الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَاحِدِ فَأَوْرَدَ فِيهِ لَفْظَ الْجَمْعِ (وَسَمَّيْته بِتَنْقِيحِ الْأُصُولِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَسْئُولٌ أَنْ يُمَتِّعَ بِهِ مُؤَلِّفَهُ وَكَاتِبَهُ وَقَارِئَهُ وَطَالِبَهُ وَيَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)
أُصُولُ الْفِقْهِ أَيْ هَذَا أُصُولُ الْفِقْهِ أَوْ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا هِيَ فَنُعَرِّفُهَا أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ
ــ
[التلويح]
وَعُرْوَةُ الْإِعْجَازِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَهُدْبُ الثَّوْبِ مَا عَلَى أَطْرَافِهِ وَعُرْوَةُ الْكُوزِ كُلْيَتُهُ الَّذِي تُؤْخَذُ عَنْهُ أَخَذَهُ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْهُدْبِ فَخَصَّهَا بِالْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ أَوْثَقُ مِنْ السِّحْرِ، وَفِي الصِّحَاحِ السِّحْرُ الْأُخْذَةُ وَكُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ، وَمَعْنَى تَمَسُّكِهِ بِذَلِكَ مُبَالَغَتُهُ فِي تَلْطِيفِ الْكَلَامِ وَتَأْدِيَةِ الْمَعَانِي بِالْعِبَارَاتِ اللَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى السِّحْرِ وَالْإِعْجَازِ وَهَاهُنَا بَحْثَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ كَوْنَ طَرِيقِ تَأْدِيَة الْمَعْنَى أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ الطُّرُقِ الْمُحَقَّقَةِ الْمَوْجُودَةِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْإِعْجَازِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ الطُّرُقِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزًا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ وَالثَّانِي أَنَّ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنْ الْبَلَاغَةِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ كِلَاهُمَا مُعْجِزٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ وَنِهَايَةِ الْإِعْجَازِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّدُ طَرِيقُ الْإِعْجَازِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّرَفِ الْأَعْلَى أَوْ عَلَى بَعْضِ الْمَرَاتِبِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِعْجَازَ لَيْسَ إلَّا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ غَيْرُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَقَّقًا وَمُقَدَّرًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ الْإِتْيَانُ لِلْغَيْرِ بِمِثْلِهِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْإِعْجَازَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُتَّحِدٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَدٌّ مِنْ الْكَلَامِ هُوَ أَبْلَغُ مِمَّا عَدَاهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْغَيْرِ مُعَارَضَتُهُ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ سِحْرِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَضْبِطُهُ
[التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ]
[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ]
قَوْلُهُ (أُصُولُ الْفِقْهِ) الْكِتَابُ مُرَتَّبٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَقِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ إمَّا مَقَاصِدُ الْفَنِّ أَوْ لَا الثَّانِي الْمُقَدِّمَةُ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَحْثُ فِيهِ عَنْ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي هَذَا الْفَنِّ عَنْ غَيْرِهِمَا وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهُوَ مُذَيَّلٌ بِبَابَيْ التَّرْجِيحِ وَالِاجْتِهَادِ وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَسَتَعْرِفُ بَيَانَ الِانْحِصَارِ وَالْمُقَدِّمَةُ مَسُوقَةٌ لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ وَتَحْقِيقِ مَوْضُوعِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ لِلْكَثْرَةِ الْمَضْبُوطَةِ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَعْرِفَهَا بِتِلْكَ الْجِهَةِ لِيَأْمَنَ مِنْ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَكُلُّ عِلْمٍ هُوَ كَثْرَةٌ مَضْبُوطَةٌ بِتَعْرِيفِهِ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الطَّالِبِ وَمَوْضُوعُهُ الَّذِي بِهِ يَمْتَازُ فِي نَفْسِهِ عَنْ سَائِرِ الْعُلُومِ فَحِينَ تَشَوَّفَتْ نَفْسُ السَّامِعِ إلَى التَّعْرِيفِ لِيَتَمَيَّزَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الَّذِي أَذْكُرُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ إغْنَاءً
أَمَّا تَعْرِيفُهَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فَقَالَ (الْأَصْلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ) فَالِابْتِنَاءُ شَامِلٌ لِلِابْتِنَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالِابْتِنَاءِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ (وَتَعْرِيفُهُ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَا يَطَّرِدُ) وَقَدْ عَرَّفَهُ الْإِمَامُ
ــ
[التلويح]
لِلسَّامِعِ عَنْ السُّؤَالِ وَقَالَ عَنْ لِسَانِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا هِيَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْرِيفِهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ لَقَبٌ لِهَذَا الْفَنِّ مَنْقُولٌ عَنْ مُرَكَّبٍ إضَافِيٍّ فَلَهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ تَعْرِيفٌ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ التَّعْرِيفَ اللَّقَبِيَّ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْعِلْمِيَّ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِعْلَامِ وَأَنَّهُ مِنْ الْإِضَافِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ وَالْمُصَنِّفُ قَدَّمَ الْإِضَافِيَّ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ مُقَدَّمٌ وَإِلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَأْخُوذٌ فِي التَّعْرِيفِ اللَّقَبِيِّ، فَإِنْ قَدَّمَ تَفْسِيرَهُ أَمْكَنَ ذِكْرُهُ فِي اللَّقَبِيِّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا الْفِقْهُ وَإِلَّا اُحْتِيجَ إلَى إيرَادِ تَفْسِيرِهِ تَارَةً فِي اللَّقَبِيِّ وَتَارَةً فِي الْإِضَافِيِّ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَمَّا كَانَ أُصُولُ الْفِقْهِ عِنْدَ قَصْدِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ جَمْعًا وَعِنْدَ قَصْدِ الْمَعْنَى اللَّقَبِيِّ مُفْرَدًا كَعَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَنُعَرِّفُهَا أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ، وَقَالَ فَالْآنَ نُعَرِّفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ بِتَذْكِيرِهِ وَاللَّقَبُ عِلْمٌ يُشْعِرُ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمٌ لِهَذَا الْفَنِّ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ مَبْنَى الْفِقْهِ الَّذِي بِهِ نِظَامُ الْمَعَاشِ وَنَجَاةُ الْمَعَادِ، وَذَلِكَ مَدْحٌ.
قَوْلُهُ (أَمَّا تَعْرِيفُهَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ) ، وَهُوَ الْأُصُولُ. (وَالْمُضَافِ إلَيْهِ) ، وَهُوَ الْفِقْهُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ يَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ مُفْرَدَاتِهِ الْغَيْرِ الْبَيِّنَةِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْكُلِّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَجْزَائِهِ وَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الصُّورِيِّ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَعْنَى إضَافَةِ الْمُشْتَقِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُضَافِ مَثَلًا دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهَا فَأَصْلُ الْفِقْهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ وَمُسْتَنِدٌ إلَيْهِ فَالْأُصُولُ جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ مَثَلًا مِنْ حَيْثُ تُبْتَنَى عَلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فُرُوعٌ لَا أُصُولٌ وَقَيْدُ الْحَيْثِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِضَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ، ثُمَّ نَقَلَ الْأَصْلَ فِي الْعُرْفِ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ، مِثْلُ الرَّاجِحِ وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالدَّلِيلِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الدَّلِيلُ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ النَّقْلَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِابْتِنَاءَ كَمَا يَشْمَلُ الْحِسِّيَّ كَابْتِنَاءِ السَّقْفِ عَلَى الْجُدْرَانِ وَابْتِنَاءِ أَعَالِي الْجُدْرَانِ عَلَى أَسَاسِهِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ عَلَى دَوْحَتِهِ كَذَلِكَ يَشْمَلُ الِابْتِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَابْتِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ فَهَاهُنَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ أَنَّ الِابْتِنَاءَ هَاهُنَا عَقْلِيٌّ فَيَكُونُ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا يُبْنَى هُوَ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدُ
فِي الْمَحْصُولِ بِهَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ، إمَّا حَقِيقِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَإِمَّا اسْمِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ كَمَا إذَا رَكَّبْنَا شَيْئًا مِنْ أُمُورٍ هِيَ أَجْزَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِنَا، ثُمَّ وَضَعْنَا لِهَذَا الْمُرَكَّبِ اسْمًا كَالْأَصْلِ وَالْفِقْهِ وَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَنَحْوِهَا فَالتَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ هُوَ تَبْيِينُ
ــ
[التلويح]
إلَيْهِ لَا مَعْنَى بِمُسْتَنَدِ الْعِلْمِ وَمُبْتَنَاهُ إلَّا دَلِيلُهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ إنَّ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ أَعْنِي الدَّلِيلَ مُرَادٌ قَطْعًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى جَعْلِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ لِلْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: ابْتِنَاءُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ إضَافَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ قَطْعًا قُلْتُ: أَرَادَ بِالِابْتِنَاءِ الْحِسِّيِّ كَوْنَ الشَّيْئَيْنِ مَحْسُوسَيْنِ وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُ ابْتِنَاءِ السَّقْفِ عَلَى الْجِدَارِ وَابْتِنَاءِ الْمُشْتَقِّ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَالْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ أَرَادَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مِنْ أَنَّ ابْتِنَاءَ السَّقْفِ عَلَى الْجِدَارِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُبْتَنِيًا عَلَيْهِ وَمَوْضُوعًا فَوْقَهُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِثْلُ ابْتِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ الْحِسِّيِّ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِيِّ بِتَفْسِيرِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِابْتِنَاءِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ لَهُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ ابْتِنَاءَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولَاتِ عَلَى عِلَلِهَا وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْمَصَادِرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ابْتِنَاءٌ عَقْلِيٌّ.
