المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مَعْنَاهُ مُطَابَقَةَ تَمَامِ الْمُرَادِ فِي زِيَادَةِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ أَوْ نُقْصَانِ - التلويح على التوضيح لمتن التنقيح - جـ ١

[السعد التفتازاني - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة]

- ‌[التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ]

- ‌[تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ]

- ‌ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى]

- ‌[قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ]

- ‌[التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى]

- ‌(فَصْلٌ: الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ)

- ‌(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ

- ‌(فَصْلٌ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ]

- ‌ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ (الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَنْ وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ]

- ‌[مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ كُلُّ وَجَمِيعُ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ: حِكَايَةُ الْفِعْلِ) لَا تَعُمُّ

- ‌(مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ)

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌(التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ عَنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ]

- ‌مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا

- ‌(مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ)

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ]

- ‌[حُرُوف الْمَعَانِي]

- ‌[حُرُوفُ الْجَرِّ]

- ‌(كَلِمَاتُ الشَّرْطِ)

- ‌[أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي الصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ

- ‌[التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ]

- ‌التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى

- ‌[فَصْلٌ مَفْهُوم الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[أَقْسَامِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ]

- ‌[تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ]

- ‌ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ

- ‌[التَّعْلِيق بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ]

- ‌[الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ لِلْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ]

- ‌الْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ

- ‌[الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ]

- ‌الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ

- ‌[الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ]

- ‌[الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ]

- ‌(فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ)

- ‌[أَقْسَامُ الْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقَّت]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل الْوَقْت الضَّيِّق وَالْفَاضِل عَنْ الواجب]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي كون الْوَقْت مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَوْن الْوَقْت مِعْيَارًا لَا سَبَبًا]

- ‌[الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْحَجُّ يُشْبِهُ الظَّرْفَ وَالْمِعْيَارَ]

- ‌[فَصْلٌ الْكُفَّار هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا]

- ‌[فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا]

الفصل: مَعْنَاهُ مُطَابَقَةَ تَمَامِ الْمُرَادِ فِي زِيَادَةِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ أَوْ نُقْصَانِ

مَعْنَاهُ مُطَابَقَةَ تَمَامِ الْمُرَادِ فِي زِيَادَةِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ أَوْ نُقْصَانِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مَعَانِيهَا تَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فَإِنْ حَاوَلْت أَنْ تُؤَدِّيَ الْمَعْنَى بِدَلَالَةٍ أَوْضَحَ مِنْ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَخْفَى مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَعْمِلَ لَفْظَ الْمَجَازِ فَإِنَّ الْمَجَازَاتِ مُتَكَثِّرَةٌ فَبَعْضُهَا أَوْضَحُ فِي الدَّلَالَةِ وَبَعْضُهَا أَخْفَى. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ دَلَالَةُ لَفْظِ الْمَجَازِ أَوْضَحَ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ بَلْ الْمَجَازُ مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ قُلْنَا لَمَّا كَانَتْ الْقَرِينَةُ مَذْكُورَةً ارْتَفَعَ الْإِخْلَالُ بِالْفَهْمِ ثُمَّ إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ أَمْرًا مَحْسُوسًا وَيَكُونُ أَشْهَرَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ مَعْقُولًا كَانَ الْمَجَازُ أَوْضَحَ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَأَيْضًا مَا ذُكِرَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَلْزُومِ بَيِّنَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَأَنَّ الْمَجَازَ يُوجِبُ سُرْعَةَ التَّفَهُّمِ يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ فَإِنَّك إذَا أَرَدْت وَصْفَ الشَّيْءِ بِالسَّوَادِ عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَأَصْلُ الْمُرَادِ أَنْ تَصِفَهُ بِالسَّوَادِ وَتَمَامُ الْمُرَادِ أَنْ تَصِفَهُ بِالسَّوَادِ الْمَخْصُوصِ فَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمُرَادِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ وَهُوَ بَيَانُ كَمِّيَّةِ السَّوَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ شَيْءٌ يَعْرِفُ بِهِ السَّامِعُ كَمِّيَّةَ سَوَادِهِ فَيُشَبَّهَ بِهِ أَوْ يُسْتَعَارَ لَهُ لِيَتَبَيَّنَ لِلسَّامِعِ تَمَامُ الْمُرَادِ (أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) بِالرَّفْعِ أَيْضًا أَيْ يَكُونُ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ (مِمَّا ذَكَرْنَا فِي مُقَدَّمَةِ كِتَابِ الْوِشَاحِ وَفِي فَصْلَيْ التَّشْبِيهِ وَالْمَجَازِ) فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْت فِي مُقَدَّمَتِهِ وَفِي فَصْلِ

ــ

[التلويح]

وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِالدَّلَالَاتِ الْوَضْعِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَسَاوِيهَا فِي الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ، وَعُدَّ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ اللُّزُومِ فِي الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ فَإِذَا قُصِدَ مُطَابَقَةُ تَمَامِ الْمُرَادِ وَتَأْدِيَةُ الْمَعْنَى بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ يُعْدَلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ لِيَتَيَسَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ كَوْنِ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ أَوْضَحَ دَلَالَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ كَمَا الْتَزَمَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَيَّنَهُ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَّفْظِ مَحْسُوسًا مَشْهُورًا كَالشَّمْسِ وَالنُّورِ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَعْقُولًا كَالْحَاجَةِ وَالْعِلْمِ كَانَ الْمَجَازُ أَوْضَحَ دَلَالَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنَّ فِيهِ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعْنَى مَا يُقْصَدُ بِاللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا كَالْحُجَّةِ أَوْ الْعِلْمِ مَثَلًا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْضَحُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّمْسِ وَالنُّورِ، وَلَوْ مَعَ أَلْفِ قَرِينَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ فَلَيْسَ لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَلَا لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، وَهُوَ فِي الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَوْضَحُ وَأَشْهَرُ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْعَادِ كَوْنِ دَلَالَةِ الْمَجَازِ عَلَيْهِ أَوْضَحَ فَلَا حَاجَةَ فِي إثْبَاتِهِ إلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ مَحْسُوسًا، وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ مَعْقُولًا

[فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ]

[حُرُوف الْمَعَانِي]

(قَوْلُهُ فَصْلٌ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ

ص: 184

التَّشْبِيهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَرَضًا لِلِاسْتِعَارَةِ أَيْضًا وَفِي فَصْلِ الْمَجَازِ أَنَّ الْمَجَازَ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَرُبَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا وَلَا يَكُونُ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْبِيهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا وَيَكُونُ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْبِيهِ كَالِاسْتِعَارَةِ.

