإِنْ كَانَ الْعَدَمُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ أَيْضًا قَدِيمًا كَانَتْ الْعِلَّةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا قَدِيمَةً فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حُدُوثِ بَعْضِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ لَزِمَ قِدَمُهُ بِالضَّرُورَةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَرَكُّبِ الْعِلَّةِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ الَّتِي عَدَمُهَا أَزَلِيٌّ ضَرُورَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى

ص: 344

الْعَدَمَ الَّذِي قَبْلَ الْوُجُودِ قَدِيمٌ فَيَلْزَمُ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ، ثُمَّ عَدَمُ عَمْرٍو الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِوُجُودِ عَمْرٍو أَوْ بَقَائِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَيَصِيرُ مَعْدُومًا وَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْدُومًا إلَّا بِعَدَمِ جُزْءٍ مِنْ عِلَّةِ وُجُودِهِ أَوْ بَقَائِهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ عَمْرٍو حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ زَيْدٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو، وَكَلَامُنَا فِي زَيْدٍ الْمَوْجُودِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَزَوَالُ ذَلِكَ الْعَدَمِ هُوَ الْوُجُودُ.

وَنَفْرِضُهُ وُجُودَ بَكْرٍ فَعَدَمُ عَمْرٍو يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ وُجُودَ زَيْدٍ مُتَوَقِّفًا عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو فَيَلْزَمُ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا زَيْدٌ هَذَا خُلْفٌ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا عُدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ، ثُمَّ هَكَذَا الْوَاجِبُ فَيَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ افْتِقَارِ وُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ عِنْدَهُ دُخُولُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا

ــ

[التلويح]

الْقَدِيمِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو اللَّاحِقِ أَعْنِي عَدَمَهُ الْحَادِثَ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ فَلِأَنَّ عَدَمَ عَمْرٍو بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ شَيْءٍ لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ عَمْرٍو أَوْ بَقَاؤُهُ إذْ لَوْ وُجِدَ عِلَّةُ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا امْتَنَعَ عَدَمُ الْمَعْلُولِ لِمَا مَرَّ مِنْ وُجُوبِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَحْدُثُ عَدَمُ عَمْرٍو بِزَوَالِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَيَزُولَ بِأَنْ يَصِيرَ مَعْدُومًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا بَلْ مَعْدُومًا مَحْضًا أَوْ مُرَكَّبًا مِنْ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ، وَلَا يَكُونُ زَوَالًا بِزَوَالِ الْمَوْجُودِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ بَلْ بِزَوَالِ الْمَعْدُومِ أَوْ بِزَوَالِ كِلَا الْجُزْأَيْنِ أَعْنِي الْمَوْجُودَ، وَالْمَعْدُومَ، وَزَوَالُ الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِزَوَالِ عَدَمِهِ فَلِذَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الشِّقِّ بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَكَأَنَّهُ قَالَ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي يَنْعَدِمُ عَمْرٌو بِزَوَالِهِ أَوْ يَكُونُ.

وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ انْعِدَامَ ذَلِكَ الْجُزْءِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ جُزْءٍ مِنْ عِلَّةِ وُجُودِهِ أَوْ بَقَائِهِ وَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ بِأَنَّهُ إمَّا مَعْدُومٌ صَارَ مَوْجُودًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَإِمَّا مَوْجُودٌ صَارَ مَعْدُومًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْعِدَامِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ مُحَالٌ فَيَلْزَمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ زَيْدٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمُحَالِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْمَوْجُودِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ فَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَدَمِ وُجُودٌ، وَلْنَفْرِضْهُ وُجُودَ بَكْرٍ فَيَكُونُ وُجُودُ زَيْدٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَجْمُوعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو الْمَوْقُوفِ عَلَى زَوَالِ جُزْءِ عِلَّتِهِ الْمَوْقُوفُ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ هَذَا خُلْفٌ

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التلويح]

لِأَنَّ مَا فَرَضْنَاهُ مَجْمُوعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ لَا يَكُونُ مَجْمُوعًا ضَرُورَةً وَبَقَاءُ بَكْرٍ الْمَوْجُودِ لَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ بَكْرٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ وُجُودُ بَكْرٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي فَرَضْنَاهَا مُتَحَقِّقَةً لَكَانَ زَوَالُ عَدَمِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مُتَحَقِّقًا؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ بَكْرٍ فَيَكُونُ زَوَالُ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي فَرَضْنَاهُ مَعْدُومًا مُتَحَقِّقًا ضَرُورَةَ زَوَالِ الْمَعْدُومِ بِزَوَالِ عَدَمِهِ فَيَلْزَمُ تَحَقُّقُ عَدَمِ عَمْرٍو، وَضَرُورَةَ انْتِفَاءِ جُزْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَيَلْزَمُ تَحَقُّقُ وُجُودِ زَيْدٍ ضَرُورَةَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا الْمَوْجُودَةِ، وَالْمَعْدُومَةِ هَذَا خُلْفٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ تَحَقُّقُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ زَيْدٌ الْحَادِثُ بِنَاءً عَلَى تَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ فَرَضْنَاهُ عَمْرًا، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ تَوَقُّفِ وُجُودِ الْحَادِثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ مَا ثَبَتَ قَوْلُنَا كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي ادَّعَيْنَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَتَنْعَكِسُ بِعَكْسِ النَّقِيضِ إلَى قَوْلِنَا كُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ زَيْدٌ لَمْ يُوجَدْ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي يَفْتَقِرُ وُجُودُهُ إلَيْهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كُلَّمَا عَدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُهُ ثُمَّ نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ وَاسِطَةٌ فَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَدَمِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَّةِ وُجُودِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ.

وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُوجِبُ إلَّا لُزُومَ وُجُودِ الْحَادِثِ عِنْدَ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ عَدَمَ تَرْكِيبِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ لِجَوَازِ أَنْ تَتَرَكَّبَ مِنْهُمَا، وَيَكُونَ وُجُودُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَيْهَا مُسْتَلْزِمًا لِلْعَدَمِ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْعِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِعَدَمِ الْمَانِعِ دَخْلًا فِي عِلَّةِ الْحَادِثِ فَإِنْ قُلْت: الشَّرْطِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تُوجِبُ لُزُومَ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى جَمِيعِ أَوْضَاعِ الْمُقَدَّمِ، وَتَقَادِيرُهُ فَيَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ الْإِعْدَامِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْعِلَّةِ قُلْت: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْإِعْدَامِ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّمُ أَعْنِي وُجُودَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَات الْمُفْتَقِرَةِ إلَيْهَا مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْإِعْدَامِ، وَيَمْتَنِعُ عَدَمُ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا عَدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ إلَى آخِرِهِ مِمَّا لَا دَخَلَ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التلويح]

بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودَاتٍ مَعَ مَعْدُومَاتٍ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِقَوْلِنَا كُلَّمَا عُدِمَ زَيْدٌ عَدِمَ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْمُفْتَقِرِ هُوَ إلَيْهَا الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ انْتِفَاءَ الْوَاجِبِ إذْ عَدَمُ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ شَيْءٍ مِمَّا يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَكَذَا إلَى الْوَاجِبِ فَيَكُونُ عَدَمُ زَيْدٍ مُحَالًا مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْحَادِثِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ، وَاسْتِحَالَةِ الْعَدَمِ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ.

وَإِنْ لَمْ تُنَافِ الْإِمْكَانَ بِالذَّاتِ لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا تُنَافِي الْحُدُوثَ الزَّمَانِيَّ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ وُجُودُ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ عِلَّةُ الْحَادِثِ مَوْجُودًا مَحْضًا، وَلَا مَوْجُودًا مَعَ مَعْدُومٍ فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ يُوجِدُ الْحَادِثَ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ؟ قُلْت: لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَوَجْدَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ الْحَادِثَ وَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا مِمَّا يُسَمَّى إرَادَةً أَوْ اخْتِيَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْحَادِثُ فَيَلْزَمُ التَّخَلُّفُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ فَيُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بِأَنَّ عَدَمَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا، وَهَكَذَا إلَى الْوَاجِبِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعِلَّةِ، وَالْمَعْلُولِ لِئَلَّا يَكُونَ صُدُورُهُ رُجْحَانًا بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلِيَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ الْمَعْلُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوجِبَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً بِالْمُوجِبِ مِنْ الْمُخْتَارِ فَلَا يُفِيضُ مِنْ الْمُوجِبِ إلَّا الْمُوجِبُ، وَضَعْفُ هَذَا الْكَلَامِ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ وُجُودِ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ الْحَرَكَاتُ الْفَلَكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ، وَعَدَمُ كُلِّ سَابِقٍ مِنْهَا مُعَدٌّ لِوُجُودِ اللَّاحِقِ، وَالْكُلُّ مُسْتَنِدٌ إلَى الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ، وَالْحَرَكَةُ أَمْرٌ غَيْرُ قَادِرِ الذَّاتِ فَيَرْتَفِعُ لِامْتِنَاعِ بَقَائِهَا لَا لِارْتِفَاعِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَفْتَقِرُ هِيَ إلَيْهَا حَتَّى يَلْزَمَ ارْتِفَاعُ الْوَاجِبِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ لِبُرْهَانٍ عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَلِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ أُجُورٍ لَا مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْحَرَكَةُ إلَّا بِأَنْ يُوجَدَ أَيْنٌ أَيْ كَوْنُهُ فِي مَكَان أَوْ وَضْعٍ فَيَنْعَدِمُ، وَيَحْدُثُ أَيْنٌ أَوْ وَضْعٌ آخَرُ فَالْأَيْنُ أَوْ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ مُمْكِنُ الْبَقَاءِ فَلَوْ اسْتَنَدَ إلَى الْوَاجِبِ وُجُوبًا يَجِبُ بَقَاؤُهُ فَلَا يَحْدُثُ حَرَكَةٌ أَصْلًا فَالْمَاهِيَّةُ الْغَيْرُ الْقَارَّةِ لَا تَكُونُ أَثَرًا لِلْمُوجِبِ، وَالذَّاتُ الَّتِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهَا كَيْفَ تُوجِبُ أَثَرًا يَجِبُ زَوَالُهُ،.