قَوْلُهُ (وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ إمَّا حَقِيقِيٌّ) الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَحَقُّقٌ وَثُبُوتٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ أَوْ لَا الْأُولَى الْمَاهِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيْ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ احْتِيَاجِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ إلَى الْبَعْضِ إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً وَالثَّانِيَةُ الْمَاهِيَّةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ أَيْ الْكَائِنَةُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا اعْتَبَرَ الْوَاضِعُ عِدَّةَ أُمُورٍ فَوَضَعَ بِإِزَائِهَا اسْمًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِ الْأُمُورِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَالْأَصْلِ الْمَوْضُوعِ بِإِزَاءِ الشَّيْءِ وَوَصَفَ ابْتِنَاءَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَالْفِقْهَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْمَسَائِلِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْجِنْسَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْكُلِّيِّ الْمَقُولِ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالنَّوْعَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْكُلِّيِّ الْمَقُولِ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الْحَقِيقَةُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ وَالتَّمْثِيلُ بِالْمُرَكَّبَةِ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ بَعْضِ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ بَسَائِطَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهَا إنَّمَا يُقَالُ لَهَا الْأُمُورُ الِاعْتِبَارِيَّةُ لَا الْمَاهِيَّاتُ الِاعْتِبَارِيَّةُ إذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ مَا يَتَعَقَّلُهُ الْوَاضِعُ لِيَضَعَ بِإِزَائِهِ اسْمًا إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَاهِيَّةٌ حَقِيقَةً أَوْ لَا وَعَلَى الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُهُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ وُجُودَهَا وَاعْتِبَارَاتٍ مِنْهُ فَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِمُسَمَّى الِاسْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَاهِيَّةٌ حَقِيقَةً تَعْرِيفٌ حَقِيقِيٌّ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَوْ بِالْعَرَضِيَّاتِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ يُفِيدُ تَبْيِينَ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ أَشْهَرَ كَقَوْلِنَا الْغَضَنْفَرُ الْأَسَدُ أَوْ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ إجْمَالًا كَقَوْلِنَا الْأَصْلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَتَعْرِيفُ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَكُونُ إلَّا اسْمِيًّا، إذْ لَا حَقَائِقَ لَهَا، بَلْ مَفْهُومَاتٌ وَتَعْرِيفُ الْمَوْجُودَاتِ قَدْ يَكُونُ اسْمِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، إذْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ وَحَقَائِقُ.
فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ
أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لِأَيِّ شَيْءٍ وُضِعَ (وَشَرْطٌ لِكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ الطَّرْدُ) أَيْ كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ (وَالْعَكْسُ) أَيْ كُلُّ مَا صَدَقَ مَا عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِذَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ: إنَّهُ حَيَوَانٌ مَاشٍ لَا يَطَّرِدُ وَلَوْ قِيلَ حَيَوَانٌ إنْ كَانَ بِالْفِعْلِ لَا يَنْعَكِسُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعْرِيفَ الْأَصْلِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ) أَيْ بَيَانُ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ لِأَيِّ شَيْءٍ وُضِعَ
ــ
[التلويح]
حَقِيقِيٌّ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ قُلْتُ: فِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ سَعَةٌ إلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ قَدْ تُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حَقِيقَةُ مُسَمَّى الِاسْمِ وَمَاهِيَّته الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَتَعْرِيفُهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقِيقِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ " هَلْ " الْبَسِيطَةِ الطَّالِبَةِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ تَفْسِيرِ الِاسْمِ وَبَيَانِ مَفْهُومِهِ وَقَدْ تُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَفْهُومُ الِاسْمِ وَمُتَعَقَّلُ الْوَاضِعِ عِنْدَ وَضْعِ الِاسْمِ وَتَعْرِيفًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمُتَعَقَّلِ الْوَاضِعِ فَهَذَا التَّعْرِيفُ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُ الْوَاضِعِ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهَا وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّحِدُ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ وَالْحَقِيقِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ يَكُونُ اسْمِيًّا وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقِيًّا مَثَلًا تَعْرِيفُ الْمُثَلَّثِ فِي مَبَادِئِ الْهَنْدَسَةِ بِشَكْلٍ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ يَصِيرُ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا.
قَوْلُهُ (وَشَرْطٌ لِكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ) أَيْ الْحَقِيقِيِّ وَالِاسْمِيِّ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ صِدْقُ الْمَحْدُودِ عَلَى مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مُطَّرِدًا كُلِّيًّا أَيْ كُلَّمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ فَبِالِاطِّرَادِ يَصِيرُ الْحَدُّ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ. وَأَمَّا الْعَكْسُ فَأَخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَكْسِ الطَّرْدِ بِحَسَبِ مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ، وَهُوَ جَعْلُ الْمَحْمُولِ مَوْضُوعًا مَعَ رِعَايَةِ الْكَمِّيَّةِ بِعَيْنِهَا كَمَا يُقَالُ كُلُّ إنْسَانٍ ضَاحِكٌ وَبِالْعَكْسِ أَيْ كُلُّ ضَاحِكٍ إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَلَا عَكْسَ أَيْ لَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانًا فَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَكْسِ إنَّ كُلَّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عَكْسًا لِقَوْلِنَا كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ فَصَارَ حَاصِلُ الطَّرْدِ حُكْمًا كُلِّيًّا بِالْمَحْدُودِ عَلَى الْحَدِّ وَالْعَكْسُ حُكْمًا كُلِّيًّا بِالْحَدِّ عَلَى الْمَحْدُودِ وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ عَكْسَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُلَّمَا انْتَفَى الْحَدُّ انْتَفَى الْمَحْدُودُ أَيْ كُلَّمَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ فَصَارَ الْعَكْسُ حُكْمًا كُلِّيًّا بِمَا لَيْسَ بِمَحْدُودٍ عَلَى مَا لَيْسَ بِحَدٍّ وَالْحَاصِلُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ جَامِعًا لِأَفْرَادِ الْمَحْدُودِ كُلِّهَا.
قَوْلُهُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعْرِيفَ الْأَصْلِ اسْمِيٌّ) ؛ لِأَنَّهُ تَبْيِينُ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِلْمُرَكَّبِ الِاعْتِبَارِيِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ مَعَ وَصْفِ ابْتِنَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ أَوْ احْتِيَاجِ الْغَيْرِ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي بَيَانِ فَسَادِ التَّعْرِيفِ، إذْ عَدَمُ الِاطِّرَادِ مُفْسِدٌ لَهُ اسْمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ
فَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمَحْصُولِ لَا يَطَّرِدُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَصْلَ (لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَاعِلِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ (وَالصُّورَةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الصُّورِيَّةِ (وَالْغَايَةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ (وَالشُّرُوطِ) كَأَدَوَاتِ الصِّنَاعَةِ مَثَلًا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ صَادِقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا وَالْمَحْدُودُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ (وَالْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَيُزَادُ عَمَلًا لِيُخْرِجَ الِاعْتِقَادِيَّات وَالْوِجْدَانِيَّات فَيَخْرُجُ الْكَلَامُ وَالتَّصَرُّفُ وَمَنْ لَمْ يَزِدْ أَرَادَ الشُّمُولَ) هَذَا التَّعْرِيفُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَعْرِفَةُ إدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ دَلِيلٍ فَخَرَجَ التَّقْلِيدُ وَقَوْلُهُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ النَّفْسُ وَمَا تَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ، إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ حَرَامٌ فَهَذِهِ سِتَّةٌ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرَفَانِ طَرَفُ الْفِعْلِ وَطَرَفُ التَّرْكِ يَعْنِي عَدَمَ الْفِعْلِ فَصَارَتْ اثْنَيْ عَشَرَ فَفِعْلُ الْوَاجِبِ
ــ
[التلويح]
فَفِي الْجُمْلَةِ تَعْرِيفُ الْأَصْلِ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، إذْ لَا يَصْدُقُ أَنَّ كُلَّ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّيْءُ إمَّا دَاخِلٌ فِيهِ أَوْ خَارِجٌ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الشَّيْءِ مَعَهُ بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ الْمَادَّةُ كَالْخَشَبِ لِلسَّرِيرِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الصُّورَةُ كَالْهَيْئَةِ السَّرِيرِيَّةِ لَهُ. وَالثَّانِي إنْ كَانَ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ فَهُوَ الْفَاعِلُ كَالنَّجَّارِ لِلسَّرِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَا لِأَجْلِهِ الشَّيْءُ فَهُوَ الْغَايَةُ كَالْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ وَإِلَّا فَهُوَ الشَّرْطُ كَآلَاتِ النَّجَّارِ وَقَابِلِيَّةِ الْخَشَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ خَمْسَةٌ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْأَصْلِ لُغَةً إلَّا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا هُوَ الْمَادَّةُ كَمَا يُقَالُ أَصْلُ هَذَا السَّرِيرِ خَشَبٌ كَذَا وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصْلٌ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ مُطَّرِدًا مَانِعًا وَهَاهُنَا بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَنْعُ اشْتِرَاطِ الطَّرْدِ فِي مُطْلَقِ التَّعْرِيفِ لَا سِيَّمَا فِي الِاسْمِيِّ فَإِنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ مَشْحُونَةٌ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ مَفْهُومَاتِهَا وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ التَّعْرِيفَاتِ النَّاقِصَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَعَمَّ بِحَيْثُ لَا يُفِيدُ الِامْتِيَازُ إلَّا عَنْ بَعْضِ مَا عَدَا الْمَحْدُودَ وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ تَمَيُّزَهُ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَيُكْتَفَى بِمَا يُفِيدُ الِامْتِيَازَ عَنْهُ كَمَا إذَا قَصَدَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفُرُوعِ فَيُفَسَّرُ الْأَوَّلُ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَالثَّانِي بِالْمُحْتَاجِ وَثَانِيهَا مَنْعُ عَدَمِ صِدْقِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَاعِلِ كَيْفَ وَالْفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدٌ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِلِابْتِنَاءِ إلَّا ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا أَنَّ كَلَامَهُ فِي بَابِ الْمَجَازِ عِنْدَ بَيَانِ جَرَيَانِ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَهُوَ أَصْلٌ. وَرَابِعُهَا أَنَّا إذَا قُلْنَا الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ مَادَّةٌ لِلْفِكْرِ وَأَصْلٌ لَهُ مَعَ أَنَّ ابْتِنَاءَ الْفِكْرِ عَلَيْهَا لَيْسَ حِسِّيًّا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا عَقْلِيًّا بِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ.
قَوْلُهُ (وَالْفِقْهُ) نَقَلَ لِلْمُضَافِ تَعْرِيفَيْنِ مَقْبُولًا وَمُزَيَّفًا وَلِلْمُضَافِ إلَيْهِ
وَالْمَنْدُوبِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ وَفِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي لَا يُثَابُ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالنَّفْعِ عَدَمُ الْعِقَابِ وَبِالضَّرَرِ الْعِقَابُ فَفِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يَكُونُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالتِّسْعَةُ الْبَاقِيَةُ تَكُونُ مِنْ الْأَوَّلِ أَيْ مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالنَّفْعِ الثَّوَابُ وَبِالضَّرَرِ عَدَمُ الثَّوَابِ فَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ مِمَّا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ لَهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا فَفِعْلُ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مِمَّا يَجُوزُ لَهَا وَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا بَقِيَ فِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ خَارِجَيْنِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ لَهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهَا فَيَشْمَلَانِ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ إذَا عَرَفْت هَذَا فَالْحَمْلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَاسِطَةٌ أَوْلَى، ثُمَّ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادِيَّات كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ وَالْوِجْدَانِيَّات أَيْ الْأَخْلَاقَ الْبَاطِنَةَ وَالْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
ــ
[التلويح]
تَعْرِيفَيْنِ صَرَّحَ بِتَزْيِيفِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعْرِيفًا ثَالِثًا فَالْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالنَّفْسِ الْعَبْدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْمَالِ الْبَدَنِ وَأَنْ يُرِيدَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ، إذْ بِهَا الْأَفْعَالُ وَمَعَهَا الْخِطَابُ، وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ وَفَسَّرَ الْمَعْرِفَةَ بِإِدْرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ دَلِيلٍ وَالْقَيْدُ الْأَخِيرُ مِمَّا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ أَصْلًا لَا لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا وَذَهَبَ فِي قَوْلِهِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا إلَى مَا يُقَالُ إنَّ اللَّامَ لِلِانْتِفَاعِ وَعَلَى لِلتَّضَرُّرِ وَقَيَّدَهُمَا بِالْأُخْرَوِيِّ احْتِرَازًا عَمَّا تَنْتَفِيهِ النَّفْسُ أَوْ تَتَضَرَّرُ فِي الدُّنْيَا مِنْ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ وَالْمُشْعِرُ بِهَذَا التَّقَيُّدِ شُهْرَةُ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَذَكَرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَيَيْنِ آخَرَيْنِ فَصَارَتْ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةُ خَمْسَةً: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ وَاثْنَانِ لَا تَشْمَلُهَا كُلَّهَا وَالْأَقْسَامُ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ إنْ تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَمُبَاحٌ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ حَرَامٌ وَبِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَبِدُونِ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ هَذَا عَلَى رَأْيِ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا مِمَّا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَالْمَكْرُوه تَحْرِيمًا مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ كَالْحَرَامِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى رَأْيِهِمَا، وَهُوَ أَنَّ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ حَرَامٌ وَبِدُونِهِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ إنْ كَانَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ إنْ كَانَ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ بِمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَهُ مُسْتَحِقٌّ مَحْذُورًا دُونَ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ مَا يَشْمَلُ الْفَرْضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَائِعٌ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِمْ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ وَالْحَجُّ وَاجِبٌ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا.
وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا فَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات هِيَ عِلْمُ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ هِيَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفُ كَالزُّهْدِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا وَحُضُورِ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ هِيَ الْفِقْهُ الْمُصْطَلَحُ، فَإِنْ أَرَدْت بِالْفِقْهِ هَذَا الْمُصْطَلَحَ زِدْت عَمَلًا عَلَى قَوْلِهِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَإِنْ أَرَدْت مَا يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ لَمْ تَزِدْ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إنَّمَا لَمْ يَزِدْ عَمَلًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الشُّمُولَ أَيْ أَطْلَقَ الْفِقْهَ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَهَا وَعَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات أَوْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَوْ الْعَمَلِيَّاتِ، ثُمَّ سَمَّى الْكَلَامَ فِقْهًا أَكْبَرَ
ــ
[التلويح]
وَالْمُرَادُ بِالْمَنْدُوبِ مَا يَشْمَلُ السُّنَّةَ وَالنَّقْلَ فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ سِتَّةً وَلِكُلٍّ مِنْهَا طَرَفَا فِعْلٍ أَيْ إيقَاعٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ وَتَرْكٍ أَيْ عَدَمِ فِعْلٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُرَادُ بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنْ الْمَصْدَرِ كَالْهَيْئَةِ الَّتِي تُسَمَّى صَلَاةً وَالْحَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى صَوْمًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَثَرٌ صَادِرٌ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَطَرَفُ فِعْلِهِ إيقَاعًا وَطَرَفُ تَرْكِهِ عَدَمُ إيقَاعِهِ وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ خَاصَّةً إلَّا أَنَّهَا قَدْ تُطْلَقُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ أَيْضًا فَيُقَالُ عَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْوَاجِبِ حَرَامٌ وَعَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ التَّرْكَ بِعَدَمِ الْفِعْلِ لِيَصِيرَ قِسْمًا آخَرَ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ كَفُّ النَّفْسِ لَكَانَ تَرْكُ الْحَرَامِ مَثَلًا فِعْلَ الْوَاجِبِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِبَارِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَجَعْلِ الْأَقْسَامِ اثْنَيْ عَشَرَ وَهَلَّا اقْتَصَرَ عَلَى السِّتَّةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْوَاجِبِ مَثَلًا أَهَمَّ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ قُلْتُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ الْوَاجِبُ يَدْخُلُ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ بِمَعْنَى عَدَمِ فِعْلِ الْحَرَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ لَا يُعَاقَبُ لِعَفْوٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سَهْوٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَبَاحِثَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْحَرَامِ مِمَّا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُثَابَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوَاجِبِ لَا عَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ وَإِلَّا لَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مَثُوبَاتٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ كُلِّ حَرَامٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَنَهْيُ النَّفْسِ كَفُّهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ فِعْلِ الْوَاجِبِ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ بِمَعْنَى كَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ عِنْدَ تَهَيُّؤِ الْأَسْبَابِ وَمَيَلَانِ النَّفْسِ إلَيْهِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِمْكَانَ الْخَاصَّ لِيُقَابِلَ الْوُجُوبَ، وَفِي الْخَامِسِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِمْكَانَ الْعَامَّ لِيُقَابِلَ الْحُرْمَةَ، فَإِنْ قُلْتَ: إنْ أُرِيدَ بِالْجَوَازِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَفِعْلُ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ
(وَقِيلَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ) فَالْعِلْمُ جِنْسٌ، وَالْبَاقِي فَصْلٌ فَقَوْلُهُ بِالْأَحْكَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ الْحُكْمُ الْمُصْطَلَحُ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلَّقُ إلَخْ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ يَخْرُجُ الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَحْكَامٍ عَنْ الْحَدِّ أَيْ يُخْرِجُ التَّصَوُّرَاتِ وَيُبْقِي التَّصْدِيقَاتِ وَبِالشَّرْعِيَّةِ يُخْرِجُ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَوْلُهُ بِالْأَحْكَامِ يَكُونُ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ مَا سِوَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ إلَى آخِرِهِ فَالْحُكْمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ قِسْمَانِ شَرْعِيٌّ
ــ
[التلويح]
مَا سِوَى الْوَاجِبِ مِمَّا يَجُوزُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَكَذَا تَرْكُ مَا سِوَى الْوَاجِبِ يَشْمَلُ تَرْكَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قُلْتُ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِقَرِينَةِ التَّصْرِيحِ بِدُخُولِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا. وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا يُحَرَّمُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ يَشْمَلُ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا وَالرَّابِعُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا تَصَوُّرُهُمَا وَلَا التَّصْدِيقُ بِثُبُوتِهِمَا لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ تَصَوُّرِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَا عَنْ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مِنْ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَاكَ حَرَامٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ فَأَحْكَامُ الْوِجْدَانِيَّاتِ مِنْ الْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ تُدْرَكُ بِالدَّلِيلِ وَثُبُوتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْوِجْدَانِ كَمَا فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِعُرْفِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِالدَّلِيلِ وَوُجُودُهَا بِالْحِسِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اعْتِرَاضَهُ عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَلَا بَعْضِهَا الْمُعَيَّنِ وَلَا الْمُبْهَمِ وَارِدٌ هَاهُنَا فِيمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ لِلْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ مَعَ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ فِي التَّعْرِيفَاتِ.