(فَصْلٌ وَقَدْ تُجْرَى الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ) ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ

ــ

[التلويح]

تُسَمَّى تَبَعِيَّةٍ لِأَنَّهَا تُجْرَى أَوَّلًا فِي الْمَصْدَرِ ثُمَّ بِتَبَعِيَّةٍ فِي الْفِعْلِ، وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ مَثَلًا يُقَدَّرُ فِي نَطَقَتْ الْحَالُ أَوْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ بِكَذَا تَشْبِيهُ دَلَالَةِ الْحَالِ يَنْطِقُ النَّاطِقُ فَيُسْتَعَارُ النُّطْقُ لِلدَّلَالَةِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ نَطَقَتْ بِمَعْنَى دَلَّتْ، وَنَاطِقَةٌ بِمَعْنَى دَالَّةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُشَبَّهِ، وَالْمُشَبَّهِ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَالصَّالِحُ لِلْمَوْصُوفِيَّةِ هُوَ الْحَقَائِقُ دُونَ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ يُطْلَبُ مِنْ شَرْحِ التَّلْخِيصِ فَعُقِدَ هَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ التَّبَعِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ بَلْ تَجْرِي فِي الْحُرُوفِ أَيْضًا فَيُعْتَبَرُ التَّشْبِيهُ أَوَّلًا فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَتُجْرَى فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ ثُمَّ بِتَبَعِيَّةِ ذَلِكَ فِي الْحَرْفِ نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ مَعَانِي الْحُرُوفِ حَيْثُ يُقَالُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَعَانِيَهَا، وَإِلَّا لَكَانَتْ أَسْمَاءً لَا حُرُوفًا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَاتُ مَعَانِيهَا بِمَعْنَى أَنَّ مَعَانِي تِلْكَ الْحُرُوفِ رَاجِعَةٌ إلَى هَذِهِ بِنَوْعِ اسْتِلْزَامٍ كَذَا فِي الْمِفْتَاحِ مِثَالُ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ

شَبَّهَ تَرَتُّبَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الِالْتِقَاطِ، وَتَرَتُّبَ الْمَوْتِ عَلَى الْوِلَادَةِ بِتَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ لِلْفِعْلِ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ فِي الْمُشَبَّهِ اللَّامَ الْمَوْضُوعَةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُشَبَّهُ بِهِ فَجَرَتْ الِاسْتِعَارَةُ أَوَّلًا فِي الْعِلِّيَّةِ، وَالْغَرَضِيَّةِ، وَبِتَبَعِيَّتِهَا فِي اللَّازِمِ، وَصَارَتْ اللَّامُ بِوَاسِطَةِ اسْتِعَارَتِهَا لِمَا يُشْبِهُ الْعِلِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسَدِ الْمُسْتَعَارِ لِمَا يُشْبِهُ الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ، وَهَذَا وَاضِحٌ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ زِيَادَةَ تَدْقِيقٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ يُسْتَعَارُ أَوَّلًا لِلتَّعْقِيبِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلتَّعْلِيلِ فَيُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ التَّعْقِيبُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ أَوْ غَيْرَهُ ثُمَّ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ لَامُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ كَمَا يُسْتَعَارُ لَفْظُ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبُعًا وَإِنْسَانًا، وَيَقَعُ عَلَى تَعْقِيبِ غَيْرِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ كَتَعْقِيبِ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعْقِيبٌ كَمَا يَقَعُ أَسَدٌ عَلَى زَيْدٍ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ شُجَاعًا فَيَكُونُ تَعْقِيبُ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ مُشَبَّهًا بِتَعْقِيبِ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ جَعَلَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ أَيْ جَعَلَ الْمَوْتَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لَهُ، وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ فِي تَعْقِيبِ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْمُشَبَّهِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا اعْتِرَاضٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ يَكُونُ عِلَّةً لَا مَعْلُولًا، وَالْعِلَّةُ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً لَا مُتَعَقِّبَةً فَلَا مَعْنَى لِاسْتِعَارَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ، وَاسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِيهِ أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى

ص: 185

الِاسْتِعَارَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَاسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَهِيَ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَالْحُرُوفِ وَإِنَّمَا قَالُوا هِيَ تَبَعِيَّةٌ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْمُشْتَقَّاتِ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا تَقُولُ الْحَالُ نَاطِقَةٌ أَيْ دَالَّةٌ فَاسْتُعِيرَ النَّاطِقَةُ لِلدَّلَالَةِ بِتَبَعِيَّةِ اسْتِعَارَةِ النُّطْقِ لِلدَّلَالَةِ وَكَذَا الِاسْتِعَارَةُ فِي الْحُرُوفِ (فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقَعُ أَوَّلًا فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَرْفِ كَاللَّامِ مَثَلًا فَيُسْتَعَارُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلتَّعْقِيبِ (فَإِنَّ التَّعْقِيبَ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ فَإِنَّ الْمَعْلُولَ يَكُونُ عَقِيبَ الْعِلَّةِ فَيُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ التَّعْقِيبُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ أَوْ غَيْرَهُ) ثُمَّ بِوَاسِطَتِهَا أَيْ بِوَاسِطَةِ اسْتِعَارَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ (يُسْتَعَارُ اللَّامُ لَهُ) أَيْ لِلتَّعْقِيبِ نَحْوَ

(لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ)

لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ جُعِلَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ فَاسْتَعْمَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ وَأُرِيدَ أَنَّ الْمَوْتَ وَاقِعٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ قَطْعًا بِلَا تَخَلُّفٍ كَوُقُوعِ الْمَعْلُولِ عَقِيبَ الْعِلَّةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ تَدْخُلُ فِي الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَهِيَ الْغَرَضُ بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّامَ الدَّاخِلَةَ فِي الْغَرَضِ دَاخِلَةٌ حَقِيقَةً عَلَى الْمَعْلُولِ

ــ

[التلويح]

