المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التقسيم الرابع في كيفية دلالة اللفظ على المعنى - التلويح على التوضيح لمتن التنقيح - جـ ١

[السعد التفتازاني - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ]

- ‌ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى]

- ‌[قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى]

- ‌(فَصْلٌ: الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ)

- ‌(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ

- ‌(فَصْلٌ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ]

- ‌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ (الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَنْ وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ كُلُّ وَجَمِيعُ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ: حِكَايَةُ الْفِعْلِ) لَا تَعُمُّ

- ‌(مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ)

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌(التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ عَنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ)

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ]

- ‌[حُرُوف الْمَعَانِي]

- ‌[حُرُوفُ الْجَرِّ]

- ‌(كَلِمَاتُ الشَّرْطِ)

- ‌[أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي الصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ]

- ‌التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ مَفْهُوم الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[أَقْسَامِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ]

- ‌ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ

- ‌[التَّعْلِيق بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ]

- ‌[الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ لِلْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ]

- ‌الْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ

- ‌[الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ]

- ‌الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ

- ‌[الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ]

- ‌[الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ]

- ‌(فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ)

- ‌[أَقْسَامُ الْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقَّت]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل الْوَقْت الضَّيِّق وَالْفَاضِل عَنْ الواجب]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي كون الْوَقْت مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَوْن الْوَقْت مِعْيَارًا لَا سَبَبًا]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْحَجُّ يُشْبِهُ الظَّرْفَ وَالْمِعْيَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْكُفَّار هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا]

- ‌[فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا]

الفصل: ‌التقسيم الرابع في كيفية دلالة اللفظ على المعنى

مِنْ التَّرْكِيبَاتِ بِمُفِيدٍ لِلْقَطْعِ بِمَدْلُولِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْمُتَوَاتِرَاتِ كَوُجُودِ بَغْدَادَ فَمَا هُوَ إلَّا مَحْضُ السَّفْسَطَةِ وَالْعِنَادِ.

(وَالْعُقَلَاءُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْكَلَامَ فِي خِلَافِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، وَأَيْضًا قَدْ نَعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا تَبْطُلُ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ، وَقَطْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرِ أَصْلًا)، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ أَصْلًا كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَالثَّانِي مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ الدَّلِيلِ كَالظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ، وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مَثَلًا فَالْأَوَّلُ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَالثَّانِي عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ.

‌التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى

فَهِيَ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْئِهِ أَوْ لَازِمِهِ الْمُتَأَخِّرِ عِبَارَةٌ إنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إنْ لَمْ يُسَقْ الْكَلَامُ لَهُ، وَعَلَى لَازِمِهِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ اقْتِضَاءً، وَعَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنًى يُفْهَمُ لُغَةً (أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجَلِهِ دَلَالَةٌ) اعْلَمْ أَنَّ

ــ

[التلويح]

عِنَادٌ، أَيْ إنْكَارٌ لِلضَّرُورِيِّ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْمُتَوَاتِرَاتِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ خَبَرٍ ظَنِّيًّا لَا يُنَافِي إفَادَةَ الْمَجْمُوعِ لِلْقَطْعِ بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ إلَيْهِ، وَهُوَ جَزْمُ الْعَقْلِ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ.

(قَوْلُهُ كَالْمُحْكَمِ) أَيْ كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمُحْكَمِ فَإِنَّهُ قَدْ انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرَائِنُ قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ خِلَافِ الْأَصْلِ

[التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى]

(قَوْلُهُ التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى) وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي عِبَارَةِ النَّصِّ، وَإِشَارَتِهِ، وَدَلَالَتِهِ، وَاقْتِضَائِهِ، وَوَجْهُ ضَبْطِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ النَّظْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِشَارَةُ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً فَهِيَ الدَّلَالَةُ أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ التَّمَسُّكَاتُ الْفَاسِدَةُ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظْمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْمُتَأَخِّرَ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ فَيُسَمَّى دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ عِبَارَةً أَوَّلًا فَإِشَارَةً، وَالثَّانِي فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى؛ لَازِمًا " مُتَقَدِّمًا لِلْمَوْضُوعِ لَهُ فَالدَّلَالَةُ اقْتِضَاءٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةٌ يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، أَيْ وَضْعُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا فَدَلَالَةُ نَصٍّ، وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا، وَالتَّمَسُّكُ بِمِثْلِهِ فَاسِدٌ فَالْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ صِفَةُ الدَّلَالَةِ، وَيَحْصُلُ بِاعْتِبَارِهَا تَقْسِيمُ النَّظْمِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ أَوْ الدَّلَالَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ تَفْسِيرَ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَفْهُومٌ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ، وَمَأْخُوذٌ مِنْ أَمْثِلَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْقَوْمِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ ثَابِتٌ بِنَفْسِ النَّظْمِ لَزِمَهُ بَيَانُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَجُزْئِهِ، وَلَازِمِهِ الْمُتَأَخِّرِ ثَابِتٌ بِالنَّظْمِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى

ص: 248

مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمُوا الدَّلَالَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُمْ عَلَى الْحَصْرِ لِئَلَّا يَفْسُدَ تَقْسِيمُهُمْ فَأَقُولُ: الَّذِي فَهِمْت مِنْ كَلَامِهِمْ وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا لِهَذِهِ الدَّلَالَاتِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْمُتَأَخِّرَ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ دَلَالَتُهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَيَكُونُ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ، وَالْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَلَا يَكُونَ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ، وَمُرَادُهُمْ بِالنَّظْمِ اللَّفْظُ، وَقَدْ قَالُوا قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ، سِيقَ لِإِيجَابِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَهُوَ إيجَابُ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَقَدْ جَعَلُوهُ عِبَارَةً فِيهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ

ــ

[التلويح]

{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] .

، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَجُزْؤُهُ، وَلَازِمُهُ الْمُتَأَخِّرُ، أَوْرَدَ أَمْثِلَةً أُخْرَى تَتْمِيمًا لِلْمَقْصُودِ، وَتَوْضِيحًا لَهُ، وَلَزِمَ تَكَرُّرُ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَسْتَلْزِمُ الْعِبَارَةَ، وَأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَجْزَائِهِ، وَلَوَازِمِهِ.

ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَعْنَى السَّوْقِ لَهُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ فِي النَّصِّ الْمُقَابِلِ لِلظَّاهِرِ حَتَّى غَيْرَ أَنَّ الْمَسُوقِ لَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أَنَّهُ عِبَارَةٌ فِي اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا إشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا وَإِلَى أَجْزَائِهِ كَحِلِّ بَيْعِ الْحَيَوَانِ مَثَلًا، وَحُرْمَةِ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ مُتَفَاضِلَةً، وَإِلَى لَوَازِمِهِ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَوُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَثَلًا فِي الْبَيْعِ وَحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ وَوُجُوبِ رَدِّ الزَّوَائِدِ فِي الرِّبَا، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَوْ مَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ هَاهُنَا مَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءً كَانَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا كَالْعَدَدِ فِي آيَةِ النِّكَاحِ أَوْ غَيْرَ أَصْلِيٍّ بِأَنْ يُقْصَدَ بِاللَّفْظِ إفَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ لِغَرَضِ إتْمَامِ مَعْنًى آخَرَ كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ فِيهَا، حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْقَرِينَةِ صَارَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الْغَيْرِ الْمَسُوقِ لَهُ فَإِنَّهُ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى كَانْعِقَادِ بَيْعِ الْكَلْبِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ مِنْ السُّحْتِ ثَمَنَ الْكَلْبِ» صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْيُسْرِ حَيْثُ جَعَلَ حِلَّ الْبَيْعِ وَحُرْمَةَ الرِّبَا وَالتَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا كُلَّهَا ثَابِتَةً بِعِبَارَةِ النَّصِّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .

الثَّانِي أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا لَازِمَهُ فَدَلَالَةُ النَّظْمِ عَلَيْهِ، وَثُبُوتُهُ بِهِ مَمْنُوعَةٌ لِلْقَطْعِ بِانْحِصَارِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الَّتِي لِلْوَضْعِ مَدْخَلٌ فِيهَا فِي الثَّلَاثِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ فِي فَهْمِهِ الْعِلْمُ بِالْوَضْعِ.

الثَّالِثُ أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَثِيرًا

ص: 249

لَهُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ جُزْءَ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَكَوْنُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ جُزْءٌ لِكَوْنِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَيَكُونُ جُزْءَ الْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعُوا دَلَالَتَهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا إشَارَةً وَالْإِشَارَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّظْمِ فَيَكُونُ جُزْءُ الْمَوْضُوعِ لَهُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَأَمَّا أَنَّ اللَّازِمَ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتٌ بِالنَّظْمِ عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِيجَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي وَلَدْنَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ فِيهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْأَبَ مُنْفَرِدٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ إذْ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ فَكَذَا فِي حُكْمِهَا وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ خَارِجِيٌّ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَلَمَّا جَعَلُوهُ إشَارَةً إلَى هَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوا اللَّازِمَ الْخَارِجِيَّ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ عِبَارَةٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ إشَارَةٌ إلَى جُزْئِهِ، وَالْمِثَالُ الثَّانِي عِبَارَةٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ إشَارَةٌ إلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ بِنَفَقَةِ الْأَوْلَادِ، وَأَيْضًا إلَى جُزْئِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ.

وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ

ــ

[التلويح]

مَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى عِلَّةٍ فِي مَعْنَى النَّظْمِ لَا يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَاهِرِينَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا كَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ، وَالْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى فَاشْتِرَاطُ فَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لِأَجْلِهَا مِمَّا لَا صِحَّةَ لَهُ أَصْلًا.