1 -
قَوْلُهُ (وَقِيلَ الْعِلْمُ) عَرَّفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْفِقْهَ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْعِلْمِ إمَّا حُكْمٌ أَوْ غَيْرُهُ وَالْحُكْمُ إمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ لَا وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّرْعِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ أَوْ لَا وَالْعَمَلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ حَاصِلًا مِنْ دَلِيلِهِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ أَوْ لَا فَالْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْحَاصِلُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ هُوَ الْفِقْهُ وَخَرَجَ الْعِلْمُ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْغَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الشَّرْعِ كَالْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَقْلِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ أَوْ مِنْ الْحِسِّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ أَوْ مِنْ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَخَرَجَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَتُسَمَّى اعْتِقَادِيَّةً وَأَصْلِيَّةً كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَالْإِيمَانِ وَاجِبًا وَخَرَجَ أَيْضًا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ.
قَوْلُهُ (يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ) الْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ
أَيْ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَغَيْرُ شَرْعِيٍّ أَيْ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عليه السلام وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ لِتَوَقُّفِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الشَّرْعِيُّ، إمَّا نَظَرِيٌّ، وَإِمَّا عَمَلِيٌّ فَقَوْلُهُ الْعَمَلِيَّةُ يُخْرِجُ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ وَقَوْلُهُ مِنْ أَدِلَّتِهَا أَيْ الْعِلْمِ
ــ
[التلويح]
عَلَى إسْنَادِ أَمْرٍ إلَى آخَرَ أَيْ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِالْإِيجَابِ أَوْ السَّلْبِ، وَفِي اصْطِلَاحٍ الْأُصُولِ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ عَلَى إدْرَاكِ أَنَّ النِّسْبَةَ وَاقِعَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ وَيُسَمَّى تَصْدِيقًا، وَهُوَ لَيْسَ بِمُرَادٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ وَالْفِقْهُ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَيْضًا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ تَكْرَارًا، بَلْ الْمُرَادُ النِّسْبَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الَّتِي الْعِلْمُ بِهَا تَصْدِيقٌ وَبِغَيْرِهَا تَصَوُّرٌ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ التَّصَوُّرَاتُ وَيَبْقَى التَّصْدِيقَاتُ فَيَكُونُ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ تَصْدِيقًا حَاصِلًا مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ الَّتِي نُصِّبَتْ فِي الشَّرْعِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا وَفَوَائِدُ الْقُيُودِ ظَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْمُصَنِّفُ جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا مُصْطَلَحُ الْأُصُولِ فَاحْتَاجَ إلَى تَكَلُّفٍ فِي تَبْيِينِ فَوَائِدِ الْقُيُودِ وَتَعَسُّفٍ فِي تَقْدِيرِ مُرَادِ الْقَوْمِ فَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْعِيِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَلَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا مَا هُوَ خِطَابٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَمِنْهَا مَا هُوَ خِطَابٌ بِمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عليه السلام؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ وَعَلَى التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام بِدَلَالَةِ مُعْجِزَاتِهِ فَلَوْ تَوَقَّفَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ فَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْعِيَّةِ يُخْرِجُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى التَّوَقُّفِ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْخِطَابُ بِمَا يَتَوَقَّفُ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُفَسَّرَ بِالْخِطَابِ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ تَوَقُّفَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالشَّرْعِ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ عليه السلام وَتَوَقُّفُ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِ شَرْعِ النَّبِيِّ عليه السلام عَلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَعَلَى التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَدَلَالَةِ مُعْجِزَاتِهِ لَا يَقْتَضِي تَوَقُّفَهُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَا عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَا مُنَافٍ لِتَوَقُّفِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ عَلَى الشَّرْعِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ لَا وُجُوبَ إلَّا بِالسَّمْعِ.
قَوْلُهُ، (ثُمَّ الشَّرْعِيُّ) أَيْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى الشَّرْعِ إمَّا نَظَرِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ وَإِمَّا عَمَلِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمَلِيَّةِ لِإِخْرَاجِ النَّظَرِيَّةِ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى
الْحَاصِلِ لِلشَّخْصِ الْمَوْصُوفِ بِهِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُخْرِجُ التَّقْلِيدَ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا لَهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ وَقَوْلُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ يُخْرِجُ الْإِجْمَالِيَّةَ كَالْمُقْتَضِي وَالنَّافِي، وَقَدْ زَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ.
وَلَمَّا عُرِفَ الْفِقْهُ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَبَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ وَتَعْرِيفُ الشَّرْعِيَّةِ فَقَالَ (وَالْحُكْمُ قِيلَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى) هَذَا التَّعْرِيفُ مَنْقُولٌ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فَقَوْلُهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ جَمِيعَ الْخِطَابَاتِ.
وَقَوْلُهُ (الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ) يُخْرِجُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَبَقِيَ فِي الْحَدِّ نَحْوُ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ فَقَالَ (بِالِاقْتِضَاءِ) أَيْ الطَّلَبِ وَهُوَ إمَّا طَلَبُ الْفِعْلِ جَازِمًا كَالْإِيجَابِ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ كَالنَّدْبِ وَإِمَّا طَلَبُ التَّرْكِ جَازِمًا كَالتَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ كَالْكَرَاهَةِ (أَوْ التَّخْيِيرِ) أَيْ الْإِبَاحَةِ
ــ
[التلويح]
التَّقْدِيرِ الثَّانِي لَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُصْطَلَحُ شَامِلًا لِلنَّظَرِيِّ، وَفِيهِ كَلَامٌ سَيَجِيءُ.