أَنَّ اللَّامَ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَاهِيَّتِهَا عِلَّةً لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَمُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي الذِّهْنِ لَكِنَّهَا مَعْلُولَةٌ فِي الْخَارِجِ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ وَمُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ كَالْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ مَثَلًا يُتَصَوَّرُ أَوَّلًا فَيَصِيرُ عِلَّةً لِإِقْدَامِ النَّجَّارِ عَلَى إيجَادِ السَّرِيرِ لَكِنَّهُ فِي الْخَارِجِ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ اللَّامِ مَعْلُولًا بِحَسَبِ الْخَارِجِ، وَمُتَعَقِّبًا فِي الْوُجُودِ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَيَصِحُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي تَعْقِيبِ غَيْرِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ فَقَوْلُهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ إنْ كَانَ الْمَعْلُولُ مَرْفُوعًا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَمَعْنَاهُ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ فِعْلَهَا الْمُعَلَّلَ بِهَا يُقَالُ عَقَبْتُهُ أَيْ جِئْت عَلَى عَقِبِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيلِ هُوَ بَيَانُ الْعِلِّيَّةِ لَا بَيَانُ الْمَعْلُولِيَّةِ فَاللَّامُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَجْرُورَهَا عِلَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُولًا بِاعْتِبَارٍ كَمَا فِي ضَرَبْته لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لَا كَمَا فِي قَعَدْت عَنْ الْحَرْبِ لِلْجُبْنِ، وَإِذَا كَانَ مَعْلُولًا بِاعْتِبَارٍ فَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ عِلِّيَّتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَعْلُولِيَّتِهِ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً غَائِيَّةً كَافٍ فِي اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُولًا لَا يُقَالُ الْعِلَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عِلَّةٌ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِيه الْمَعْلُولُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقَوْمِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ اُسْتُعِيرَ لِتَرَتُّبِ مَا لَيْسَ بِمَعْلُولٍ وَغَرَضٍ فَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعْلُولِيَّةِ لَا فِي الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ (قَوْلُهُ وَهِيَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ) أَرَادَ بِاسْمِ الْجِنْسِ مَا لَيْسَ بِصِفَةٍ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِمَّا هُوَ مُصْطَلَحُ النُّحَاةِ

ص: 186

وَهَاهُنَا نَذْكُرُ حُرُوفًا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَتُسَمَّى حُرُوفَ الْمَعَانِي مِنْهَا حُرُوفُ الْعَطْفِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِالنَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَاسْتِقْرَاءِ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهَا وَهِيَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْأَلِفِ بَيْنَ الْمُتَّحِدَيْنِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ جَاءَ رَجُلَانِ وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَأَدْخَلُوا

ــ

[التلويح]

قَوْلُهُ (وَهَاهُنَا نَذْكُرُ حُرُوفًا) قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي بَعْضِ الْحُرُوفِ وَالظُّرُوفِ عَقِيبَ بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِاشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفٍ شَطْرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ عَلَيْهَا وَكَثِيرًا مَا يُسَمَّى الْجَمِيعُ حُرُوفًا تَغْلِيبًا أَوْ تَشْبِيهًا لِلظُّرُوفِ بِالْحُرُوفِ فِي الْبِنَاءِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِمَا فِي الثَّانِي مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَوْ إطْلَاقًا لِلْحَرْفِ عَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرَادَ بِالْحُرُوفِ حَقِيقَتَهَا، وَلِهَذَا سَمَّاهَا حُرُوفَ الْمَعَانِي ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَسْمَاءَ لَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْحُرُوفِ، وَتَسْمِيَتُهَا حُرُوفَ الْمَعَانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا لِمَعَانٍ تَتَمَيَّزُ بِهَا مِنْ حُرُوفِ الْمَبَانِي الَّتِي بُنِيَتْ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا وَرُكِّبَتْ مِنْهَا فَالْهَمْزَةُ الْمَفْتُوحَةُ إذَا قُصِدَ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ أَوْ النِّدَاءُ فَهِيَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَإِلَّا فَمِنْ حُرُوفِ الْمَبَانِي.

(قَوْلُهُ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ) أَيْ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ وَتَشْرِيكِهِمَا فِي الثُّبُوتِ مِثْلُ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عَمْرٌو أَوْ فِي حُكْمٍ نَحْوُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَوْ فِي ذَاتٍ نَحْوُ قَامَ وَقَعَدَ زَيْدٌ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعِيَّةِ وَالْمُقَارَنَةِ أَيْ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، وَنُسِبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا عَلَى التَّرْتِيبِ أَيْ تَأَخُّرِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فِي الزَّمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَنُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ النَّقْلُ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ حَتَّى ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الثَّانِي اسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهَا فَإِنَّا نَجِدُهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي مَوَاضِعَ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّرْتِيبُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ الْمُقَارَنَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَعْدُولًا عَنْ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَشَارَكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَاخْتَصَمَ بَكْرٌ وَخَالِدٌ، وَالْمَالُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَسِيَّانِ قِيَامُك وَقُعُودُك، وَجَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَقَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ الثَّالِثُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْوَاوَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْأَلِفِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ فَكَمَالُ دَلَالَةٍ لِمِثْلِ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَى مُقَارَنَةٍ أَوْ تَرْتِيبٍ إجْمَاعًا فَكَذَا جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ الْأَلِفُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ تَسَامُحًا الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَوْ شَرِبَ اللَّبَنَ بَعْدَ أَكْلِ السَّمَكِ جَازَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ نَصَبَ تَشْرَبَ بِإِضْمَارِ أَنْ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ، وَشُرْبُ اللَّبَنِ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا صَحَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَا لَا تَصِحُّ الْفَاءُ وَثُمَّ لِإِفَادَتِهِمَا النَّهْيَ عَنْ الشُّرْبِ

ص: 187

وَاوَ الْعَطْفِ (وَقَوْلُهُمْ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ) أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا (فَلِهَذَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَأَمَّا فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَوَجَبَ التَّرْتِيبُ بِقَوْلِهِ عليه السلام «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى» لَا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ التَّرْتِيبُ وَقَوْلُهُ عليه السلام «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى» لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَاءَتَهُ تَعَالَى مُوجِبَةٌ لِبَدَاءَتِكُمْ لَكِنَّ تَقْدِيمَهُ

ــ

[التلويح]

بَعْدَ الْأَكْلِ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُقَارِنًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَنْفِي الْمُقَارَنَةَ إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ نَفْيُ التَّرْتِيبِ.