الرَّابِعُ أَنَّ الْجَزْمَ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْوَضْعِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْهَمْ الْبَعْضُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الدَّلَالَةُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ قَدْ يَكُونُ غَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْوَضْعِ كَانْفِرَادِ الْأَبِ بِالْإِنْفَاقِ، وَاسْتِغْنَاءِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا خَفِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ سَمَاعِهِمْ النَّصَّ، وَعِلْمِهِمْ بِالْوَضْعِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَالْبَيَانِ مُطْلَقُ اللُّزُومِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بَيِّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَيِّنٍ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْوُضُوحُ، وَالْخَفَاءُ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عِنْدَهُمْ فَهْمُ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ إذَا أُطْلِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ مَتَى أُطْلِقَ، فَلِهَذَا اشْتَرَطُوا اللُّزُومَ الْبَيِّنَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ.

(قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا كَذَلِكَ) أَيْ إنَّمَا جَعَلُوا اللَّازِمَ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً، وَاللَّازِمَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرَ ثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ نِسْبَةُ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ نِسْبَةُ الْمَعْلُولِ إلَى الْعِلَّةِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا فَيَصِحَّ الْكَلَامُ فَيَثْبُتَ الْمَلْزُومُ، وَدَلَالَةُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ مُطَّرِدَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْلُولِهَا كَالشَّمْسِ تَدُلُّ عَلَى الضَّوْءِ

ص: 250

لِزَوْجِهَا نَكَحْت عَلَيَّ امْرَأَةً فَطَلِّقْهَا فَقَالَ: إرْضَاءً لَهَا كُلُّ امْرَأَةٍ لِي فَطَالِقٌ طَلُقَتْ كُلُّهُنَّ قَضَاءً فَالْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ طَلَاقُ جَمِيعِ نِسَائِهِ، وَقَدْ سِيقَ الْكَلَامُ لِجُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ طَلَاقُ بَعْضِهِنَّ أَيْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ عِبَارَةً فِي جُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَإِشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ طَلَاقُ الْكُلِّ وَأَيْضًا إلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ وَهُوَ طَلَاقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَأَيْضًا إلَى لَازِمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ لَوَازِمُ الطَّلَاقِ كَوُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالْعِدَّةِ، وَنَحْوِهِمَا وقَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] سِيقَ اللَّازِمُ الْمُتَأَخِّرُ، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ عِبَارَةً فِيهِ، وَإِشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَإِلَى أَجْزَائِهِ، وَإِلَى اللَّوَازِمِ الْأُخَرِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا اللَّازِمَ بِالْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْا دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ اقْتِضَاءً، وَإِنَّمَا جَعَلُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ كَالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى اللَّازِمِ غَيْرِ الْمُتَأَخِّرِ كَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْأُولَى مُطَّرِدَةٌ دُونَ الثَّانِيَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا مُسَاوِيًا؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ الْمُثْبِتَ لِلْعِلَّةِ مُثْبِتٌ لِلْمَعْلُولِ تَبَعًا لَهَا أَمَّا الْمُثْبِتُ لِلْمَعْلُولِ فَغَيْرُ مُثْبِتٍ لِعِلَّتِهِ الَّتِي

ــ

[التلويح]

وَالنَّارِ عَلَى الدُّخَانِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ إذْ الْمَعْلُولُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِلَّتِهِ بِشَرْطِ مُسَاوَاتِهِ لَهَا كَالدُّخَانِ عَلَى النَّارِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَعَمَّ كَالضَّوْءِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّمْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ بِالنَّارِ أَوْ بِالْقَمَرِ، وَالْمُطَّرِدُ لِكُلِّيَّتِهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ فَاعْتُبِرَ، وَجُعِلَ نَفْسُ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَلْزُومِ دَالًّا عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ غَيْرُ الْمُطَّرِدِ فَلَمْ يُجْعَلْ نَفْسُ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَلْزُومِ دَالًّا عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ.

وَأَيْضًا مُثْبِتُ الْعِلَّةِ مُثْبِتٌ لِلْمَعْلُولِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا، وَمُثْبِتُ الْمَعْلُولِ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ لِلْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا أَصْلًا بَلْ لِأَنَّ مُثْبِتَ الْمَعْلُولِ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْعِلَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْلُومُ كَاللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْعِلَّةِ كَالْمَلْزُومِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ كَاللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْمَعْلُولِ كَالْمَلْزُومِ.

(قَوْلُهُ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِذِي الْقُرْبَى، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْعَاطِفِ، وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ بِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاجِ وَبُعْدِ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى ابْنُ السَّبِيلِ فَقِيرًا فَفِي إطْلَاقِ اسْمِ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ ذَوِي دِيَارٍ وَأَمْوَالٍ بِمَكَّةَ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِشَرْطِ الْإِحْرَازِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ شُبِّهُوا بِالْفُقَرَاءِ لِاحْتِيَاجِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَطْمَاعِهِمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، وَالْمُرَادُ السَّبِيلُ الشَّرْعِيُّ لَا الْحِسِّيُّ، وَبِقَرِينَةِ إضَافَةِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ، وَهِيَ تُفِيدُ الْمِلْكَ؟ .

أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ السَّبِيلِ عَنْ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَمْلِكُونَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِضَافَةُ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ؛ لِأَنَّ فِي حَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمَجَازِ مَصِيرًا إلَى الْخَلَفِ قَبْلَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ

ص: 251

هِيَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْلُولِ فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَعْلُولَ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْعِلَّةِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعِلَّةَ ثَابِتَةٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْمَعْلُولِ فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ حُدُودُ الْعِبَارَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَأَمَّا حَدُّ دَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ أَيْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنًى، يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ نَحْوُ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ فَالضَّرْبُ شَيْءٌ يُوجَدُ فِيهِ الْأَذَى، وَالْأَذَى هُوَ مَعْنَى يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمَنْطُوقِ، وَهُوَ التَّأْفِيفُ لِأَجْلِهِ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنَّ الْمَعْنَى إنْ كَانَ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْغَيْرَ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ فَعِبَارَةٌ إنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَإِشَارَةٌ، إنْ لَمْ يُسَقْ وَإِنْ كَانَ لَازِمَهُ الْمُتَقَدِّمَ فَاقْتِضَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ وُجِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا فَدَلَالَةُ نَصٍّ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا.

وَإِنَّمَا قُلْنَا يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ، أَوْ يَفْهَمُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَلَا دَلَالَةَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ إذْ الدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْوَضْعِ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي الْقِيَاسِ لَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُجْتَهِدُ هَذَا هُوَ نِهَايَةُ أَقْدَامِ التَّحْقِيقِ وَالتَّنْقِيحِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَسْبِقْنِي أَحَدٌ إلَى كَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْ وُجُوهِ

ــ

[التلويح]

أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَوْنُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَعَدَمُ ذَلِكَ حَالَةَ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ لَا حَالَةَ الْحُكْمِ وَالتَّكَلُّمِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ قَوْلَنَا: قَتَلَ زَيْدٌ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ قَتِيلًا مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ.

وَقَوْلُنَا خَلَّفَ هَذَا الرَّجُلَ أَبُوهُ طِفْلًا يَتِيمًا حَقِيقَةٌ مَعَ أَنَّ الْقَتِيلَ حَالَ التَّكَلُّمِ بِهَذَا الْكَلَامِ قَتِيلٌ حَقِيقَةً وَالرَّجُلَ لَيْسَ بِطِفْلٍ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي جُعِلَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ قَوْلَنَا أَكْرِمْ الرَّجُلَ الَّذِي خَلَّفَهُ أَبُوهُ طِفْلًا حَقِيقَةٌ، وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» مَجَازٌ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ حَالَ إكْرَامِهِ لَيْسَ بِطِفْلٍ، وَالْقَتِيلَ حَالَ اسْتِحْقَاقِ قَاتِلِهِ سَلَبَهُ مَقْتُولٌ فَعَلَى هَذَا إضَافَةُ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، أَيْضًا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لَهُمْ حَالَ إخْرَاجِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِمْ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قُلْت الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ هَاهُنَا مِنْ أَيِّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ؟ قُلْت جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبِيلِ جُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مِلْكِ مَا خَلَّفُوا فِي الْحَرْبِ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى الْفَقْرَ، وَهُوَ عَدَمُ مِلْكِ شَيْءٍ مَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ هُوَ زَوَالُ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ جُزْءٌ لِعَدَمِ مِلْكِهِمْ شَيْئًا مَا بَلْ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُمْ أَوَّلًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْفَقْرُ وَعَدَمُ

ص: 252

هَذِهِ الدَّلَالَاتِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْنِي فَعَلَيْهِ بِمُطَالَعَةِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ (

كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] سِيقَ لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِيجَابِ نَفَقَتِهَا عَلَى الْوَلَدِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ وَإِلَى أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ) فَيَقْتَضِي كَمَالَ اخْتِصَاصِ الْوَلَدِ، وَاخْتِصَاصَ مَالِهِ بِأَبِيهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَتَمَلُّكُ الْوَلَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَكِنَّ تَمَلُّكَ مَالِهِ مُمْكِنٌ فَيَثْبُتُ هَذَا.

(وَإِلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ إذْ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَإِلَى أَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ رِزْقَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ الْوَالِدَةِ لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا يَكُونُ ثَابِتًا بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ غَيْرِ الْوَالِدَةِ فَثُبُوتُهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالْإِشَارَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ بِالْمَنْطُوقِ (وقَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ يُنْفِقُونَ بِقَدْرِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْمُشْتَقِّ تُوجِبُ عِلِّيَّةَ الْمَأْخُوذِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لَا بِالتَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْكِسْوَةِ

ــ

[التلويح]

مِلْكِ شَيْءٍ مَا، فَظَهَرَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا مُتَأَخِّرًا.

(قَوْلُهُ فَإِنْ أَرَادَ) أَيْ الْوَالِدُ اسْتِئْجَارَ الْوَالِدَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِإِرْضَاعِ الْوَلَدِ يَكُونُ اسْتِغْنَاءُ أَجْرِهَا عَنْ التَّقْدِيرِ ثَابِتًا بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، إنَّمَا يُقَالُ: فِي مَجْهُولِ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ غَيْرَ الْوَالِدَةِ فَثُبُوتُ اسْتِغْنَاءِ أَجْرِهَا عَنْ التَّقْدِيرِ يَكُونُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ التَّقْدِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ فِي الْعَادَةِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَلَا مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حِجْرِهَا لَا بِالْإِشَارَةِ إلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] عَائِدٌ إلَى الْوَالِدَاتِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا) أَيْ آكِلًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ طَعِمْت الطَّعَامَ أَكَلْته، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ جَعَلْته آكِلًا، وَأَمَّا نَحْوُ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا كَانَ هِبَةً، وَتَمْلِيكًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ طَعَامًا قَالُوا، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِطْعَامَ إعْطَاءُ الطَّعَامِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكًا أَوْ إبَاحَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ جَعْلِ الْغَيْرِ طَاعِمًا، أَيْ آكِلًا لَيْسَتْ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ.

1 -

(قَوْلُهُ وَأُلْحِقَ بِهِ) أَيْ بِالْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمْلِيكُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِطْعَامٍ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْإِطْعَامِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمَسَاكِينِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَحَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ لَا تَكْفِيَ إلَّا قَضَاءَ حَاجَةِ الْأَكْلِ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا أَيْ مَقَامَ حَوَائِجِ الْمَسَاكِينِ كُلِّهَا يَعْنِي مَقَامَ قَضَائِهَا إلَّا أَنَّهُ إذَا جَازَ دَفْعُ بَعْضِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِذَا كَانَ جَوَازُ

ص: 253

(لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرَ طَاعِمًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا وَأُلْحِقَ بِهِ التَّمْلِيكُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ) أَيْ لَا يَكُونُ الْأَصْلُ فِي الْكِسْوَةِ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِالْكَسْرِ الثَّوْبُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ الْعَيْنُ كَفَّارَةً وَإِذًا بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَا إعَارَةٍ لَا إذْ هِيَ تَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ (عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ تُتِمُّ الْمَقْصُودَ) أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْكِسْوَةَ بِالْكَسْرِ

ــ

[التلويح]

التَّمْلِيكِ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِنَفْسِ النَّظْمِ لَا يَلْزَمُ فِي الْإِطْعَامِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْإِبَاحَةُ، وَالْمَجَازِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ.

(قَوْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ الْعَيْنُ كَفَّارَةً) فَإِنْ قُلْت الْكَفَّارَةُ لَا تَكُونُ عَيْنًا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لَلْفِعْلَةِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ إعْطَاءِ الْكِسْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ قُلْت: نَعَمْ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَفَّارَةَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ نَفْسَ الثَّوْبِ فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ هُوَ كَفَّارَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ فِي تَمْلِيكِهِ دُونَ إعَارَتِهِ إذْ بِالْإِعَارَةِ تَصِيرُ الْكَفَّارَةُ مَنَافِعَ الثَّوْبِ لَا عَيْنَهُ، فَإِنْ قُلْت الْمَذْكُورُ فِي كَفَّارَةِ الْإِطْعَامِ أَيْضًا هُوَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: 89] بَدَلٌ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْبَدَلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ، وَلِذَا جَعَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ أَوْسَطِ لَا عَلَى " إطْعَامُ " فَيَلْزَمُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الطَّعَامِ أَيْضًا التَّمْلِيكُ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ، وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ، أَيْ طَعَامًا مِنْ أَوْسَطِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِإِطْعَامٍ أَوْ نُصِبَ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَإِنْ قُلْتَ الْبَدَلُ رَاجِحٌ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ التَّقْدِيرِ وَمُشْتَمِلًا عَلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّقْدِيرِ وَمُؤَدِّيًا إلَى كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ اسْمَ عَيْنٍ كَالْمَعْطُوفِ. قُلْتُ: مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ إذَا جُعِلَ بَدَلًا يَكْثُرُ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ أَعْنِي جَعْلَ الْكَفَّارَةِ عَيْنًا لَا مَعْنًى، وَيَصِيرُ عَطْفُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ عَطْفِ الْمَعْنَى عَلَى الْعَيْنِ، وَيَفْتَقِرُ أَيْضًا إلَى التَّقْدِيرِ، أَيْ إطْعَامٌ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ، وَيَقَعُ لَفْظُ إطْعَامٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالنِّسْبَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ بَيَانَ الْمَصْرِفِ أَعْنِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْلَى وَأَهَمُّ بِالْقَصْدِ مِنْ بَيَانِ كَوْنِ الْمَطْعُومِ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إذْ رُبَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ الْإِطْلَاقِ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ فَجَعْلُ مَا هُوَ غَايَةُ الْمَقْصُودِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَمَا هُوَ دُونَهُ مَقْصُودًا خُرُوجٌ عَنْ الْقَانُونِ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ ضَمِيرُ كِسْوَتِهِمْ عَائِدًا إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَا إلَى أَهْلِيكُمْ، وَأَيْضًا فِي الْعَطْفِ اتِّحَادُ جِهَةِ الْإِعْرَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كِسْوَتُهُمْ فِي مَوْقِعِ الْبَدَلِ مِنْ إطْعَامٍ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ غَلَطٌ لَا مَسَاغَ لَهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إذْ لَا تَحْصُلُ الْمُلَابَسَةُ الْمُصَحِّحَةُ لِبَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِمُجَرَّدِ إضَافَتِهِمَا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا إذَا قُلْنَا: أَعْجَبَنِي ثَوْبُ زَيْدٍ كِتَابُهُ، وَمَرَرْت بِفَرَسِهِ حِمَارِهِ.

(قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الْمَذْكُورَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَاللُّغَةِ أَنَّ الْكِسْوَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِلْبَاسِ لَا اسْمٌ لِلثَّوْبِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى

ص: 254

مَصْدَرٌ لَكِنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ، وَهِيَ أَنْ يَأْكُلُوا عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ يَتِمُّ بِهَا الْمَقْصُودُ (دُونَ إعَارَةِ الثَّوْبِ) ، وَهِيَ أَنْ يَلْبَسُوا عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ بِهَا الْمَقْصُودُ فَإِنَّ لِلْمُبِيحِ وِلَايَةَ الِاسْتِرْدَادِ فِي إعَارَةِ الثَّوْبِ، وَلَا يُمْكِنُ الرَّدُّ فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الْأَكْلِ (وَأَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ، وَتُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَذَى) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّأْفِيفَ حَرَامٌ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْأَذَى

(مَوْجُودٌ فِي الضَّرْبِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ كَالْكَفَّارَةِ وَبِالْوَقَاعِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الزَّوْجِ (نَصًّا، وَعَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ (دَلَالَةً) ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ، وَهِيَ

ــ

[التلويح]

{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] قَالُوا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَإِذَا اُبْتُدِئَ الصَّوْمُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْفَجْرِ حَصَلَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ، وَكَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ وُجُوبَ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ إلَّا أَنَّهُ جَازَ بِاللَّيْلِ إجْمَاعًا عَمَلًا بِالسُّنَّةِ، وَصَارَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَالْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَبَّازَ السَّمَرْقَنْدِيَّ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ لَا لِلشَّرْطِ؟ (وَ) أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ عَقِيبَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مُتَّصِلًا لِيَصِيرَ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا، وَلَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّهَارِ حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَّصِلَ بِهِ أَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَحْصُلَ فِي اللَّيْلِ، وَتُجْعَلَ بَاقِيَةً إلَى الْآنَ.

(قَوْلُهُ، وَتُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ)، أَيْ مَعْنَاهُ يُقَالُ: فَهِمْت ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى كَلَامِهِ، أَيْ مِمَّا تَنَسَّمْت مِنْ مُرَادِهِ بِمَا تَكَلَّمَ، وَقَدْ تُسَمَّى لَحْنَ الْخِطَابِ، وَمَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ مُوَافِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَيُقَابِلُهُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ.

(قَوْلُهُ وَكَالْكَفَّارَةِ) نَبَّهَ بِالْمِثَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا كَحُرْمَةِ الضَّرْبِ مِنْ حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا كَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوِقَاعِ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ عُلُوِّ طَبَقَتِهِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِأَجْلِ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ فَهِمَ أَنَّهَا لِأَجْلِ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ التَّامِّ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ صَوْمَهَا يَفْسُدُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِهَا فَهُوَ لَا يُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ هِيَ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ الْجِنَايَةُ بِالْوَقَاعِ التَّامِّ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالرَّجُلِ، وَلِهَذَا سَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنْ قِيلَ: الْبَيَانُ فِي جَانِبِهِ بَيَانٌ فِي جَانِبِهَا لِاتِّحَادِ كَفَّارَتِهِمَا بِخِلَافِ حَدِيثِ الْعَسِيفِ فَإِنَّ الْحَدَّ فِي جَانِبِهِ كَانَ الْجَلْدَ، وَفِي

ص: 255

مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَكَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ، وَرَدَ فِي الْوِقَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِي الْوِقَاعِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ هُوَ كَوْنُهُ جِنَايَةً عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَنْهُمَا أَشَدُّ، وَالدَّاعِيَةَ إلَيْهِمَا

ــ

[التلويح]

جَانِبِهَا كَانَ الرَّجْمَ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي جَانِبِهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ.

(قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى) أَيْ ثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهَا بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْوَجُ إلَى الزَّاجِرِ مِنْ الْجِمَاعِ لِقِلَّةِ الصَّبْرِ عَنْهُمَا، وَكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِمَا لَا سِيَّمَا بِالنَّهَارِ لِإِلْفِ النَّفْسِ بِهِمَا، وَفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا، وَفِي هَذَا تَحْقِيقُ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُثْبِتُ الْحُدُودَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْوِقَاعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْآدَمِيِّ أَشَدُّ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَكْلِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ، الثَّانِي أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الصَّوْمِ، وَالْأَكْلَ نَقِيضُهُ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْمَحْظُورِ فَوْقَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالنَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَرِدُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِبَقَائِهَا عِنْدَ وُرُودِ الْمَحْظُورِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بَعْدَ الْوُرُودِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ تَنْعَدِمُ قَبْلَ وُرُودِ النَّقِيضِ لِامْتِنَاعِ الِاجْتِمَاعِ، الثَّالِثُ أَنَّ الْوِقَاعَ يُوجِبُ فَسَادَ صَوْمَيْنِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ صَائِمَةً، وَلِهَذَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلَكْت، وَأَهْلَكْت، الرَّابِعُ أَنَّ تَنَاهِيَ غَلَبَةِ الْجُوعِ تُبِيحُ الْإِفْطَارَ فَوُجُودُ بَعْضِهَا يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ تَنَاهِي غَلَبَةِ الشَّبَقِ؟ أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ لَا إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَتَّى لَوْ زَنَى عَامِدًا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْإِفْسَادِ، وَلَوْ زَنَى نَاسِيًا لَا تَجِبُ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَكَذَا تَجِبُ فِي الْأَكْلِ لِهَذَا الْإِفْسَادِ لَا لِإِتْلَافِ الطَّعَامِ حَتَّى لَوْ أَكَلَ طَعَامَهُ عَامِدًا تَجِبُ، وَلَوْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ نَاسِيًا لَا تَجِبُ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ فَالْوِقَاعُ أَيْضًا نَقِيضُهُ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ فَسَادَ صَوْمِهَا بِفِعْلِهَا، وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ إنَّمَا هُوَ بِإِفْسَادِ صَوْمِهِ حَتَّى لَوْ وَاقَعَ غَيْرَ الصَّائِمَةِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْمُبِيحَ هُوَ خَوْفُ التَّلَفِ لَا تَنَاهِي الْجُوعِ كَيْفَ وَالصَّوْمُ إنَّمَا شُرِعَ لِحِكْمَةِ الْجُوعِ نَعَمْ تَنَاهِي الْجُوعِ شَرْطُ خَوْفِ التَّلَفِ لَكِنْ لَا عِبْرَةَ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ بِبَعْضِ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ.

(قَوْلُهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي الزِّنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِسَبَبِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ حَتَّى كَانَ تَبَدُّلُ الِاسْمِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ كَالسَّارِقِ، وَالطَّرَّارِ، وَمَاعِزٍ، وَغَيْرِهِ فَوُجُوبُ الْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ فَهْمَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ السَّبَبُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ كَيْفَ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ.

(قَوْلُهُ لَكِنَّا نَقُولُ) حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ مُجَرَّدُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ

ص: 256

أَكْثَرُ فَبِالْأَحْرَى أَنْ يَثْبُتَ الزَّاجِرُ فِيهِمَا، وَكَوُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَهُمَا فِي اللِّوَاطَةِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الزِّنَا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ بَلْ زِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُرْمَةِ وَسَفْحُ الْمَاءِ فَوْقَهُ أَيْ فَوْقَ الزِّنَا أَمَّا فِي الْحُرْمَةِ فَلِأَنَّ حُرْمَةَ اللِّوَاطَةِ لَا تَزُولُ أَبَدًا، وَأَمَّا فِي سَفْحِ الْمَاءِ فَلِأَنَّهَا تَضْيِيعُ الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْهُ الْوَلَدُ (وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ لَكِنَّا نَقُولُ: الزِّنَا أَكْمَلُ فِي سَفْحِ الْمَاءِ وَالشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا، وَفِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ) أَيْ فِرَاشِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ اللِّعَانُ، وَتَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِهِ، وَيَشْتَبِهُ النَّسَبُ

(وَأَمَّا تَضْيِيعُ الْمَاءِ فَقَاصِرٌ) أَيْ مَا قَالَ: مِنْ تَضْيِيعِ الْمَاءِ فِي اللِّوَاطَةِ فَقَاصِرٌ فِي الْحُرْمَةِ (؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِالْعَزْلِ، وَالشَّهْوَةِ فِيهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَيَغْلِبُ وُجُودُهُ) أَيْ وُجُودُ الزِّنَا (وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ) أَيْ تَرْجِيحُ اللِّوَاطَةِ عَلَى الزِّنَا بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ (لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي) أَيْ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ بِالزِّنَا، وَهِيَ إهْلَاكُ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادُ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهُ النَّسَبِ (لَا تُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَوْلِ مَثَلًا، وَكَوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْمُثْقِلِ عِنْدَهُمَا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عليه السلام «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُقَامُ إلَّا بِالسَّيْفِ الثَّانِي أَنْ لَا قَوَدَ إلَّا بِسَبَبِ الْقَتْلِ) بِالسَّيْفِ (فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مُوجِبًا) حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي يُفْهَمُ (لِلْجَزَاءِ الْكَامِلِ عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْجَزَاءِ، وَالِانْتِهَاكُ

ــ

[التلويح]

بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى بَلْ هُوَ مَعَ هَلَاكِ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهِ النَّسَبِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا) ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ تَرْبِيَتُهُ عَلَى الزَّانِي لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَيَهْلِكُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزِّنَا بِالْإِكْرَاهِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ: الْحَدُّ وَاجِبٌ بِزِنَا الْخَصِيِّ، وَالزِّنَا بِالْعَجُوزِ، وَالْعَقِيمِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ هَلَاكُ الْبَشَرِ وَإِفْسَادُ الْفِرَاشِ؟ قُلْنَا الْمُرَادُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي جِنْسِ الزِّنَا.

(قَوْلُهُ، وَالشَّهْوَةُ فِيهِ) أَيْ فِي الزِّنَا مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِمَيَلَانِ طَبْعِهِمَا إلَيْهِ بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ فَقَطْ، وَالْمَفْعُولُ يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِطَبْعِهِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ فَيَكُونُ الزِّنَا أَغْلَبُ وُجُودًا، وَأَسْرَعُ حُصُولًا فَيَكُونُ إلَى الزَّاجِرِ أَحْوَجَ، وَهَذَا بَيَانُ كَوْنِ الزِّنَا أَكْمَلُ فِي الشَّهْوَةِ مِنْ اللِّوَاطَةِ، وَأَيْضًا مَحَلُّ اللِّوَاطَةِ وَإِنْ شَارَكَ مَحَلَّ الزِّنَا فِي اللِّينِ، وَالْحَرَارَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَا يُوجِبُ النَّفْرَةَ، وَهُوَ اسْتِقْذَارُهُ فَتَكُونُ شَهْوَةُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ فِيهَا أَقَلَّ.

(قَوْلُهُ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ) ادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ اللِّوَاطَةَ فَوْقَ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَمِثْلُهُ فِي الشَّهْوَةِ فَرَدَّهُ بِبَيَانِ زِيَادَةِ الزِّنَا فِي الشَّهْوَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَيَانُ زِيَادَتِهِ فِي الْحُرْمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ حُرْمَةَ اللِّوَاطَةِ مِمَّا لَا تَزُولُ أَبَدًا. فَأَجَابَ

ص: 257

افْتِعَالٌ مِنْ النَّهْكِ، وَهُوَ الْقَطْعِ يُقَالُ: سَيْفٌ نَهِيكٌ أَيْ قَاطِعٌ، وَمَعْنَاهُ قَطْعُ الْحُرْمَةِ بِمَا لَا يَحِلُّ، فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ: الِانْتِهَاكُ حُرْمَةُ كَسِيِّ شكستن (الضَّرْبُ) خَبَرَانِ (بِمَا لَا يُطِيقُهُ الْبَدَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله الْمَعْنَى جُرْحٌ يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ الْجِنَايَةُ قَصْدًا عَلَى النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ فَتَكُونُ أَكْمَلَ وَكَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْخَطَأِ، وَالْمَعْقُودَةِ) أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْمَعْقُودَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةَ (لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ الْكَفَّارَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ، بِدُونِهِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْمَعْقُودَةِ إذَا كَذَبَتْ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ لِيَصِيرَ ثَوَابُهَا جَبْرًا لِمَا اُرْتُكِبَ فَلِهَذَا تُؤَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّهَا جَزَاءٌ يَزْجُرُهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْمَعْقُودَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ

ــ

[التلويح]

بِأَنَّ زِيَادَةَ اللِّوَاطَةِ عَنْ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ فِي إيجَابِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ بَعْضِ أَجْزَاءِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مَعَ نُقْصَانِ الْبَعْضِ كَالشَّهْوَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَانْتِفَاءُ الْبَعْضِ كَهَلَاكِ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهِ النَّسَبِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ كَشُرْبِ الْبَوْلِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَزُولُ أَبَدًا، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ.

(قَوْلُهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ) فَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ أَنْ لَا قِصَاصَ إلَّا بِسَبَبِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ هُوَ الضَّرْبُ بِمَا لَا يُطِيقُهُ الْبَدَنُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَارِحِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ الضَّرْبُ بِالْمُثْقِلِ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُزْهِقُ الرُّوحَ بِنَفْسِهِ، وَالْجُرْحُ بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمُوجِبِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ ظَاهِرًا، أَيْ بِالْجَرْحِ، وَتَخْرِيبِ الْجُثَّةِ، وَبَاطِنًا أَيْ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ، وَإِفْسَادِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ، أَيْ عِنْدَ نَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَقَعُ الْجِنَايَةُ قَصْدًا عَلَى النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبُخَارُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَتَكَوَّنُ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الْأَغْذِيَةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَقِوَامًا لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ، وَاحْتُرِزَ بِهَذَا عَنْ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي لَا تَفْنَى بِخَرَابِ الْبَدَنِ فَتَكُونُ

ص: 258

مَشْرُوعَةٌ، وَالْكَذِبَ حَرَامٌ فَأَمَّا الْعَمْدُ وَالْغَمُوسُ فَكَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ لَا تُلَائِمُ الْعِبَادَةَ، وَهِيَ تَمْحُو الصَّغَائِرَ لَا الْكَبَائِرَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَإِنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثْقِلِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ (قُلْنَا فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ) أَيْ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ (وَهِيَ) أَيْ الْكَفَّارَةُ (مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَتَجِبُ بِشُبْهَةِ السَّبَبِ) ، وَالسَّبَبُ الْقَتْلُ الْخَطَأُ (فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ فِيمَا إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَإِنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ بِسَبَبِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ فَظَنَّهُ مَحَلًّا يُبَاحُ قَتْلُهُ كَمَا إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا ظَنَّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا، وَإِذَا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِشُبْهَةِ الْخَطَأِ

(قُلْنَا الشُّبْهَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ فَإِنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ خَالِصٌ

ــ

[التلويح]

تِلْكَ الْجِنَايَةُ أَكْمَلُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِدُونِ الْقَصْدِ كَالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا فَقَطْ كَالْجَرْحِ بِدُونِ السِّرَايَةِ أَوْ بَاطِنًا فَقَطْ كَالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْمَلَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ الْأَكْمَلُ، وَيَخْتَصُّ بِهَا لِيَقَعَ كَمَالُ الْجَزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ كَمَالِ الْجِنَايَةِ.

(قَوْلُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا) أَيْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِتُضَافَ الْعُقُوبَةُ إلَى الْحَظْرِ، وَالْعِبَادَةُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَيَقَعُ الْأَثَرُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ فَفِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ مِنْ جِهَةِ الرَّمْيِ إلَى صَيْدٍ أَوْ كَافِرٍ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ التَّشَبُّثِ، وَإِصَابَةِ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ، وَفِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَفِيهَا تَعْظِيمُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْحَظْرِ مِنْ جِهَةِ الْحِنْثِ وَالْكَذِبِ، وَالدَّائِرُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَكُونُ صَغِيرَةً فَتَمْحُوهَا الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] بِخِلَافِ الْعَمْدِ، وَالْغَمُوسِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَمْحُوهَا الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ عليه السلام «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» فَإِنَّ الْمُرَادَ لِمَا بَيْنَهُنَّ هُوَ الصَّغَائِرُ بِقَرِينَةِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ فَإِنْ قِيلَ: الْكِتَابُ عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: قَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ كَالشِّرْكِ بِاَللَّهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ هُوَ الْكِتَابُ، وَالْإِجْمَاعُ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الْكَفَّارَةُ بِالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قُلْنَا إنَّمَا، وَجَبَتْ بِالْإِفْطَارِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَفِيهِ جِهَةُ الْإِبَاحَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ يَقْضِي بِهِ الشَّهْوَةَ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) حَاصِلُ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثْقِلِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَكَيْفَ

ص: 259

وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَفِي الْمُثْقِلِ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْل فَأَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ وَأَسْقَطَتْ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ إنَّمَا هِيَ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ عَمْدٌ مَحْضٌ فَاعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَالْقِصَاصُ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ أَمَّا الْقَتْلُ بِالْمُثْقِلِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ فَاعْتُبِرَتْ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ حَتَّى وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهِ، وَكَذَا اُعْتُبِرَتْ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقِصَاصُ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّبْهَةَ مِمَّا تُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ وَتُسْقِطُ الْقِصَاصَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْقِصَاصَ مِنْ وَجْهٍ جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ جَزَاءُ الْفِعْلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَكُونَ زَاجِرًا عَنْ هَدْمِ بُنْيَانِ الرَّبِّ، وَالزَّوَاجِرُ كَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتُ إنَّمَا هِيَ أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ جَزَاءُ الْفِعْلِ

(، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَهُوَ فَوْقَ

ــ

[التلويح]

وَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْخَطَأِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُثْقِلَ لَيْسَ آلَةً لِلْقَتْلِ خِلْقَةً بَلْ لِلتَّأْدِيبِ، وَفِي التَّأْدِيبِ جِهَةٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَالشُّبْهَةُ تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَكْفِي لِدَرْءِ الْعُقُوبَاتِ، وَحَاصِلُ السُّؤَالِ الثَّانِي الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ بِالْمُثْقِلِ، وَقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ بِالسَّيْفِ حَيْثُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي مَعَ عَدَمِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ الشَّيْءِ أَوْ إسْقَاطِهِ إذَا تَمَكَّنَتْ فِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَالْقِصَاصُ مُقَابِلٌ لِلْفِعْلِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِلْمَحَلِّ مِنْ جِهَةٍ فَيَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْآلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ فَتَدْخُلُ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ، وَتَصِيرُ الشُّبْهَةُ فِيهَا شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ، وَبِالشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّ دَمَهُ لَا يُمَاثِلُ دَمَ الْمُسْلِمِ فِي الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَكَأَنَّهُ فِيهَا، وَالْكَفَّارَةُ تُقَابِلُ الْفِعْلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ أَجْزِئَةُ الْأَفْعَالِ فَتَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ لَا فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ.

1 -

(قَوْلُهُ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ) اعْلَمْ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ سَوَاءٌ فِي الثُّبُوتِ بِالنَّظْمِ وَفِي الْقَطْعِيَّةِ أَيْضًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ تُقَدَّمُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ لِمَكَانِ الْقَصْدِ بِالسَّوْقِ كَقَوْلِهِ عليه السلام فِي النِّسَاءِ «إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ، وَدِينٍ» الْحَدِيثُ سِيقَ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَفِيهِ

ص: 260

الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْقِيَاسِ مُدْرَكٌ رَأْيًا لَا لُغَةً بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَيَثْبُتُ بِهَا مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَثْبُتُ ذَا بِالْقِيَاسِ) أَيْ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ قَالَ عليه السلام «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ كَلَامًا فِي

ــ

[التلويح]

إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ:«أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ» ، وَهُوَ عِبَارَةٌ فَتُرَجَّعُ فَإِنْ قِيلَ: لَا مُعَارِضَةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ الْبَعْضُ لَا النِّصْفُ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَأَكْثَرُ أَعْمَارِ الْأُمَّةِ سِتُّونَ رُبُعُهَا أَيَّامُ الصِّبَا، وَرُبُعُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ فِي الْأَغْلَبِ فَاسْتَوَى النِّصْفَانِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَتَرْكِهِمَا. أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّطْرَ حَقِيقَةٌ فِي النِّصْفِ، وَأَكْثَرُ أَعْمَارِ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مُدَّةَ الصِّبَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِنُقْصَانِ دِينِهِنَّ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا مُسْتَنِدًا إلَى النَّظْمِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ النَّظْمِ لُغَةً، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ دَلَالَةَ النَّصِّ فَيُقَدَّمُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا قَبُولُ التَّخْصِيصِ فَلَا مُمَاثَلَةَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ لَا يَقْبَلُهُ، وَكَذَا الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْبَلُهُ صَحَّ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ.

(قَوْلُهُ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ) فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ يُقَدَّمُ عَلَى الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا النَّظْمَ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَفِي الدَّلَالَةِ الْمَعْنَى فَقَطْ فَيَبْقَى النَّظْمُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ. مِثَالُهُ: ثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي الْخَطَأِ فَيُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] حَيْثُ جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ جَهَنَّمَ، فَيَكُونُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ فَرُجِّحَتْ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ جَزَاءُ الْآخِرَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ، قُلْنَا: الْقِصَاصُ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَالْجَزَاءُ الْمُضَافِ إلَى الْفَاعِلِ هُوَ جَزَاءُ فِعْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ.

(قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهِ يُدْرَكُ فِي الْقِيَاسِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَفِي دَلَالَةِ النَّصِّ بِاللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالنَّظْمِ، وَفِي التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ الْعِلَّةُ، وَإِلَى أَنَّ دَلَالَةِ النَّصِّ مُغَايَرَةٌ لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْفَرْعِ إجْمَاعًا، وَهَاهُنَا قَدْ يَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تُعْطِ زَيْدًا ذَرَّةً فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ مَعَ أَنَّ الذَّرَّةَ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ الذَّرَّةُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَالِانْفِرَادِ، وَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِيمَا فَوْقَهَا بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ قُلْنَا: لَوْ سُلِّمَ فَمِثْلُهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ، الثَّانِي: أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ ثَابِتَةٌ قَبْلَ

ص: 261

أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، أَمْ بِالْقِيَاسِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا (، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَنَحْوُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ يَقْتَضِي الْبَيْعَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعِتْقِ) فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ بِعْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ وَكُنْ وَكِيلِي فِي الْإِعْتَاقِ.