قَوْلُهُ (أَيْ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ) قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَدِلَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَحْكَامِ وَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِالْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ حَاصِلًا عَنْ الْأَدِلَّةِ فَدَفْعُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ لَا بِالْأَحْكَامِ إذْ الْحَاصِلُ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا الشَّيْءُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ فَهُوَ قَدِيمٌ لَا يَحْصُلُ مِنْ شَيْءٍ، وَمَعْنَى حُصُولِ الْعِلْمِ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ فَيَعْلَمُ مِنْهُ الْحُكْمَ فَعِلْمُ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَنِدِ إلَى عِلْمِهِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ وَقَيَّدَ الْأَدِلَّةَ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي أَوْ بِعَدَمِ وُجُودِهِ لِوُجُودِ النَّافِي لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ) ذَهَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَى أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ عَنْ الْأَدِلَّةِ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَعِلْمِ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ عليهما السلام وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاسْتِنْبَاطِ كَعِلْمِ الْمُجْتَهِدِ وَالْأَوَّلُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا اصْطِلَاحًا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاسْتِنْبَاطِ احْتِرَازًا عَنْهُ وَالْمُصَنِّفُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ فَجَزَمَ بِأَنَّهُ مُكَرَّرٌ لِخُرُوجِهِ بِقَوْلِهِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ حُصُولُ الْعِلْمِ عَنْ الدَّلِيلِ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِدْلَالِ، إذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مَأْخُوذًا عَنْ الدَّلِيلِ فَيَخْرُجُ عِلْمُ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ عليهما السلام أَيْضًا قُلْنَا لَوْ سَلَّمَ فَذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ لِلتَّصْرِيحِ بِمَا عَلِمَ الْتِزَامًا أَوْ لِدَفْعِ الْوَهْمِ أَوْ لِلْبَيَانِ دُونَ الِاحْتِرَازِ وَمِثْلُهُ شَائِعٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ.
قَوْلُهُ (وَلَمَّا عَرَّفَ الْفِقْهَ) الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَعْرِيفٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ لَا لِلْحُكْمِ الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَالْمُصَنِّفُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَهُ وَأَنَّ الشَّرْعِيَّ قَيْدٌ زَائِدٌ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كَوْنَهُ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ كُلُّ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَفُّحِهِ كُتُبَهُمْ فَنَقُولُ عَرَّفَ بَعْضُ
(وَقَدْ زَادَ الْبَعْضُ أَوْ الْوَضْعِ لِيَدْخُلَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا) اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ نَوْعَانِ، إمَّا تَكْلِيفِيٌّ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَإِمَّا وَضْعِيٌّ، وَهُوَ الْخِطَابُ بِأَنَّ هَذَا سَبَبُ ذَلِكَ أَوْ شَرْطُهُ كَالدُّلُوكِ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فَلَمَّا ذَكَرَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ التَّكْلِيفِيُّ وَجَبَ ذِكْرُ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْوَضْعِيُّ وَالْبَعْضُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَضْعِيَّ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ الدُّلُوكِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الدُّلُوكُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ وَالْوُجُوبُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ تَعَلُّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لَيْسَ هَذَا وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ
ــ
[التلويح]
الْأَشَاعِرَةِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْخِطَابُ فِي اللُّغَةِ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ نَحْوَ الْغَيْرِ لِلْإِفْهَامِ، ثُمَّ نُقِلَ إلَى مَا يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ، وَهُوَ هَاهُنَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْأَزَلِيُّ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسَمَّى فِي الْأَزَلِ خِطَابًا فَسَّرَ الْخِطَابَ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ لِلْإِفْهَامِ أَوْ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ إفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِهِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ حُكْمٌ أَصْلًا، إذْ لَا خِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ فَدَخَلَ فِي الْحَدِّ خَوَاصُّ النَّبِيِّ عليه السلام كَإِبَاحَةِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسَاءِ وَخَرَجَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَحْوَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَنْزِيهَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا يُقَالُ إضَافَةُ الْخِطَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ إلَّا خِطَابُهُ تَعَالَى وَقَدْ وَجَبَ طَاعَةُ النَّبِيِّ عليه السلام وَأُولِي الْأَمْرِ وَالسَّيِّدِ فَخِطَابُهُمْ أَيْضًا حُكْمٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُمْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا فَلَا حُكْمَ إلَّا حُكْمُهُ تَعَالَى، ثُمَّ اُعْتُرِضَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْقَصَصُ الْمُبَيِّنَةُ لِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَفْعَالِهِمْ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَحْكَامًا فَزِيدَ عَلَى التَّعْرِيفِ قَيْدٌ يُخَصِّصُهُ وَيُخْرِجُ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْخِطَابِ بِالْأَفْعَالِ فِي الْقَصَصِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ الْأَعْمَالِ لَيْسَ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، إذْ مَعْنَى التَّخْيِيرِ إبَاحَةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِلْمُكَلَّفِ، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنْهُ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ النَّدْبُ أَوْ طَلَبُ التَّرْكِ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِمْ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَادٌ وَالْمَعْنَى خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِالْأَفْعَالِ فِي صُوَرِ النَّقْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ زَادَ الْبَعْضُ) اعْتَرَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْخِطَابَ عِنْدَكُمْ قَدِيمٌ وَالْحُكْمُ حَادِثٌ لِكَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِالْحُصُولِ بَعْدَ الْعَدَمِ كَقَوْلِنَا حَلَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا وَلِكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِالْحَادِثِ كَقَوْلِنَا حَلَّتْ بِالنِّكَاحِ
فِي صُورَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا نَوْعًا (وَبَعْضُهُمْ قَدْ عَرَّفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِهَذَا) أَيْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُتَابِعِي الْأَشْعَرِيِّ قَالُوا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى
ــ
[التلويح]
وَحُرِّمَتْ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ، وَهُوَ لِلتَّشْكِيكِ وَالتَّرْدِيدِ فِينَا فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّحْدِيدِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ مِثْلَ سَبَبِيَّةِ الدُّلُوكِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَشَرْطِيَّةِ الطَّهَارَةِ لَهَا وَمَانِعِيَّةِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا وَالْمُصَنِّفُ أَهْمَلَ فِي تَفْسِيرِ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ ذِكْرَ الْمَانِعِيَّةِ فَأَجَابَتْ الْأَشَاعِرَةُ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ اتِّصَافِ الْحُكْمِ بِالْحُصُولِ بَعْدَ الْعَدَمِ، بَلْ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ هُوَ التَّعَلُّقُ وَالْمَعْنَى تَعَلَّقَ الْحِلُّ بِهَا بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا وَبِمَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْحَادِثِ بِمَعْنَى تَأْثِيرِ الْحَادِثِ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ كَوْنُ الْحَادِثِ أَمَارَةً عَلَيْهِ وَمُعَرِّفًا لَهُ، إذْ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ وَمُؤَثِّرَاتٌ وَالْحَادِثُ يَصْلُحُ أَمَارَةً وَمُعَرِّفًا لِلْقَدِيمِ كَالْعَالَمِ لِلصَّانِعِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ أَوْ هَاهُنَا لِتَقْسِيمِ الْمَحْدُودِ وَتَفْصِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَهُ تَعَلُّقُ الِاقْتِضَاءِ وَنَوْعٌ لَهُ تَعَلُّقُ التَّخْيِيرِ فَلَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ بِدُونِ التَّفْصِيلِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالْتَزَمَهُ بَعْضُهُمْ وَزَادَ فِي التَّعْرِيفِ قَيْدًا يَعُمُّهُ وَيَجْعَلُهُ شَامِلًا لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ فَقَالَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ أَوْ الْوَضْعِ أَيْ وَضْعِ الشَّارِعِ وَجَعْلِهِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ حُكْمٌ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّيهِ حُكْمًا، وَإِنْ اصْطَلَحَ غَيْرُنَا عَلَى تَسْمِيَتِهِ حُكْمًا فَلَا مُشَاحَّةَ مَعَهُ وَعَلَيْهِ تَغْيِيرُ التَّعْرِيفِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ خُرُوجَهَا عَنْ الْحَدِّ فَإِنَّ مُرَادَنَا مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ أَعَمُّ مِنْ التَّصْرِيحِ وَالضِّمْنِيِّ وَخِطَابُ الْوَضْعِ مِنْ قَبِيلِ الضِّمْنِيِّ، إذْ مَعْنَى سَبَبِيَّةِ الدُّلُوكِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ، وَمَعْنَى شَرْطِيَّةِ الطَّهَارَةِ وُجُوبُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ بِدُونِهَا، وَمَعْنَى مَانِعِيَّةِ النَّجَاسَةِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَعَهَا أَوْ وُجُوبُ إزَالَتِهَا حَالَةَ الصَّلَاةِ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعُ وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْحَقَّ زِيَادَةُ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ نَوْعَانِ تَكْلِيفِيٌّ وَوَضْعِيٌّ فَلَمَّا ذَكَرَ أَحَدَهُمَا وَجَبَ ذِكْرُ الْآخَرِ وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْوَضْعِ دَاخِلًا فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ أَيْ فِي التَّكْلِيفِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا تَوْجِيهَ لِهَذَا الْكَلَامِ أَصْلًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ حُكْمًا وَيَصْطَلِحُ عَلَى تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَقْسَامِ الْخِطَابِ حُكْمًا دُونَ الْبَعْضِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْوَضْعِيِّ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، بَلْ كَيْفَ يَصِحُّ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ كَوْنَهُ خَارِجًا عَنْ التَّعْرِيفِ وَيَجْعَلُ الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ أَعَمَّ مِنْهُ شَامِلًا لَهُ فَأَيُّ ضَرَرٍ لَهُ فِي تَغَايُرِ مَفْهُومَيْهِمَا، بَلْ كَيْفَ يَتَّحِدُ مَفْهُومُ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَفْهُومَ مِنْ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ تَعَلُّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِيهِ تَسَامُحٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لَهُ أَوْ سَبَبًا أَوْ مَانِعًا.
