الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَعَالَى
(وَأُصُولُ الْفِقْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ ذَا فَرْعًا لِلثَّلَاثَةِ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقَالَ هُوَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ؛ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أُصُولٌ مُطْلَقَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ وَفَرْعٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ (إذْ الْعِلَّةُ) فِيهِ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ مَوَارِدِهَا فَيَكُونُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ ثَابِتًا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَأَيْضًا هُوَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ.
أَمَّا نَظِيرُ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ فَكَقِيَاسَ حُرْمَةِ اللَّوْطَةِ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَالْعِلَّةُ هِيَ الْأَذَى وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ السُّنَّةِ فَكَقِيَاسِ حُرْمَةِ قَفِيزٍ مِنْ الْجُصِّ بِقَفِيزَيْنِ عَلَى حُرْمَةِ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزَيْنِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَأَوْرَدُوا لِنَظِيرِهِ قِيَاسَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلَالِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ يَعْنِي قِيَاسَ حُرْمَةِ وَطْءِ أُمِّ الْمُزَنِيَّةِ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ أُمِّ أَمَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا وَالْحُرْمَةُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ
ــ
[التلويح]
حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ قَطْعًا بِمَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فَقَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَإِنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ يَكُونُ ذِكْرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ضَائِعًا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا
[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ]
قَوْلُهُ (وَأُصُولُ الْفِقْهِ) مَا سَبَقَ كَانَ بَيَانَ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهَذَا بَيَانُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُنْحَصِرَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إمَّا وَحَيٌّ أَوْ غَيْرُهُ وَالْوَحْيُ إنْ كَانَ مَتْلُوًّا فَالْكِتَابُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ وَغَيْرُ الْوَحْيِ إنْ كَانَ قَوْلَ كُلِّ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ فَالْإِجْمَاعُ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَوْ أَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ يَصِلَ مِنْ الرَّسُولِ عليه السلام أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ إنْ تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ الْإِعْجَازُ فَالْكِتَابُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ وَالثَّانِي إنْ اشْتَرَطَ عِصْمَةَ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ فَالْإِجْمَاعُ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ.
وَأَمَّا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا وَالتَّعَامُلُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَرَاجِعَةٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَكَذَا الْمَعْقُولُ نَوْعُ اسْتِدْلَالٍ بِأَحَدِهَا وَإِلَّا فَلَا دَخْلَ لِلرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَمَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَوْعًا خَامِسًا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَسَمَّاهُ الِاسْتِدْلَالَ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّمَسُّكِ بِمَعْقُولِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ، ثُمَّ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أُصُولٌ مُطْلَقَةٌ لِكَوْنِهَا أَدِلَّةً مُسْتَقِلَّةً مُثْبِتَةً لِلْأَحْكَامِ وَالْقِيَاسُ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ لِاسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَيْهِ ظَاهِرًا دُونَ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ فَرْعًا لِلثَّلَاثَةِ لِابْتِنَائِهِ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ مَوَارِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحُكْمُ بِالتَّحْقِيقِ مُسْتَنِدٌ إلَيْهَا وَأَثَرُ الْقِيَاسِ فِي إظْهَارِ الْحُكْمِ وَتَغْيِيرِ وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ وَمِنْ هُنَا يُقَالُ أُصُولُ الْفِقْهِ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاعْتُرِضَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْأَصْلِ الْمُطْلَقِ إلَّا مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَرْعًا لِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِهَذَا صَحَّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا الثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ لِلشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ
إجْمَاعًا، وَلَا نَصَّ فِيهِ، بَلْ النَّصُّ وَرَدَ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ.
ــ
[التلويح]
مُسَبَّبٌ عَنْ الْبَعِيدِ أَوْلَى بِإِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبَّبًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. الثَّالِثُ أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ بَعْضِ الْأَقْسَامِ فِي مَعْنَى الْمُقَسَّمِ لَازِمَةٌ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ فَيَلْزَمُ أَنَّ بِفَرْدِ الْقِسْمِ الضَّعِيفِ فَيُقَالُ مَثَلًا الْكَلِمَةُ قِسْمَانِ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَرْفُ الرَّابِعُ أَنَّ تَغْيِيرَ الْحُكْمِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِتَقْدِيرِهِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَعْنَى الْأَصَالَةِ الْمُطْلَقَةِ. الْخَامِسُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا يَفْتَقِرُ إلَى السَّنَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَصْلًا مُطْلَقًا وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ لِعَدَمِ الْفَرْعِيَّةِ دَخْلًا فِي مَفْهُومِ الْأَصْلِ، بَلْ إنَّ الْأَصْلَ مَقُولٌ بِالتَّشْكِيكِ وَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَقِلُّ فِي مَعْنَى الْأَصَالَةِ وَابْتِنَاءِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابِ مَثَلًا أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْتَنَى فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى شَيْءٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَكُونُ فَرْعُهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْتَنِيًا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْقِيَاسِ وَالْأَضْعَفُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْأَصْلِ الْمُطْلَقِ بِمَعْنَى الْكَامِلِ فِي الْأَصَالَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ.
وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّمَا يُبْتَنَى عَلَى أَبِيهِ فِي الْوُجُودِ لَا فِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأَصَالَةُ لِلْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي فَرْعِهِ وَالْمُفْضِي إلَيْهِ وَأَثَرُ الْبَعِيدِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَاسِطَةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لَا فِي فَرْعِهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ الْبَعِيدِ فِي مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ لِذَلِكَ الْفَرْعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ لِحُكْمِ الْفَرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِيَكُونَ أَوْلَى بِالْأَصَالَةِ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ لِاسْتِنَادِ حُكْمِ الْفَرْعِ إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ فِي كُلِّ تَقْسِيمٍ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي تَقْسِيمِ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ إلَى أَنْوَاعِهَا وَأَفْرَادِهَا كَتَقْسِيمِ الْحَيَوَانِ إلَى الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ سُلِّمَ لُزُومُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ الرَّابِعِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّقْدِيرِ التَّقْرِيرُ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَكُونَ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَيُثْبِتُهُ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّغْيِيرِ بِدُونِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ التَّقْرِيرُ بِحَسَبِ عِلْمِنَا فَهُوَ لَا يَقْتَضِي إسْنَادَ الْحُكْمِ حَقِيقَةً إلَى الْقِيَاسِ لِيَكُونَ أَصْلًا لَهُ كَامِلًا وَعَنْ الْخَامِسِ بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى السَّنَدِ فِي تَحَقُّقِهِ لَا فِي نَفْسِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فَإِنَّ الْمُسْتَدَلَّ بِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى مُلَاحَظَةِ السَّنَدِ وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ اعْتِبَارِ أَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُثْبِتُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا يُثْبِتُهُ السَّنَدُ، وَهُوَ قَطْعِيَّةُ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ زِيَادَةً، بَلْ رُبَّمَا يُورِثُهُ نُقْصَانًا بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا وَحُكْمُهُ ظَنِّيٌّ.
