الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِعْلَهُ لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مُحَصِّلًا لِفِعْلِهِ، وَمَانِعًا مِنْ تَرْكِهِ فَالْإِيجَابُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِنَايَةِ بِوُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَمَالُ الْعِنَايَةِ بِوُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حُسْنِهِ، وَكَمَالُ الْحُسْنِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ.
(وَكَوْنُهُ عِبَادَةً يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا) وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْت فِي الْأَوَّلِ لَفْظَ يَقْتَضِي، وَفِي الثَّانِي يُوجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَالثَّانِي مُوجِبُ الْأَمْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ التَّحْصِيلِ.
(فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَمْرُ بِالْجُمُعَةِ يُوجِبُ صِفَةَ حُسْنِهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ ظُهْرُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ إذَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ، وَلَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَعْذُورُ بِالْجُمُعَةِ) فَإِذَا أَدَّى الظُّهْرَ (لَمْ يَنْتَقِضْ بِالْجُمُعَةِ قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ قَضَاءَ الظُّهْرِ لَا الْجُمُعَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الظُّهْرُ لَكِنَّا أُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ مُقَامَهُ فِي الْوَقْتِ فَصَارَتْ مُقَرِّرَةً لَهُ لَا نَاسِخَةً، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] لَكِنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ رُخْصَةً فَإِذَا أَتَى بِالْعَزِيمَةِ صَارَ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فَانْتَقَضَ الظُّهْرُ) .
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرَهُ، وَالْخِلَافُ هُنَا فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي
ــ
[التلويح]
عِبَادَةً يُوجِبُ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى عَدَمِ احْتِمَالِهِ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَلِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَمِ احْتِمَالِ سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَذَكَرَ فِي شُرُوحِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ هُوَ مَا يَحْسُنُ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً لَا مَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ الثَّانِي مَا يُقَابِلُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَعْنِي: مَا يَكُونُ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا غَيْرُ عَزِيزٍ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) هُوَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ مُتَقَدِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ حَسَنًا، ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، الْأَمْرُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ، وَالْمُوجِبُ مُتَأَخِّرٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ حُسْنَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهَذَا مَا يُقَالُ: إنَّ حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَنَا مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِهِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَعْذُورُ بِالْجُمُعَةِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَيْنًا بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظُّهْرِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا انْدَفَعَ الْآخَرُ
[فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ]
(قَوْلُهُ: فَصْلٌ) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ مِنْ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ ضَرْبًا ثَالِثًا يُسَمَّى الْجَامِعَ، وَهُوَ مَا يَكُونُ حَسَنًا لِحُسْنِ شَرْطِهِ بَعْدَمَا كَانَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهِيَ
هَذَا الْيَوْمِ الْجُمُعَةُ عِنْدَهُ، وَالظُّهْرُ عِنْدَنَا، وَدَلِيلُنَا فِي الْمَتْنِ مَذْكُورٌ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَعْذُورَ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ هَلْ يَنْتَقِضُ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ أَمْ لَا فَعِنْدَهُ لَا، وَعِنْدَنَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّعْيِ يَعُمُّ الْمَعْذُورَ وَغَيْرَ الْمَعْذُورِ فَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لَكِنَّ هَذَا سَاقِطٌ مِنْ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ صَارَ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فَانْتَقَضَ الظُّهْرُ
(فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الْحَكِيمِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ اتِّفَاقًا وَاقِعٌ عِنْدَهُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ وَاقِعٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ.
(كَإِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ هَذَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَأْثِيرًا فِي أَفْعَالِهِ تَوَسُّطًا
ــ
[التلويح]
الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُدْرَةِ تَوَقُّفَ وُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَبَاحِثَ الْقُدْرَةِ وَتَفَارِيعَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ جَعْلَهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ، فَلِذَا أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتِلْكَ الْمَبَاحِثِ فَصْلًا عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ أَيْ: لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِهِ، وَاسْتِدْعَاءُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ سَفَهٌ فَلَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ بِنَاءً عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ، وَإِلَّا لَزِمَ إمْكَانُ كَذِبِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمْكَانُ الْمُحَالِ مُحَالٌ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنْهَا الدَّلَالَةُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ دُونَ عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُ الْأَشْعَرِيِّ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ إلَّا أَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ الْأَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَالتَّكْلِيفُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا مَعَهُ لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ حَالَ التَّكْلِيفِ مُسْتَطِيعٌ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ) مَا لَا يُطْلَقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ أَيْضًا شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ نَاطِقَةٌ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ عَنْ الْمُكَلَّفِ لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعَ أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ كَبَعْضِ تَكَالِيفِ
بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ قِيلَ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَسُّطِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إيجَادِ الْفِعْلِ بَلْ يُوجَدُ بِخَلْقِ اللَّهِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ لِلْعَبْدِ قَصْدٌ اخْتِيَارِيٌّ فَالْمُرَادُ بِالتَّكْلِيفِ بِالْحَرَكَةِ التَّكْلِيفُ بِالْقَصْدِ إلَيْهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْقَصْدِ الْجَازِمِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَكَةَ أَيْ: الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ بِإِجْرَاءِ عَادَتِهِ أَوْ التَّكْلِيفُ بِالْحَرَكَةِ بِنَاءً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى سَبَبِهَا الْمُوصِلِ إلَيْهَا غَالِبًا وَهُوَ الْقَصْدُ.
(عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُؤْمِنُ أَصْلًا، فَإِنْ آمَنَ يَنْقَلِبُ عِلْمُ اللَّهِ جَهْلًا، وَهُوَ مُحَالٌ فَإِيمَانُهُ مُحَالٌ فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ
ــ
[التلويح]
الْعُصَاةِ وَالْكُفَّارِ، فَصَارَ حَاصِلُ النِّزَاعِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُطَاقُ حَتَّى يَكُونَ التَّكْلِيفُ الْوَاقِعُ بِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَمْ لَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مِمَّا يُطَاقُ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْقَصْدِ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ الْفِعْلَ عَقِيبَ قَصْدِهِ، وَلَا مَعْنَى لِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ إلَّا هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْقِيقِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ الْمُحَالَ، وَهُوَ انْقِلَابُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَهْلًا أَوْ وُقُوعُ الْكَذِبِ فِي اخْتِيَارِهِ فَإِيمَانُ أَبِي جَهْلٍ مُحَالٌ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ فَالتَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَاقِعٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إيمَانِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْإِمْكَانِ أَيْ: عَنْ كَوْنِهِ مَقْدُورًا لِأَبِي جَهْلٍ وَمُخْتَارًا لَهُ بِمَعْنَى صِحَّةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحْدِثُهُ عَقِيبَ قَصْدِهِ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ الْإِمْكَانُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقَوْلُهُ: الْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ دَفْعٌ لِمَا يُقَالُ أَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ ضَرُورَةَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الْفِعْلِ فَيَجِبُ أَوْ بِعَدَمِهِ فَيَمْتَنِعُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ بِمُسْتَطَاعٍ وَمُقَدَّرٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْعِلْمِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ فِي الْأَزَلِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْوُجُوبُ أَوْ الِامْتِنَاعُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ عِلْمِهِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُطَابَقَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى طِبْقِ الْمَعْلُومِ وُقُوعًا أَوْ عَدَمَ وُقُوعٍ، وَيَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْوُجُوبَ أَوْ الِامْتِنَاعَ بِوَاسِطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إخْبَارِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ أَوْ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فِي الْإِيمَانِ وَعَدَمِهِ، وَكَذَا فِي الْإِخْبَارِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْأَشْعَرِيِّ إنَّ أَبَا جَهْلٍ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ عليه السلام فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ كُلِّفَ
فَنُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ فَعِلْمُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ أَيْ: عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَمُخْتَارًا لَهُ.
(وَعِنْدَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا) أَيْ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ.
(بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ، ثُمَّ عِنْدَنَا عَدَمُ جَوَازِهِ) أَيْ: عَدَمُ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.
(لَيْسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَحَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحُكْمِهِ وَفَضْلِهِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقُدْرَةِ) وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ.
(بَلْ هُوَ يَثْبُتُ) أَيْ: نَفْسُ الْوُجُوبِ (بِالسَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي) أَيْ: فِي فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ.
(وَالْقُدْرَةُ نَوْعَانِ مُمَكِّنَةٌ وَمُيَسِّرَةٌ فَالْمُمَكِّنَةُ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَأْمُورُ
ــ
[التلويح]
بِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَلَزِمَ وُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ بِالذَّاتِ فَضْلًا عَمَّا لَا يُطَاقُ، وَمَا ذُكِرَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِمَا قِيلَ إنَّ تَكْلِيفَهُ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَبَعْدَهُ هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا عَدَا التَّصْدِيقَ بِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ) أَيْ: لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ فِي أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَتِهِ أَصْلًا، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ إذْ الْأَشْعَرِيُّ وَإِنْ قَالَ بِالْوُقُوعِ لَمْ يَقُلْ بِالْعُمُومِ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ عِنْدَنَا) يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِعِبَادِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ عَدَمَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَصْلَحُ فَيَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ مُمْتَنِعًا، وَعِنْدَنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ أَنْ يُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِمَا لَا يُطِيقُونَهُ أَصْلًا فَيَلْزَمُ التَّرْكُ بِالضَّرُورَةِ وَيَسْتَحِقُّوا الْعَذَابَ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ سَفَهٌ، وَتَرْكُ إحْسَانٍ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ صُدُورُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ بَلْ اللُّزُومُ وَعَدَمُ جَوَازِ التَّرْكِ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ قَوْلٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ تَفَضُّلًا عَلَى الْعِبَادِ وَإِحْسَانًا، وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْكُ لَكِنَّهُ يَتْرُكُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا قُلْنَا فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ عَدَمُ الْجَوَازِ وَهُوَ الْمُدَّعِي بَلْ يَثْبُتُ عَدَمُ الْوُقُوعِ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ الْقُدْرَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ) فَإِنْ قِيلَ نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّكْلِيفِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأَمْرِ، وَالتَّكْلِيفُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَكَيْفَ يَنْفَكُّ نَفْسُ الْوُجُوبِ عَنْ الْقُدْرَةِ.؟ أُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّكْلِيفَ هُوَ طَلَبُ إيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ، وَنَفْسُ الْوُجُوبِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَتَعْرِفُ مِنْ أَنَّ نَفْسَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هُوَ لُزُومُ وُقُوعِ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ
عَلَى أَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ (غَالِبًا) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فِي الْحَجِّ مِنْ قَبِيلِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ.
(وَهِيَ شَرْطٌ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَدَنِيًّا كَانَ أَوْ مَالِيًّا فَلِهَذَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ مَعَ الْعَجْزِ وَالصَّلَاةُ قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا مَعَهُ) أَيْ: مَعَ الْعَجْزِ.
(وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ اتِّفَاقًا فَعَلَى هَذَا) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ شَرْطٌ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ.
(قَالَ زُفَرُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ قُلْنَا إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ لِلْأَدَاءِ إذَا كَانَ هُوَ الْفَرْضَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفَرْضُ الْقَضَاءُ، وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ فَإِمْكَانُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِإِمْكَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ كَافٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَمَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِمَسِّ السَّمَاءِ) فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ
ــ
[التلويح]
حُضُورِ الْوَقْتِ الشَّرِيفِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ لُزُومُ إيقَاعِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّكْلِيفُ أَلَا يَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَاجِبٌ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا الزَّكَاةُ قَبْلَ الْحَوْلِ الثَّانِي، إنَّ مَعْنَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ بِالْقُدْرَةِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ إيقَاعَهُ وَاحِدًا أَنَّهُ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُودِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ التَّكْلِيفَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةَ مَعَهُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ) أَيْ: قَدْ يُوجَدُ نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا هُوَ الْأَدَاءُ، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ الْمُدَّعَى، إلَّا أَنَّ الْمُحْتَاجَ إلَى الْقُدْرَةِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ.
(قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ نَادِرًا، وَبِدُونِ الرَّاحِلَةِ كَثِيرًا لَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهِمَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ فِي الْغَالِبِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْكَثِيرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِكَثِيرٍ نَادِرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ نَادِرًا بَلْ قَدْ يَكُونُ كَثِيرًا، وَاعْتُبِرَ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْجُذَامِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ غَالِبٌ، وَالثَّانِيَ كَثِيرٌ، وَالثَّالِثَ نَادِرٌ.
(قَوْلُهُ: وَهِيَ) أَيْ: الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِدُونِهَا هِيَ مَا تَكُونُ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ فَاشْتِرَاطُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ قَبْلَ الْفِعْلِ يَكُونُ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَمِنَّةً.
(قَوْلُهُ: فَإِمْكَانُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِإِمْكَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ) كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام كَافٍ لِلْقَضَاءِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ إمْكَانُ الْقُدْرَةِ فِي الْحَجِّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِمْكَانُ قُدْرَةِ الشَّيْخِ الْفَانِي عَلَى الصَّوْمِ، وَالْمُقْعَدِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَزَوَالِ عَمَى الْأَعْمَى مَعَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ امْتِدَادِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.
(قَوْلُهُ: كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِمَسِّ السَّمَاءِ) هَذَا بِخِلَافِ يَمِينِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ إمْكَانُ إعَادَةِ الزَّمَانِ
لِإِمْكَانِ الْبِرِّ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام فَإِمْكَانُ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبِرُّ كَافٍ لِوُجُوبِ الْخَلَفِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شَرَطْنَاهَا مُتَقَدِّمَةً هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ فَقَطْ، وَقَدْ وُجِدَتْ هُنَا، (فَأَمَّا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَإِنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ) أَيْ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إمْكَانَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ غَيْرُ كَافٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بَلْ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَوُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ حَاصِلٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ مُتَقَدِّمَةٌ هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ فَقَطْ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ هُنَا، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْمَعْلُولِ إذْ لَوْ كَانَتْ سَابِقَةً زَمَانًا يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ.
(أَوْ نَقُولُ الْقَضَاءُ
ــ
[التلويح]
الْمَاضِي، وَلَوْ سُلِّمَ فَصِدْقُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُحَالٌ إذْ بِإِعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَالِفِ مَوْجُودًا فِيهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْ الشَّخْصِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ.
(قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ) قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الَّتِي تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً عِنْدَ انْضِمَامِ الْإِرَادَةِ إلَيْهَا فَهِيَ تُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْقُوَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالذَّاتِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْفِعْلِ إلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ لِامْتِنَاعِ تَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ أَعْنِي جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَلِهَذَا قَالَ: إنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شُرِطَ تَقَدُّمُهَا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ لَا الْقُدْرَةُ الْمُؤَثِّرَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ، فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ لِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِهَا مُمْتَنِعٌ، وَلَا تَكْلِيفَ بِالْمُمْتَنِعِ قُلْنَا: مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَ جَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ وَاجِبٌ لِامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ، وَلَا تَكْلِيفَ بِالْوَاجِبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَّا حَالَ الْمُبَاشَرَةِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَعْصِيَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِدُونِ الْمُبَاشَرَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ مُكَلَّفٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَامْتِنَاعُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ مَقْدُورًا مُخْتَارًا لَهُ بِمَعْنَى صِحَّةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ إلَى إيقَاعِهِ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِهِ وَقَصْدِهِ إلَى إيجَادِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ مُمْتَنِعٌ وَمَعَهَا وَاجِبٌ فَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِالْمُحَالِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَكْلِيفًا بِالْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.