1 -
قَوْلُهُ (وَبَعْضُهُمْ عَرَّفَ) ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَصَرَاتِ أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةً إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ وَصَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ بِأَنَّ
(فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مَجَازًا) بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ (كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ) لَكِنْ لَمَّا شَاعَ فِيهِ صَارَ مَنْقُولًا اصْطِلَاحِيًّا، وَهُوَ حَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ (يَرُدُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ (إنَّ الْحُكْمَ الْمُصْطَلَحَ بَيْنَ) الْفُقَهَاءِ (مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ لَا هُوَ) أَيْ لَا الْخِطَابُ فَلَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْرِيفِ هُنَا (وَأَيْضًا يَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ) كَجَوَازِ بَيْعِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَصَلَاتِهِ وَكَوْنِهَا مَنْدُوبَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ أَنَّهُ حُكْمٌ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ حُكْمٌ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ
ــ
[التلويح]
الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَوَهَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْحُكْمِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ فِي أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ قَالَ الْمُصَنِّفُ إذَا كَانَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ فَمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ لِيَكُونَ قَيْدًا مُفِيدًا مُخْرِجًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ وَإِذَا كَانَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ لَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَإِلَّا لَكَانَ الْحَدُّ أَعَمَّ مِنْ الْمَحْدُودِ لِتَنَاوُلِهِ مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَحْدُودَ لَا يَتَنَاوَلُهُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الشَّرْعِ.
قَوْلُهُ (فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ اللَّهِ إلَخْ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ لَا خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيَّةِ مُكَرَّرًا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ لَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ قُلْنَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ.
قَوْلُهُ (وَالْفُقَهَاءُ) يُرِيدُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةٌ فِيمَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ حَيْثُ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ أَعْنِي الْحُكْمَ عَلَى الْمَفْعُولِ أَعْنِي الْمَحْكُومَ بِهِ.
قَوْلُهُ (يَرُدُّ عَلَيْهِ) إشَارَةٌ إلَى اعْتِرَاضَاتٍ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ مَعَ الْجَوَابِ عَنْ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا نَفْسِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِمَّا أُورِدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ كَمَا أُرِيدَ بِالْحُكْمِ مَا حُكِمَ بِهِ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ مَا خُوطِبَ بِهِ لِلْقَرِينَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَيْسَ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ وَنَحْوَهُمَا وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ تَسَامُحٌ الثَّالِثُ، وَهُوَ لِلْعَلَّامَةِ الْمُحَقِّقِ عَضُدِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَنَّ الْحُكْمَ نَفْسُ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْإِيجَابُ هُوَ نَفْسُ قَوْلِهِ افْعَلْ وَلَيْسَ لِلْفِعْلِ مِنْهُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَيْسَ لِمُتَعَلَّقِهِ مِنْهُ صِفَةٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْدُومِ، وَهُوَ إذَا نُسِبَ إلَى الْحَاكِمِ يُسَمَّى إيجَابًا وَإِذَا نُسِبَ إلَى مَا فِيهِ الْحُكْمُ
وَلِيِّهِ قُلْنَا هَذَا فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِمَالِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ أَدَاءُ الْوَلِيِّ حُكْمٌ آخَرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ لَا عَيْنُهُ وَسَيَجِيءُ فِي بَابِ الْحُكْمِ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَفْعَالِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ إذْ لَا خِطَابَ هُنَا، (إلَّا أَنْ يُقَالَ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَصَادِرَ قَدْ تَقَعُ ظَرْفًا، نَحْوُ آتِيك طُلُوعَ الْفَجْرِ أَيْ وَقْتَ طُلُوعِهِ فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَبِيلُ فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ أَيْ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ (يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ بِهَذَا إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ) فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ (وَأَيْضًا يَخْرُجُ نَحْوُ آمِنُوا وَفَاعْتَبِرُوا) أَيْ مِنْ الْحَدِّ مَعَ أَنَّهَا حُكْمٌ فَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا التَّصْدِيقُ فَوُجُوبُ التَّصْدِيقِ حُكْمٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ إذْ الْمُرَادُ بِالْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ وَوُجُوبُ الِاعْتِبَارِ أَيْ الْقِيَاسُ حُكْمٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ.
(وَيَقَعُ التَّكْرَارُ بَيْنَ الْعَمَلِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ) ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ
ــ
[التلويح]
وَهُوَ الْفِعْلُ يُسَمَّى وُجُوبًا وَهُمَا مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ فَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَجْعَلُونَ أَقْسَامَ الْحُكْمِ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ مَرَّةً وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ أُخْرَى وَتَارَةً الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ الثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ تَعَلُّقُهَا بِفِعْلِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْوَلِيِّ مَثَلًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحُقُوقِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَرَدَّهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَصَلَاتِهِ وَكَوْنِهَا مَنْدُوبَةً وَثَانِيًا بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِمَالِ الصَّبِيِّ أَوْ ذِمَّتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَأَدَاءَ الْوَلِيِّ حُكْمٌ آخَرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنْ لَا حُكْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّبِيِّ إلَّا وُجُوبُ أَدَاءِ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ لَا يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَإِنْ أُقِيمَ الْعِبَادُ مَقَامَ الْمُكَلَّفِينَ لِانْتِفَاءِ التَّعَلُّقِ بِالْأَفْعَالِ بِأَنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ لَيْسَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْتِيِّ بِهِ مُوَافِقًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَوْ مُخَالِفًا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ كَكَوْنِ الشَّخْصِ مُصَلِّيًا أَوْ تَارِكًا لِلصَّلَاةِ، وَمَعْنَى جَوَازِ الْبَيْعِ صِحَّتُهُ، وَمَعْنَى كَوْنِ صَلَاتِهِ مَنْدُوبَةً أَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُحَرِّضَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَيَأْمُرَهُ بِهَا لِقَوْلِهِ عليه السلام «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ» الثَّالِثُ أَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ لِعَدَمِ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَجَابَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ فِيمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَاشِفٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ وَمُعَرِّفٌ لَهُ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ الرَّابِعُ أَنَّهُ غَيْرُ شَامِلٍ لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْحُكْمُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَكُونُ حَدُّ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِخِطَابَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَيَقَعُ التَّكْرَارُ (إلَّا أَنْ يُقَالَ نَعْنِي بِالْأَفْعَالِ مَا يَعُمُّ فِعْلَ الْجَوَارِحِ وَفِعْلَ الْقَلْبِ وَبِالْعَمَلِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِالْجَوَارِحِ) فَانْدَفَعَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ التَّكْرَارُ وَخَرَجَ جَوَابُ الْإِشْكَالِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ يَخْرُجُ نَحْوَ آمِنُوا وَفَاعْتَبِرُوا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ.
(وَالشَّرْعِيَّةُ مَا لَا تُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ) سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ وَارِدًا فِي عَيْنِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ وَارِدًا فِي صُورَةٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَذَا الْحُكْمُ كَالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ فَتَكُونُ أَحْكَامُهَا شَرْعِيَّةً إذْ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لَا يُدْرَكُ الْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ (فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ حُسْنُ كُلِّ فِعْلٍ وَقُبْحُهُ عِنْدَ نُفَاةِ كَوْنِهِمَا عَقْلِيَّيْنِ) اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا يُدْرَكَانِ عَقْلًا وَبَعْضُهَا لَا بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى
ــ
[التلويح]
بِأَفْعَالِ الْقَلْبِ، مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ أَيْ التَّصْدِيقِ وَوُجُوبِ الِاعْتِبَارِ أَيْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ. الْخَامِسُ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ اخْتَصَّ بِالْعَمَلِيَّاتِ وَخَرَجَتْ النَّظَرِيَّاتُ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ مُكَرَّرًا وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلِ مَا يَعُمُّ الْقَلْبَ وَالْجَوَارِحَ وَبِالْعَمَلِ مَا يَخُصُّ الْجَوَارِحَ فَلَا يَخْرُجُ مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ عَنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ مُكَرَّرًا لِإِفَادَتِهِ خُرُوجَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْجَوَارِحِ عَنْ تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا حُمِلَ الْحُكْمُ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ عَلَى الْمُصْطَلَحِ فَذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ مُكَرَّرٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ خَارِجٌ بِقَيْدِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ وَمِثْلَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ الْمُصْطَلَحِ لِخُرُوجِهِ بِقَيْدِ الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ لَا يُقَالُ مَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ حُجَجًا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا فَيَدْخُلُ فِي الِاقْتِضَاءِ الضِّمْنِيُّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّقْيِيدَ بِالْعَمَلِيَّةِ يُقَيِّدُ إخْرَاجَ مِثْلِ جَوَازِ الْإِجْمَاعِ وَوُجُوبِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
قَوْلُهُ (وَالشَّرْعِيَّةُ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ) بِنَفْسِ الْحُكْمِ أَوْ بِأَصْلِهِ الْمَقِيسِ هُوَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا وُجُوبُ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ مِثْلُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ حُجَّةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَسِّرْ الشَّرْعِيَّةَ بِمَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ الْحُكْمَ مُفَسَّرٌ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْعِ تَكْرَارًا أَوْ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ، إذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِ الْأَحْكَامِ فَلَوْ كَانَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهِ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ لَا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيِّ تَكْرَارًا أَلْبَتَّةَ أَيَّ تَفْسِيرٍ فَسَّرَ.