(قَوْلُهُ
وَلَمَّا عَرَّفَ أُصُولَ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَالْآنَ يُعَرِّفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ فَيَقُولُ.
(وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ) أَيْ الْعِلْمُ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ تَوَصُّلًا قَرِيبًا وَإِنَّمَا قُلْنَا تَوَصُّلًا قَرِيبًا احْتِرَازًا عَنْ الْمَبَادِئِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، بَلْ الْغَرَضُ مِنْهُ إلْزَامُ الْخَصْمِ
ــ
[التلويح]
وَعَلَى الْفِقْهِ) بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ لَقَبٌ لِلْعِلْمِ الْمَخْصُوصِ لَا حَاجَةَ إلَى إضَافَةِ الْعِلْمِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ زِيَادَةَ بَيَانٍ وَتَوْضِيحٍ كَشَجَرِ الْأَرَاكِ وَالْقَاعِدَةُ حُكْمٌ كُلِّيٌّ يَنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ لِيَتَعَرَّفَ أَحْكَامَهَا مِنْهُ كَقَوْلِنَا كُلُّ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ثَابِتٌ وَالتَّوَصُّلُ الْقَرِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْبَاءِ السَّبَبِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي السَّبَبِ الْقَرِيبِ وَمِنْ إطْلَاقِ التَّوَصُّلِ إلَى الْفِقْهِ، إذْ فِي الْبَعِيدِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاسِطَةِ وَمِنْهَا إلَى الْفِقْهِ فَيَخْرُجُ الْعِلْمُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَبَادِئِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّوَصُّلُ بِهِمَا إلَى الْفِقْهِ لَيْسَ بِقَرِيبٍ، إذْ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا الْوَضْعِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يَقْتَدِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْكَلَامِ إلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوُجُوبِ صِدْقِهِمَا لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى الْفِقْهِ وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَلْ تَعَلَّقَ بِكُلٍّ مِنْ أَعْمَالٍ حُكْمٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ مَنُوطٌ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا يُنَاسِبُهُ لِتَعَذُّرِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَحَصَلَتْ قَضَايَا مَوْضُوعَاتُهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ وَمَحْمُولَاتُهَا أَحْكَامُ الشَّارِعِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِهَا الْحَاصِلُ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ فِقْهًا، ثُمَّ نَظَرُوا فِي تَفَاصِيلِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَعُمُومِهَا فَوَجَدُوا الْأَدِلَّةَ رَاجِعَةً إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالْأَحْكَامَ رَاجِعَةً إلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَتَأَمَّلُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ إجْمَالًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَفَاصِيلِهِمَا إلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمِثَالِ فَحَصَلَ لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ إجْمَالًا وَبَيَانُ طُرُقِهِ وَشَرَائِطِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا إلَى اسْتِنْبَاطِ كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ فَضَبَطُوهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَضَافُوا إلَيْهَا مِنْ اللَّوَاحِقِ وَالْمُتَمِّمَاتِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافَاتِ مَا يَلِيقُ بِهَا وَسَمَّوْا الْعِلْمَ بِهَا أُصُولَ الْفِقْهِ فَصَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ وَلَفْظُ الْقَوَاعِدِ مُشْعِرٌ بِقَيْدِ الْإِجْمَالِ وَزَادَ الْمُصَنِّفُ قَيْدَ التَّحْقِيقِ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ قَوَاعِدِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفِقْهِ تَوَصُّلًا قَرِيبًا، بَلْ إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُحَافَظَةِ الْحُكْمِ الْمُسْتَنْبَطِ أَوْ مُدَافَعَتِهِ وَنِسْبَتِهِ
وَذَلِكَ كَقَوَاعِدِهِمْ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِشَارَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ وَنَحْوِهِمَا لِتُبْتَنَى عَلَيْهَا النُّكَتُ الْخِلَافِيَّةُ (وَنَعْنِي بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَكُونُ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ) أَيْ إذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى حُكْمِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَكُبْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هِيَ تِلْكَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ كَقَوْلِنَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ وَكُلُّ حُكْمٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ثَابِتٌ وَإِذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالْمُلَازَمَاتِ الْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمَلْزُومِ فَالْمُلَازَمَاتُ الْكُلِّيَّةُ هِيَ تِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا لَكِنَّ الْقِيَاسَ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَيَكُونُ ثَابِتًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ بِعَيْنِهَا مَذْكُورَةً فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ تَكُونُ مُنْدَرِجَةً فِي قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ كَقَوْلِنَا كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِيهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ وَهِيَ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِ كُلِّ حُكْمٍ هَذَا شَأْنُهُ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ وَالْوُجُوبُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوُجُوبِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَكُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْجَوَازِ يَثْبُتُ الْجِوَارُ فَالْمُلَازَمَةُ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرَائِطَ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْسُوخًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مُعَارِضٌ مُسَاوٍ أَوْ رَاجِحٌ.
ــ
[التلويح]
إلَى الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَإِنَّ الْجَدَلِيَّ إمَّا مُجِيبٌ يَحْفَظُ وَضْعًا، وَإِمَّا مُعْتَرِضٌ يَهْدِمُ وَضْعًا إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَبَنَوْا نِكَاتَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تُوُهِّمَ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِالْفِقْهِ.