فَإِنْ قِيلَ: الذَّاتُ تَكُونُ عِلَّةً لِمُطْلَقِ الْحَرَكَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ سَرْمَدِيٌّ، وَإِنْ كَانَ أَفْرَادُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ زَوَالُهَا قُلْت مَاهِيَّةُ الْحَرَكَةِ لَيْسَتْ مَاهِيَّةً مُحَقَّقَةً، وَإِلَّا لَمْ

ص: 347

مَعْدُومٍ فِي جُمْلَةِ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ فَإِنْ قِيلَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمَعْدُومِ نَقِيضُ الْمَوْجُودِ فَالْأَمْرُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ حَالًا دَاخِلٌ فِي أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ضَرُورَةً. قُلْت: هَذَا التَّأْوِيلُ صَحِيحٌ إلَّا فِي قَوْلِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ الِانْحِصَارَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ

ــ

[التلويح]

تَكُنْ طَبِيعَةُ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةً لِطَبِيعَةِ الْأَفْرَادِ بَلْ هِيَ مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ رَكَّبَهَا الْعَقْلُ مِنْ حُدُوثِ كَوْنٍ، ثُمَّ عَدَمُهُ، وَحُدُوثُ كَوْنٍ آخَرَ، فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ بَاقِيًا بِتَجَدُّدِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْأَفْرَادَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي طَبِيعَةِ الْأَفْرَادِ امْتِنَاعُ الْبَقَاءِ، وَفِي طَبِيعَةِ الْمُطْلَقِ إمْكَانُ الْبَقَاءِ بَلْ طَبِيعَةُ الْأَفْرَادِ، وَالْمُطْلَقِ تَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمْكَانِ، وَالِامْتِنَاعِ، وَهَاهُنَا طَبِيعَةُ كُلِّ فَرْدٍ تَقْتَضِي عَدَمَ الْبَقَاءِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُطْلَقِ طَبِيعَةٌ نَوْعِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ تَحْتَهَا أَفْرَادٌ، فَلَا يَكُونُ الْمُطْلَقُ مَعْلُولَ الْمُوجِبِ، وَلَا أَفْرَادُهُ أَيْضًا لِامْتِنَاعِ بَقَائِهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَهُوَ لَا يَدْفَعُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ اسْتِنَادِ الْحَرَكَاتِ إلَى إرَادَاتٍ حَادِثَةٍ مِنْ النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ لَا إلَى بِدَايَةٍ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ مَوْضِعُهُ عُلُومٌ أُخَرُ.

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ بِأَنَّ الْإِيجَادَ لَيْسَ اعْتِبَارًا عَقْلِيًّا لِلْقَطْعِ بِتَحَقُّقِهِ سَوَاءٌ وُجِدَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَا أَمْرًا مُحَقَّقًا مَوْجُودًا، وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إلَى إيجَادٍ آخَرَ، وَلُزُومِ التَّسَلْسُلِ مِنْ جَانِبِ الْمَبْدَأِ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ إيجَادِ الْإِيجَادِ عَيْنُهُ ضَرُورَةَ تَغَايُرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَلِجَوَابِ أَنَّ الْمَعْلُومَ قَطْعًا هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ أَوْجَدَ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِيجَادِ أَمْرًا اعْتِبَارِيًّا غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ فِي الْخَارِجِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ مَبْدَأِ الْمَحْمُولِ انْتِفَاءُ الْحَمْلِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: زَيْدٌ أَعْمًى فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ وُجِدَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَعَ أَنَّ الْعَمَى أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَإِذَا قَتَلَ زَيْدٌ عُمْرًا صَدَقَ أَنَّهُ أَوْجَدَ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَصْدُقْ أَنَّ الْإِيجَادَ مَعْدُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ الْقَتْلُ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي صِدْقَ قَوْلِنَا الْإِيجَادُ مَعْدُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مُتَحَقِّقًا مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْدِيرُ السُّؤَالِ عَلَى مَا سَبَقَ إلَيْهِ الْأَذْهَانُ إنَّمَا نَعْنِي بِالْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْوَاسِطَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ فَهُوَ إمَّا ثَابِتٌ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ أَوَّلًا، وَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَالْأَمْرُ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ حَالًا، وَجَعَلْتُمُوهُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ إنْ كَانَ لَهُ ثُبُوتٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْجُودِ، وَإِلَّا فَفِي الْمَعْدُومِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِاسْتِلْزَامِهِ وُرُودَ الْمَنْعِ عَلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِنَا عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مِنْ مَوْجُودَاتٍ، وَمَعْدُومَاتٍ، وَهَلْ سَمِعْت عَاقِلًا يُجِيبُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَصْمِ بِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ الدَّلِيلِ الَّذِي أَنَا أَوْرَدْته عَلَى نَقِيضِ

ص: 348

لِعَمْرٍو أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ كَالْإِضَافِيَّاتِ فَإِنْ فُسِّرَ الْمَوْجُودُ بِمَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِضَافِيَّاتُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى الْوَاجِبِ، وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا لَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِضَافِيَّاتُ فِي الْمَوْجُودِ بَلْ فِي الْمَعْدُومِ لَا نُسَلِّمُ حِينَئِذٍ أَنَّ زَوَالَ كُلِّ مَعْدُومٍ لَا يَكُونُ إلَّا بِوُجُودِ شَيْءٍ فَإِنَّ الْإِضَافِيَّاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَعْدُومَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَزَوَالُهَا لَا يَكُونُ بِوُجُودِ شَيْءٍ فَثَبَتَ تَوَقُّفُ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَى أُمُورٍ لَا مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ تِلْكَ الْأُمُورِ إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ

ــ

[التلويح]

مَطْلُوبِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَهُ أَدْنَى تَمَيُّزٍ فَكَيْفَ يُنْسَبُ هَذَا إلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ عَلَمُ التَّحْقِيقِ، وَعَالِمُ التَّدْقِيقِ، وَمَنْشَأُ التَّوْجِيهِ، وَالتَّوْضِيحِ، وَمَنْشَأُ التَّعْدِيلِ، وَالتَّنْقِيحِ بَلْ تَوْجِيهُ السُّؤَالِ: إنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْدُومِ نَقِيضُ الْمَوْجُودِ أَيْ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فَتِلْكَ الْأُمُورُ إمَّا ثَابِتَةٌ فَتَكُونُ مَوْجُودَةً أَوْ لَا فَتَكُونُ مَعْدُومَةً فَالْمُرَكَّبُ مِنْهَا، وَمِنْ غَيْرِهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةً أَوْ مَعْدُومَاتٍ مَحْضَةً أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ فَأَجَابَ بِأَنَّ دَلِيلَنَا لَا يَجْرِي فِيمَا ذَكَرْتُمْ لِوُرُودِ الْمَنْعِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ الَّذِي يَنْعَدِمُ عَمْرٌو بِزَوَالِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِلَّةِ وُجُودِ عَمْرٍو أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ بِزَعْمِنَا كَالْإِيقَاعِ، وَالِاخْتِيَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْإِضَافِيَّاتِ فَإِنْ جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْمَوْجُودَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ فَهُوَ وَاجِبٌ بِالنَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ انْعِدَامِهِ انْعِدَامُ عِلَّتِهِ مُنْتَهِيًا إلَى الْوَاجِبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الِاخْتِيَارُ الَّذِي مِنْ شَأْنِ الْإِيقَاعِ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّلَ الِاخْتِيَارَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ الْوُجُودُ بِلَا إيجَادٍ بَلْ لَا يَلْزَمُ إلَّا تَرْجِيحُ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَاسْتِحَالَتُهُ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنْ جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْمَعْدُومِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ زَوَالَ كُلِّ مَعْدُومٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ مَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ الَّذِي هُوَ إضَافِيٌّ زَوَالُ الْعَدَمِ بِمَعْنَى وُجُودِ بَكْرٍ مَثَلًا يَلْزَمُ الْخُلْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِضَافِيَّاتِ الَّتِي لَا يَدْخُلُ الْعَدَمُ فِي مَفْهُومَاتِهَا كَالْأُبُوَّةِ، وَالْأُخُوَّةِ، وَالْإِيقَاعِ، وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَعْدُومَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَزَوَالُهَا

ص: 349

يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْمُحَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ قِدَمِ الْحَادِثِ، وَانْتِقَاءِ الْوَاجِبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِنَادِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ اسْتِغْنَاؤُهَا عَنْ الْوَاجِبِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْوَاجِبِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَيْهِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْتِزَامِ التَّسَلْسُلِ فِيهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ أَوْ بِكَوْنِ إضَافَةِ الْإِضَافَةِ عَيْنَ الْأُولَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِبَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ هَذَا فَإِنَّ إيقَاعَ الْحَرَكَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَوْقَعَهَا الْفَاعِلُ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ الْحَرَكَةُ أَيْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ إذْ لَوْ لَمْ تَجِبْ فَوُجُودُهَا رُجْحَانٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْإِيقَاعِ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْوُجُودُ بِلَا