قَوْلُهُ (فَيَدْخُلُ) يُرِيدُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ عَلَى رَأْيِ
خِطَابِ الشَّارِعِ فَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِقْهِ، بَلْ هُوَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَالثَّانِي هُوَ الْفِقْهُ وَحَدُّ الْفِقْهِ يَكُونُ صَحِيحًا جَامِعًا مَانِعًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فَحُسْنُ كُلِّ فِعْلٍ وَقُبْحُهُ شَرْعِيٌّ فَيَكُونَانِ مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ حُسْنَ التَّوَاضُعِ وَالْجُودَ وَنَحْوَهُمَا وَقُبْحَ أَضْدَادِهِمَا لَا يُعَدَّانِ مِنْ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عِنْدَ أَحَدٍ فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا صَحِيحًا لِلْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ. (وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ (الَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً لِإِخْرَاجِ مِثْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا مِنْهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ ذُكِرَ فِي الْمَحْصُولِ لِيُخْرِجَ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَمْثَالِهِمَا إذْ لَوْ لَمْ يُخْرِجْ لَكَانَ الشَّخْصُ الْعَالِمُ بِوُجُوبِهِمَا فَقِيهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ
ــ
[التلويح]
الْأَشَاعِرَةِ شَامِلٌ لِلْعِلْمِ عَنْ دَلِيلٍ بِحُسْنِ الْجُودِ وَالتَّوَاضُعِ أَيْ وُجُوبِهِمَا أَوْ نَدْبِهِمَا وَقُبْحِ الْبُخْلِ وَالتَّكَبُّرِ أَيْ حُرْمَتِهِمَا أَوْ كَرَاهَتِهِمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ لَا تُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ عَلَى رَأْيِهِمْ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهَا مِنْ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ لَا مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَمَلِيَّةً بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ أَخْلَاقُ مَلَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْعِلْمَ بِحُسْنِهَا وَقُبْحِهَا مِنْ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا سَبَقَ بِأَنَّهُ يُزَادُ عَمَلًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا لِيَخْرُجَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَبِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَيْ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ الْعَمَلِيَّاتِ عِلْمُ الْفِقْهِ فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا ذَكَرَهُ ثَمَّةَ أَوْ ذَهِلَ عَنْ قَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ هَاهُنَا.
قَوْلُهُ (وَلَا يُرَادُ عَلَيْهِ) الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ إنَّمَا يُسَمَّى فِقْهًا إذَا كَانَ حُصُولُهُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ حَتَّى أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَهَرَ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْمُتَدَيِّنُ وَغَيْرُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الْفِقْهِ اصْطِلَاحًا وَلِهَذَا يَذْكُرُونَ قَيْدَ الِاكْتِسَابِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَالْإِمَامُ قَيَّدَ فِي الْمَحْصُولِ الْأَحْكَامَ بِاَلَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَالَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْفِقْهِ وَلَا يُعَدُّ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْتَرَزْ عَنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمُجَرَّدِ وُجُوبِهِمَا فَقِيهًا عَلَى مَا فَهِمَهُ الْمُصَنِّفُ فَاعْتَرَضَ بِمَنْعِ لُزُومِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفِقْهُ لَيْسَ عِلْمًا بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ قَلَّ حَتَّى يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ فَقِيهًا، بَلْ الْعَالِمُ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ غَرِيبَةٍ اسْتِدْلَالِيَّةٍ وَحْدَهَا لَا يُسَمَّى فَقِيهًا، ثُمَّ إذَا كَانَ اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهَا عَنْ تَعْرِيفِهِمْ الْفِقْهَ فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ الْمُخْرِجُ لَهَا ضَائِعًا وَلَا الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا مِنْ الْفِقْهِ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ وَلَا الِاصْطِلَاحُ عَلَى ذَلِكَ صَالِحًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْأَحْكَامِ) اعْتِرَاضٌ عَلَى تَعْرِيفِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ إمَّا الْكُلُّ أَيْ
فَأَقُولُ هَذَا الْقَيْدُ ضَائِعٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْرِجْ لَكَانَ الشَّخْصُ الْعَالِمُ بِوُجُوبِهِمَا فَقِيهًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ لَيْسَ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّ الشَّخْصَ الْعَالِمَ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَدِلَّتِهَا سَوَاءٌ يَعْلَمُ كَوْنَهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُ كَالْمَسَائِلِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا كَالْعِلْمِ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ غَرِيبَةٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْفِقْهِ لَكِنَّ الْعَالِمَ بِهَا وَحْدَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِمَا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى، وَلَا ضَابِطَ يَجْمَعُ أَحْكَامَهَا، وَلَا يُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ لِوُجُودٍ لَا أَدْرِي، وَلَا بَعْضَ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِالْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ لِلْجَهْلِ بِهِ، وَلَا التَّهَيُّؤُ لِلْكُلِّ إذْ التَّهَيُّؤُ الْبَعِيدُ قَدْ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ وَالْقَرِيبُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلَا يُرَادُ أَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ عِلْمُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَدْرِ الدَّهْرَ وَلِلْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ رُبَّمَا يَكُونُ مِمَّا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ وَأَيْضًا لَا يَلِيقُ فِي الْحُدُودِ أَنْ يُذْكَرَ الْعِلْمُ وَيُرَادَ بِهِ تَهَيُّؤٌ مَخْصُوصٌ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ أَصْلًا وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِقْهُ عِلْمًا بِجُمْلَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ مَضْبُوطَةٍ فَلِهَذَا قَالَ:
ــ
[التلويح]
الْمَجْمُوعُ، وَإِمَّا كُلُّ وَاحِدٍ، وَإِمَّا بَعْضٌ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ إلَى الْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ كَالثُّلُثَيْنِ مَثَلًا، وَإِمَّا الْبَعْضُ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَلَّ وَالْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْحَوَادِثَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي نَفْسِهَا بِانْقِضَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ إلَّا أَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا مَا دَامَتْ الدُّنْيَا غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حَصْرِ الْحَاصِرِينَ وَضَبْطِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى فَلَا يَعْلَمُ أَحْكَامَهَا جُزْئِيًّا فَجُزْئِيًّا لِعَدَمِ إحَاطَةِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ وَلَا كُلِّيًّا تَفْصِيلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ يَجْمَعُهَا لِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ اخْتِلَافًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ فَقِيهًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ بَعْضَ مَنْ هُوَ فَقِيهٌ بِالْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَعْرِفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَمَالِكٍ سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْكُلَّ مَجْهُولُ الْكَمِّيَّةِ وَالْجَهْلُ بِكَمِّيَّةِ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِكَمِّيَّةِ الْكُسُورِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ مِنْ النِّصْفِ وَغَيْرِهِ ضَرُورَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا فَوْقَ النِّصْفِ، وَهُوَ أَيْضًا مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ فَقِيهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ اصْطِلَاحًا، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِيمَا سَبَقَ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ هَاهُنَا، بَلْ أَشَارَ إلَيْهِ بِلَفْظِ " ثُمَّ " أَيْ بَعْدَمَا لَا يُرَادُ الْبَعْضُ، وَإِنْ قَلَّ لِإِيرَادِ الْكُلُّ إلَى آخِرِهِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ كَقَوْلِنَا كُلُّ الْقَوْمِ يَرْفَعُ هَذَا الْحَجَرَ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يَكْفِيهِ هَذَا الطَّعَامُ لَا كُلُّ النَّاسِ وَمِنْهَا مَا لَا يَخْتَلِفُ كَقَوْلِنَا
(بَلْ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا وَاَلَّتِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ مِنْهَا) فَالْمُعْتَبَرُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ جَمِيعَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا فُقَهَاءَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ قَدْ لَا يَعْلَمُهُ الْفَقِيهُ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لِعَرَبِيَّتِهِمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَمْ يُطْلَقْ الْفَقِيهُ إلَّا عَلَى الْمُسْتَنْبِطِينَ
ــ
[التلويح]
ضَرَبْت كُلَّ الْقَوْمِ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إذْ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَعْرِفَةُ كُلِّ حُكْمٍ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ الْتَزَمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ الْبَعْضِ فَقَطْ فَعَدَمُ تَنَاهِي الْحَوَادِثِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْكُلِّ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقَعُ وَيَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَيَلْتَفِتُ إلَيْهِ ذِهْنُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ عَلَّلَ عَدَمَ إرَادَةِ الْأَوَّلِ بِلَا تَنَاهِي الْحَوَادِثِ وَالثَّانِي بِثُبُوتٍ لَا أَدْرِي وَلَمَّا أَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ الْمَجْمُوعُ، وَمَعْنَى الْعِلْمِ بِهَا التَّهَيُّؤُ لِذَلِكَ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ التَّهَيُّؤَ الْبَعِيدَ حَاصِلٌ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ، وَالْقَرِيبُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، إذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَيَّ قَدْرٍ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ يُقَالُ لَهُ التَّهَيُّؤُ الْقَرِيبُ وَلَمَّا فَسَّرَ التَّهَيُّؤَ بِكَوْنِ الشَّخْصِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَوَادِثِ لِاسْتِجْمَاعِهِ الْمَأْخَذَ وَالْأَسْبَابَ وَالشَّرَائِطَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِهَا وَيَكْفِيهِ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ تَيَسُّرِ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ يُنَافِي التَّهَيُّؤَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ وُجُودِ الْمَوَانِعِ أَوْ مُعَارَضَةِ الْوَهْمِ الْعَقْلِيِّ أَوْ مُشَاكَلَةِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا مَسَاغَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ رضي الله عنه حَيْثُ اعْتَمَدَ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَجِدُ فِيهِ النَّصَّ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ عليه السلام، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ لِلَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى التَّهَيُّؤِ الْمَخْصُوصِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى إدْرَاكِ جُزْئِيَّاتِ الْأَحْكَامِ، وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا شَائِعٌ ذَائِعٌ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِ الْعُلُومِ عِلْمُ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذِهِ الْمَلِكَةُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الصِّنَاعَةُ لَا نَفْسُ الْإِدْرَاكِ وَكَقَوْلِهِمْ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ كَوْنُهُمَا جِهَتَيْ الْإِدْرَاكِ.