(فَيَثْبُتُ) أَيْ الْبَيْعُ (بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ شُرُوطُهُ) أَيْ لَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ جَمِيعُ شُرُوطِهِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ مَا لَا يَحْتَمِلُ

ــ

[التلويح]

شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْهَمُ مِنْ: لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ لَا تَضْرِبْهُ وَلَا تَشْتُمْهُ سَوَاءٌ عَلِمَ شَرْعِيَّةَ الْقِيَاسِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ شُرِعَ الْقِيَاسُ أَوْ لَا، الثَّالِثُ: أَنَّ النَّافِينَ لِلْقِيَاسِ قَائِلُونَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ قِيَاسٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ التَّأْفِيفِ فَأُلْحِقَ بِهِ الضَّرْبُ وَالشَّتْمُ بِجَامِعِ الْأَذَى إلَّا أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَطْعِيٌّ، وَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ.

(قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ) تَفْرِيعٌ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى فِي الدَّلَالَةِ مُدْرَكًا بِاللُّغَةِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حِينَئِذٍ يَسْتَنِدُ إلَى النَّظْمِ، وَتَنْتَفِي عَنْهُ الشُّبْهَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ ثُبُوتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَهِيَ اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِثَالُ ذَلِكَ إثْبَاتُ الرَّجْمِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي مَاعِزٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ إنَّمَا رُجِمَ بِالزِّنَا فِي حَالَةِ الْإِحْصَانِ.

(قَوْلُهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَا) أَيْ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي مَعْنَاهُ مُدْرَكٌ بِالرَّأْيِ دُونَ اللُّغَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحُدُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ.

(قَوْلُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ) يَعْنِي أَنَّهُ تَابَعَ الْقَوْمَ فِي إيرَادِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ كَوُجُوبِ الْحَدِّ بِاللِّوَاطَةِ، وَالْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لَيْسَ مِمَّا يُفْهَمُ لُغَةً بَلْ رَأْيًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لِلْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، ادَّعَوْا فِيهِ دَلَالَةَ النَّصِّ.

(قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي) بِالْكَسْرِ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَنَحْوُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ، وَمُقْتَضَاهُ هُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الرَّجُلِ عَبْدَهُ بِوَكَالَةِ الْغَيْرِ وَنِيَابَتِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِهِ مِلْكًا لَهُ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ هَاهُنَا هُوَ الْبَيْعُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَنِّي بِأَلْفٍ فَيَكُونُ الْبَيْعُ لَازِمًا مُتَقَدِّمًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَالِاقْتِضَاءُ هُوَ دَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَا سَبَقَ أَنْ يَقُولَ، وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَكَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْمُرَادُ بِاللُّزُومِ هَاهُنَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الْبَيِّنِ وَغَيْرِ الْبَيِّنِ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ: إنَّ الِاقْتِضَاءَ هُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى خَارِجٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُهُ أَوْ صِحَّتُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ الْعَقْلِيَّةُ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالشَّرْعِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَحْذُوفِ مِثْلُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُقْتَضِي زِيَادَةً ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ شَرْعًا فَقَوْلُهُ شَرْطًا حَالٌ مِنْ الْمُسْتَكِنِّ فِي ثَبَتَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَازَ تَذْكِيرُهُ مَعَ كَوْنِهِ عَائِدًا إلَى الزِّيَادَةِ، وَالشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ

ص: 262

السُّقُوطَ أَصْلًا لَكِنَّ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَثْبُتُ (فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا تَفْرِيعٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شُرُوطُهُ

(لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ الْآمِرِ وَتَسْتَغْنِي الْهِبَةُ عَنْ الْقَبْضِ وَهُوَ شَرْطٌ كَمَا يَسْتَغْنِي الْبَيْعُ ثَمَّةَ عَنْ الْقَبُولِ وَهُوَ رُكْنٌ قُلْنَا يَسْقُطُ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْقَبُولَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ الْقَبُولَ بِاللِّسَانِ فِي الْبَيْعِ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ (كَمَا فِي التَّعَاطِي لَا الْقَبْضِ) أَيْ فِي الْهِبَةِ (، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى) أَيْ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى مَعْنًى تَحْتَهُ أَفْرَادٌ لَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ (لِأَنَّهُ ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَعُمَّ لَمْ يَقْبَلْ التَّخْصِيصَ فِي قَوْلِهِ، وَاَللَّهِ لَا آكُلُ؛ لِأَنَّ طَعَامًا ثَابِتٌ اقْتِضَاءً، وَأَيْضًا لَا تَخْصِيصَ

ــ

[التلويح]

بِذَلِكَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: الْمُقْتَضِي زِيَادَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُهُ لِيَصِيرَ الْمَنْصُوصُ مُفِيدًا أَوْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ.

(قَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ، وَكُنْ وَكِيلًا فِي الْإِعْتَاقِ) قِيلَ: هَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ، وَرُدَّ بِالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْمَلْفُوظُ هُوَ هَذَا الْمُقَدَّرُ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّقْدِيرَ لِيَتَحَقَّقَ فِي هَذَا الْبَيْعِ عَدَمُ الْقَبُولِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْآمِرَ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرَيْته مِنْك فَأَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ، وَالْمَأْمُورُ حِينَ قَالَ: أَعْتِقْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْته مِنْك فَأَعْتَقْته عَنْك فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، نَعَمْ هَذَا التَّقْدِيرُ أَحْسَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ عَنِّي مُتَعَلِّقًا بِأَعْتِقْهُ عَلَى مَعْنَى أَعْتِقْهُ نَائِبًا عَنِّي أَوْ وَكِيلًا لِأَصْلِهِ لِلْبَيْعِ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْمُصَنِّفُ إذْ لَا يُقَالُ: بِعْته عَنْك بَلْ مِنْك، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنِّي حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ، وَبِأَلْفٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتِقْ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبَيْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي مَبِيعًا مِنِّي بِأَلْفٍ.

(قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ الْبَيْعُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ) أَيْ مَعَ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ، وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، نَعَمْ يُعْتَبَرُ فِي الْآمِرِ أَهْلِيَّةُ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا عَاقِلًا قَدْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ الْبَيْعُ بِهَذَا الْكَلَامِ.

(قَوْلُهُ لَا الْقَبْضِ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ السُّقُوطَ بِحَالٍ إذْ لَا تُوجَدُ هِبَةٌ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ فَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفِ دِينَارٍ وَرِطْلٍ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلِيٍّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ يَعْمَلُ بِدُونِهِ، وَالْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِهِ لَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَمِلُ السُّقُوطَ نَظَرًا إلَى أَصْلِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهَا شَرْطٌ أَصْلِيٌّ لَا تَعْمَلُ هِيَ إلَّا بِهِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِدَ لِضَعْفِهِ احْتَاجَ إلَى الْقَبْضِ لِيَتَقَوَّى بِهِ، وَقَدْ حَصَلَ التَّقَوِّي بِثُبُوتِهِ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ.

(قَوْلُهُ، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى) عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي

ص: 263

إلَّا فِي اللَّفْظِ فَإِنْ قِيلَ يُقَدِّرُ أَكْلًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ ثَابِتٌ لُغَةً) ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ؛ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ تَضْمِينِيَّةٌ، فَالثَّابِتُ لُغَةً عَلَى قِسْمَيْنِ: حَقِيقِيٌّ مَنْطُوقٌ كَالْمَصْدَرِ، وَمَجَازِيٌّ

ــ

[التلويح]

اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ تَصْحِيحًا لَهُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ لَا يَجِبُ إثْبَاتُ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ فَرْدٍ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى إثْبَاتِ مَا وَرَاءَهُ فَيَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى مَعْنًى لَا لَفْظٌ، وَقَدْ يُنْسَبُ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُقْتَضَى لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ عِنْدَهُ مَا يَتَوَقَّفُ صِدْقُهُ أَوْ صِحَّتُهُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا أَوْ لُغَةً عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ الْمُقْتَضَى اسْمُ مَفْعُولٍ فَإِذَا وُجِدَ تَقْدِيرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْجَمِيعِ بَلْ يُقَدَّرُ وَاحِدٌ بِدَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُعَيِّنٌ لِأَحَدِهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ.