قَوْلُهُ (وَنَعْنِي بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ التَّامَّ الْمُحْتَمِلَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ يُسَمَّى مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحُكْمِ قَضِيَّةٌ وَمِنْ حَيْثُ احْتِمَالُهُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرًا وَمِنْ حَيْثُ إفَادَتُهُ الْحُكْمَ إخْبَارًا وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ مُقَدِّمَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُطْلَبُ بِالدَّلِيلِ مَطْلُوبًا وَمِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْ الدَّلِيلِ نَتِيجَةً وَمِنْ حَيْثُ يَقَعُ فِي الْعِلْمِ وَيُسْأَلُ عَنْهُ مَسْأَلَةً فَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ وَاخْتِلَافُ الْعِبَارَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْقَضِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا وَالْمَحْكُومُ بِهِ مَحْمُولًا وَمَوْضُوعُ الْمَطْلُوبِ يُسَمَّى أَصْغَرَ وَمَحْمُولُهُ أَكْبَرَ وَالدَّلِيلُ يَتَأَلَّفُ لَا مَحَالَةَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ تَشْتَمِلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأَصْغَرِ وَتُسَمَّى الصُّغْرَى وَالْأُخْرَى عَلَى الْأَكْبَرِ وَتُسَمَّى الْكُبْرَى وَكِلْتَاهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مُتَكَرِّرٍ فِيهِمَا يُسَمَّى الْأَوْسَطَ، وَالْأَوْسَطُ إمَّا مَحْمُولٌ فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعٌ فِي الْكُبْرَى وَيُسَمَّى الدَّلِيلُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ أَوْ بِالْعَكْسِ وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الرَّابِعَ أَوْ مَحْمُولٌ فِيهِمَا
وَيَكُونُ الْقِيَاسُ قَدْ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ مُجْتَهِدٍ حَتَّى لَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُجْتَهِدِينَ يَكُونُ بَاطِلًا فَالْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا كُبْرَى أَوْ مُلَازِمَةً إنَّمَا تَصْدُقُ كُلِّيَّةً إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ فَالْعِلْمُ بِالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْقُيُودِ يَكُونُ عِلْمًا بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْمَبَاحِثُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوْلُنَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ قَوَاعِدُ يَتَوَصَّلُ الْمُجْتَهِدُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ فَإِنَّ الْمُتَوَصِّلَ إلَى الْفِقْهِ لَيْسَ إلَّا الْمُجْتَهِدُ فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَيْسَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ مِنْهَا فَلِهَذَا لَمْ تُذْكَرْ مَبَاحِثُ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ فِي كُتُبِنَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَعُمُّ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ وَالْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ لَا الْمُقَلِّدُ فَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَالدَّلِيلُ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ فَالْمُقَلِّدُ يَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ وَاقِعٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَكُلُّ مَا أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُهُ فَهُوَ وَاقِعٌ عِنْدِي فَالْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَبَاحِثَ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ فَعَلَى هَذَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَلَا يُقَالُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَوْلُنَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لَا يُنَافِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ حَقِيقَةَ رَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ
ــ
[التلويح]
وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّانِي أَوْ مَوْضُوعٌ فِيهِمَا وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّالِثَ مَثَلًا إذَا قُلْنَا الْحَجُّ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورُ الشَّارِعِ وَكُلُّ مَا هُوَ مَأْمُورُ الشَّارِعِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ وَالْوَاجِبُ الْأَكْبَرُ وَالْمَأْمُورُ الْأَوْسَطُ وَقَوْلُنَا الْحَجُّ مَأْمُورُ الشَّارِعِ هِيَ الصُّغْرَى وَقَوْلُنَا وَكُلُّ مَا هُوَ مَأْمُورُ الشَّارِعِ فَهُوَ وَاجِبٌ هِيَ الْكُبْرَى وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَالْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ هِيَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَقَعُ كُبْرَى لِصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَضَمِّ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ إلَى الصُّغْرَى السَّهْلَةِ الْحُصُولِ لِيَخْرُجَ الْمَطْلُوبُ الْفِقْهِيُّ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ هُوَ مَعْنَى التَّوَصُّلِ بِهَا إلَى الْفِقْهِ لَكِنَّ تَحْصِيلَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَبَيَانِ شَرَائِطِهِمَا وَقُيُودِهِمَا الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ فَالْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذَلِكَ هِيَ مَطَالِبُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَنْدَرِجُ كُلُّهَا تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْقَاعِدَةِ عَلَى مَا شَرَحَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَيَكُونُ الْقِيَاسُ قَدْ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ مُجْتَهِدٍ) يَعْنِي يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ اجْتِهَادُ الْآرَاءِ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ أَمَّا إذَا لَمْ يَسْبِقْ فِي الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادٌ أَوْ سَبَقَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَقَطْ فَلَا خَفَاءَ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِهِ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ) الظَّاهِرُ إنَّهُ بَعِيدٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ وَالْمُتَعَرَّضُونَ لِمَبَاحِثِ التَّقْلِيدِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْهُ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الِاجْتِهَادِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ (وَلَا يُقَالُ إلَى الْفِقْهِ) ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِهِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَا إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْمَدْلُولِ فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا كُلِّيَّةً إذَا عُرِفَ أَنْوَاعُ الْحُكْمِ وَأَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْأَحْكَامِ يُثْبِتُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ بِخُصُوصِيَّةٍ نَاشِئَةٍ مِنْ الْحُكْمِ كَكَوْنِ هَذَا الشَّيْءِ عِلَّةً لِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ كَكَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقُوبَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي كَلِيلَةِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَمَعْرِفَةُ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ سَمَاوِيَّةً وَمُكْتَسَبَةً مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ بِاخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعَوَارِضِ وَعَدَمِهَا فَيَكُونُ تَرْكِيبُ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ هَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ هَذَا شَأْنُهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذَا الْفِعْلُ صَادِرٌ مِنْ مُكَلَّفٍ هَذَا شَأْنُهُ وَلَمْ تُوجَدْ الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ قِيَاسٌ هَذَا شَأْنُهُ هَذَا هُوَ الصُّغْرَى، ثُمَّ الْكُبْرَى قَوْلُنَا وَكُلُّ حُكْمٍ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ الْمَوْصُوفُ فَهُوَ ثَابِتٌ فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ هَكَذَا كُلَّمَا وُجِدَ قِيَاسٌ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَالٌّ عَلَى حُكْمٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَكِنَّهُ وُجِدَ الْقِيَاسُ الْمَوْصُوفُ إلَخْ فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَبَاحِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّوَصُّلِ الْقَرِيبِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ رَاجِعَةٌ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ حُكْمٍ كَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ دَلِيلٌ كَذَا فَهُوَ ثَابِتٌ أَوْ كُلَّمَا وُجِدَ دَلِيلٌ كَذَا دَالٌّ عَلَى حُكْمٍ كَذَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى أَنَّهُ يَبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَحْكَامِ الْكُلِّيَّتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُولَى مُثْبِتَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِالْأُولَى وَالْمَبَاحِثُ
ــ
[التلويح]
بِهَا لَيْسَ عَنْ أَدِلَّتِهَا الْأَرْبَعَةِ.