ــ

[التلويح]

لَا يَكُونُ بِوُجُودِ شَيْءٍ كَمَا إذَا تَعَلَّقَتْ الْإِرَادَةُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ انْقَطَعَتْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ يُرَدُّ، وَمَنَعَ لُزُومَ قِدَمِ الْحَوَادِثِ أَوْ انْتِفَاءَ الْوَاجِبِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِانْسِيَاقِ الذِّهْنِ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاقِعَ دُخُولُ الْمَعْدُومِ فِي جُمْلَةِ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ افْتِقَارِهِ إلَى عَدَمِ الْمَانِعِ، وَاعْلَمْ أَنَّنِي لَوْ لَمْ أَزِدْهُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ، عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْبَابِ، بَلْ عَلَى تَوْجِيهِ هَذَا السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ، لَكَفَى فَلَقَدْ رَاجَعْت فِيهِ كَثِيرًا مِنْ الْحُذَّاقِ فَمَا زَادُوا عَلَى إتْعَابِ النَّوَاظِرِ، وَالْأَحْدَاقِ، وَأَنَّنِي لَوْ اقْتَدَيْت بِالْمُصَنِّفِ فِي الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَفَرَّدْت بِهِ لَطَالَ الْكَلَامُ، وَكَثُرَ الْمَلَامُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْمَرَامِ.

(قَوْلُهُ: فَيَثْبُتُ) أَيْ لَمَّا ثَبَتَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ سَالِمًا عَنْ النَّقْضِ ثَبَتَ تَوَقُّفُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُمُورٍ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَتِلْكَ الْأُمُورُ مُمْكِنَةٌ فَيَجِبُ اسْتِنَادُهَا إلَى عِلَّةٍ لَا مُحَاوَلَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الصَّادِرَ عَنْ الشَّيْءِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَلْزُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْفِيَّةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ قِدَمُ الْحَادِثِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الْوَاجِدِ بِوَاسِطَةِ الْإِيقَاعِ الَّذِي لَا يَنْتَفِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ مَوْجُودَةٍ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ كَمَا فِي هَذَا الْحَادِثِ، وَيَلْزَمُ قِدَمُهَا فَيَثْبُتُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَسْتَنِدُ إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِغْنَاؤُهَا عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَإِيجَادِ الْمَعْلُولِ الْأَوَّلِ مَثَلًا أَوْ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ، وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ إذْ لَوْ كَانَ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ

ص: 350

مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ: وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ تِلْكَ الْأُمُورِ عَنْ تَقْدِيرِ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ يَحْتَاجُ وُجُودُهُ إلَى مُؤَثِّرٍ يُوجِبُهُ مُخَلِّصٌ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ، وَمُوجِبٌ لِلْفَاعِلِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ إلَّا بِالْتِزَامِ وُجُودِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ.

ــ

[التلويح]

إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ لَزِمَ قِدَمُهَا ضَرُورَةَ قِدَمِ الْوَسَائِطِ، وَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَوَادِثِ فَقَوْلُهُ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ قَيْدٌ لِاسْتِنَادِ الْمَوْجُودَاتِ إلَى الْوَاجِبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ افْتَقَرَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ إلَى الْوَاجِبِ فَصُدُورُهَا عَنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَالْوُجُوبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ بِأَنْ يَفْتَقِرَ كُلُّ إيقَاعٍ إلَى إيقَاعٍ قَبْلَهُ لَا إلَى نِهَايَةٍ، وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلٌ بِالْبُرْهَانِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ كَوْنِ إيقَاعِ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْإِيقَاعِ بِالذَّاتِ حَتَّى لَا يَفْتَقِرَ إلَى إيقَاعَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ جَازِمٌ بِأَنَّ إيقَاعَ الْحَادِثِ مُغَايِرٌ لِإِيقَاعِ إيقَاعِهِ.

وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَمْشِيَتُهُمَا بِمَنْعِ اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَبِمَنْعِ مُغَايَرَةِ إيقَاعِ الْإِيقَاعِ لِلْإِيقَاعِ بِالذَّاتِ بَلْ لَا تَغَايُرَ إلَّا بِالِاعْتِبَارِ لَكِنَّ الْقَوْلَ بِصُدُورِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ، وَأَجْدَرُ بِالْقَبُولِ فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ يُوقِعُ الْحَرَكَةَ مَعَ عَدَمِ وُجُوبِ إيقَاعِهَا بَلْ مَعَ تَسَاوِي الْإِيقَاعِ، وَلِلْإِيقَاعِ النِّسْبَةُ إلَيْهِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا مَعَ الْعِلَّةِ تَارَةً، وَعَدَمِ ثُبُوتِهَا أُخْرَى رُجْحَانُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَلَا إيجَادٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ بِخِلَافِ الْحَرَكَةِ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنْ الْمَصْدَرِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّابِتَةُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ وُجِدَتْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، وَالْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ أَعْنِي الْإِيقَاعَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ كَانَ وُجُودُهَا رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ وَإِيجَادٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْإِيقَاعِ بِدُونِ الْوُقُوعِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ اللَّامَوْجُودِ، وَاللَّامَعْدُومِ كَإِيقَاعِ الْحَرَكَةِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ الْمَوْجُودِ كَالْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَةُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجِبُ مَعَ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَالثَّانِي يَجِبُ.

1 -

(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ) الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالِاخْتِيَارِ، وَالْإِيقَاعِ مُخَلِّصٌ عَنْ لُزُومِ الْقَوْلِ

ص: 351

(الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ) الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَكَذَا التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَكِنَّ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحُ، وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ تَرْجِيحٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ لِلرَّاجِحِ فَقَطْ أَوْ الْمُتَسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا التَّرْجِيحُ لَا يُوجَدُ مُمْكِنٌ أَصْلًا، وَكَذَا تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ رَاجِحًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَتَرْجِيحُ الرَّاجِحِ يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ الثَّابِتِ أَوْ احْتِيَاجِ كُلِّ تَرْجِيحٍ إلَى تَرْجِيحٍ قَبْلَهُ إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ فَالتَّرْجِيحُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُتَسَاوِي، وَالْمَرْجُوحِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مَعْدُومٌ فَعَدَمُهُ رَاجِحٌ عَلَى وُجُودِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلَّةِ الْعَدَمِ، وَمُسَاوٍ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِ الْمُمْكِنِ فَإِيجَادُهُ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ أَوْ الْمُسَاوِي عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الْآخَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعَلَّلُ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الْإِرَادَةِ تَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ رُجْحَانُ الْمَرْجُوحِ أَوْ الْمُتَسَاوِي مَا دَامَا كَذَلِكَ فَإِذَا

ــ

[التلويح]

بِكَوْنِ الْوَاجِبِ تَعَالَى مُوجِبًا بِالذَّاتِ، وَمُوجِبًا لِكَوْنِهِ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ مُوجِبًا إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِالِاخْتِيَارِ لَكَانَ فِعْلُهُ جَائِزَ التَّرْكِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْمُمْكِنِ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلَوْ مَنَعَ تَمَامِيَّةِ الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِنَقْلِ الْكَلَامِ إلَى الِاخْتِيَارِ بِأَنَّهُ إمَّا قَدِيمٌ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَادِثِ أَوْ حَادِثٌ فَيَتَسَلْسَلُ الِاخْتِيَارَاتُ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ إلَّا بِالْتِزَامِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِدُونِ وُجُوبِهِ حَتَّى إنَّ الْفِعْلَ يَصْدُرُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَلَا يَجِبُ وُجُودُهُ مَا دَامَ ذَاتَ الْوَاجِبِ بَلْ يَجُوزُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِلرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَإِيجَادٍ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ إثْبَاتِ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ فَلَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ الْإِيقَاعُ، وَالِاخْتِيَارُ، وَالْإِيقَاعُ لَا يَجِبُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهِ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ أَعْنِي الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ، وَلَا لِلِاخْتِيَارِ كَمَا لَا عَدَمَ لَهُمَا.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْحَوَادِثِ أَوْ انْتِفَاءِ الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ اسْتِنَادُهَا إلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

(قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ) أَيْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ بَاطِلٌ، وَكَذَا التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْإِيجَادُ بِلَا مُوجِدٍ، وَبُطْلَانُ ذَلِكَ بَدِيهِيٌّ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ فَجَائِزٌ وَاقِعٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إمَّا

ص: 352

رَجَحَ الْفَاعِلُ لَمْ يَبْقَيَا كَذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْرَدُوا لِتَجْوِيزِ تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ الْمِثَالَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ الْهَارِبُ مِنْ السَّبُعِ إذَا رَأَى طَرِيقَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْقَضِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الَّتِي لَوْلَاهَا لَانْسَدَّ بَابُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ هُوَ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ وَلَا تَبْطُلُ بِإِيرَادِ مِثَالٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُرَجِّحِ بَلْ غَايَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُرَجِّحِ، فَأَقُولُ: الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ هِيَ أَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ مُحَالٌ بِمَعْنَى أَنَّ وُجُودَهُ بِلَا مُوجِدٍ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ مَعَ الْغُنْيَة عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِأَنْ نَقُولَ: الْمَوْجُودُ إمَّا أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ يَحْتَاجُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْأَوَّلِ قَطْعًا

ــ

[التلويح]