قَوْلُهُ، (بَلْ هُوَ الْعِلْمُ) تَعْرِيفٌ مُخْتَرَعٌ لِلْفِقْهِ بِحَيْثُ تَنْضَبِطُ مَعْلُومَاتُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ يَخْرُجُ بِهِ الْبَعْضُ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِحُكْمٍ أَوْ بِحُكْمَيْنِ فَالْعَالِمُ بِهِ مَعَ الْمَلَكَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا وَإِذَا عَلِمَ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ يُسَمَّى فَقِيهًا وَقَيَّدَ نُزُولَ الْوَحْيِ بِالظُّهُورِ احْتِرَازًا عَمَّا نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يُبَلَّغْ بَعْدُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ مَعْرِفَتُهُ.
قَوْلُهُ (مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ) أَيْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ
مِنْهُمْ وَعِلْمُ الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ يُشْتَرَطُ إلَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِهِ لَا الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ لِلدَّوْرِ، بَلْ يُشْرَطُ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا
ــ
[التلويح]
مَقْرُونًا بِمَلَكَةِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ الْقِيَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ أَوْ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا حَتَّى إنَّ الْعِلْمَ بِالْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ النَّصِّ لِلْعِلْمِ بِاللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ اقْتِدَارٍ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْفِقْهِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.
قَوْلُهُ (لَا الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيهِ الْعِلْمُ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَتِيجَةُ الْفَقَاهَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِكَوْنِهَا فُرُوعًا مُسْتَنْبَطَةً بِالِاجْتِهَادِ فَيَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ فَقِيهًا فَلَوْ تَوَقَّفَتْ الْفَقَاهَةُ عَلَيْهَا لَزِمَ الدَّوْرُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي أَوَّلِ الْقَائِسِينَ.
وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُجْتَهِدُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ دَوْرٍ قُلْنَا لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ التَّقْلِيدُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْمَسَائِلَ الْقِيَاسِيَّةَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَوْ اُشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ مِمَّا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا، إذْ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخِيرِ الْعِلْمُ بِهَا قُلْنَا نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا إنَّمَا ظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ السَّابِقِ لَا فِي الْوَاقِعِ وَلَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الثَّانِي وَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ الْأَوَّلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَعْرِفَتُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ لَا يَتَوَسَّطُ الْقِيَاسُ، ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ مُعَيَّنٍ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ اسْمٌ لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ يَتَبَدَّلُ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ وَالْأَعْصَارِ فَيَوْمًا يَكُونُ عِلْمًا بِجُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيَوْمًا بِأَكْثَرَ وَأَكْثَرَ وَهَكَذَا يَتَزَايَدُ إلَى انْقِرَاضِ زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام، ثُمَّ أَخَذَ يَتَزَايَدُ بِحَسَبِ الْأَعْصَارِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعَاتِ وَأَيْضًا يَنْتَقِصُ بِحَسَبِ النَّوَاسِخِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. الثَّانِي أَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَصْدُقُ عَلَى فِقْهِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ الْعِلْمُ بِمَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ فَقَطْ إنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ وَبِهِ وَبِمَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ إنْ كَانَ وَمِثْلُهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ بَعِيدٌ. الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْقِيَاسِيَّةِ خَارِجًا عَنْ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُعْظَمُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ فِقْهٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، إذْ قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفِقْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ شَيْئًا آخَرَ. الرَّابِعُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِظُهُورِ نُزُولِ الْوَحْيِ لِظُهُورٍ فِي الْجُمْلَةِ فَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَعْرِفُوا كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا رَجَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْوَقَائِعِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَقَاهَتِهِمْ، وَإِنْ أُرِيدَ الظُّهُورُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ وَالْأَشْغَالِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الَّذِي يَرْوِيهِ الْآحَادُ مِنْ الْفِقْهِ حَتَّى يَصِيرَ
بِشَرَائِطِهِ وَمَا قِيلَ: إنَّ الْفِقْهَ ظَنِّيٌّ فَلِمَ أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَوَّلًا أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا فِقْهٌ وَهِيَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ. وَثَانِيًا: أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّيَّاتِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ كَالطِّبِّ وَنَحْوِهِ، وَثَالِثًا أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا اعْتَبَرَ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ كُلَّمَا غَلَبَ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ بِالْحُكْمِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَكُلَّمَا وُجِدَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ مَقْطُوعًا بِهِ فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَكُونُ صَحِيحًا، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ فَيُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّمَا غَلَبَ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَوْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ
ــ
[التلويح]
شَائِعًا ظَاهِرًا عَلَى الْأَكْثَرِ فَيَصِيرُ فِقْهًا وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا التَّعْرِيفُ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِشْكَالِ وَالِاخْتِلَالِ.
قَوْلُهُ (فَجَوَابُهُ أَوَّلًا) مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا أَظْهَرَ الْقِيَاسُ نُزُولَ الْوَحْيِ بِهِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْفِقْهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، ثُمَّ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا إنَّمَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إذَا كَانَ ثُبُوتُهُمَا أَيْضًا قَطْعِيًّا الْقَطْعُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ظَنِّيَّةٌ.
قَوْلُهُ (وَثَالِثًا) هُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ وَالظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ وَتَقْرِيرِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَكَثُرَتْ أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ مُتَوَاتِرَةَ الْمَعْنَى، وَهَذَا مَعْنَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ قَطْعِيٍّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ قَطْعِيًّا فَيَصِحُّ إطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى إدْرَاكِهِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَإِنْ قِيلَ الْمَظْنُونُ مَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَالْمَعْلُومُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَتَنَافَيَانِ قُلْنَا يَكُونُ مَظْنُونًا فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ مَظْنُونًا لِلْمُجْتَهِدِ وَكُلُّ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَظْنُونًا لِلْمُجْتَهِدِ عَلَى كَوْنِهِ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطْعًا بِنَاءً عَلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ.
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ ثَبَتَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ وَاجِبُ الْعَمَلِ أَوْ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ ثُبُوتُهُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ قَطْعِيًّا لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ فِي الْوَاقِعِ قَطْعِيًّا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الثَّابِتَ الْقَطْعِيَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ عَدَمَ الثُّبُوتِ فِي الْوَاقِعِ وَغَايَةُ مَا أَمْكَنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَكُلُّ حُكْمٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ وَكُلُّ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَكُلُّ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَالْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَالْفِقْهُ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ وَالظَّنُّ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَحَلُّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