قَوْلُهُ (يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ) يَعْنِي عَنْ أَحْوَالِهِمَا عَنْ حَذْفِ الْمُضَافِ، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي الْعِلْمِ عَنْ نَفْسِ الْمَوْضُوعِ، بَلْ عَنْ أَحْوَالِهِ وَعَوَارِضِهِ إلَّا أَنَّ حَذْفَ هَذَا الْمُضَافِ شَائِعٌ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ.
قَوْلُهُ (فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ) الْمُرَادُ بِمَوْضُوعِ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هَاهُنَا الْمَحْمُولُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجُ عَنْهُ وَبِالْعَرْضِ الذَّاتِيِّ مَا يَكُونُ مُنْشَؤُهُ الذَّاتِ بِأَنْ يَلْحَقَ الشَّيْءُ لِذَاتِهِ كَالْإِدْرَاكِ لِلْإِنْسَانِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ تَعَجُّبِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنْهُ دَاخِلٍ فِيهِ كَالتَّحَرُّكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا وَالْمُرَادُ بِالْبَحْثِ عَنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ حَمْلُهَا عَلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ كَقَوْلِنَا الْكِتَابُ يُثْبِتُ الْحُكْمَ قَطْعًا أَوْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَقَوْلِنَا الْأَمْرُ
الَّتِي تَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأُولَى مُثْبِتَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةَ ثَابِتَةٌ بِالْأُولَى بَعْضُهَا نَاشِئَةٌ عَنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضُهَا نَاشِئَةٌ عَنْ الْأَحْكَامِ فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْأَحْكَامُ إذْ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إثْبَاتُهَا الْحُكْمَ وَعَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَهِيَ ثُبُوتُهَا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ.
(فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا) الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُبْحَثُ مُتَعَلِّقٌ بِحَدِّ هَذَا الْعِلْمِ أَيْ إذَا كَانَ حَدُّ أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا يَجِبُ أَنْ يُبْحَثَ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَمُتَعَلِّقَاتهمْ اوَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ الْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عُطِفَ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدِلَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَأَدِلَّةِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُسْتَفْتِي وَأَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا لَهُ مَدْخَلٌ فِي كَوْنِهَا مُثْبِتَةً لِلْحُكْمِ كَالْبَحْثِ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَنَحْوِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ لِلْأَدِلَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا الْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ الْمَبْحُوثُ عَنْهَا وَهِيَ كَوْنُهَا مُثْبِتَةً لِلْأَحْكَامِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَتْ بِمَبْحُوثٍ عَنْهَا لَكِنْ لَهَا مَدْخَلٌ فِي لُحُوقِ مَا هِيَ مَبْحُوثٌ عَنْهَا كَكَوْنِهَا عَامَّةً أَوْ مُشْتَرَكَةً أَوْ خَبَرَ وَاحِدٍ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا أَوْ رُبَاعِيًّا قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا أَوْ غَيْرَهَا فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَقَعُ مَحْمُولَاتٍ فِي الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَقَعُ أَوْصَافًا وَقُيُودًا لِمَوْضُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا الْخَبَرُ الَّذِي يَرْوِيهِ وَاحِدٌ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ، وَقَدْ يَقَعُ مَوْضُوعًا لِتِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ قَطْعًا، وَقَدْ يَقَعُ مَحْمُولًا فِيهَا، نَحْوُ النَّكِرَةِ فِي مَوْضُوعِ النَّفْيِ عَامَّةً وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاضُ الذَّاتِيَّةُ لِلْحُكْمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ مَبْحُوثًا عَنْهُ، وَهُوَ كَوْنُ
ــ
[التلويح]
يُفِيدُ الْوُجُوبَ أَوْ عَلَى أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعَامُّ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَوْ عَلَى أَنْوَاعِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يُفِيدُ الظَّنَّ وَجَمِيعُ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ رَاجِعَةٌ إلَى إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَثُبُوتُ أَحْكَامٍ بِالْأَدِلَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ مَحْمُولَاتِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ هُوَ الْإِثْبَاتُ وَالثُّبُوتُ وَمَا لَهُ نَفْعٌ وَدَخْلٌ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةَ الْأَحْكَامَ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْأَدِلَّةِ، فَإِنْ قَلْت فَمَا بَالُهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِلْأَحْكَامِ وَيَجْعَلُونَ مِنْهَا إثْبَاتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِذَلِكَ قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّظَرِ فِي الْفَنِّ هِيَ الْكَسْبِيَّاتُ الْمُفْقِرَةُ إلَى الدَّلِيلِ وَكَوْنُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَدِيهِيِّ فِي نَظَرِ الْأُصُولِ لِتَقَرُّرِهِ فِي الْكَلَامِ وَشُهْرَتِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلِهَذَا تَعَرَّضُوا لِمَا لَيْسَ إثْبَاتُهُ لِلْحُكْمِ بَيِّنًا كَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) يَعْنِي الْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي لَا تَكُونُ مَبْحُوثًا عَنْهَا فِي هَذَا الْعِلْمِ وَلَا دَخْلَ لَهَا فِي لُحُوقِ مَا هِيَ مَبْحُوثٌ عَنْهَا مِنْ الْقِسْمَيْنِ يَعْنِي قِسْمَيْ الْعَوَارِضِ الَّتِي
الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي لُحُوقِ مَا هُوَ مَبْحُوثٌ عَنْهُ كَكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْبَالِغِ أَوْ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ. وَالثَّالِثُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَحْمُولًا فِي الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ وَالثَّانِي أَوْصَافًا وَقُيُودًا لِمَوْضُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا، وَقَدْ يَقَعُ مَوْضُوعًا وَقَدْ يَقَعُ مَحْمُولًا كَقَوْلِنَا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَةِ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوُ الْعُقُوبَةِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَنَحْوُ زَكَاةِ الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ كِلَا الْقِسْمَيْنِ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَعَنْ مَسَائِلِهِ.