أَنْ لَا يَكُونَ تَرْجِيحٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ لِلرَّاجِحِ أَوْ لِلْمُسَاوِي أَوْ لِلْمَرْجُوحِ، وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْلَا: التَّرْجِيحُ لَمَا وُجِدَ مُمْكِنٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْإِيجَادِ، وَالْإِيجَادُ تَرْجِيحٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ رَاجِحًا إلَّا بِوَاسِطَةِ مُرَجِّحٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ فَلَوْ جَازَ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ أَيْ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الرُّجْحَانُ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فَيَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجْحَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا لَهُ مِنْ الرُّجْحَانِ فَيَكُونُ كُلُّ تَرْجِيحٍ مَسْبُوقًا بِتَرْجِيحٍ آخَرَ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَكُونُ بِمُرَجِّحٍ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ التَّرْجِيحَاتِ، وَالْمُرَجِّحَاتِ لَا إلَى نِهَايَةٍ فَيَفْتَقِرُ وُجُودُ كُلِّ حَادِثٍ إلَى أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى بُطْلَانَ تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ التَّرْجِيحِ بِتَرْجِيحِ لِلرَّاجِحِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ عَدَمُ تَنَاهِي التَّرْجِيحَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ أَيْ إلَى تَرْجِيحٍ لَا يَكُونُ قَبْلَهُ تَرْجِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بُطْلَانَ انْحِصَارِ تَرْجِيحٍ فِي تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ تَرْجِيحٍ تَرْجِيحًا لِلرَّاجِحِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ فَالتَّرْجِيحُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ انْحِصَارِ التَّرْجِيحِ فِي تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ ثُبُوتُ انْحِصَارِهِ فِي تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ.

قُلْنَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِالْآخِرَةِ، إلَّا لِلْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ وُقُوعُ تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ الثَّانِي أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ مُسَاوٍ لِعَدَمِهِ نَظَرًا إلَى ذَاتِ الْمُمْكِنِ، وَمَرْجُوحٌ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ السَّابِقُ أَعْنِي عَدَمَ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْعَدَمِ فَإِيجَادُ الْمُمْكِنِ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِلْمُسَاوِي نَظَرًا إلَى الذَّاتِ، وَلِلْمَرْجُوحِ نَظَرًا إلَى الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ فَالْإِيجَابُ بِالِاخْتِيَارِ قَدْ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: اخْتِيَارُ الْمُخْتَارِ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، قُلْنَا: الْإِرَادَةُ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ لِمَ اخْتَارَ هَذَا دُونَ ذَاكَ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِمَ أَوْجَبَ هَذَا دُونَ ذَاكَ؛ فَإِنْ قِيلَ التَّرْجِيحُ يَسْتَلْزِمُ الرُّجْحَانَ ضَرُورَةً فَتَرْجِيحُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ يُوجِبُ رُجْحَانَهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالضَّرُورَةِ. قُلْنَا الْمُمْتَنِعُ

ص: 353

لِلتَّسَلْسُلِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، وَبَدَاهَتِهَا الْفَاعِلُ هُوَ الْمُرَجِّحُ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ وَأَيْضًا، إنَّمَا أَوْرَدُوا الْمِثَالَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ فَعَلَيْكُمْ الْبُرْهَانُ عَلَى الرُّجْحَانِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنْ وَجَبَ الْمَرْجُوحُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَافٍ لِلْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِ الْفَاعِلِ، وَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا إذْ يَفْعَلُ أَفْعَالًا مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ كَمَا فِي الْهَارِبِ بَلْ مَعَ اعْتِقَادِ الْمَرْجُوحِيَّةِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ أَنْكَرَ الْوِجْدَانِيَّاتِ فَبَطَلَ

ــ

[التلويح]

هُوَ رُجْحَانُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ مَا دَامَ الْمُسَاوِي مُسَاوِيًا، وَالْمَرْجُوحُ مَرْجُوحًا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أَعْنِي الرُّجْحَانَ، وَعَدَمَهُ، وَعِنْدَ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ إيَّاهُمَا لَمْ يَبْقَيَا مُسَاوِيًا، وَمَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْجِيحِ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ، وَجَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا، وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي فَضْلًا عَنْ الْمَرْجُوحِيَّةِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْقَضِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَالْعِلْمُ بِوُجُودِ الْوَاجِبِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ إذْ الْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ مَوْجُودٍ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ تَرَجُّحِ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَيُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى مُوجِدِهِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يَنْتَهِيَ إلَى الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يُبْتَنَى عَلَى بُطْلَانِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ لَا عَلَى بُطْلَانِ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ قِيلَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُوجِدٍ، وَيَتَسَلْسَلُ أَوْ يَلْزَمُ وُجُودُهُ بِلَا مُوجِدٍ، قُلْنَا إرَادَةُ الْإِرَادَةِ عَيْنِهَا أَوْ الْإِرَادَةُ تُرَجَّحُ لِذَاتِهَا أَوْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ حَالٌ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ نِزَاعَ الْحُكَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَا فِي تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَجَعْلِهِ رَاجِحًا بِالْإِرَادَةِ.

(قَوْلُهُ: مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ) الِاسْتِدْلَال عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِوَجْهٍ لَا يَبْتَنِي عَلَى بُطْلَانِ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ بِأَنْ يُقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ لَا يُحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ إذْ لَوْ احْتَاجَ كُلُّ مَوْجُودٍ إلَى غَيْرِهِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ إنْ ذَهَبَ إلَى لَا نِهَايَةٍ أَوْ الدَّوْرُ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْأَوَّلِ، وَالدَّوْرُ نَوْعٌ مِنْ التَّسَلْسُلِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَنَاهِي التَّوَقُّفَاتِ، وَالِاحْتِيَاجَاتِ فَلِذَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ، وَأَقُولُ: الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَلَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ بَلْ يَحْصُلُ بَعْدَ الْعَدَمِ بِلَا مُوجِدٍ فَلَا غُنْيَةَ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ

ص: 354

قَوْلُهُمْ إنَّ غَايَتَهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالرُّجْحَانِ فَإِنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْفَاعِلِ بِالرُّجْحَانِ كَافٍ فِي هَذَا الْغَرَضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: إنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ هُوَ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ مُحَالٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِدُ مُوجِبًا أَوْ لَا فَالرُّجْحَانُ هُوَ الْوُجُودُ فَقَطْ لَا أَنَّهُ يَصِيرُ رَاجِحًا قَبْلَ الْوُجُودِ إذَا عَرَفْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فَقَوْلُهُ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ إنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْحَالَةَ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِوُجُودِ

ــ

[التلويح]

يَذْكُرْهَا فِي اللَّفْظِ.

(قَوْلُهُ: وَأَيْضًا) يَعْنِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ الْمِثَالَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ أَيْ لِمَ لَا يَجُوزُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَمَا فِي الْهَارِبِ مِنْ السَّبُعِ يَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْنَعُ نَفْسُ الْمُدَّعَى، قُلْنَا: بَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْوَاجِبِ مُوجِبًا بِالذَّاتِ فَيَجِبُ عَلَى الْحُكَمَاءِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَوْ عَلَى كَوْنِهَا بَدِيهِيَّةً، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فَخَارِجٌ عَنْ قَانُونِ التَّوْجِيهِ إذْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْبُرْهَانُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ لَا عَلَى بُطْلَانِ السَّنَدِ، وَإِنْ أَوْرَدَ الْمِثَالَ بِطَرِيقِ النَّقْضِ كَانَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ عَدَمِ الرُّجْحَانِ، وَلَيْسَ لِلْحَكِيمِ إلَّا مَنْعُ التَّسَاوِي أَوْ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ فِيهِ.

(قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّا نَقُولُ) عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ بِإِثْبَاتِ سَنَدِ الْمَنْعِ، وَبَعْدَ إثْبَاتِهِ يَكُونُ نَقْضًا لِدَعْوَى الْحُكَمَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاحْتِيَاجِ إلَى مُرَجِّحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاطِلٌ قَطْعًا إذْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْهَارِبُ مَرْجُوحًا مُؤَدِّيًا إلَى مَهَالِكٍ، وَسِبَاعٍ أَكْثَرَ فَبَقِيَ الِاحْتِيَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ بِحَسَبِ عِلْمِ الْفَاعِلِ، وَاعْتِقَادِهِ فَإِذَا سَلَّمُوا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ بِالرُّجْحَانِ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ فِي عِلْمِ الْهَارِبِ، وَاعْتِقَادُهُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالرُّجْحَانِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرُّجْحَانِ فِي اعْتِقَادِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا فِي اعْتِقَادِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يُلَاحِظُهُ.

فَإِنْ قُلْت قَدْ سَلَّمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بُطْلَانَ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَكَيْفَ صَحَّ مِنْهُ إثْبَاتُ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ؟ قُلْت: الْمُسَلَّمُ هُوَ بُطْلَانُ الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ وَالْمُدَّعَى فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عَدَمُ مُرَجِّحٍ غَيْرُ الْفَاعِلِ، وَاخْتِيَارُهُ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ رَاجِحًا لِيُؤْثِرَهُ الْفَاعِلُ.