(قَوْلُهُ: أَوْ نَقُولُ) جَوَابٌ ثَالِثٌ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ حَاصِلُهُ مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَطْوِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ
يُبْتَنَى عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي قَضَاءِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ الصَّوْمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ) أَيْ: الْمُمَكِّنَةِ (لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ إذْ التَّمَكُّنُ عَلَى الْأَدَاءِ يَسْتَغْنِي عَنْ بَقَائِهَا) أَيْ: اسْتِمْرَارِهَا فَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ فَلِهَذَا إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فَلَمْ يَحُجَّ فَهَلَكَ الْمَالُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ أَدْنَى مَا يُتَمَكَّنُ بِهِ (عَلَى هَذَا السَّفَرِ غَالِبًا) اعْلَمْ أَنَّ جَعْلَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شَرَطْنَاهَا مُتَقَدِّمَةً إلَخْ.
(وَالْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ مَا يُوجِبُ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ كَالنَّمَاءِ فِي الزَّكَاةِ، وَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ إلَى الْعُسْرِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا شَرَطْتُمْ بَقَاءَهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ يَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَقَاءُ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَعْضِ فَلَا تَجِبُ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِهِ فِي الْبَاقِي)
ــ
[التلويح]
لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَالسَّنَدُ هُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مَعَ عَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا آخَرَ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ وَأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ لِأَنَّ الْمُفْتَقِرَ إلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَبَقَائِهَا هُوَ حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ بَقَائِهَا بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ إمْكَانِهَا وَتَوَهُّمِهَا، وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ بَاقِيًا بِدُونِ بَقَاءِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ، كَانَ الْقَضَاءُ ثَابِتًا بِدُونِهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بَلْ لِلْأَدَاءِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَلْزَمُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ تَكْلِيفٍ بَلْ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا هُوَ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ لَا بِنَصٍّ جَدِيدٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ بِالْأَدَاءِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنْ الْعُمْرِ قَضَاءُ جَمِيعِ الْمَتْرُوكَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخَلَفِ كَمَا فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ إذْ لَا خَلَفَ لِلْقَضَاءِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ كَالْمَيِّتِ يَبْقَى عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتُ فِي حَقِّ بَقَاءِ الْإِثْمِ الْمُؤَاخَذَةُ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ عَجْزٌ كُلِّيٌّ يَسْقُطُ مَعَهُ الْفِعْلُ قَطْعًا، وَمِنْ هَاهُنَا قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِنَفْسِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ بِدُونِهَا، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَمْرٍ آخَرَ يَكْفِي تَوَهُّمُ الْقُدْرَةِ فَفِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ تَبْقَى الْوَاجِبَاتُ بِتَوَهُّمِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ بَعْدَ فَوَاتِ الْقُدْرَةِ تَبْقَى فِي الذِّمَّةِ لِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطُ بَقَاءَهُمَا وُجُوبُ الْحَجِّ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ وَسَائِطُ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَجَعْلُهُمَا مِنْ الْقُدْرَةِ
تَوْجِيهُ السُّؤَالِ أَنَّكُمْ شَرَطْتُمْ بَقَاءَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَالنِّصَابُ شَرْطُ لِلْيُسْرِ فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَقَاءُ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْبَاقِي إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ. فَنُجِيبُ بِأَنَّ النِّصَابَ مَا شُرِطَ لِلْيُسْرِ بَلْ لِلتَّمَكُّنِ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَا فِيهِ.
