المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المأمور به في صفة الحسن نوعان] - التلويح على التوضيح لمتن التنقيح - جـ ١

[السعد التفتازاني - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ]

- ‌ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى]

- ‌[قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى]

- ‌(فَصْلٌ: الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ)

- ‌(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ

- ‌(فَصْلٌ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ]

- ‌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ (الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَنْ وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ كُلُّ وَجَمِيعُ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ: حِكَايَةُ الْفِعْلِ) لَا تَعُمُّ

- ‌(مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ)

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌(التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ عَنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ)

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ]

- ‌[حُرُوف الْمَعَانِي]

- ‌[حُرُوفُ الْجَرِّ]

- ‌(كَلِمَاتُ الشَّرْطِ)

- ‌[أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي الصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ]

- ‌التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ مَفْهُوم الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[أَقْسَامِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ]

- ‌ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ

- ‌[التَّعْلِيق بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ]

- ‌[الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ لِلْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ]

- ‌الْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ

- ‌[الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ]

- ‌الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ

- ‌[الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ]

- ‌[الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ]

- ‌(فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ)

- ‌[أَقْسَامُ الْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقَّت]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل الْوَقْت الضَّيِّق وَالْفَاضِل عَنْ الواجب]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي كون الْوَقْت مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَوْن الْوَقْت مِعْيَارًا لَا سَبَبًا]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْحَجُّ يُشْبِهُ الظَّرْفَ وَالْمِعْيَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْكُفَّار هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا]

- ‌[فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا]

الفصل: ‌[المأمور به في صفة الحسن نوعان]

حُسْنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَحُسْنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ يُعْرَفَانِ عَقْلًا عُلِمَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ إنَّمَا يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ إمَّا لِعَيْنِهِ أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ أَوْ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَالْجُزْءُ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الْكُلِّ كَالْعِبَادَةِ تَصْدُقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ عِبَادَةٌ مَعَ خُصُوصِيَّةٍ، فَالْعَادَةُ جُزْؤُهَا أَوْ لَمْ تَصْدُقْ كَالْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ كَالسُّجُودِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَ‌

‌الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ

يَعُمُّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ وَالْحَسَنَ لِجُزْئِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْءِ إنَّمَا يَكُونُ حَسَنًا إذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ، إذْ لَوْ كَانَ لَا يَكُونُ الْمَجْمُوعُ حَسَنًا، ثُمَّ الْخَارِجُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ نَحْوُ: الْجِهَادُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْجِهَادُ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ إعْلَاءً، وَالْإِعْلَاءُ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ الْجِهَادِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا كَالْوُضُوءِ حَسَنٌ لِلصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَصْدُقُ عَلَى الْوُضُوءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَ يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَكَذَا الْقَبِيحُ لَكِنَّ أَمْثِلَةَ هَذَا سَتَأْتِي فِي فَصْلِ النَّهْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ عَلَى الْحَسَنِ لِعَيْنِهِ إمَّا اصْطِلَاحًا وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ هُوَ الْفِعْلُ الْمُطْلَقُ كَالْعِبَادَةِ

ــ

[التلويح]

وَيُوجِبُهُ بِوَاسِطَةِ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ اسْتِنَادِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ إلَى غَيْرِ الْبَارِي تَعَالَى، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي يُوَلِّدُ النَّتِيجَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَقْرَبُ، وَأَنْسَبُ بِتَفْسِيرِهِمْ التَّوْلِيدَ بِإِيجَادِ الْفَاعِلِ فِعْلًا بِتَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ) لَفْظُهُ ثُمَّ أَشَارَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْآخِرَةِ حَسَنًا لِعَيْنِهِ أَوْ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ حُسْنُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ بِمَعْنَى وُجُودِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ نَظَرًا إلَى غَيْرِ الْأَشْيَاءِ، وَبِمَعْنَى تَرْتِيبِ أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ نَظَرًا إلَى وَصْفِ الْحُسْنِ

[الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ]

[الْحُسْنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ]

(قَوْلُهُ: وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ) الْمُرَكَّبُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ قُبْحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ بِدُونِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ حُسْنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ بِدُونِهِ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَصَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَعْنِي مَا يَكُونُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِمَا يَشْمَلُ الْقِسْمَ الثَّالِثَ أَيْضًا أَعْنِي مَا يَكُونُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا وَبَعْضُهَا لَا حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ مَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَانِبِ الْقُبْحِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا يُجْعَلُ مِنْ قِسْمِ الْقَبِيحِ تَغَلُّبًا لِجَانِبِ الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كَانَ حَسَنًا لِعَيْنِهِ، وَجَعْلُهُ