ثُمَّ إذَا تَعَيَّنَ بِدَلِيلٍ فَهُوَ كَالْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ وَالْمُقَدَّرَ سَوَاءٌ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَعَامٌّ، وَإِلَّا فَلَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ صِفَةِ اللَّفْظِ، وَيَكُونُ إثْبَاتُهُ ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَبَيَّنُوا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ أَوْ إنْ أَكَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ نِيَّةُ طَعَامٍ دُونَ طَعَامٍ تَخْصِيصًا لِلْعَامِّ أَعْنِي النَّكِرَةَ الْوَاقِعَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا آكُلُ طَعَامًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ فَلَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَلَا خِلَافَ فِي شُمُولِ الْحُكْمِ وَشُيُوعِهِ لِكُلِّ طَعَامٍ بَلْ الشُّيُوعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْكَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ أَصْلًا لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لَا عَلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى، وَكَوْنُ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى ظَاهِرٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ مَنْ اعْتَبَرَ التَّوَقُّفَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَوَجْهُهُ أَنَّ الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى الْمُقْتَضَى فَتَكُونُ صِحَّةُ الْحَلِفِ عَلَى الْأَكْلِ شَرْعًا مَوْقُوفَةً عَلَى اعْتِبَارِ الْمَأْكُولِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْرِيرُ السُّؤَالِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِيَّةُ طَعَامٍ دُونَ طَعَامٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ أَكْلًا دُونَ أَكْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ فِي الْأَكَلَاتِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بَلْ بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَيَعُمُّ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا صَرَّحَ بِهِ نَحْوُ لَا آكُلُ أَكْلًا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ فِي نِيَّةِ أَكْلٍ دُونَ أَكْلٍ؟ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ لُغَةً، أَيْ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ تَوَقُّفَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ هُوَ الدَّالُ عَلَى نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ دُونَ الْإِفْرَادِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْفِعْلِ عَلَى الْفَرْدِ بَلْ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ مُقَارَنَةِ الزَّمَانِ فَلَا يَكُونُ عَامِلًا فَلَا يَقْبَلُ

ص: 264

مَحْذُوفٌ نَحْوُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ لَا آكُلُ أَكْلًا، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي لَا آكُلُ أَكْلًا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ

(قُلْنَا الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ لُغَةً هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لَا عَلَى الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا آكُلُ أَكْلًا، فَإِنَّ أَكْلًا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَا آكُلُ عَامًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِكُلِّ أَكْلٍ؟ قُلْنَا إنَّمَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا آكُلُ مَعْنَاهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ مَاهِيَّةُ الْأَكْلِ) وَعَدَمُ وُجُودِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْأَكْلِ أَصْلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ

ــ

[التلويح]

التَّخْصِيصَ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ: لَا آكُلُ أَكْلًا فَإِنَّهُ عَامٌّ اتِّفَاقًا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هَاهُنَا لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَهُوَ، أَيْضًا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ بِخِلَافِ مَا يَكُونُ لِلنَّوْعِ أَوْ لِلْمَرْأَةِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ، وَنَوَى السَّفَرَ خَاصَّةً صُدِّقَ دِيَانَةً، وَوُجِّهَ بِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ ذِكْرٌ لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَقْبَلُ التَّخْصِيصَ.

(قَوْلُهُ فَالدَّلَالَةُ) أَيْ دَلَالَةُ لَا آكُلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ نَفْيِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ إذْ لَوْ وُجِدَ فَرْدٌ مِنْ الْأَفْرَادِ ثَبَتَتْ الْمَاهِيَّةُ فِي ضِمْنِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَيْضًا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَفْيَ فَرْدٍ مُبْهَمٍ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ ضَرُورَةً.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُسَاكَنَةِ عَلَى الْمَكَانِ اقْتِضَاءٌ، وَقَدْ صَحَّتْ نِيَّةُ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْعُمُومِ فَلِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ بَلْ إرَادَةٌ لِأَحَدِ مَفْهُومَيْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ الْكَامِلَ الْمَفْهُومَ مِنْ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ السُّكْنَى، وَهِيَ الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ فَهِيَ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِمَا بِأَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ فِي الْبَيْتِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَفِي الدَّارِ إنَّمَا يَكُونُ الِاتِّصَالُ فِي تَوَابِعِ السُّكْنَى مِنْ إرَاقَةِ الْمَاءِ، وَغَسْلِ الثَّوْبِ، وَنَحْوِهِمَا لَا فِي أَصْلِ السُّكْنَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ اُشْتُهِرَتْ الْمُسَاكَنَةُ عُرْفًا فِي الْمُسَاكَنَةِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْ لَا، وَلِهَذَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ هَدْمِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نِيَّةُ بَيْتٍ دُونَ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ دُونَ دَارٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى.

(قَوْلُهُ، وَقَدْ غَيَّرَتْ) كَانَ فِي نُسْخَةِ الْأَصْلِ قَوْلُهُ، وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ فَيَجْرِي فِيهِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا اقْتِدَاءً بِفَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَخَّرَهُ لِتَقَعَ جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى وَخُصُوصِهِ مُجْتَمِعَةً.

(قَوْلُهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا) قَدْ وَقَعَتْ فِي بَابِ الطَّلَاقِ عِبَارَاتٌ مُتَشَابِهَةٌ صَحَّتْ

ص: 265

لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ (أَيْ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ) فَإِنْ قِيلَ: إنْ قَالَ: لَا أُسَاكِنُ فُلَانًا، وَنَوَى فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ تَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَالْبَيْتُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً قُلْنَا: إنَّمَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ نَوْعَانِ: قَاصِرَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَكَامِلَةٍ، (وَهِيَ هَذِهِ) أَيْ الْمُسَاكَنَةُ الْكَامِلَةُ هِيَ الَّتِي يَسْكُنَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَنِيَّةُ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ لَا تَكُونُ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ بَابِ نِيَّةِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ نِيَّةِ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ غَيَّرْت هُنَا عِبَارَةَ الْمَتْنِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ هَكَذَا (فَنَوَى الْكَامِلَ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَنْتِ

ــ

[التلويح]

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْبَعْضِ مِنْهَا مِثْلُ طَلِّقِي نَفْسَك دُونَ الْبَعْضِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك، وَإِذَا صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ طَلَّقْتُك طَلَاقًا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، وَفِي طَلِّقِي نَفْسَك ثَابِتٌ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ فَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ وَعَلَى الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ يَدُلُّ بِحَسَبِ اللُّغَةِ عَلَى اتِّصَافِ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ لَا عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَاقِ عَنْ الرَّجُلِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَيْ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ عَنْ الرَّجُلِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ ضَرُورَةَ أَنَّ اتِّصَافَ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ يَتَوَقَّفُ شَرْعًا عَلَى تَطْلِيقِ الزَّوْجِ إيَّاهَا فَيَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي أَنْتِ طَالِقٌ دُونَ طَلَّقْتُك فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّطْلِيقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لُغَةً.

أُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ لَا عَلَى مَصْدَرٍ حَادِثٍ فِي الْحَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَغْوًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الطَّلَاقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامُ مَصْدَرًا، أَيْ طَلَاقًا مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْحَالِ، وَجَعَلَهُ إنْشَاءً لِلتَّطْلِيقِ فَصَارَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى هَذَا الْمَصْدَرِ اقْتِضَاءً لَا لُغَةً بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى مَصْدَرٍ مُغَايِرٍ لِمَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ الطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى تَصَوُّرِ وُجُودِهِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِهِ هُوَ نَفْسُ مَصْدَرِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لُغَةً لَا اقْتِضَاءً فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْفُوظِ فَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَعَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا عَلَى مَا عَرَفْت فِي نَحْوِ لَا آكُلُ، أَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَذْكُورًا نَحْوَ طَلِّقِي طَلَاقًا، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَطَلَّقْتُك طَلَاقًا فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْعُمُومِ كَيْفَ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَإِنْ قُلْت: فَمِنْ أَيْنَ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؟ قُلْت مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ اسْمٌ دَالٌ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ أَعْنِي الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ الْمَجْمُوعُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ.

ص: 266

طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك، وَنَوَى الثَّلَاثَ إنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إنْشَاءُ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَا لُغَوِيٍّ فَيَكُونُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ فَثُبُوتُ مَصْدَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي فَإِنْ قِيلَ: ثُبُوتُ الْبَيْنُونَةِ فِي أَنْتِ بَائِنٌ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْبَيْنُونَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا، وَلَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ إلَّا بِالْعَدَدِ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ مَا يُغَيِّرُ إثْبَاتُهُ الْمَنْطُوقَ بِخِلَافِ الْمُقْتَضَى. نَحْوُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]

أَيْ أَهْلَهَا (فَإِثْبَاتُهُ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ بِنَقْلِ النِّسْبَةِ

ــ

[التلويح]

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ عَلَى مَا شَرَحَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا تَجُوزُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْمُقْتَضَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ؟ قُلْت؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ صِفَةُ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى لَيْسَ بِلَفْظٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ابْتِنَاءَهُ عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْمُقْتَضَى أَيْضًا، نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ لَكَانَ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ مَعْنَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى، وَلِهَذَا قَالَ: الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَلِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الْمَجَازِ إلَّا فِي اللَّفْظِ كَنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَيَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ فُسِّرَ عَدَمُ عُمُومِ الْمُقْتَضَى بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إثْبَاتُ جَمِيعِ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَلِهَذَا لَا يُنَافِي الْجَوَازَ أَعْنِي صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ) هَذِهِ مُعَارَضَةٌ: تَقْرِيرُهَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ مِثْلُ بِعْت، وَاشْتَرَيْت، وَنَكَحْت، وَطَلَّقْت كُلُّهَا فِي الشَّرْعِ إنْشَاءَاتٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي فَالطَّلَاقُ الثَّابِتُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ يَكُونُ ثَابِتًا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا لَا مُتَقَدِّمًا فَيَكُونُ ثَابِتًا عِبَارَةً لَا اقْتِضَاءً فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ طَلَّقْت طَلَاقًا فَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا يُقَالُ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِ الِاقْتِضَاءِ فَإِنَّ الْبَيْعَ، فِي مِثْلِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ لَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِقَوْلِ الْمَأْمُورِ أَعْتَقْتُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَعْنَى التَّقَدُّمِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ أَوَّلًا لِيَصِحَّ مَدْلُولُ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْبَيْعُ مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ شَرْعًا، وَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ ثُبُوتُ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ أَوَّلًا لِيَصِحَّ الْإِيقَاعُ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إلَّا بَعْدَ الْإِيقَاعِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَأَجَابَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْشَاءً فِي الشَّرْعِ أَنَّهَا نُقِلَتْ عَنْ مَعْنَى الْأَخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ وَوُضِعَتْ لِإِيقَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا الْحَقِيقِيَّةُ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا صِيَغٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ

ص: 267

مِنْ الْقَرْيَةِ إلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ حَقِيقَةً هُوَ الْأَهْلُ فَيَكُونُ ثَابِتًا لُغَةً فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ فَيَجْرِي فِيهِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ) .