(قُلْنَا النِّصَابُ مَا شُرِطَ لِلْيُسْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى كُلِّ الْمَقَادِيرِ
ــ
[التلويح]
الْمُمَكِّنَةِ لَا يُنَاقِضُ تَفْسِيرَهَا بِسَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(قَوْلُهُ: وَالْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ مَا تُوجِبُ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ) أَيْ: يُسْرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ يَسَّرَ الْأَدَاءَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ فَهِيَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ فِي أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي أَدَاؤُهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ كَالنَّمَاءِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ أَيْسَرَ حَيْثُ يُنْتَقَصُ أَصْلُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ بَعْضُ النَّمَاءِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَإِحْدَاثِهِ كَانَتْ شَرْطًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ إذْ الْبَقَاءُ غَيْرُ الْوُجُودِ، وَشَرْطُ الْوُجُودِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْبَقَاءِ كَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الْمُيَسِّرَةِ، فَإِنَّهَا شَرْطٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا غَيَّرَتْ صِفَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ إذْ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ لَكِنْ بِصِفَةِ الْعُسْرِ، فَأَثَّرَتْ فِيهِ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ وَأَوْجَبَتْهُ بِصِفَةِ الْيُسْرِ فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا نَظَرًا إلَى مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْيُسْرُ بِدُونِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَبْقَى بِدُونِ صِفَةِ الْيُسْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِهَذَا اُشْتُرِطَ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ دُونَ الْمُمَكِّنَةِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّظَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ الْفِعْلُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِمْكَانِ وَيُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْيُسْرِ.
(قَوْلُهُ: فَلَا يَجِبُ) يَعْنِي بَعْدَمَا تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَبْقَ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ هَلَكَ الْمَالُ كَمَا تَمَّ الْحَوْلُ فَلَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ بِأَنْ يُنْفِقَ الْمَالَ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ انْتَفَتْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ، فَجَوَابُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ إنَّمَا كَانَ نَظَرًا لِلْمُكَلَّفِ، وَقَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي عَنْ اسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ الْوُجُوبُ عَنْهُ، أَوْ نَقُولُ نَجْعَلُ الْقُدْرَةَ الْمُيَسِّرَةَ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا زَجْرًا عَلَى الْمُتَعَدِّي وَرَدًّا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَنْهُ نَفْسِهِ وَنَظَرًا لِلْفَقِيرِ.
(قَوْلُهُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَا فِيهِ) يَعْنِي أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ بَلْ
سَوَاءٌ بَلْ لِيَصِيرَ غَنِيًّا فَيَصِيرَ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَلَا حَدَّ لَهُ فَقَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِالنِّصَابِ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ لِدَلَالَةِ التَّخْيِيرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ فِي الْعُمْرِ؛ لِأَنَّ ذَا يُبْطِلُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فَالْمُرَادُ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ مَعَ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) أَيْ: تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْأَدَاءِ.
(كَالِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ) أَيْ: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تُقَارِنُ الْفِعْلَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَالْقُدْرَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْكَفَّارَةِ قُدْرَةٌ كَذَلِكَ أَيْ: مُقَارِنَةٌ لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لَا سَابِقَةٌ وَلَا لَاحِقَةٌ.
(وَذَا دَلِيلُ الْيُسْرِ) أَيْ: اشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ دَلِيلُ الْيُسْرِ.
(فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ) أَيْ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى إنْ تَحَقَّقَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِعْتَاقِ فَوَجَبَ الْإِعْتَاقُ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَبْقَ الْقُدْرَةُ يَسْقُطُ الْإِعْتَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْأَدَاءِ عُلِمَ أَنَّ الْقُدْرَةَ
ــ
[التلويح]
يَكْفِي مِلْكُ قَدْرِ الْمُؤَدَّى، فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ النِّصَابِ مِنْ شَرَائِطِ التَّمَكُّنِ وَرَاجِعًا إلَى الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُدْرَةَ الْمُمَكِّنَةَ بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا النِّصَابَ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ بَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَحُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِغْنَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْيُسْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْوَاجِبَ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ؛ لِأَنَّ إيتَاءَ الْخَمْسَةِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَإِيتَاءَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ سَوَاءٌ فِي الْيُسْرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنِسْبَةُ رُبُعِ الْعُشْرِ إلَى كُلِّ الْمَقَادِيرِ سَوَاءٌ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ إيتَاءُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ أَيْسَرَ مِنْ إيتَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ شَرْطَ الْوُجُوبِ لَا شَرْطَ الْيُسْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْوُجُوبِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ عِنْدَ هَلَاكِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَتَكَرَّرُ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ شَرْطِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ بِهَلَاكِ جَمِيعِ النِّصَابِ قُلْنَا: إنَّمَا تَسْقُطُ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ الَّتِي هِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ لَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ، وَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ، مَا قِيلَ إنَّ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى قَوْلِهِ، وَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ النِّصَابَ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلتَّفْرِيعِ.