(قَوْلُهُ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِسَلْبِ التَّعْلِيلِ أَيْ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِنَاءً عَلَى تَعَاطُفِهَا بِالْوَاوِ، وَلِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَنْ يَكُونَ لِتَعْلِيلِ السَّلْبِ أَيْ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُقَالُ قَوْلُهُ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُ الْوَجْهِ عَقِيبَ إرَادَةِ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ مُقَدَّمًا عَلَى غَسْلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّرْتِيبُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فِي الْبَوَاقِي، لِأَنَّا نَقُولُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فَلَا يَقْتَضِي إلَّا كَوْنَهُ عَقِيبَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَيْنَهَا لَا يُقَالُ لِكُلِّ عُضْوٍ غَسْلٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُعْقِبَ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ خَاصَّةً لِأَنَّا نَقُولُ تَعَدُّدُ الْأَفْعَالِ بِحَسَبِ الْمَحَالِّ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا غَسَلْت الْأَعْضَاءَ، وَضَرَبْت الْقَوْمَ، وَبِدَلِيلِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ دُونَ الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ إذَا دَخَلْتَ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَخُبْزًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ اشْتِرَاءِ اللَّحْمِ، وَلَا يُعَدُّ بِتَقْدِيمِ الْخُبْزِ عَاصِيًا، لَا يُقَالُ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُ الْغَسْلِ عَلَى الْمَسْحِ عَمَلًا بِمُوجِبِ الْفَاءِ وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَظِيفَةُ فِي الرَّأْسِ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ فَكَأَنَّهُ هُوَ هُوَ فَلَا يَلْزَمُ عَقِيبَ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ إلَّا الْغُسْلُ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِأَصْلِ السُّؤَالِ مَنْعُ دَلَالَةِ الْفَاءِ الْجَزَائِيَّةِ عَلَى لُزُومِ تَعْقِيبِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ لِمَضْمُونِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9] الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ السَّعْيُ عَقِيبَ النِّدَاءِ بِلَا تَرَاخٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ تَرْكِ الْبَيْعِ عَلَى السَّعْيِ.

1 -

(قَوْلُهُ وَأَمَّا فِي السَّعْيِ) اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى « {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، وَقَالَ

ص: 188

فِي الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ كَالتَّعْظِيمِ أَوْ الْأَهَمِّيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْأَوْلَوِيَّةَ لَا الْوُجُوبَ وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا لَاحَ لَهُ عليه السلام مِنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِنَا بِقَوْلِهِ ابْدَءُوا (وَزَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَلِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَهُ وَالثَّلَاثِ عِنْدَهُمَا فِي إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَهَذَا) أَيْ زَعْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ (بَاطِلٌ بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ عِنْدَهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ يَقَعُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَفِي الْمُنَجَّزِ تَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى الْمَحَلُّ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ جُمْلَةً لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي صَيْرُورَتِهِ طَلَاقًا) أَيْ لَا تَرْتِيبَ فِي صَيْرُورَتِهِ هَذَا اللَّفْظَ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ (كَمَا إذَا كَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ

ــ

[التلويح]

الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» فَهِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ التَّرْتِيبَ فَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَالْجَوَابُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بِالْآيَةِ وَفَهْمِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهَا بَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَاحَ لَهُ مِنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْآيَةِ هُوَ كَوْنُهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ إذْ لَا مَعْنَى لِتَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَصْلُ وُجُوبِ السَّعْيِ؟ قُلْت مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فِي مَعْنَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْجُنَاحِ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَنَمَيْنِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمَا.

(قَوْلُهُ وَزَعَمَ الْبَعْضُ) لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ تَقَعُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالثَّلَاثُ عِنْدَهُمَا فَزَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُ لِلتَّرْتِيبِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الْمَحَلَّ كَمَا لَوْ ذَكَرَ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ وَعِنْدَهُمَا لِلْمُقَارَنَةِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ دَفْعَةً كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَرُدَّ ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالنَّقْضِ وَالْحِلِّ، أَمَّا الْمَنْعُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فِي مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ الْوَاوِ، وَكَوْنُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ الْوَاوِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُقَيَّدًا، وَأَمَّا النَّقْضُ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَهُ، وَلِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمَا لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ مُنَجَّزًا، وَالثَّلَاثِ فِي مِثْلِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ بِتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْحِلُّ فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْكُورَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَجْزِيَةِ بِالشَّرْطِ عِنْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ لِأَنَّ

ص: 189

فَعِنْدَ الشَّرْطِ يَقَعُ الثَّلَاثُ كَذَا هُنَا وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ) أَيْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ (يَقَعُ الثَّلَاثُ) أَيْ اتِّفَاقًا (لِأَنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَجْزِيَةُ الْمُتَوَقِّفَةُ دَفْعَةً فَإِنْ قِيلَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا الْمَوْلَى

ــ

[التلويح]

قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ جُمْلَةٌ كَامِلَةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ عَمَّا بَعْدَهَا فَيَحْصُلُ بِهَا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ مُفْتَقِرَةٌ فِي الْإِفَادَةِ إلَى الْأُولَى فَيَكُونُ تَعْلِيقُ الثَّانِيَةِ بَعْدُ، وَتَعْلِيقُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بَعْدَهُمَا، وَإِذَا كَانَ تَعْلِيقُ الْأَجْزِيَةِ بِالشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ كَانَ وُقُوعُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِي الْمُنَجَّزِ تَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الْمَحَلَّ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجَوَاهِرِ الْمَنْظُومَةِ تَنْزِلُ عِنْدَ الِانْحِلَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نُظِمَتْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ الشَّرْطَ فَإِنَّ الْكُلَّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ فَإِنَّ الْكُلَّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ دَفْعَةً لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ يَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَى الْآخِرِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَاقُبٌ فِي التَّعْلِيقِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّعَاقُبُ فِي الْوُقُوعِ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الْكُلُّ دَفْعَةً لِأَنَّ زَمَانَ الْوُقُوعِ هُوَ زَمَانُ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالتَّفْرِيقُ إنَّمَا هُوَ فِي أَزْمِنَةِ التَّعْلِيقِ لَا فِي أَزْمِنَةِ التَّطْلِيقِ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي صَيْرُورَةِ اللَّفْظِ تَطْلِيقًا، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَطْفَ النَّاقِصَةَ عَلَى الْكَامِلَةِ يُوجِبُ تَقْدِيرَ مَا فِي الْكَامِلَةِ تَكْمِيلًا لِلنَّاقِصَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ، يَجِبُ تَثْلِيثُ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ، وَفِي الْكَامِلَةِ الشَّرْطُ مَذْكُورٌ فَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَخِيرَيْنِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَعِنْدَ الدُّخُولِ يَقَعُ الثَّلَاثُ فَكَذَا هَاهُنَا لِأَنَّ الْمِقْدَارَ كَالْمَلْفُوظِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَهُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَفْرِيقِ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي الْحَالِ بَلْ لَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يُقْبَلُ وَصْفُ التَّرْتِيبِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْصُوفَ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ بِحَالِ الْوُقُوعِ اجْتِمَاعًا وَافْتِرَاقًا لَا بِحَالِ التَّعْلِيقِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَأْخِيرَ وَجْهِ قَوْلِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْجَوَابِ عَنْهُ لَا يَخْلُو عَنْ مَيْلٍ إلَى رُجْحَانِهِ عَلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ.