قَوْلُهُ، وَلِذَلِكَ أَيْ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ أَصْلًا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك فَإِنَّ دَلَالَةَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقْتُكِ عَلَى الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا ثَابِتٌ لُغَةً فَإِنْ قِيلَ: الطَّلَاقُ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ كَيْفَ يَكُونُ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى فِي اصْطِلَاحِهِمْ، هُوَ اللَّازِمُ وَالْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَثُبُوتُهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعِبَارَةِ فَيَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِنْشَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَضَعَهُ لِلْإِنْشَاءِ ابْتِدَاءً

ــ

[التلويح]

مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَعْتَبِرُ الشَّرْعُ إيقَاعَهَا مِنْ جِهَتِهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِهَذَا الْكَلَامِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً وَقَدْ ثَبَتَتْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكَلَامِ يُسَمَّى إنْشَاءً وَلِهَذَا كَانَ جَعَلُهُ إنْشَاءً ضَرُورِيًّا حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ الْحُكْمُ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ مَثَلًا " بِعْت " لَا يَدُلُّ عَلَى بَيْعٍ آخَرَ غَيْرِ الْبَيْعِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْشَاءِ إلَّا هَذَا، وَأَيْضًا لَا يُوجَدُ فِيهَا خَاصَّةُ الْأَخْبَارِ أَعْنِي احْتِمَالَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِلْقَطْعِ بِتَخْطِئَةِ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ طَلَّقْت إخْبَارًا لَكَانَ مَاضِيًا فَلَمْ يَقْبَلْ التَّعْلِيقَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ تَوْقِيفُ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، وَأَيْضًا يَقْطَعُ كُلُّ أَحَدٍ فِيمَا إذَا قَالَ: لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا قَصَدَ إنْشَاءَ طَلَاقٍ ثَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ الطَّلَاقِ السَّابِقِ.

وَبِالْجُمْلَةِ كَوْنُ هَذِهِ الصِّيَغِ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْشَاءِ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا تَحَاشَى الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ التَّصْرِيحِ بِكَوْنِهَا أَخْبَارًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الصِّيغَةِ خَبَرًا وَإِلَّا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعِبَارَةِ قَطْعًا، الثَّانِي أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ طَالِقٌ لُغَةً صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ فِي ذَاتِهِ بَلْ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ مَلْزُومِهِ أَعْنِي التَّطْلِيقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ، وَهُوَ هَاهُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ لُغَةً بَلْ اقْتِضَاءً فَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا يُبْتَنَى تَعَدُّدُهُ عَلَيْهِ قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ مَذْكُورٌ فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ غَيْرُ شَامِلٍ لِمِثْلِ طَلَّقْتُك، وَهَذَا لَيْسَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْهِدَايَةِ بَلْ عَلَى جَعْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةً كَذِكْرِ الْعَالِمِ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ فَقَالَ ذِكْرُ الطَّالِقِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ هُوَ صِفَةُ لِلْمَرْأَةِ لَا لِطَلَاقٍ هُوَ تَطْلِيقٌ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّابِتَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ

ص: 268

بَلْ الشَّرْعُ فِي جَمِيعِ أَوْضَاعِهِ اعْتَبَرَ الْأَوْضَاعَ اللُّغَوِيَّةَ حَتَّى اخْتَارَ لِلْإِنْشَاءِ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَعَانِيهَا فِي الْحَالِ كَأَلْفَاظِ الْمَاضِي، وَالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَالِ فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ لِلْإِخْبَارِ يَجِبُ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَوْصُوفَةً بِهِ فِي الْحَالِ فَيُثْبِتُ الشَّرْعُ الْإِيقَاعَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ اقْتِضَاءً لِيَصِحَّ هَذَا الْكَلَامُ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً فَهَذَا مَعْنَى وَضْعِ الشَّرْعِ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ لِلْمُقْتَضَى وَلِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْمَجَازِ إلَّا فِي اللَّفْظِ كَنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَثَانِيهمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى التَّطْلِيقِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ اقْتِضَاءً فَاَلَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي التَّطْلِيقِ حَقِيقَةً، وَبِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِهِ يَتَعَدَّدُ لَازِمِهِ أَيْ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً، وَهَذَا الْوَجْهُ مَذْكُورٌ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك، وَالثَّانِي مَخْصُوصٌ بِأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ أَنْتِ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِيهِمَا نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَوَجْهُهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ

ــ

[التلويح]

ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْمُعَارَضَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَهُوَ أَنَّ التَّطْلِيقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ لَيْسَ بِثَابِتٍ اقْتِضَاءً بَلْ عِبَارَةً؛ لِأَنَّ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقْتُك فِي الشَّرْعِ إنْشَاءٌ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلزَّوْجِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ ثَابِتًا بِهِ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ، وَلَا مَدْفَعَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْعُ كَوْنِهِ إنْشَاءً، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ تَصْحِيحًا لَهُ فَيَصِيرُ بِعَيْنِهِ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ مَنْقُوضٌ بِمِثْلِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَأَنْتِ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ اتِّفَاقًا، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَوَلَّى الثَّلَاثَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَنْتِ ذَاتٌ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا يُقَالُ: صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الطَّلَاقِ مُرَادًا بِهِ التَّطْلِيقُ، وَلَوْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ هُوَ عِلْمُنَا بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ لَا نَفْسَ إرَادَتِهِ لَا يُقَالُ: الْجَوَابُ الثَّانِي لَيْسَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَتَعَدَّدُ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ أَصْلًا بَلْ إنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ التَّطْلِيقِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ النَّقْضُ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّطْلِيقُ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ لَهُ لِذَاتِهِ ثَابِتٌ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَأَنْتِ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ

ص: 269

الثَّانِي هُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَفِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، لَا شَكَّ أَنَّ طَلَاقًا هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ.

فَنَقُولُ: إذَا نَوَى الثَّلَاثَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّلَاقِ هُوَ التَّطْلِيقُ فَيَكُونُ مَصْدَرُ الْفِعْلِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنِّي طَلَّقْتُك تَطْلِيقَاتٍ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا أَنْتِ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَمَعْنَاهُ أَنْتِ ذَاتٌ، وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ، وَأَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِيءُ هَذَا الْإِشْكَالُ إذْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالطَّلَاقُ مَلْفُوظٌ فَيَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ، وَقَوْلُهُ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ اسْمٌ فَرْدٌ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الِاعْتِبَارِيِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَتْ مَلْفُوظَةً لَا تَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ اعْتِبَارًا عَلَى مَا يَأْتِي فِي فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارُ أَنَّ الطَّلَاقَ اسْمٌ فَرْدٌ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاحِدُ الِاعْتِبَارِيُّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَالْمَجْمُوعُ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الثَّلَاثُ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ الْبَيْنُونَةِ هَذَا إشْكَالٌ عَلَى بُطْلَانِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إنْشَاءً أَمْرٌ شَرْعِيٌّ

ــ

[التلويح]

الِاقْتِضَاءِ كَمَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ بِعَيْنِهِ فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي الطَّلَاقِ مَبْنِيًّا عَلَى صِحَّتِهِ فِي التَّطْلِيقِ لَمَا صَحَّتْ هَاهُنَا، وَهُوَ النَّقْضُ، وَهُوَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى فِي اصْطِلَاحِهِمْ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ كَيْفَ يَكُونُ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ.

(قَوْلُهُ أَيْ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ) شَرْطٌ، جَوَابُهُ قَوْلُهُ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ تَقْدِيرُهُ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ وَهُوَ لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ (قَوْلُهُ قُلْنَا نَعَمْ) يَعْنِي أَنَّ صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ بَائِنٌ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ قَبِيلِ إرَادَةِ أَحَدِ مَعْنَيَيْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ فِي بَابِ الْمُقْتَضَى، وَهُوَ جَائِزٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَفِيفَةِ، وَهِيَ الْقَاطِعَةُ لِلْحِلِّ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ فِي الْحَالِ، وَعَلَى الْغَلِيظَةِ، وَهِيَ الْقَاطِعَةُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ بِأَنْ لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْبَيْنُونَةِ مَوْضُوعًا لِكُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ وَضْعًا عَلَى حِدَةٍ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَفْظًا، وَإِلَّا لَكَانَ جِنْسُهُمَا لَهُمَا.

(قَوْلُهُ لَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيهِ) أَيْ فِي الْمُقْتَضَى نِيَّةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ، أَيْ كَائِنٍ فِي الْمُقْتَضَى، وَهَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ، وَزِيَادَةُ تَوْضِيحٍ لِلْمَقْصُودِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِيَّةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُقْتَضَى لَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا) أَيْ فِي النَّوْعَيْنِ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ يُشْكِلُ بِمَا قَالُوا: إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا تَعَيَّنَ الْأَدْنَى، أَيْ الْخَفِيفَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.

(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنْ رَفْعُهُ أَصْلًا) وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الرَّجْعِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْحَالِ حُكْمُ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ

ص: 270