ص: 367

مَثَلًا، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي ضِمْنِ جُزْئِيَّاتِهِ إلَّا الْمَوْجُودَةِ، وَبَحْثُنَا فِي تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا حِسًّا، وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا حَسَنَةً لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا أَوْ حَسَنَةً لِغَيْرِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُزْءِ الصَّادِقِ وَبَيْنَ الْخَارِجِ الصَّادِقِ أَنَّ مَا يَكُونُ مَفْهُومُ الْفِعْلِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْجُزْءُ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْخَارِجُ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَفْهُومَهَا الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْخُصُوصِيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ فَمَفْهُومُهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَمَفْهُومُهُ الْقَتْلُ، وَالضَّرْبُ، وَالنَّهْبُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلًا فِي هَذَا الْمَفْهُومِ بَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ لَازِمًا لَا جُزْءًا، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ، إذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الْفِعْلِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِذَاتِهِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ يَخْتَلِفُ حُسْنُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَلَا يَكُونُ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ قَبِيحًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالْإِضَافَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ دَاخِلَةٌ فِي ذَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَعْرَاضِ النِّسْبِيَّةِ، وَالْأَعْرَاضُ النِّسْبِيَّةُ تَتَقَوَّمُ بِالنِّسَبِ، وَالْإِضَافَاتِ، فَالْإِضَافَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فُصُولٌ مُقَوِّمَةٌ لَهَا فَقَوْلُنَا شُكْرُ الْمُنْعِمِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ

ــ

[التلويح]

حَسَنًا بِاعْتِبَارِ الْجُزْءِ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا الْقَبِيحُ) يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِذَاتِهِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِجُزْئِهِ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ وَكُلٌّ مِنْ الْجُزْءِ وَالْخَارِجِ إمَّا مَحْمُولٌ أَوْ غَيْرُ مَحْمُولٍ، وَمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُسْنَ أَوْ الْقُبْحَ يَكُونُ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَلَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ مَحْمُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلْوُضُوءِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا أُطْلِقَ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحَسَنَ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ يَعُمُّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ وَالْحَسَنَ لِجُزْئِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْحَسَنِ لِجُزْئِهِ ضَرُورَةً، أَيْ: جُزْءُ الشَّيْءِ مَعْنًى كَائِنٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْحَسَنِ لِعَيْنِهِ إذَا لَيْسَ ذَاتُ الشَّيْءِ مَعْنًى فِيهِ، فَأَجَابَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، وَكَأَنَّهُ تَغَلَّبَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَامَّةَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ حُسْنُهَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ فَاعِلِهَا، وَهِيَ لَا مَحَالَةَ تَكُونُ جُزْئِيَّاتٍ مُشَخِّصَةً مُرَكَّبَةً مِنْ التَّشَخُّصِ، وَمِنْ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ كَالْعِبَادَةِ مَثَلًا، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمُرَكَّبِ الِاعْتِبَارِيِّ يَكُونُ الْحُسْنُ رَاجِعًا إلَى جُزْئِهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ، وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ حُسْنٍ ثَبَتَ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ بِخِلَافِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَتَّصِفُ بِحُسْنٍ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يُقَالُ إنَّ الدَّارَ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهَا.

(قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُزْءِ) قَدْ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ الْفِعْلُ أَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ لَمَا اخْتَلَفَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَسَنًا تَارَةً وَقَبِيحًا أُخْرَى لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ يَدُومُ بِدَوَامِ الذَّاتِ

ص: 368

الشُّكْرَ الْمُضَافَ إلَى الْمُنْعِمِ حَسَنٌ لَا أَنَّ ذَاتَ الشُّكْرِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ حَسَنٌ.

(أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ كَالتَّصْدِيقِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ كَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ يَسْقُطُ حَالَ الْإِكْرَاهِ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَا تَتِمُّ صِفَةٌ إلَّا بِأَنْ تَظْهَرَ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْبَاطِنِ وَلَا كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ) إنَّمَا قَالَ هَذَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَعَمَلِ الْأَرْكَانِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ نَجْعَلُهُ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ، وَلَا نَجْعَلُ عَمَلَ الْأَرْكَانِ دَاخِلًا فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ

ــ

[التلويح]

وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ حَسَنٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ ثُمَّ يَحْسُنُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ نَبِيٍّ مِنْ ظَالِمٍ، فَأَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِأَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْقَبِيحَ لِذَاتِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْإِضَافَاتِ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْإِضَافَةِ فَالْفِعْلُ جِنْسٌ، وَالْإِضَافَاتُ فُصُولٌ مُقَوَّمَةٌ لِأَنْوَاعِهِ، وَالْحَسَنُ أَوْ الْقَبِيحُ لِذَاتِهِ هُوَ الْأَنْوَاعُ لَا الْجِنْسُ نَفْسُهُ.

(قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْمَأْمُورُ بِهِ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْبَلَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِهِ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ الشَّبِيهُ بِالْحَسَنِ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مُقَابِلًا لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ بَلْ كُلُّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ حُسْنُهُ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِجُزْئِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ جَعْلُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ عِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْبَلَ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ لَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِهِ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ السَّاقِطَ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ هُوَ وُجُوبُ الْإِقْرَارِ لَا حُسْنُهُ حَتَّى لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، فَلِذَا غَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قِيلَ: إنَّ هَذَا الْوَصْفَ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ بِمَعْنَى أَمْرِ الْوُجُوبِ لَا يُقَالُ حُسْنُهُ كَانَ بِالْأَمْرِ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَسَنًا بِاعْتِبَارِ أَمْرِ النَّدْبِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَفْيِهِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ الْحُسْنُ بِالْأَمْرِ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لِكَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.

(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ) يَعْنِي ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَا شَرْطَ لَهُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُؤْمِنٍ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا وُجِدَ مِنْهُ

ص: 369

وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعًا.

(فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَتَرَكَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا) اعْتِبَارُ الْجِهَةِ رُكْنِيَّةَ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ.

(وَإِنْ صَدَّقَ وَلَمْ يُصَادِفْ وَقْتًا يُقِرُّ فِيهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا) اعْتِبَارُ الْجِهَةِ التَّبَعِيَّةَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ.

(وَكَالصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَالْإِقْرَارِ

ــ

[التلويح]

الْإِقْرَارُ دُونَ التَّصْدِيقِ كَانَ مُؤْمِنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَسَّكُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَبِأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ الْإِيمَانَ يُوصَفُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِنْ انْقَضَى الْإِقْرَارُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ تَمَسُّكًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِهَا، وَيَكْتَفِي، وَيَجْعَلُهَا أَهَمَّ مِنْ الْأَعْمَالِ، إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءٌ لَهُ شَائِبَةُ الْعَرَضِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ، فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ تُعْتَبَرُ جِهَةُ الْجُزْئِيَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ تَارِكُ الْإِقْرَارِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَالِ الِاضْطِرَارِ تُعْتَبَرُ جِهَةُ الْعَرَضِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ بِإِيمَانِ مَنْ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْإِقْرَارِ، وَأَمَّا أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ كَيْفَ يَسْقُطُ وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيَجِيءُ جَوَابُهُ، وَلَقَدْ طَالَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ فِي تَفْسِيرِ التَّصْدِيقِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ تَصْدِيقُ الَّذِي قَسَّمَ الْعِلْمَ إلَيْهِ وَإِلَى التَّصَوُّرِ فِي أَوَائِلِ الْمَنْطِقِ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كرويدن وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّصْدِيقِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ سِينَا، وَحَاصِلُهُ إذْعَانٌ وَقَبُولٌ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ أَوْ لَا وُقُوعَهَا وَتَسْمِيَتُهُ تَسْلِيمًا زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ لِلْمَقْصُودِ وَجَعْلُهُ مُغَايِرًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَنْطِقِيِّ وَهْمٌ وَحُصُولُهُ لِلْكُفَّارِ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ كُفْرُهُ بِاعْتِبَارِ جُحُودِهِ بِاللِّسَانِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ الْإِذْعَانِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُصَدِّقِينَ الْمُقِرِّينَ يَكْفُرُ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْإِنْكَارِ وَعَلَامَاتِ الِاسْتِكْبَارِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ.؟ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَعَلَى صَرْفِ الْقُوَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَمَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْعِلْمِ وَالتَّيَقُّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّصْدِيقَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ هُوَ نِسْبَةُ الصِّدْقِ إلَى الْمُخْبِرِ اخْتِيَارًا حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَيْهِ اخْتِيَارًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا، وَنَحْنُ إذَا قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ لَا نَفْهَمُ مِنْ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ إلَّا قَوْلٌ حُكْمُهُ الْإِذْعَانُ لَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ بكرويدن تَصْدِيقٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَلْبِ اخْتِيَارٌ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنْ

ص: 370

(وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَبِيهًا لِلْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُسْنُهَا بِالْغَيْرِ، وَهُوَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ، لَكِنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَارْتَفَعَ الْوَسَائِطُ فَصَارَتْ تَعَبُّدًا

ــ

[التلويح]

قِيلَ لِمَ جُعِلَ الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ بِخِلَافِ أَعْمَالِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالتَّصْدِيقُ عَمَلُ الرُّوحِ فَجُعِلَ عَمَلُ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ أَيْضًا دَاخِلًا فِيهِ تَحْقِيقًا لِكَمَالِ اتِّصَالِ الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ وَتَعَيَّنَ فِعْلُ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ لِلْبَيَانِ، وَإِظْهَارِ مَا فِي الْبَاطِنِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، وَلِهَذَا جُعِلَ الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللِّسَانِ رَأْسَ الشُّكْرِ، وَفِي التَّمْثِيلِ بِالْإِيمَانِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْحَسَنَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَوَقَّفَ إدْرَاكُ الْفِعْلِ حُسْنَهُ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ أَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ، فَإِنَّ حُسْنَ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ نَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ: كَالزَّكَاةِ) يُرِيدُ أَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُسْنِ فِي التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، ثُمَّ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، ثُمَّ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ لَكِنَّهَا حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا بِحَيْثُ لَا تُشْبِهُ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، فَإِنَّهَا مَعَ احْتِمَالِ سُقُوطِهَا وَعَدَمِ رُكْنِيَّتِهَا تُشْبِهُ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ، فَالصَّلَاةُ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا لِكَوْنِهَا تَعْظِيمًا لِلْبَارِي وَشُكْرًا لِلْمُنْعِمِ وَعِبَادَةً لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا لَا يُقَالُ حُسْنُهَا بِوَاسِطَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَا تَحْسُنُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَا يُنَافِي الْحُسْنَ لِعَيْنِهَا بَلْ يُؤَكِّدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ لِعَيْنِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَالْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ وَبِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ فَالْمُتَّصِفُ بِالْحُسْنِ هُوَ الْأَفْعَالُ الْمُضَافَةُ الَّتِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا أَنَّ مِنْهَا مَا يَحْسُنُ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ الْمُضَافِ كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا، وَمِنْهَا مَا يَحْسُنُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَمْرِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ الْمُضَافِ كَالْوُضُوءِ وَالْجِهَادِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَكُلٌّ مِنْهَا حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْحَسَنَ بِالْغَيْرِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ بِالْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُ الِاعْتِبَارُ بِحُسْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ حَتَّى إنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهَا كَأَنَّهُ حَسَنٌ لَا بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ فَجُعِلَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَهَاهُنَا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَيْسَتْ حَسَنَةً بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهَا بَلْ بِوَاسِطَةِ أُمُورٍ يَعْرِفُ الْعَقْلُ أَنَّهَا الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَمْرِ وَالْمُتَّصِفَةُ بِالْحُسْنِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ، وَأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ حَتَّى كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْأَفْعَالِ الَّتِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي نَفْسِهَا تَنْقِيصٌ لِلْمَالِ إنَّمَا تَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ حُسْنِ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ إضْرَارٌ بِالنَّفْسِ وَمَنْعٌ لَهَا عَمَّا أَبَاحَ لَهَا مَالِكُهَا مِنْ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ حُسْنِ قَهْرِ

ص: 371

مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى) يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِجُزْئِهِ لَا تَكُونُ الزَّكَاةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إذَا بَيَّنْتُمْ أَنَّ جِهَةَ حُسْنِهَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا كَوْنُهَا تَعَبُّدًا مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ عَيْنُهَا حَسَنًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورًا بِهَا لَا لِذَاتِهَا وَلَا لِجُزْئِهَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَوْنَ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ

ــ

[التلويح]

النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِ زَجْرًا لَهَا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَالْحَجُّ فِي نَفْسِهِ قَطْعٌ لِلْمَسَافَةِ إلَى أَمْكِنَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَزِيَارَةٌ لَهَا بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَزِيَارَةِ الْبُلْدَانِ وَالْأَمَاكِنِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمِ بِتَكْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ فَفِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقَّانِ الْإِحْسَانَ وَالزِّيَارَةَ نَظَرًا إلَى الْفَقْرِ وَالشَّرَفِ لَكِنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ أَعْنِي الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ إذْ الْعِبَادَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَقِيرُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَالْبَيْتُ لَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَارَةَ وَالتَّعْظِيمَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بَيْتٌ كَسَائِرِ الْبُيُوتِ، وَالنَّفْسُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ مَحَلًّا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ إلَّا أَنَّهَا لِلْمَعَاصِي أَقْبَلُ وَإِلَى الشَّهَوَاتِ أَمْيَلُ حَتَّى كَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ جِبِلِّيٍّ لَهَا فَكَأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي بِمَنْزِلَةِ النَّارِ عَلَى الْإِحْرَاقِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَسَقَطَ حُسْنُ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَزِيَارَةِ الْبَيْتِ وَقَهْرِ النَّفْسِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَعِبَادَةً خَالِصَةً بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِأَنَّهُ لَا دَخْلَ فِيهَا لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ الْحُسْنُ بِاعْتِبَارِهَا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَهِيَ بِاخْتِيَارِهِ لَا نَفْسَ الْحَاجَةِ وَشَهْوَةَ النَّفْسِ وَشَرَفَ الْأَمْكِنَةِ مِمَّا لَا دَخْلَ فِيهِ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ وَقَهْرَ النَّفْسِ وَزِيَارَةَ الْبَيْتِ نَفْسُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَكَيْفَ تَكُونُ وَسَائِطَ حُسْنِهَا، وَإِنَّمَا الْوَسَائِطُ هِيَ الْحَاجَةُ وَالشَّهْوَةُ وَشَرَفُ الْمَكَانِ، وَلَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْوَاسِطَةُ مَا يَكُونُ حُسْنُ الْفِعْلِ لِأَجْلِ أَحْسَنِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ نَفْسَ الْحَاجَةِ أَوْ الشَّهْوَةِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِهَذَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ لِدَفْعِ الْقَهْرِ وَالزِّيَارَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ نَفْسَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَفِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ قَهْرُ النَّفْسِ وَحَاجَةُ الْفَقِيرِ وَشَرَفُ الْمَكَانِ، وَالْمَقْصُودُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

(قَوْلُهُ: يَرِدُ عَلَيْهِ) قَدْ خَرَّجَ بِمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ، وَهُوَ أَنَّ حُسْنَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا حَسَنَةٌ لَا بِوَاسِطَةِ

ص: 372

وَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْسِيمُ الْحَسَنِ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ، وَعِنْدَنَا لَا بَلْ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَدْلًا وَإِحْسَانًا قَبْلَ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ

ــ

[التلويح]

أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهَا، فَأُلْحِقَتْ بِمَا هُوَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ، وَجُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ أَجَابَ بِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَجْعَلُ جِهَةَ حُسْنِهَا كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا بَلْ نَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ جِهَةَ حُسْنِهَا كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ فَيَحْسُنُ الْإِتْيَانُ بِالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ عَقْلًا بَلْ الشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ وَحُسْنِهَا، فَالْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَكُونُ حُسْنُهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ، وَنَوْعٌ يَكُونُ حُسْنُهُ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ لُزُومُ حُسْنِ جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤْتَى بِهِ لَا عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ كَالْوُضُوءِ لِلتَّبَرُّدِ فَيَحْسُنُ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَيْدِ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ صَارَ النَّوْعُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا حَسَنٌ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ النَّوْعَانِ وَإِنْ تَبَايَنَا بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ وَالِاعْتِبَارِ فَلَا تَبَايُنَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُصُولِ لِأَمْرٍ وَاحِدٍ كَالْإِيمَانِ يَحْسُنُ لِذَاتِهِ وَلِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْأَوَّلُ يَثْبُتُ قَبْلَ الشَّرْعِ دُونَ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَلِغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الْعَبْدُ إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَإِحْدَاثِهِ فَمَا مَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْإِتْيَانُ هُوَ نَفْسُ الْمَأْمُورِ بِهِ.؟ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ أَنَّ هَاهُنَا مَعْنًى مَصْدَرِيًّا وَمَعْنًى حَاصِلًا بِالْمَصْدَرِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْإِيقَاعُ، وَالثَّانِي هُوَ الْهَيْئَةُ الْمُوقِعَةُ، فَأَرَادُوا بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ كَالْحَرَكَةِ بِمَعْنَى الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَبِالْإِتْيَانِ بِهِ إيقَاعَهُ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَسَنُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ قُلْنَا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ هُوَ الْإِيقَاعُ وَالْإِحْدَاثُ فَحُسْنُهُ

ص: 373