1 -
(قَوْلُهُ: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ) أَيْ: إلَّا صَادِرَةً عَنْ غِنًى، وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ وَظَهْرِ الْقَلْبِ أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ إذْ الْمَالُ لِلْغَنِيِّ بِمَنْزِلَةِ الظَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ، وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْغِنَى لِأَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ تَارَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ لَا لِنَفْيِ الْوُجُودِ إذْ كَثِيرًا مَا تُوجَدُ الصَّدَقَةُ عَنْ الْفَقِيرِ، وَتَارَةً بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إغْنَاءٌ لِلْفَقِيرِ، وَلَا يَصِيرُ الْمَرْءُ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ إلَّا بِالْغِنَى كَمَا لَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا
الْمُقَارِنَةَ لِلْأَدَاءِ لَمْ تُوجَدْ، وَهُوَ الشَّرْطُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا.
(إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا فَيَكُونُ كَالْهَلَاكِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مَقْدُورٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَوَّى بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فِي أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ إذَا اُسْتُهْلِكَ الْمَالُ كَمَا لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا، وَهُوَ فِي الزَّكَاةِ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ كُلَّهُ اسْتَهْلَكَ الْوَاجِبَ فَيَضْمَنُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ بَقَاءَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَإِلَّا انْقَلَبَ الْيُسْرُ عُسْرًا نَوْعُ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَمْرًا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ يُسْرٌ آخَرُ، وَهُوَ
ــ
[التلويح]
بِالْمِلْكِ وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ لَيْسَ هُوَ الْإِغْنَاءَ الشَّرْعِيَّ بَلْ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ، وَيَدْفَعُ حَاجَةَ الْفَقِيرِ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغِنَى الشَّرْعِيِّ فَلِذَا جَمَعَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَجَعَلَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى تَوَقُّفِ أَهْلِيَّةِ إغْنَاءِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغِنَى، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْإِغْنَاءَ بِصِفَةِ الْحُسْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغِنَى الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْفَقِيرِ عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْفَقْرِ وَالْجَزَعُ عَلَى مَكَايِدِ الْحَاجَةِ فَلَا بُدَّ فِي أَهْلِيَّةِ الْإِغْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْغِنَى الشَّرْعِيِّ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْجَزَعِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» قُلْت إنْ جَعَلْت هَذَا الْحَدِيثَ نَفْيًا لِلْوُجُوبِ، فَظَاهِرٌ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ عَدَمِ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ، وَبَيْنَ كَوْنِ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا أَشَقَّ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا، وَإِنْ جَعَلْتَهُ نَفْيًا لِلْفَضِيلَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا يَكُونُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُ صَدَقَةِ الْغَنِيِّ عَلَى صَدَقَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الْفَقْرِ، وَيَجْزَعُ لَدَى الْحَاجَةِ عَلَى مَا هُوَ الْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ، وَتَفْضِيلُ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي اُخْتُصَّ بِتَأْيِيدٍ وَتَوْفِيقٍ إلَهِيٍّ فِي الصَّبْرِ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَإِيثَارِ مُرَادِ الْغَيْرِ عَلَى مُرَادِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ حَتَّى يَصْبِرَ عَلَى فَقْرِهِ، وَيَتَثَبَّتَ عَنْ التَّكَفُّفِ إنْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقُ قَلْبٍ بِمَا تَصَدَّقَ بِهِ بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِهِ بِالْمَنِّ، وَالِاسْتِكْثَارِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى التَّمَسُّكُ الْمَذْكُورُ.