(قَوْلُهُ فَعُلِمَ) مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ تَارَةً، وَعَدَمِهِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِالْقَضِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَالرُّجْحَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَلَا حَالَةَ لِلْمُمْكِنِ قَبْلَ الْوُجُودِ بِهَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى جَانِبِ

ص: 355

بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِلَا وُجُوبٍ نَمْنَعُ وُجُوبَ تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ عَلَى أَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا التَّقْدِيرَ لَكِنَّ إثْبَاتَ الْمَطْلُوبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَقْرَبُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِلَا وُجُوبِ الْجَبْرِ مُنْتَفٍ أَيْضًا إمَّا بِالْقَوْلِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الِاخْتِيَارِ عَيْنُ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَوَقُّفُ الْمَوْجُودِ

ــ

[التلويح]

الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا فَلَا يَكُونُ جَانِبُ الْوُجُودِ رَاجِحًا، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ، وَزَوَالِ الْعَدَمِ، وَهَذَا جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الرُّجْحَانِ بِالْوُجُودِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي بَلْ الْعَدَمُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِعَدَمِ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ بِلَا عِلَّةِ الْوُجُودِ مُحَالٌ كَذَلِكَ عَدَمُهُ بِلَا عِلَّةِ الْعَدَمِ، وَهُوَ عَدَمُ عِلَّةٍ الْوُجُودِ مُحَالٌ.

(قَوْلُهُ إذَا عَرَفْت) هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَ فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِكُمْ أَنَّ تَوَقُّفَ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ أَمَّا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ كَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الْمَصْدَرُ بِإِزَائِهِ، وَهُوَ الْإِحْدَاثُ، وَالْإِيقَاعُ كَإِيقَاعِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالْجَبْرُ أَيْ عَدَمُ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ مُنْتَفٍ إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَوَقُّفِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى وُجُوبِهِ فَظَاهِرٌ إذْ الْجَبْرُ إنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَعَدَمِ بَقَاءِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ، وَإِنْ بَيَّنَ بُطْلَانَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّ إثْبَاتَ الْمَطْلُوبِ أَعْنِي عَدَمَ الْجَبْرِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ ثُبُوتُ الْجَبْرِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ تَوَقُّفِ وُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ عَلَى وُجُوبِهِ فَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ مِنْ الْفَاعِلِ، وَبِاخْتِيَارِهِ قَوْلُكُمْ نُقِلَ الْكَلَامُ إلَى الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَوَّلًا بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ الِاضْطِرَارُ، قُلْنَا: هُوَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّسَلْسُلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ الِاخْتِيَارِ أَوْ نَقُولُ لَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لِجَوَازِ تَوَقُّفِهِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَوُجُودُ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ أَيْ وُجُودُ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي التَّوَقُّفَ عَلَى تَحَقُّقِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ فَإِنْ قِيلَ: تَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى صُدُورِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْفَاعِلِ، قُلْنَا: يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ فِي الْإِيقَاعَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَاتٍ حَتَّى يَسْتَحِيلَ التَّسَلْسُلُ فِيهَا أَوْ بِطَرِيقِ عَدَمِ التَّسَلْسُلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إيقَاعَ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْإِيقَاعِ أَوْ لَا يَجِبُ أَصْلًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ إسْنَادَ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالْإِيقَاعِ مَثَلًا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ بَلْ بِطَرِيقِ الصِّحَّةِ، وَالِاخْتِيَارِ فَإِنَّ الْإِيقَاعَ، وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ بِالنَّظَرِ إلَى اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ فَهُوَ يَخْتَارُ الْإِيقَاعَ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ

ص: 356

عَلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ فَالْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ مَثَلًا، ثُمَّ هُوَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ أَوْ بِأَنَّ إيقَاعَ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْأَوَّلِ.

وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِبَ لَكِنَّ الْفَاعِلَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْإِيقَاعَ فَيُعَيِّنُ مَا قُلْنَا فِي الْإِيقَاعِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ إبْطَالُ دَلِيلِ الْجَبْرِ فَالْآنَ جِئْنَا إلَى إثْبَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ أَيْ مَا هُوَ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِعْلِ الْعَبْدِ فَنَقُولُ: التَّفْرِقَةُ ضَرُورِيَّةٌ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة، وَلَيْسَتْ التَّفْرِقَةُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مُوَافِقَةً لِإِرَادَتِنَا؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ إنْ كَانَتْ صِفَةً بِهَا يُرَجِّحُ الْفَاعِلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَيُخَصِّصُ الْأَشْيَاءَ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْإِرَادَةِ لَنَا

ــ

[التلويح]

أُرِيدَ الثَّانِي أَيْ الْفِعْلُ بِمَعْنَى الْإِيقَاعِ فَلَا جَبْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلِهِ لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشِرْ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا إلَى بُطْلَانِ طَرِيقٍ مُتَسَلْسِلٍ، وَرُجْحَانِ طَرِيقِ عَدَمِ الْوُجُوبِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّالِثَةِ.

(قَوْلُهُ: فَالْآنَ جِئْنَا إلَى إثْبَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ) قَدْ، وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمَجُوسُ قَائِلُونَ بِإِلَهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَبْدَأُ الْخَيْرِ، وَالْآخَرُ مَبْدَأُ الشَّرِّ، وَهَذَا يُلَائِمُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ خَالِقِ الشَّرِّ، وَالْقَبِيحِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا قَائِلُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ شَيْئًا، ثُمَّ يَتَبَرَّأُ عَنْهُ كَخَلْقِ إبْلِيسَ، وَهَذَا يُلَائِمُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهَا فَبِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَنْسُبُ الْقَدَرَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ أَمْرٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ مَجْمُوعُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ لَا الْأَوَّلُ فَقَطْ لِيَكُونَ جَبْرًا، وَلَا الثَّانِي فَقَطْ لِيَكُونَ قَدَرًا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ قَصْدًا، وَاخْتِيَارًا فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ، وَالِاخْتِيَارَ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْفِعْلِ إذْ قَدْ لَا يَقَعُ مَعَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مِنْ الْعَبْدِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْ عِنْدِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَقِيبَ إرَادَةِ الْعَبْدِ، وَقَصْدِهِ الْجَازِمِ بِطَرِيقِ جَرْيِ الْعَادَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ عَقِيبَ قَصْدِ الْعَبْدِ، وَلَا يَخْلُقُهُ بِدُونِهِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ، وَتَوْضِيحٌ لَهَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: خَوَارِقُ الْعَادَاتِ، وَعَدَمُ وُقُوعِ الْمُرَادَاتِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْعَبْدِ هُوَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ قُدْرَتَهُ، وَاخْتِيَارُهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ وُقُوعِ الْفِعْلِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ شَيْئًا، وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافَهُ يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ لَا مُرَادُ الْعَبْدِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ تَأْثِيرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ

ص: 357

كَوْنُ التَّرْجِيحِ، وَالتَّخْصِيصِ صَادِرَيْنِ مِنَّا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ مِنَّا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مُجَرَّدَ شَوْقٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة الَّتِي تَشْتَاقُ إلَيْهَا كَحَرَكَةِ نَبْضِنَا عَلَى نَسَقٍ نَشْتَهِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ لَكِنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأُولَى بِفِعْلِنَا لَا الثَّانِيَةَ، وَأَيْضًا نُفَرِّقُ فِي الِاخْتِيَارِيَّات بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ كَانْحِدَارٍ إلَى صَبَبٍ بِالْعَدْوِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنْهُ، وَكَذَا نُفَرِّقُ فِي التَّرْكِ بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ أَيْضًا قَدْ نَفْعَلُ بِدَاعِيَةٍ، وَقَدْ نَفْعَلُ بِلَا دَاعِيَةٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ الْوِجْدَانَيَّ قَاضٍ بِأَنَّا نَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَلَا وُجُوبٍ، وَنُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ هُوَ الِاخْتِيَارُ، وَالْقَصْدُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ نُشَاهِدُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ فِي

ــ

[التلويح]

بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ الْمُدَّعَى.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ مِنَّا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مُجَرَّدُ شَوْقٍ) هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْإِلْزَامِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْحَيَوَانِ شَوْقٌ إلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، وَدَاعٍ يَدْعُو إلَى تَحْصِيلِهِ لِمَا يُعْقَلُ أَوْ يُتَخَيَّلُ مِنْ مُلَائِمَتِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة الَّتِي يَشْتَاقُ إلَيْهَا لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِيَارِيَّ مَا يَكُونُ مَعَ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ، وَسَتَعْرِفُ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَبِالْعَكْسِ.

(قَوْلُهُ: نُفَرِّقُ فِي الِاخْتِيَارِيَّات بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ، وَمَا لَا نَقْدِرُ) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالِاخْتِيَارِيُّ مَا يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَمْنَعُ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّرْكِ كَمِثْلِ الْأَثْقَالِ إلَى الْمُرَكَّزِ بِالطَّبْعِ فِي صُورَةِ الِانْحِدَارِ إلَى صَبَبٍ، وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنْ الْأَرْضِ، وَكَذَا نُفَرِّقُ فِي التَّرْكِ بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ كَتَرْكِ الْحَرَكَةِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ كَتَرْكِ الْحَرَكَةِ فِي الْبِنَاءِ الْعَالِي، وَأَيْضًا قَدْ نَجِدُ فِي الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ بَاعِثًا عَلَيْهِ، وَدَاعِيًا إلَيْهِ مِنْ أَنْفُسِنَا كَالْمَشْيِ إلَى مَحْبُوبٍ بِخِلَافِ الْمَشْيِ إلَى مَكْرُوهٍ.