(وَيَلْحَقُ بِهِ الْبَحْثُ عَمَّا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الْحُكْمُ وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ) الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْبَحْثِ الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ فَيَبْحَثُ عَمَّا يَثْبُتُ أَيْ عَنْ أَحْوَالِ مَا يَثْبُتُ وَقَوْلُهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَلْحَقُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ مَبَاحِثَ الْحُكْمِ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ. وَالثَّانِي أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ فَقَطْ وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَوَاحِقِ هَذَا الْعِلْمِ فَإِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْحُكْمِ فَالْمَبَاحِثُ النَّاشِئَةُ عَنْ الْحُكْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَهِيَ مَسَائِلُ قَلِيلَةٌ تُذْكَرُ عَلَى أَنَّهَا لَوَاحِقُ وَتَوَابِعُ لِمَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُوَصِّلَةٌ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ فَمُعْظَمُ مَسَائِلِ الْمَنْطِقِ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ الْمُوَصِّلِ وَإِنْ كَانَ يَبْحَثُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ كَالْبَحْثِ
ــ
[التلويح]
لِلْأَدِلَّةِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي لِلْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ كَالْإِمْكَانِ وَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ وَالْبَسَاطَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَكَوْنُ الدَّلِيلِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً ثُلَاثِيَّةً مُفْرَدَاتُهُ أَوْ رَبَاعِيَةً مُعْرَبَةً أَوْ مَبْنِيَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالثُّبُوتِ فَلَا يُبْحَثُ عَنْهَا فِي الْأُصُولِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّجَّارَ يَنْظُرُ فِي الْخَشَبِ مِنْ جِهَةِ صَلَابَتِهِ وَرَخَاوَتِهِ وَرِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ وَاعْوِجَاجِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِنَاعَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ إمْكَانِهِ وَحُدُوثِهِ وَتَرَكُّبِهِ وَبَسَاطَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (أَنْ يَذْكُرَ مَبَاحِثَ الْحُكْمِ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ) ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مُقَدَّمٌ بِالذَّاتِ وَالْبَحْثُ عَنْهُ أَهَمُّ فِي فَنِّ الْأُصُولِ.
قَوْلُهُ (كَمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَدٌّ أَوْ رَسْمٌ فَيُوَصِّلُ إلَى تَصَوُّرٍ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنْسٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ خَاصَّةٌ فَيُرَكَّبُ مِنْهَا حَدٌّ أَوْ رَسْمٌ وَعَنْ أَحْوَالِ التَّصْدِيقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُجَّةٌ تُوَصِّلُ إلَى تَصْدِيقٍ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَضِيَّةٌ أَوْ عَكْسُ قَضِيَّةٍ أَوْ نَقِيضٌ فَيُؤَلِّفُ مِنْهَا حُجَّةً وَبِالْجُمْلَةِ جَمِيعُ مَبَاحِثِهِ رَاجِعَةٌ إلَى الْإِيصَالِ وَمَا لَهُ دَخْلٌ فِي الْإِيصَالِ وَقَدْ يَقَعُ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَسِيطًا لَا يُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ يُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَاصَّةٌ لَازِمَةٌ بَيِّنَةٌ يَرْسُمُ وَإِلَّا فَلَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ
عَنْ الْمَاهِيَّاتِ أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْحَدِّ فَهَذَا الْبَحْثُ يُذْكَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَكَذَا هُنَا وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْأُصُولِ لَمْ يُعَدَّ مَبَاحِثُ الْحُكْمِ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْحُكْمُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ قَدِيمٌ فَالْمُرَادُ بِثُبُوتِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثُبُوتُ عِلْمِنَا بِهِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ أَثَرُ الْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ فَثُبُوتُهُ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحٌ وَبِالْبَعْضِ لَا كَالْقِيَاسِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْوُجُوبِ، بَلْ مُثْبِتٌ غَلَبَةَ ظَنِّهِ بِالْوُجُوبِ كَمَا قِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْإِثْبَاتِ إثْبَاتَ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَإِنْ نُوقِشَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مَعًا فَنَقُولُ نُرِيدُ فِي الْجَمِيعِ إثْبَاتَ الْعِلْمِ لَنَا أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ لَنَا. وَاعْلَمْ أَنِّي لَمَّا وَقَعْت فِي مَبَاحِثِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَسَائِلِ أَرَدْت أَنْ أُسْمِعَك بَعْضَ مَبَاحِثِهَا الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْمُحَصِّلُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعِلْمَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ كَالطِّبِّ فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ إنْ كَانَ إضَافَةَ شَيْءٍ إلَى آخَرَ كَمَا أَنَّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
ــ
[التلويح]
رَاجِعًا إلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْمُوَصِّلُ بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَدَّ يُوَصِّلُ إلَى الْمُرَكَّبِ دُونَ الْبَسِيطِ فَيَكُونُ مِنْ الْمَسَائِلِ.
1 -
قَوْلُهُ (لَكِنَّ الصَّحِيحَ) ذَهَبَ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ إلَى أَنَّ مَوْضُوعَ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ، بَلْ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَصَوُّرِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مَوْضُوعَهُ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّا رَجَّعْنَا الْأَدِلَّةَ بِالتَّعْمِيمِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَحْكَامَ إلَى الْخَمْسَةِ وَنَظَرْنَا فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ إجْمَالًا فَوَجَدْنَا بَعْضَهَا رَاجِعَةً إلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضَهَا إلَى أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْصِيلِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْآخَرَ مِنْ اللَّوَاحِقِ تَحْكُمُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ أَكْثَرُ وَأَهَمُّ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْأَصَالَةَ وَالِاسْتِقْلَالَ.
قَوْلُهُ (فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ) هَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَأَمَارَاتٌ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا أَدِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا مَعْنَى لِلدَّلِيلِ إلَّا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ أَوْ انْتِفَائِهِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعِلْمَ يُؤْخَذُ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْجَازِمِ أَوْ الرَّاجِحِ لِيَعُمَّ الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا لَا يَتَفَاوَتُ بِقِدَمِ الْحُكْمِ وَحُدُوثِهِ وَقَدْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ آخِرِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ مَعْنَى الدَّلِيلِ مَا يُفِيدُ نَفْسَ الثُّبُوتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعِلَلِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْحُكْمَ حَادِثًا عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ.