(قَوْلُهُ، وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ) يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ الْوَاوِ لِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمْ اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرْقًا لَهُ بَيْنَ تَأْخِيرِ الْأَجْزِيَةِ وَتَقْدِيمِهَا حَيْثُ

ص: 190

مَعًا صَحَّ نِكَاحُهُمَا وَبِكَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ) أَيْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى بَعْدَ زَمَانٍ أَعْتَقْت هَذِهِ (أَوْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ) أَيْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ (بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلتَّرْتِيبِ) هَكَذَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا وَبِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَقَوْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَيِّدَ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ فُضُولِيٌّ آخَرُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحِ وَقَدْ قُيِّدَ فِي الْحَوَاشِي كَوْنُ نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ اتِّبَاعًا لِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَا حَاجَةَ لَنَا إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ إذْ الْبَحْثُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِعَقْدَيْنِ وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ نَظَمَ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ وَبَعْضُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ وَبِعَقْدَيْنِ كَمَا إذَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ

ــ

[التلويح]

يَقْتَضِي الْأَوَّلُ الِافْتِرَاقَ وَالثَّانِي الِاجْتِمَاعَ.

(قَوْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا) إذْ لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ نَفَذَ نِكَاحُهُمَا، وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْتَاقِ (قَوْلُهُ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلتَّرْتِيبِ) حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْإِعْتَاقَ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ مُتَعَاقِبًا (قَوْلُهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ) أَيْ بِقَوْلِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فِي غَرَضِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ تَوَقُّفَ النِّكَاحِ عَلَى رِضَا كُلٍّ مِنْ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ بِدُونِ رِضَاهُمَا جَمِيعًا.

(قَوْلُهُ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحِ) فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَقِيلَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ الْفُضُولِيُّ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ أَمَّا إذَا قَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ، وَقَبِلْت مِنْهُ جَازَا اتِّفَاقًا، وَيَتَوَقَّفُ (قَوْلُهُ وَبَعْضُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ يَخْتَلِفُ) ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَيْهِ مِنْ رَجُلٍ بِرِضَاهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَبِلَ عَنْ الزَّوْجِ فُضُولِيٌّ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى إحْدَاهُمَا بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ، وَيَتَوَقَّفُ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا فَأَجَازَ الزَّوْجُ نِكَاحَهُمَا أَوْ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا جَازَ لِأَنَّهُمَا حَالَةَ الْعَقْدِ أَمَتَانِ، وَحَالَةَ الْإِجَازَةِ حُرَّتَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مُتَفَرِّقًا بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ، وَهَذِهِ حُرَّةٌ أَوْ مَفْصُولٍ بِأَنْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا، وَسَكَتَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْأُخْرَى فَأَجَازَ الزَّوْجُ نِكَاحَهُمَا مَعًا أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا لَا يَتَغَيَّرُ بِإِعْتَاقِ الثَّانِيَةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بِإِعْتَاقِ الْأُولَى فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحَانِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي عُقْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْأَمَتَيْنِ وَاحِدًا فَالْحُكْمُ كَمَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ أَمَةٍ مَوْلًى عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ أُعْتِقَتْ الْأَمَتَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالنِّكَاحَانِ عَلَى

ص: 191

بِرِضَى الْمَوْلَى وَبِرِضَاهُمَا دُونَ رِضَا الزَّوْجِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ وَبِعَقْدَيْنِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ قَيَّدَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَرَدْت مَعْرِفَةَ تَفَاصِيلِهِ فَعَلَيْك بِمُطَالَعَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (وَإِنْ زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أُخْتَيْنِ بِعَقْدَيْنِ فَأَجَازَهُمَا مُتَفَرِّقًا بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَإِنْ أَجَازَهُمَا مَعًا) أَيْ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَهُمَا (أَوْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ) أَيْ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ (بَطَلَا) أَيْ بَطَلَ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ فَإِنْ قَالَ أَعْتَقَ أَبِي فِي مَرَضِ مَوْتِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَلَا وَارِثَ لَهُ وَلَا مَالَ سِوَى ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ مُتَّصِلًا عَتَقَ مِنْ كُلٍّ ثُلُثُهُ، وَإِنْ سَكَتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ عَتَقَ الْأَوَّلُ وَنِصْفُ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ) لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا وَسَكَتَ يُعْتَقُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ قِيمَةَ الْعَبِيدِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ السُّكُوتِ وَهَذَا وَسَكَتَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَمُوجَبُهُ أَنْ يُعْتَقَ نِصْفُ الثَّانِي مَعَ نِصْفِ الْأَوَّلِ لَكِنْ لَمَّا عَتَقَ كُلُّ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ثُمَّ لَمَّا قَالَ وَهَذَا فَمُوجَبُهُ عِتْقُ ثُلُثِ الثَّالِثِ مَعَ عِتْقِ ثُلُثِ كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ الثَّالِثِ وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلَيْنِ (فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ) أَيْ جَعَلْتُمْ حَرْفَ الْعَطْفِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ مُتَّصِلًا لِلْقِرَانِ (بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ أَعْتَقَهُمْ أَبِي مَعًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِرَانِ بَلْ يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ كَانَ كَمَسْأَلَةِ السُّكُوتِ (قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَتْ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ الثَّانِيَةُ مَحَلًّا لِيَتَوَقَّفَ نِكَاحُهَا عَلَى عِتْقِهَا) فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ فَلَمْ تَبْقَ الْأَمَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فَبَطَلَ نِكَاحُهَا (وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ يَتَوَقَّفُ

ــ

[التلويح]

حَالِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ وَالْأُخْرَى أَمَةٌ تَوَقَّفَا لِأَنَّهُ لَا تَطَابُقَ فِي التَّوَقُّفِ وَأَحَدُهُمَا لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَالرَّدَّ فِي مِلْكِ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا فَإِنَّهُ بِإِعْتَاقِ الْأُولَى يَصِيرُ، رَادًّا نِكَاحَ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَهُمَا جَازَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ الْأُولَى لِأَنَّ حَالَةَ الْإِجَازَةِ كَحَالَةِ الْإِنْشَاءِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ.