(قَوْلُهُ كَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ) لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُنْكِرُونَهُ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْقَصْدُ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: إنَّ قَصْدَ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ، وَإِلَّا لَتَسَلْسَلَتْ الِاخْتِيَارَاتُ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَصْدَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى اسْتِنَادِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْجُودَةِ كَالْقُدْرَةِ مَثَلًا لَكِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ الَّذِي هُوَ صَرْفُ الْقُدْرَةِ إلَى الْفِعْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى قَصْدًا لَكَانَ الْفَاعِلُ مُضْطَرًّا إلَى الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ التَّرْكِ، وَهَذَا يُنَافِي خَلْقَ الْقُدْرَةِ الَّتِي مِنْ

ص: 358

صُدُورِ الْأَفْعَالِ كَالْحَرَكَاتِ الْقَوِيَّةِ مِنْ الْقُوَى الضَّعِيفَةِ كَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَمْثَالِهِ، وَكَذَا فِي عَدَمِ صُدُورِهَا كَمَا تَوَاتَرَ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالصِّدِّيقِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَصَدُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ، وَتَوَافُرِ الدَّوَاعِي، وَالْإِرَادَاتِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى أُمُورٍ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ الْحَرَكَةِ أَيْ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتُهُ إذْ لَوْ كَانَ لَمْ يُخَالِفْ إرَادَتَهُ، وَلَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا طَبْعًا فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَمْ يُوجَدْ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ، وَأَيْضًا لَا تُمَكَّنُ الْحَرَكَاتُ إلَّا بِتَمْدِيدِ الْأَعْصَابِ، وَإِرْخَائِهَا، وَلَا شُعُورَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَدْرِي أَيَّ عَصَبَةٍ يَجِبُ تَمْدِيدُهَا لِتَحْصِيلِ الْحَرَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَذَا لَا شُعُورَ لَنَا بِكَيْفِيَّةِ خُرُوجِ الْحُرُوفِ عَنْ مَخَارِجِهَا فَعُلِمَ مِنْ وِجْدَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَوُجْدَانِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ جَرَى عَادَتُهُ تَعَالَى أَنَّا مَتَى قَصَدْنَا الْحَرَكَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ قَصْدًا جَازِمًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ إلَى الْقَصْدِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ نَقْصِدْ لَمْ يَخْلُقْ، ثُمَّ الْقَصْدُ مَخْلُوقُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ قُدْرَةً يَصْرِفُهَا الْعَبْدُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، ثُمَّ صَرَفَهَا إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْقَصْدُ، وَالِاخْتِيَارُ فَالْقَصْدُ مَخْلُوقُ اللَّهِ بِمَعْنَى اسْتِنَادِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إلَى مَوْجُودَاتٍ هِيَ مَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الصَّرْفَ مَقْصُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَافِي خَلْقَ الْقُدْرَةِ فَحَصَلَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ

ــ

[التلويح]

شَأْنِهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الِاسْتِنَادُ إلَى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَافِيًا فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي كَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى ضَرُورَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ، وَمُؤَثِّرًا فِيهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِنَادَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالْقَصْدِ مَثَلًا لَا فِي الْمَوْجُودَةِ كَالْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْإِيقَاعِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّالِثَةِ.

(قَوْلُهُ بُرْهَانٌ آخَرُ) هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّا نَعْلَمُ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ صُنْعًا مَا أَيْ فِعْلًا مَا بِالِاخْتِيَارِ، وَصُنْعُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ لَا فِي أَمْرٍ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّ صُنْعَهُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ عَدَمِ شَيْءٍ، وَالْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَجِبُ عِنْدَ تَمَامِ عِلَّتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ صُنْعُ الْعَبْدِ فِيهِ أَيْ تَأْثِيرُهُ الِاخْتِيَارِيُّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ الصُّنْعُ بِوَاسِطَتِهِ يَجِبُ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ وَاجِبًا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ إنْ

ص: 359

اللَّهِ، وَاخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ فَلِهَذَا قَالَ (قُلْنَا تَوَقُّفُهُ عَلَى مُرَجِّحٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ اضْطِرَارِيًّا؛ لِأَنَّ لِاخْتِيَارِهِ تَأْثِيرًا فِي فِعْلِهِ أَيْضًا) .

وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا لِيُعْلِمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ تَامٍّ بَلْ هُوَ جُزْءُ الْمُؤَثِّرِ بِبُرْهَانٍ آخَرَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا، وَأَنْ يَجِبَ وُجُودُهُ بِالْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِبًا لِوُجُودٍ بِلَا وَاسِطَةِ أَمْرٍ فَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ كَمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِي وُجُودِهِ، وَفِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَسَّطُ وُجُودَ أَمْرٍ فَذَلِكَ الْأَمْرُ يَجِبُ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَسَّطُ عَدَمَ أَمْرٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَمُ الْعَدَمَ السَّابِقَ عَلَى الْوُجُودِ إذْ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَيَكُونُ الْعَدَمُ الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ، وَهَذَا الْعَدَمُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَوْ لِبَقَائِهِ فَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةٍ تَكُونُ وَاجِبَةً بِالِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ تَعَالَى فَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إعْدَامِهَا، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَزَوَالُ الْعَدَمِ هُوَ الْوُجُودُ فَيَكُونُ يَتَوَسَّطُ وُجُودَ أَمْرٍ، وَقَدْ مَرَّ امْتِنَاعُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ صُنْعًا مَا فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَاجِبًا بِوَاسِطَةِ

ــ

[التلويح]

كَانَ عَدَمًا سَابِقًا فَهُوَ قَدِيمٌ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمًا لَاحِقًا تَوَقَّفَ عَلَى زَوَالِ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِلْوُجُودِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا كَانَ وَاجِبًا بِالِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَمْتَنِعُ الْعَبْدُ إزَالَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِهِ عَادَ الْمَحْذُورُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَدَمِ وُجُودٌ فَيَكُونُ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ شَيْءٍ هُوَ وَاجِبٌ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ صُنْعَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ لَا يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِلَّا لَخَرَجَ عَنْ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يَبْقَ لِصُنْعِ الْعَبْدِ أَثَرٌ فِي فِعْلِ أَمْرٍ مَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَا ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ.

ثُمَّ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيقَاعُ، وَالْإِيجَادُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَهُ الْفِعْلُ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ خَالِقًا لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ لَا أَثَرَ لِلْعَبْدِ فِي وُجُودِهَا كَوُجُودِ الْعَبْدِ، وَقُدْرَتِهِ، وَسَلَامَةِ الْآلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ اللَّامَوْجُودَ، وَاللَّامَعْدُومَ الصَّادِرَ عَنْ الْعَبْدِ أَمْرٌ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْأَثَرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَالْفِعْلُ حَاصِلٌ بِهِ، وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْدُورَهُ إلَّا أَنَّهُ فِي الْخَلْقِ يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِالْإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ، وَفِي الْكَسْبِ لَا يَصِحُّ، وَأَيْضًا فِي الْخَلْقِ يَقَعُ الْفِعْلُ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ فِي الْكَسْبِ يَقَعُ الْمَقْدُورُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ مَثَلًا: حَرَكَةُ زَيْدٍ وَقَعَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ، وَهُوَ زَيْدٌ، وَوَقَعَتْ بِكَسْبِ زَيْدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ قُدْرَةُ زَيْدٍ، وَهُوَ نَفْسُ زَيْدٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَثَرَ الْخَالِقِ إيجَادُ الْفِعْلِ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ ذَاتِهِ، وَأَثَرُ الْكَاسِبِ صُنْعُهُ فِي مَحَلٍّ قَائِمٍ بِهِ

ص: 360

الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ تَعَالَى إذْ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ، ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ لَا يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَصْلًا كَقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَوُجُودِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا فَالْأَمْرُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي هُوَ الصَّادِرُ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ يُسَمَّى كَسْبًا، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ مَا يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ مَعَ صِحَّةِ انْفِرَادِ الْقَادِرِ بِهِ فَهُوَ خَلْقٌ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا مَعَ صِحَّةِ انْفِرَادِ الْقَادِرِ بِهِ فَهُوَ كَسْبٌ، ثُمَّ إنَّ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الِانْفِرَادِ كَمَا فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا، وَالثَّانِي مَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِهِ لَكِنْ لَا يَكُونُ مُنْفَرِدًا بَلْ يَكُونُ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ مَدْخَلٌ مَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ قِيلَ: مَا وَقَعَ لَا فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ فَهُوَ خَلْقٌ، وَمَا وَقَعَ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ فَهُوَ كَسْبٌ، هَذَا وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا آخَرَ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ: الْمَجْمُوعُ تَفْسِيرٌ وَاحِدٌ فَالْخَلْقُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْكَسْبُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ

ــ

[التلويح]