قَوْلُهُ (وَاعْلَمْ إلَخْ) هَذِهِ ثَلَاثَةُ مَبَاحِثَ فِي الْمَوْضُوعِ أَوْرَدَهَا مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا النَّاظِرُ فِيهَا الْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْأَوَّلِ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ
يُبْحَثُ عَنْ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْحُكْمِ وَفِي الْمَنْطِقِ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ إيصَالِ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ، إلَى تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الَّتِي لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ نَاشِئَةً عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ وَبَعْضُهَا عَنْ الْآخَرِ فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ كِلَا الْمُضَافَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ الْإِضَافَةَ لَا يَكُونُ مَوْضُوعُ الْعِلْمِ الْوَاحِدِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُ إنَّمَا هُوَ بِاتِّحَادِ الْمَعْلُومَاتِ أَيْ الْمَسَائِلِ وَاخْتِلَافِهَا فَاخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ لِوَاحِدٍ مَا وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنَّهُ عِلْمٌ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ مَعْنًى يُوجِبُ الْوَحْدَةَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ وَالْهَنْدَسَةَ عِلْمٌ وَاحِدٌ وَمَوْضُوعَهُ شَيْئَانِ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمِقْدَارُ وَمَا أَوْرَدُوا مِنْ النَّظِيرِ، وَهُوَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَالْأَدْوِيَةُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْأَدْوِيَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ يَصِحُّ بِبَعْضِهَا وَيَمْرَضُ بِبَعْضِهَا فَالْمَوْضُوعُ فِي الْجَمِيعِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ.
ــ
[التلويح]
بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوْ لَا وَعَلَى الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَوَارِضُ الَّتِي لَهَا دَخْلٌ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ بَعْضُهَا نَاشِئًا عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ وَبَعْضُهَا نَاشِئًا عَنْ الْمُضَافِ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْضُوعُ الْعِلْمِ كِلَا الْمُضَافَيْنِ كَمَا وَقَعَ الْبَحْثُ فِي الْأُصُولِ عَنْ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَهَا دَخْلٌ فِي ذَلِكَ بَعْضُهَا نَاشِئٌ عَنْ الدَّلِيلِ كَالْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ وَالتَّوَاتُرِ وَبَعْضُهَا عَنْ الْحُكْمِ كَكَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقُوبَةً فَمَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ جَمِيعًا.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ إضَافَةً كَمَا فِي الْفِقْهِ الْبَاحِثِ عَنْ وُجُوبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَحُرْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ إضَافَةً لَكِنْ لَا دَخْلَ لِلْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ كَمَا فِي الْمَنْطِقِ الْبَاحِثِ عَنْ إيصَالِ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ إلَى تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَلَا دَخْلَ لِأَحْوَالِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ فَالْمَوْضُوعُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَسَائِلِ الْمُوجِبَ لِاخْتِلَافِ الْعِلْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْلُومَاتِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ مُجَرَّدُ تَكَثُّرِهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسَائِلَ الْعِلْمِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ تَنَاسُبِهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ تَكَثُّرِ الْمَوْضُوعَاتِ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَوْضُوعَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَنَاسِبَةً وَالْقَوْمُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ تَنَاسُبِهَا وَوَجْهُ التَّنَاسُبِ اشْتِرَاكُهَا فِي دَانٍ كَالْخَطِّ وَالسَّطْحِ وَالْجِسْمِ التَّعْلِيمِيِّ لِلْهَنْدَسَةِ فَإِنَّهَا تَتَشَارَكُ فِي جِنْسِهَا، وَهُوَ الْمِقْدَارُ أَعْنِي الْكَمَّ الْمُتَّصِلَ الْقَارَّ الذَّاتِ أَوْ فِي عَرَضِيٍّ كَبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأَجْزَائِهِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْأَرْكَانِ وَالْأَمْزِجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا جَعَلْت مَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ فَإِنَّهَا تَتَشَارَكُ فِي كَوْنِهَا مَنْسُوبَةً إلَى الصِّحَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُهْمِلُوا رِعَايَةَ مَعْنًى يُوجِبُ الْوَحْدَةَ وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ الْحَيْثِيَّةُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّيْءَ مَعَ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ مَوْضُوعٌ كَمَا يُقَالُ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ مَوْضُوعٌ لِلْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ كَالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ مَا يُبْحَثُ عَنْ أَعْرَاضِهِ لَا مَا يُبْحَثُ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَجْزَائِهِ وَثَانِيهمَا أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ تَكُونُ بَيَانًا لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَإِنَّمَا يَبْحَثُ فِي عِلْمٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْهَا فَالْحَيْثِيَّةُ بَيَانُ ذَلِكَ النَّوْعِ فَقَوْلُهُمْ مَوْضُوعُ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَمَوْضُوعُ الْهَيْئَةِ أَجْسَامُ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهَا شَكْلًا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ إذْ فِي الطِّبِّ يُبْحَثُ عَنْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَفِي الْهَيْئَةِ عَنْ الشَّكْلِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يُبْحَثَ فِي الطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ عَنْ أَعْرَاضٍ
ــ
[التلويح]
أَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ وَالْهَنْدَسَةَ عِلْمٌ وَاحِدٌ مَوْضُوعُهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمِقْدَارُ أَنَّهُ فِيمَا أَوْرَدَ مِنْ الْمِثَالَيْنِ مُنَاقِضٌ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْأُصُولِ ثَمَّ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، إذْ مَحْمُولَاتُ مَسَائِلِهِ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا ذَاتِيَّةً لِمَفْهُومِ الدَّلِيلِ، بَلْ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الِانْفِرَادِ أَوْ التَّشَارُكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَا التَّصَوُّرُ وَالتَّصْدِيقُ فِي الْمَنْطِقِ.