(قَوْلُهُ بَطَلَا) أَيْ نِكَاحُ هَذِهِ وَنِكَاحُ هَذِهِ (قَوْلُهُ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ) حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَا بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ مُتَفَرِّقًا فَإِنْ قُلْت هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا لِلْمُقَارَنَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِي مِثْلِ جَاءَنِي الرَّجُلَانِ عَلَى الْمُقَارَنَةِ قُلْت نَعَمْ إلَّا أَنَّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ لَهُمَا مَعًا حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُهُمَا عَتَقَا مَعًا (قَوْلُهُ سِوَى ذَلِكَ) أَيْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ الِابْنِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى تِلْكَ الْأَعْبُدِ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْحُكْمُ إلَّا فِي نَصِيبِ ذَلِكَ الِابْنِ، وَيَجِبُ السِّعَايَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، وَيُخْرِجُ الْأَعْبُدَ مِنْ الثُّلُثِ يُعْتَقُ الْكُلُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَقَيَّدَ بِتَسَاوِي قِيَمِ الْعَبِيدِ حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مَثَلًا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ.

(قَوْلُهُ لَمْ تَبْقَ الثَّانِيَةُ مَحَلًّا لِيَتَوَقَّفَ)

ص: 192

عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ آخِرُهُ مُغَيَّرًا بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَهَاهُنَا) إشَارَةٌ إلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ (كَذَلِكَ) أَيْ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَيِّرٌ لِأَوَّلِهِ، أَمَّا فِي الْأُخْتَيْنِ فَلِأَنَّ إجَازَةَ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ تُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأُولَى وَأَمَّا فِي الْإِخْبَارِ بِالْإِعْتَاقِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا يُوجِبُ عِتْقَ كُلِّهِ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مُنْقَسِمًا بَيْنَهُمَا وَلَا يَعْتِقُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْضُهُ فَيَكُونُ مُغَيِّرًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ (بِخِلَافِ الْأَمَتَيْنِ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَيْسَ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ فَإِعْتَاقُ الثَّانِيَةِ لَا يُغَيِّرُ إعْتَاقَ الْأُولَى فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَيِّرٌ لِلْأَوَّلِ فَيَتَوَقَّفُ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْحَصِيرِيِّ قَدْ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ الْفَرْقُ لِاخْتِلَافِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ وَهَذِهِ حُرَّةٌ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَحْرِيرًا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ فَلَا يَتَوَقَّفُ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى الْآخِرِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ لَمْ يُفْرِدْ فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى لَوْ أَفْرَدَ هُنَا صَحَّ نِكَاحُ الْأُولَى وَلَوْ لَمْ يُفْرِدْ فِي الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ عَتَقَا مَعًا وَصَحَّ نِكَاحُهُمَا (وَقَدْ تَدْخُلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَلَا تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فَفِي قَوْلِهِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ

ــ

[التلويح]

أَيْ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِتَوَقُّفِ النِّكَاحِ بَلْ بَطَلَ تَوَقُّفُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ عَقِيبَ عِتْقِ الْأُولَى قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْ التَّكَلُّمِ بِإِعْتَاقِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ التَّدَارُكُ بِإِعْتَاقِهَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا قَالَ لِيَتَوَقَّفَ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مَحَلًّا لَأَنْ تُنْكَحَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا حُرَّةً (قَوْلُهُ، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْضُهُ) الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَتَغَيَّرُ الْأَوَّلُ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، وَالْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ، وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ مِنْ بَرَاءَةٍ إلَى شُغْلٍ لِأَنَّهُ بِدُونِ آخِرِ الْكَلَامِ يُعْتَقُ مَجَّانًا لِأَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَبَعْدَ إعْتَاقِ الْأَخِيرَيْنِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَوَجَبَ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، ثُمَّ التَّغْيِيرُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا فَلِذَا لَا يَثْبُتُ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْإِعْتَاقُ أَوْ الْإِجَازَةُ مُتَفَرِّقًا مُتَرَاخِيًا مَعَ سُكُوتٍ.

(قَوْلُهُ وَقَدْ تَدْخُلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ) الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ بِالْوَاوِ إنْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ جَزَاءِ الشَّرْطِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَالْوَاوُ تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ التَّعَلُّقِ، وَإِلَّا فَالْوَاوُ تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا فِي حُصُولِ مَضْمُونِهَا إذْ بِدُونِ الْوَاوِ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ وَالْإِضْرَابُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ اعْتِبَارِ بَعْضِ قُيُودِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَمُفَوَّضَةٌ إلَى الْقَرَائِنِ، وَالْوَاوُ لَا يُوجِبُهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا.

(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تَجِبُ هِيَ إذَا افْتَقَرَ الْآخِرُ إلَى الْأَوَّلِ) هَذَا الْحُكْمُ فِي مُطْلَقِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ خَاصَّةً لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ الْمُبْتَدَأِ فِي

ص: 193

طَالِقٌ تُطْلَقُ الثَّانِيَةُ وَاحِدَةً وَإِنَّمَا تَجِبُ هِيَ) أَيْ الْمُشَارَكَةُ (إذَا افْتَقَرَ الْآخِرُ إلَى الْأَوَّلِ فَيُشَارِكُ الْأَوَّلَ) أَيْ آخِرُ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ (فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ) أَيْ بِعَيْنِ مَا تَمَّ (لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) أَيْ مِثْلِ مَا تَمَّ (إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ الِاتِّحَادُ) أَيْ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ مُتَّحِدًا فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ (نَحْوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَيْسَ كَتَكْرَارِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا بِخِلَافِ التَّكْرَارِ) فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَجْزِيَةُ الْمُتَكَثِّرَةُ بِشَرْطٍ مُتَّحِدٍ فَيَتَعَلَّقُ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ بِعَيْنِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهَا أَيْ لَا يُقَدَّرُ شَرْطٌ آخَرُ حَتَّى يَصِيرَ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ كَمَا زَعَمَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَبِتَقْدِيرِهِ) أَيْ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ (إنْ امْتَنَعَ) أَيْ الِاتِّحَادُ (نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ زَيْدٍ غَيْرَ مَجِيءِ عَمْرٍو وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبُوا الشَّرِكَةَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ أَيْضًا حَتَّى قَالُوا إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ فَقَالُوا فِي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ كَمَا لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنَ الْمُخَاطَبِ بِالْآخَرِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ مُخَاطَبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا لَا لِلْقِرَانِ فِي النَّظْمِ وَالْقَائِلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ يَقُولُ الْخِطَابُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ يَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ

ــ

[التلويح]

الثَّانِي.