(قَوْلُهُ: وَلَا حَدَّ لَهُ) أَيْ: لِلْغِنَى لِأَنَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِالنِّصَابِ فَصَارَ الْغَنِيُّ مَنْ لَهُ النِّصَابُ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا نِصَابَ لَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُقَابِلِ لِلْمِسْكِينِ بِمَعْنَى مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ.
(قَوْلُهُ: لِدَلَالَةِ التَّخْيِيرِ) يَعْنِي أَنَّ التَّخْيِيرَ
بَقَاءُ النِّصَابِ أَبَدًا، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ هَذَا الْيُسْرِ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ إنْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ خَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَيْضًا لَا يَنْقَلِبُ الْيُسْرُ عُسْرًا، فَإِنَّ الْيُسْرَ الَّذِي حَصَلَ بِاشْتِرَاطِ الْحَوْلِ لَا يَنْقَلِبُ عُسْرًا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ يُسْرًا آخَرَ أَنَّهُ
ــ
[التلويح]
الْكَامِلَ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَفَاوِتَةٍ بَعْضُهَا أَسْهَلُ مِنْ الْبَعْضِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ دَلِيلُ التَّيْسِيرِ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ صُورَةً فَقَطْ بِأَنْ تَكُونَ الْأُمُورُ مُتَمَاثِلَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّأْكِيدِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَدَاءِ أَلْبَتَّةَ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَا) أَيْ: كَوْنَ الْمُرَادِ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَالِ هُوَ الْعَجْزُ فِي الْعُمْرِ يُبْطِلُ أَدَاءَ الصَّوْمِ لِأَنَّ هَذَا الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمْرِ، وَبَعْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ تَرَتُّبُ الصَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الْوِجْدَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَحْصُلَ الْقُدْرَةُ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
(قَوْلُهُ: حَتَّى إنْ تَحَقَّقَ الْقُدْرَةُ) أَرَادَ بِهَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ فَلَا مَعْنَى لِزَوَالِهَا وَسَقُوطِ الْإِعْتَاقِ.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ) فَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَّارَةِ يَعُودُ بِهِ هَلَاكُ الْمَالِ بِإِصَابَةِ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَلَا يَعُودُ فِي الزَّكَاةِ فَيَكُونُ دُونَ الزَّكَاةِ.
(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) اُعْتُرِضَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قَوْلِهِمْ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ الْيُسْرُ عُسْرًا أَوَّلًا بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِيمَا إذَا أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ، وَثَانِيًا بِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ انْقِلَابُ الْيُسْرِ عُسْرًا بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ أَحَدِ الْيُسْرَيْنِ، وَهُوَ النَّمَاءُ مَثَلًا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ، فَإِنَّ حُصُولَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ يُسْرٌ وَبَقَاؤُهَا يُسْرٌ آخَرُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ الْتِزَامُ الْفَوَاتِ فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْمَالِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا فُوِّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا بَلْ الْمَالُ حَقُّهُ مِلْكًا، وَيَدًا، وَإِنَّمَا حَقُّ الْفَقِيرِ فِي أَنْ يُعَيَّنَ مَحَلًّا لِلصَّرْفِ إلَيْهِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْخِيَارُ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ فَلَعَلَّهُ حُبِسَ عَنْ هَذَا الْمَحَلِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْعَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى صَارَ بَحْرًا، وَمَنْعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ الْعَبْدَ الْجَانِيَ عَنْ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْأَرْشِ حَتَّى هَلَكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى انْقِلَابِ الْيُسْرِ إلَى الْعُسْرِ أَنَّهُ وَجَبَ بِطَرِيقِ إيجَابِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُسْرًا أَوْ سُهُولَةً فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ لَوَجَبَ بِطَرِيقِ الْغَرَامَةِ وَالتَّضْمِينِ فَيَصِيرُ عُسْرًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْيُسْرِ يَصِيرُ عُسْرًا، فَإِنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْيَسِيرُ عَسِيرًا، وَبِالْعَكْسِ فَلْيُتَأَمَّلْ إنَّهُ الْمُيَسِّرُ