قَوْلُهُ (وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ الْحَيْثِيَّةَ) الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي تَحْقِيقِ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَوْضُوعِ حَيْثُ يُقَالُ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ كَذَا وَلَفْظُ حَيْثُ مَوْضُوعٌ لِلْمَكَانِ اُسْتُعِيرَ لِجِهَةِ الشَّيْءِ وَاعْتِبَارُهُ يُقَالُ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ أَيْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْحَيْثِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَوْضُوعِ قَدْ لَا تَكُونُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِمْ مَوْضُوعُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَةِ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ مُجَرَّدٌ، وَذَلِكَ كَالْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ حَيْثِيَّةِ الْوُجُودِ، إذْ لَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهَا لِلْمَوْجُودِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِمْ مَوْضُوعُ عِلْمِ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَمَوْضُوعُ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ الْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الطِّبِّ وَكَذَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الطَّبِيعِيِّ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ جُزْءٌ مِنْ الْمَوْضُوعِ، وَفِي الثَّانِي بَيَانٌ لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ، إذْ لَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَوْضُوعِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُبْحَثَ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ وَتُجْعَلَ مِنْ مَحْمُولَاتِ مَسَائِلِهِ، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي الْعِلْمِ عَنْ أَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ، بَلْ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ جُزْءٌ مِنْ الْمَوْضُوعِ، بَلْ قَيْدٌ لِمَوْضُوعِيَّتِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْبَحْثَ يَكُونُ عَنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ تِلْكَ
لَاحِقَةٍ لِأَجْلِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ وَلَا يُبْحَثُ عَنْ الْحَيْثِيَّتَيْنِ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْضُوعًا لِلْعِلْمَيْنِ أَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، بَلْ وَاقِعٌ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ لَهُ أَعْرَاضٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَفِي كُلِّ عِلْمٍ يُبْحَثُ عَنْ بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
ــ
[التلويح]
الْحَيْثِيَّةِ وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلْنَا الْحَيْثِيَّةَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا قَيْدًا لِلْمَوْضُوعِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَوْمِ لَا بَيَانًا لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَكُنْ الْبَحْثُ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ بَحْثًا عَنْ أَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ وَلَمْ يَلْزَمْنَا مَا لَزِمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَشَارُكِ الْعِلْمَيْنِ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ نَعَمْ يَرِدُ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الْحَيْثِيَّةُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا تَعْرِضُ لِلْمَوْضُوعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَإِلَّا لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا بِهِ يَعْرِضُ الشَّيْءُ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْعَارِضِ مَثَلًا لَيْسَتْ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ مِمَّا يَعْرِضُ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَلَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ، وَالْمَشْهُورُ فِي جَوَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَيْثُ إمْكَانُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْمَبْحُوثِ فِي الْعِلْمِ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ قُيِّدَ بِالْحَيْثِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ الْعَوَارِضِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّةِ وَبِالنَّظَرِ إلَيْهَا أَيْ يُلَاحَظُ فِي جَمِيعِ الْمَبَاحِثِ هَذَا الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْعَوَارِضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا يَكُونُ لُحُوقُهَا لِلْمَوْضُوعِ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَلْبَتَّةَ.
قَوْلُهُ (وَمِنْهَا أَنَّ الْمَشْهُورَ) الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي جَوَازِ تَشَارُكِ الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ وَكَمَا خَالَفَ الْقَوْمَ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْمَوْضُوعِ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ خَالَفَهُمْ فِي امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ لِعُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَادَّعَى جَوَازَهُ، بَلْ وُقُوعَهُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ أَيْ مُخْتَلِفَةٌ بِالنَّوْعِ يَبْحَثُ فِي عِلْمٍ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهَا، وَفِي عِلْمٍ آخَرَ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ فَيَتَمَايَزُ الْعِلْمَانِ بِالْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا، وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَوْضُوعُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَعْلُومَاتِ أَعْنِي الْمَسَائِلَ وَكَمَا تَتَّحِدُ الْمَسَائِلُ بِاتِّحَادِ مَوْضُوعَاتِهَا بِأَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ إلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا كَذَلِكَ تَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ مَحْمُولَاتِهَا بِأَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْمَوْضُوعِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا فَكَمَا اُعْتُبِرَ اخْتِلَافُ الْعُمُومِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ الْمَحْمُولَاتِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مَوْضُوعٌ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ وَيُجْعَلَ الْبَحْثُ عَنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ عِلْمًا وَعَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ عِلْمًا آخَرَ فَيَكُونَانِ عِلْمَيْنِ مُتَشَارِكَيْنِ فِي الْمَوْضُوعِ مُتَمَايِزَيْنِ فِي الْمَحْمُولِ.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَجْسَامَ الْعَالَمِ وَهِيَ الْبَسَائِطُ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّكْلُ وَمَوْضُوعُ عِلْمِ السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ لَهُ أَعْرَاضٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَإِنَّ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ يُوصَفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا حَقِيقَةً وَبَعْضُهَا إضَافِيَّةً وَبَعْضُهَا سَلْبِيَّةً، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا يَلْحَقُهُ
ــ
[التلويح]