(قَوْلُهُ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

(قَوْلُهُ أَيْ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ بِعَيْنِهِ لَا عَلَى قَوْلِهِ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ تَقْدِيرَ الْمِثْلِ فِي نَحْوِ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَجِيءَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جَاءَ مَعْنًى كُلِّيٌّ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ الْجُمَلِ، وَقَدْ عَرَفْت ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهَا) أَيْ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِكَوْنِهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَلِأَنَّ الْمُزَكِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً مِنْ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ مِنْ نِيَّةٍ وَعَزِيمَةٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ أَوْ مِمَّنْ لَهُ نِيَابَةٌ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا لَمَا صَحَّ إيمَانُهُ، وَصَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَهْلٌ لَهَا لَكِنَّ لُزُومَ الضَّرَرِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ، وَاحْتَرَزَ بِالْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ عَنْ

ص: 194

لَكِنَّ الْعَقْلَ خَصَّهُمْ عَنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَلِيِّ عَنْهُ (وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا) الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إلَى إيجَابِ الشَّرِكَةِ فِي الْجُمَلِ (لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا افْتَقَرَتْ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَاوِ الشَّرِكَةُ وَهَذِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً لَكِنَّهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فِي حُكْمِ الِافْتِقَارِ فَعُطِفَ عَلَى الْجَزَاءِ فَتَكُونُ الْوَاوُ عَلَى أَصْلِهَا وَعَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا بِخِلَافِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ فَإِنَّ إظْهَارَ الْخَبَرِ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا افْتَقَرَتْ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُهُ وَعَبْدِي حُرٌّ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يُرَادُ إشْكَالًا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا عَطْفًا عَلَى الْمَجْمُوعِ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فِي حُكْمِ الِافْتِقَارِ مَعَ أَنَّهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِأَنَّ مُنَاسَبَتَهَا الْجَزَاءَ فِي كَوْنِهِمَا جُمْلَتَيْنِ اسْمِيَّتَيْنِ تُرْجِعُ كَوْنَهَا مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَزَاءِ

ــ

[التلويح]

صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمَعُونَةِ.

(قَوْلُهُ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَالِي عَنْهُ) يَعْنِي عَدَمَ لُزُومِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ نَظَرًا لَهُ، وَلَا عَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِيَّاتِ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِنَابَةِ اخْتِيَارٌ كَامِلٌ شَرْعًا لِيَحْصُلَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الصَّبِيِّ.

(قَوْلُهُ فَدَلِيلُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ) أَيْ فِيمَا هُوَ جَزَاءٌ لِلْقَذْفِ وَحَدٌّ لَهُ وَهُوَ الْجَلْدُ، فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ صَالِحًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً لِلْقَذْفِ وَحَدًّا لَهُ قُلْت الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ بِرَدِّ كَلَامِهِ وَعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فَوْقَ مَا يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُنَاسِبٌ لِإِزَالَةِ مَا لَحِقَ الْمَقْذُوفَ مِنْ الْعَارِ بِتُهْمَةِ الزِّنَا، ثُمَّ إنَّهُ حَدٌّ فِي اللِّسَانِ الَّذِي مِنْهُ صَدَرَ جَرِيمَةُ الْقَذْفِ كَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهِ الْإِيلَامَ الْحِسِّيَّ لِكَمَالِ الزَّجْرِ وَعُمُومِهِ جَمِيعَ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ بِالْإِيلَامِ بَاطِنًا وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] مِنْ قَبِيلِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، وَهُوَ أَب لَغُ مِنْ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَتُهُمْ، وَأَوْقَعُ فِي النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْسِيرِ.

(قَوْلُهُ وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ قَائِمٌ فِي

ص: 195

تَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ بَعْضُ الْجُمْلَةِ وَأَيْضًا الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الشَّرِكَةُ فَتُحْمَلُ عَلَى الشَّرِكَةِ مَا أَمْكَنَ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُفْتَقِرًا إلَى مَا قَبْلَهُ حَقِيقَةً كَمَا فِي الْمُفْرَدِ أَوْ حُكْمًا كَمَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرِكَةِ لِتَكُونَ الْوَاوُ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ أَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا تُحْمَلُ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ جُمْلَةً لَا تَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَلَا تَكُونُ مُفْتَقِرَةً إلَى مَا قَبْلَهَا أَصْلًا كَمَا فِي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَالْوَاوُ وَتَكُونُ لِمُجَرَّدِ النَّسَقِ وَالتَّرْتِيبِ فَفِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَضَرَّتُك طَالِقٌ يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّ إظْهَارَ الْخَبَرِ وَهُوَ طَالِقٌ فِي قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ يُرْجِعُ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ لِكَيْ أَنْ يَقُولَ وَضَرَّتُك فَقَوْلُهُ بِخِلَافِ وَضَرَّتُكِ طَالِقٌ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ (وَلِهَذَا جَعَلْنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى قَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَعَبْدِي حُرٌّ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ وَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ جَعَلْنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا} إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَلَا تَقْبَلُوا

ــ

[التلويح]

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] لِكَوْنِهَا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِهَا الْأَئِمَّةُ بِدَلِيلِ إفْرَادِ الْكَافِ فِي أُولَئِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَعْنِي قَوْلَهُ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] إلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَبِالْعَكْسِ شَائِعٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إفْرَادَ كَافِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ جَائِزٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 52] عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ {الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 23] لَيْسَ بِمُبْتَدَأٍ بَلْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ أَيْ اجْلِدُوا الَّذِينَ يَرْمُونَ فَهِيَ أَيْضًا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ إنْشَائِيَّةٌ مُخَاطَبٌ بِهَا الْأَئِمَّةُ فَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ قَائِمٌ هَاهُنَا مَعَ زِيَادَةِ الْعُدُولِ عَنْ الْأَقْرَبِ إلَى الْأَبْعَدِ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ مُبْتَدَأٌ فَلَا بُدَّ فِي الْإِنْشَائِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْخَبَرِ مِنْ تَأْوِيلٍ وَصَرْفٍ لَهَا عَنْ الْإِنْشَائِيَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَكْثَرِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ.