هَذَا، وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الْفِعْلِ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ لَا يُنَافِيَ كَوْنَهُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، وَمَخْلُوقًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتِنَادُهُ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتِهِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّرْجِيحُ، وَالْإِيجَادُ وَأَيْضًا الْوُجُوبُ بِالْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِي لَا يُنَافِي تَعَلُّقَ أَصْلِ الْقُدْرَةِ بِأَصْلِ الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ، وَكَوْنَهُ مَخْلُوقًا لِلْقَادِرِ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِخَلْقِهِ، وَإِرَادَتِهِ لَا يُنَازِعُونَ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَإِيجَادِ الْعَبْدِ، وَإِقْدَارِهِ، وَتَمْكِينِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُلَخَّصَ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَا كَالنُّمُوِّ، وَهَضْمِ الْغِذَاءِ، وَبَعْضَهَا مَشْعُورٌ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ بِإِرَادَتِهِ كَمَرَضِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَنَوْمِهِ، وَيَقَظَتِهِ، وَبَعْضَهَا مِمَّا لَهُ قَصْدٌ إلَى صُدُورِهِ، وَصِحَّةُ الصُّدُورِ غَيْرُ الْقَصْدِ إذْ رُبَّمَا يَصِحُّ صُدُورُ فِعْلٍ لَا يَقْصِدُهُ، وَرُبَّمَا يَقْصِدُ مَا لَا يَصِحُّ صُدُورُهُ فَصِحَّةُ الصُّدُورِ، وَاللَّاصُدُورِ هِيَ الْمُسَمَّى بِالْقُدْرَةِ، وَهِيَ لَا تَكْفِي فِي الصُّدُورِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرَادَةِ أَوْ بِالدَّاعِي، وَعِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِي يَجِبُ الصُّدُورُ عِنْدَ فَقْدِ أَحَدِهِمَا يَمْتَنِعُ، وَالْقَوْلُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ عَنْ الْقَادِرِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَمَسُّكًا بِالْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَاطِلٌ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعِلْمِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالتَّرْجِيحِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلِهِ بِسَبَبِ حُصُولِ قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ بِاخْتِيَارِهِ، وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَسُؤَالُ السَّائِلِ أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى التَّرْكِ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُمْكِنَ بَعْدَ وُجُودِهِ هَلْ يُمْكِنُ

ص: 361

وَلَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فَالْكَسْبُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ بَلْ يُوجِبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَسْبٌ اتِّصَافَ الْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْمَقْدُورِ ثُمَّ اخْتِلَافَ الْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً حَسَنَةً أَوْ قَبِيحَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الْكَسْبِ لَا عَلَى الْخَلْقِ إذْ خَلْقُ الْقَبِيحِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ إذْ خَلْقُهُ لَا يُنَافِي الْمَصْلَحَةَ، وَالْعَاقِبَةَ الْحَمِيدَةَ بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الِاتِّصَافُ بِهِ بِإِرَادَتِهِ، وَقَصْدِهِ قَبِيحٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَسْبَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ يُوجِبُ الِاتِّصَافَ بِهِ فَالْقَصْدُ إلَيْهِ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى الْقَبِيحِ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا قَصَدَهُ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا جَبْرَ فِي الْقَصْدِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُونَ عَنْ الْعَبْدَ قُدْرَةَ الْإِيجَادِ، وَالتَّكْوِينِ فَلَا خَالِقَ، وَلَا مُكَوِّنَ إلَّا اللَّهُ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً مَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ لَمْ يَكُنْ بَلْ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِقُدْرَتِهِ النَّسَبُ، وَالْإِضَافَاتُ فَقَطْ كَتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَتَرْجِيحِهِ هَذَا مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقُدْرَةِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعْنَا إلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ فَقَوْلُهُ: إنَّ الِاتِّفَاقِيَّ، وَالِاضْطِرَارِيَّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا أَوْ اضْطِرَارِيًّا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُوجِبَ ذَاتُ الْفِعْلِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ لُحُوقَ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ بِكُلِّ مَنْ اتَّصَفَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ اتِّصَافُهُ بِهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ اضْطِرَارِيًّا أَوْ اتِّفَاقِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى صِفَاتِهِ الْعُلْيَا مَعَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يُسَلِّمُ الْقُبْحَ، وَالْحُسْنَ عَقْلًا بِمَعْنَى الْكَمَالِ، وَالنُّقْصَانِ

ــ

[التلويح]

أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا حَالَ وُجُودِهِ ثُمَّ حُصُولُ قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَسْبَابٍ لَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ الْأَسْبَابِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ فُقْدَانِهَا يَمْتَنِعُ فَاَلَّذِي يَنْظُرُ إلَى الْأَسْبَابِ الْأُولَى، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَلَا بِإِرَادَتِهِ يَحْكُمُ بِالْجَبْرِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ لِلْفِعْلِ هُوَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتِهِ، وَاَلَّذِي يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ يَحْكُمُ بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَحْصُلْ، بِأَسْبَابٍ كُلِّهَا مَقْدُورَةٌ، وَمُرَادُهُ فَالْحَقُّ أَنْ لَا جَبْرَ، وَلَا تَفْوِيضَ، وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ اخْتِلَافُ الْإِضَافَاتِ) لَمَّا جَعَلَ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْقَبَائِحِ حَاوَلَ التَّقَصِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ، وَالطَّاعَةَ، وَالْمَعْصِيَةَ اعْتِبَارَاتٌ رَاجِعَةٌ إلَى الْكَسْبِ دُونَ الْخَلْقِ فَيَسْتَنِدُ إلَى الْعَبْدِ لَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ خَلْقَ الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَخَلْقَ الْقَبِيحِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ بَلْ رُبَّمَا يَتَضَمَّنُ مَصَالِحَ، وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ كَسْبُ الْمَعْصِيَةِ، وَالْقَبِيحِ فَلَا يَقْبُحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُهَا، وَيَقْبُحُ مِنْ الْعَبْدِ كَسْبُهَا.

(قَوْلُهُ: فَقَوْلُهُ إنَّ الِاتِّفَاقِيَّ، وَالِاضْطِرَارِيَّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ) مَنْعٌ

ص: 362

فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ مَحْمُودٌ، وَكُلَّ نُقْصَانٍ مَذْمُومٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكِمَالَاتِ مَحْمُودُونَ بِكِمَالَاتِهِمْ، وَأَصْحَابَ النَّقَائِصِ مَذْمُومُونَ بِنَقَائِصِهِمْ فَإِنْكَارُهُ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِأَجْلِهِمَا يُحْمَدُ أَوْ يُذَمُّ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْفِعْلِ شَيْءٌ يُثَابُ الْفَاعِلُ أَوْ يُعَاقَبُ لِأَجْلِهِ فَنَقُولُ إنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِثَابَةُ، وَالْعِقَابُ لِأَجْلِهِ فَنَحْنُ نُسَاعِدُهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَإِنْ عُنِيَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ فَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْحَقِّ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ آجِلًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِمَا لَكِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ غَرِيقٌ فِي نِعَمِ اللَّهِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ، وَلَحْظَةٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْسُبُ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَالشَّنَاعَةِ إلَيْهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَلَمْ يَرَ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ مَذَمَّةً، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ سَخَطٍ عَظِيمٍ، وَعَذَابٍ أَلِيمٍ فَقَدْ سَجَّلَ غِوَايَتَهُ عَلَى غَبَاوَتِهِ، وَلَجَاجَتِهِ، وَبَرْهَنَ عَلَى سَخَافَةِ عَقْلِهِ، وَاعْوِجَاجِهِ، وَاسْتَخَفَّ بِفِكْرِهِ، وَرَأْيِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرِّ الَّذِي فِي وَرَائِهِ عَصَمَنَا اللَّهُ مِنْ الْغَبَاوَةِ، وَالْغَوَايَةِ، وَأَهْدَانَا هَدَايَا الْهِدَايَةِ.

فَلَمَّا أَبْطَلْنَا دَلِيلَ الْأَشْعَرِيِّ رَجَعْنَا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَإِلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَنَا، وَبَيْنَ

ــ

[التلويح]

لِلْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ دَلِيلِ الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، وَلَا شَيْءَ مِنْ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ بِحَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ إجْمَاعِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهَا، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَبَاحِثِ السَّالِفَةِ إنَّمَا كَانَ لِتَحْقِيقِ مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَالتَّقَصِّي عَمَّا أَوْرَدَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ اخْتِيَارِيًّا، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَوْضِيحُهُ سَنَدَ الْمَنْعِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَبِكِمَالَاتِ الْإِنْسَانِ، وَنَقَائِصِهِ حَيْثُ يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَيُذَمُّ، وَادِّعَاؤُهُ التَّنَاقُضَ فِي كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ حَيْثُ جَعَلَ كُلَّ كَمَالٍ حَسَنًا، وَكُلَّ نُقْصَانٍ قَبِيحًا مَعَ أَنَّهُ قَرَّرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى ذَكَرَ فِي سَنَدِ الْمَنْعِ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَا هُوَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، وَالِاحْتِمَالِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بِحَيْثُ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ فَاعِلَهُ يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ، وَفِي الْآخِرَةِ الثَّوَابَ أَوْ الْعِقَابَ بَلْ كُلُّ مَا نَصَّ الشَّارِعُ بِهِ أَوْ بِدَلِيلِهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ فَحَسَنٌ أَوْ الذَّمُّ، وَالْعِقَابُ فَقَبِيحٌ، وَلَيْسَ لِلْمُخَالِفِ دَلِيلٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا مَنْعٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ تَلْفِيقِ الْعِبَارَاتِ، وَتَنْمِيقِ الِاسْتِعَارَاتِ

ص: 363

الْمُعْتَزِلَةِ (وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ حُسْنُ بَعْضِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقُبْحِهَا يَكُونَانِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ، وَيُعْرَفَانِ عَقْلًا أَيْضًا) أَيْ يَكُونُ ذَاتَ الْفِعْلِ بِحَيْثُ يُحْمَدُ فَاعِلُهُ عَاجِلًا، وَيُثَابُ آجِلًا أَوْ يُذَمُّ فَاعِلُهُ عَاجِلًا، وَيُعَاقَبُ آجِلًا أَوْ يَكُونُ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ، وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا يُعْرَفَانِ شَرْعًا (لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ) ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ، وَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَخْبَرَ بِأُمُورٍ مِثْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّامِعِ تَصْدِيقُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَبْطُلُ فَائِدَةُ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ تَصْدِيقِ بَعْضِ إخْبَارَاتِهِ عَقْلِيًّا أَوْ لَا يَكُونُ بَلْ يَكُونُ وُجُوبُ تَصْدِيقِ كُلِّ إخْبَارَاتِهِ شَرْعِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُوبُ تَصْدِيقِ الْكُلِّ شَرْعِيًّا لَكَانَ وُجُوبُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام فَأَوَّلُ الْإِخْبَارَاتِ الْوَاجِبَةِ التَّصْدِيقِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ تَصْدِيقُهُ بِقَوْلِهِ عليه السلام إنَّ تَصْدِيقَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ فَنَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ لَا يَجِبُ تَصْدِيقُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ وَجَبَ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ بِقَوْلٍ آخَرَ فَنَتَكَلَّمُ فِيهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ كَوْنُ وُجُوبِ تَصْدِيقِ شَيْءٍ مِنْ إخْبَارَاتِهِ عَقْلِيًّا فَقَوْلُهُ.

(وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الشَّرْعِ (كَانَ

ــ

[التلويح]

وَتَعْدِيلِ الْأَسْجَاعِ، وَتَكْثِيرِ الْإِقْرَاعِ فَلَعَلَّهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ كَصَرِيرِ بَابٍ أَوْ كَطَنِينِ ذُبَابٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ،.

(قَوْلُهُ فِي وَرَائِهِ) الصَّوَابُ مِنْ وَرَائِهِ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا) تَمَسُّكٌ عَلَى كَوْنِ حُسْنِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَقُبْحِهِ عَقْلِيَّيْنِ بِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصْدِيقَ أَوْ إخْبَارَاتِ مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَكُلُّ وَاجِبٍ عَقْلًا فَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا أَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا لَتَوَقَّفَ عَلَى نَصٍّ آخَرَ يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ فَالنَّصُّ الثَّانِي إنْ كَانَ وُجُوبُ تَصْدِيقِهِ بِنَفْسِهِ لَزِمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ لَزِمَ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ ثَالِثٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ عَقْلًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ حَرَامًا عَقْلًا فَيَكُونُ قَبِيحًا عَقْلًا، وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَى حُرْمَةِ كَذِبِهِ إذْ لَوْ جَازَ كَذِبُهُ لَمَا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَحُرْمَةُ كَذِبِهِ عَقْلِيَّةٌ إذْ لَوْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً لَتَوَقَّفَ عَلَى نَصٍّ آخَرَ، وَهُوَ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ كَذِبِهِ فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِذَلِكَ النَّصِّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِالْأَوَّلِ فَيَدُورُ أَوْ بِثَالِثٍ فَيَتَسَلْسَلُ، وَالْحُرْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ وَاجِبًا عَقْلًا.

وَالْجَوَابُ

ص: 364

وَاجِبًا عَقْلًا فَيَكُونُ حَسَنًا عَقْلًا) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِيَّ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ عَقْلًا، وَالْحَسَنُ الْعَقْلِيُّ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ عَقْلًا فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ الْعَقْلِيِّ (وَكَذَلِكَ) نَقُولُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ إنَّهُ إمَّا وَاجِبٌ عَقْلًا إلَخْ هَذَا الدَّلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعَقْلِيِّ صَرِيحًا، وَقَوْلُهُ (وَأَيْضًا وُجُوبُ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عليه السلام مَوْقُوفٌ عَلَى حُرْمَةِ الْكَذِبِ فَهِيَ إنْ ثَبَتَتْ شَرْعًا يَلْزَمُ الدَّوْرِ وَإِنْ ثَبَتَتْ عَقْلًا يَلْزَمُ قُبْحُهَا عَقْلًا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ صَرِيحًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ الْتِزَامًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ وَاجِبًا عَقْلًا يَكُونُ تَرْكُهُ قَبِيحًا عَقْلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ حَرَامًا عَقْلًا فَتَرْكُهُ يَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ حَسَنًا عَقْلًا (ثُمَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ حَاكِمٌ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ بِهِمَا وَعِنْدَنَا: الْحَاكِمُ بِهِمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ آلَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِمَا فَيَخْلُقُ اللَّهُ الْعِلْمَ عَقِيبَ نَظَرِ الْعَقْلِ نَظَرًا صَحِيحًا) لَمَّا أَثْبَتْنَا الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَفِي هَذَا الْقَدْرِ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْلَ عَنْدَهُمْ حَاكِمٌ مُطْلَقٌ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْعِبَادِ أَمَّا عَلَى اللَّهِ فَلِأَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعِبَادِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ بِالْعَقْلِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ حَرَامًا عَلَى اللَّهِ

ــ

[التلويح]

أَنَّ وُجُوبَ التَّصْدِيقِ، وَحُرْمَةَ الْكَذِبِ بِمَعْنَى جَزْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ صِدْقَهُ ثَابِتٌ قَطْعًا، وَكَذِبُهُ مُمْتَنِعٌ لِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ عَقْلِيًّا كَالتَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآجِلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ، وَهُوَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيَحْرُمُ كَذِبُهُ أَوْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ عليه السلام غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ظُهُورَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكَلُّمِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ مَا ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ) امْتِثَالُ أَوَامِرِ النَّبِيِّ عليه السلام إنْ وَجَبَ عَقْلًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ وَجَبَ شَرْعًا تَوَقَّفَ عَلَى أَمْرِ الشَّارِعِ، وَوُجُوبُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ إنْ كَانَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ دَارَ، وَإِلَّا تَسَلْسَلَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوُجُوبَ بِمَعْنَى اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَبِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ ثَابِتٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ كَمَا مَرَّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] بَعْدَ مَا عُلِمَ وُجُوبُ الِامْتِثَالِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَمَا عُلِمَ لُزُومُ تَصْدِيقِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ أَمْرٌ آخَرُ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّارِعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْهَنْدَسِيَّاتِ.

(قَوْلُهُ فَلِأَنَّ الْأَصْلَحَ وَاجِبٌ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ بِالْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَإِنْ

ص: 365

وَالْحُكْمُ بِالْوُجُوبِ، وَالْحُرْمَةِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ ضَرُورَةً، وَأَمَّا عَلَى الْعِبَادِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ يُوجِبُ الْأَفْعَالَ عَلَيْهِمْ، وَيُبِيحُهَا، وَيُحَرِّمُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعَنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالٍ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ جَاعِلٌ بَعْضَهَا حَسَنًا، وَبَعْضَهَا قَبِيحًا، وَلَهُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، وَقَضَاءٌ مُبِينٌ، وَإِحَاطَةٌ بِظَوَاهِرِهَا، وَبَوَاطِنهَا، وَقَدْ وَضَعَ فِيهَا مَا وَضَعَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَمِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ بِالْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ بِأَنْ يُوَلِّدَ الْعَقْلُ الْعِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَعِنْدَنَا الْعَقْلُ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَثِيرٌ مِمَّا يَحْكُمُ اللَّهُ بِحُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ لَمْ يَطَّلِعْ الْعَقْلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ مَعْرِفَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَبْلِيغِ الرُّسُلِ لَكِنَّ الْبَعْضَ مِنْهُ قَدْ أَوْقَفَ اللَّهُ الْعَقْلَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَلِّدٍ لِلْعِلْمِ بَلْ أَجَرَى عَادَتَهُ أَنَّهُ خَلَقَ بَعْضَهُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ، وَبَعْضَهُ بَعْدَ الْكَسْبِ أَيْ تَرْتِيبُ الْعَقْلِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ تَرْتِيبًا صَحِيحًا عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا قُدْرَةُ إيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ، وَتَرْتِيبُ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ بِإِيجَادٍ

(وَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ

ــ

[التلويح]

قُلْت: فَمَا مَعْنَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَمْ لَا؟ . قُلْت: مَعْنَاهُ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَفْعَالِ الْمُمْكِنَةِ فِي نَفْسِهَا بِحَيْثُ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِامْتِنَاعِ صُدُورِهِ أَوْ لَا صُدُورِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَرِعَايَةِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لِعِبَادِهِ، وَكَقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، وَإِخْرَاجِ الْفَاسِقِ عَنْ النَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ: وَعِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) لَا يُقَالُ: هَذَا مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بَعْدَ كِتَابٍ، وَنَبِيٍّ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَدْ يَعْرِفُهُمَا الْعَقْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا ضَرُورِيًّا فَبِهِمَا إمَّا بِلَا كَسْبٍ كَحُسْنِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَإِمَّا مَعَ كَسْبٍ كَالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ الْمُسْتَفَادَيْنِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَقَدْ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالنَّبِيِّ، وَالْكِتَابِ كَأَكْثَرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.

(قَوْلُهُ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ) هُوَ أَنْ يَحْصُلَ الْفِعْلُ عَنْ فَاعِلِهِ بِتَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ كَحَرَكَةِ الْمِفْتَاحِ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ تَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ كَحَرَكَةِ الْيَدِ، وَلَا تَوْلِيدَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِاسْتِنَادِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ بِمَعْنَى خَالِقِهَا، وَمُوجِدِهَا فَحُصُولُ الْعِلْمِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْصُلَ، وَالْعَادَةُ هُوَ تَكَرُّرُ الْفِعْلِ أَوْ وُقُوعُهُ دَائِمِيًّا أَوْ أَكْثَرِيًّا، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ بَعْدَ الذِّهْنِ لِفَيَضَانِ النَّتِيجَةِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ حُصُولُهَا ضَرُورَةَ تَمَامِ الْقَابِلِ، وَالْفَاعِلِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوَلِّدُ الْعِلْمَ

ص: 366