مِنْ حَيْثُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيْثِيَّةُ فِيهِمَا بَيَانُ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا لِأَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهَا فِي الْعِلْمَيْنِ فَمَوْضُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَجْسَامُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْهَيْئَةِ عَنْ أَشْكَالِهَا، وَفِي السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ عَنْ طَبَائِعِهَا فَهُمَا عِلْمَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مَحْمُولَاتِ الْمَسَائِلِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ وَعِلْمُ السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ عِلْمٌ تُعْرَفُ فِيهِ أَحْوَالُ الْأَجْسَامِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْعَالَمِ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَمَا فِيهَا وَالْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ وَطَبَائِعُهَا وَحَرَكَاتُهَا وَمَوَاضِعُهَا وَتَعْرِيفُ الْحِكْمَةِ فِي صُنْعِهَا وَتَنْضِيدِهَا، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ مِنْ حَيْثُ التَّغَيُّرُ وَمَوْضُوعُهُ الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْرُوضٌ لِلتَّغَيُّرِ فِي الْأَحْوَالِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا وَيَبْحَثُ فِيهِ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ فِي الطَّبِيعِيِّ مَبْحُوثٌ عَنْهَا وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا قَيْدٌ لِلْعُرُوضِ وَهَاهُنَا نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ الْحَيْثِيَّةِ تَارَةً جُزْءًا مِنْ الْمَوْضُوعِ وَأُخْرَى بَيَانًا لِلْمَبْحُوثِ عَنْهَا وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، أَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا حَاوَلُوا مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ وَضَعُوا الْحَقَائِقَ أَنْوَاعًا وَأَجْنَاسًا وَبَحَثُوا عَمَّا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ فَحَصَلَتْ لَهُمْ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُتَّحِدَةٌ فِي كَوْنِهَا بَحْثًا عَنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَحْمُولَاتُهَا فَجَعَلُوهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عِلْمًا وَاحِدَا يُفْرَدُ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّسْمِيَةِ وَجَوَّزُوا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ جَمِيعِ مَا تُحِيطُ بِهِ الطَّاقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْمَوْضُوعِ فَلَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يُوضَعَ شَيْءٌ أَوْ أَشْيَاءُ مُتَنَاسِبَةٌ فَنَبْحَثَ عَنْ جَمِيعِ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَنَطْلُبَهَا وَلَا مَعْنَى لِتَمَايُزِ الْعُلُومِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ شَيْءٍ وَذَاكَ فِي أَحْوَالِ شَيْءٍ آخَرَ مُغَايِرٍ لَهُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالِاعْتِبَارِ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي أَحَدِ الْعِلْمَيْنِ مُطْلَقًا، وَفِي الْآخَرِ بِالْبُرْهَانِ مُقَيَّدًا أَوْ يُؤْخَذَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ آخَرَ وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ مَجْهُولَةٌ مَطْلُوبَةٌ وَالْمَوْضُوعُ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْوُجُودِ فَهُوَ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلتَّمَايُزِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ مَا مِنْ عِلْمٍ إلَّا وَيَشْتَمِلُ مَوْضُوعُهُ عَلَى أَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَهُ عُلُومًا مُتَعَدِّدَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَثَلًا يَجْعَلُ الْبَحْثَ عَنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عِلْمًا وَمِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ عِلْمًا آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْفِقْهُ عُلُومًا مُتَعَدِّدَةً مَوْضُوعُهَا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَلَا يَنْضَبِطُ الِاتِّحَادُ وَالِاخْتِلَافُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ مِنْ مَنْطِقِ الشِّفَاءِ.
قَوْلُهُ، (وَإِنَّمَا قُلْنَا) اسْتَدَلَّ عَلَى
لِجُزْئِهِ لِعَدَمِ الْجُزْءِ لَهُ فَلُحُوقُ بَعْضِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فِي الْمَبْدَأِ فَلُحُوقُ الْبَعْضِ الْآخَرِ إنْ كَانَ لِذَاتِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ نَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى ذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فِي الْمَبْدَأِ. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْضُوعَ عِلْمَيْنِ وَيَكُونَ تَمِيزُهُمَا بِحَسَبِ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمَيْنِ وَاخْتِلَافَهُمَا بِحَسَبِ اتِّحَادِ الْمَعْلُومَاتِ وَاخْتِلَافِهَا وَالْمَعْلُومَاتُ هِيَ الْمَسَائِلُ فَكَمَا أَنَّ الْمَسَائِلَ تَتَّحِدُ وَتَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَوْضُوعَاتِهَا وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ تَتَّحِدُ الْمَسَائِلُ وَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَحْمُولَاتِهَا وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى تِلْكَ الْأَعْرَاضِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ جَرَى بِأَنَّ الْمَوْضُوعَ مُعْتَبَرٌ فِي ذَلِكَ لَا الْمَحْمُولَ فَحِينَئِذٍ
ــ
[التلويح]
ثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ بِأَنَّ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي لَا كَثْرَةَ فِي ذَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ يَتَّصِفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا حَقِيقِيًّا كَالْقُدْرَةِ وَبَعْضُهَا إضَافِيًّا كَالْخَلْقِ وَبَعْضُهَا سَلْبِيًّا كَالتَّجَرُّدِ عَنْ الْمَادَّةِ وَالْمُتَّصِفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مُتَّصِفٌ بِأَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَاحِقًا لَهُ لِجُزْئِهِ لِعَدَمِ الْجُزْءِ لَهُ وَلَا الْمُبَايِنِ لِامْتِنَاعِ احْتِيَاجِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ فِي صِفَاتِهِ إلَى أَمْرٍ مُنْفَصِلٍ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِهَذَا أَيْضًا وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُقُوقِ كُلٍّ مِنْهَا لِصِفَةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي الْمَبَادِئِ أَعْنِي الصِّفَاتِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهَا مَبْدَأٌ لِصِفَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مُحَالٌ لِبُرْهَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَلَامِ أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا لِذَاتِهِ فَيَثْبُتُ عَرَضُ ذَاتِيٌّ وَحِينَئِذٍ فَالْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجُزْئِهِ لِمَا مَرَّ فَهُوَ إمَّا لِذَاتِهِ فَيَثْبُتُ عَرَضٌ ذَاتِيٌّ آخَرُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ مُبَايِنًا لِمَا مَرَّ، بَلْ يَكُونُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا يَكُونُ لُحُوقُهُ لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْمَبَادِئِ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْعَرَضِ الذَّاتِيِّ الْأَوَّلِ فَلَا يَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَاللَّازِمُ تَعَدُّدُهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ وَالْمَطْلُوبُ تَنَوُّعُهَا، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ قُلْنَا اللَّاحِقُ بِوَاسِطَةِ الْعَرَضِ الذَّاتِيِّ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَرَضٌ ذَاتِيٌّ فَيَلْزَمُ التَّعَدُّدُ وَالصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُتَنَوِّعَةٌ لَا مَحَالَةَ ضَرُورَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ أَشْخَاصِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصِّفَاتِ إنَّمَا هُوَ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ) عَطْفٌ عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَيْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ فِي صِفَاتِهِ بِالْغَيْرِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي ذَاتِهِ وَالِاحْتِيَاجَ فِي كَمَالَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الِاسْتِكْمَالُ بِالْأَمْرِ الْمُنْفَصِلِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لُحُوقُ الْبَعْضِ الْآخَرِ لِصِفَةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ أَعَمُّ مِنْ الْمُنْفَصِلِ وَالصِّفَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ احْتِيَاجَ بَعْضِ الصِّفَاتِ إلَى الْبَعْضِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي الذَّاتِ كَيْفَ وَالْخَلْقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