(قَوْلُهُ وَثَمَرَةُ هَذَا تَأْتِي) مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ {إِلا الَّذِينَ} [البقرة: 150] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَمْ لَا

(قَوْلُهُ وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْمَعْلُولِ) هِيَ الْحَقِيقَةُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَأَهَّبْ فَإِنْ قُلْت لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْعِلِّيَّةَ وَالْمَعْلُولِيَّةِ فِي وُجُودِ السَّقْيِ وَالْإِرْوَاءِ لَا فِي مَفْهُومَيْهِمَا، وَالْعِلَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِلْمَعْلُولِ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ فِي الْوُجُودِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّحَادُهُمَا فِي الْوُجُودِ؟ قُلْت تَسَامَحَ فِي ذَلِكَ

ص: 196

جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} وَالْمُخَاطَبُ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وقَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ} جُمْلَةٌ إخْبَارِيَّةٌ وَلَيْسَ الْأَئِمَّةُ مُخَاطَبِينَ بِهَا فَدَلِيلُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ قَائِمٌ وَلَا تَقْبَلُوا وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي أُولَئِكَ فَعَطَفْنَا الْأَوَّلَ عَلَى الْجَزَاءِ لَا الْآخِرَ وَثَمَرَةُ هَذَا تَأْتِي فِي آخِرِ فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَلِهَذَا تَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ فَإِنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالشَّرْطُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى التَّرْتِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَعْلُولِ نَحْوَ جَاءَ الشِّتَاءُ فَتَأَهَّبْ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُولُ عَيْنَ الْعِلَّةِ فِي الْوُجُودِ لَكِنْ فِي الْمَفْهُومِ غَيْرَهَا نَحْوَ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ وَنَحْوَ قَوْلِهِ عليه السلام «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ حَتَّى يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَإِنْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْك فَقَالَ الْآخَرُ فَهُوَ حُرٌّ يَكُونُ قَبُولًا بِخِلَافِ هُوَ حُرٌّ وَلَوْ قَالَ لِخَيَّاطٍ أَيَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيه يَضْمَنُ كَمَا لَوْ

ــ

[التلويح]

نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ الْفَاعِلِ إلَّا فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَإِلَّا فَالسَّقْيُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ وَضْعِ الْمَاءِ عَلَى كَفِّهِ أَوْ صَبِّهِ فِي حَلْقِهِ، وَالْإِرْوَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ بِقَدْرِ الرِّيِّ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ سَقَاهُ فَمَا أَرْوَاهُ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} [هود: 45] ، وَ {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] فَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ أَيْ أَرَادَ النِّدَاءَ، وَأَرَدْت جِدَالَنَا فَيَتَحَقَّقُ التَّعْقِيبُ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْمُفَسِّرِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْمُفَسَّرِ، وَمَرْتَبَةَ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ فَاسْتُعِيرَتْ الْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الرُّتْبَةِ.

(قَوْلُهُ «وَلَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ» ) يَعْنِي أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِحَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ بِالْإِعْتَاقِ يَصِيرُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ الْحُكْمِيَّةِ لِأَنَّ الرِّقَّ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَالْفَاءُ هَاهُنَا لِمُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ بالْمَعْلُولِيَّةِ لَا بِالزَّمَانِ فَبِالِاشْتِرَاءِ يَحْصُلُ الْمِلْكُ، وَبِالْمِلْكِ يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَنَّ وَضْعَ الشِّرَاءِ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَالْإِعْتَاقِ لِإِزَالَتِهِ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِمُوجِبِ الْعِتْقِ.

(قَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ) مَعَ الْفَاءِ يَقْتَضِي الْقَبُولَ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَهُوَ حُرٌّ إذْ الْإِعْتَاقُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ هُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلْإِيجَابِ بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْإِذْنُ بِالْقَطْعِ بِدُونِ الْفَاءِ إذْنٌ مُطْلَقٌ، وَمَعَ الْفَاءِ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ أَيْ إذَا كَانَ كَافِيًا فَاقْطَعْهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ) دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْجُمَلِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلَمَّا كَانَ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالسَّبَبُ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُسَبَّبِ لَا مُتَعَاقِبًا إيَّاهُ تَكَلَّفَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتَحْقِيقِ التَّعْقِيبِ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عِلَّةٌ بِاعْتِبَارِ مَعْلُولٍ بِاعْتِبَارٍ وَدُخُولَ الْفَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْلُولِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ

ص: 197

قَالَ إنْ كَفَانِي فَاقْطَعْهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اقْطَعْهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ نَحْوَ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَنَظِيرُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَكَذَا انْزِلْ فَأَنْتَ آمِنٌ) اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ الْعِلَّةِ يَكُونُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلْعِلَّةِ فَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مَعْلُولًا فَلِهَذَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْلُولٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

ذَا مُلْكٍ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَهْ

فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَهْ

وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا يَعْتِقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْنَاهُ لِأَنَّك حُرٌّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَأَنْتَ حُرٌّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ لَا يَقَعُ إلَّا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِأَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ بِتَقْدِيرِ إنْ وَكَلِمَةُ إنْ تَجْعَلُ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الثُّبُوتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا تَجْعَلُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَلْفُوظَةً أَمَّا إذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا كَمَا تَقُولُ إنْ تَأْتِنِي أَكْرَمْتُك وَلَا تَقُولُ ائْتِنِي أَكْرَمْتُكَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ ائْتِنِي أُكْرِمْكَ فَكَذَا فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَقُولُ إنْ تَأْتِنِي فَأَنْتَ مُكْرَمٌ وَلَا تَقُولُ ائْتِنِي فَأَنْتَ مُكْرَمٌ فَكَمَا لَا تَجْعَلُ " إنْ " الْمُقَدَّرَةُ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ

ــ

[التلويح]

الْعِلِّيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُولَ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ السَّابِقُ عَلَى الْفَاءِ كَالْإِبْشَارِ مَثَلًا عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ كَالْإِخْبَارِ بِإِتْيَانِ الْغَوْثِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْهَا فَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ مَعْلُولًا بِالنَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنْ لَيْسَ الْإِبْشَارُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِإِتْيَانِ الْغَوْثِ، وَلَا الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّدِ لِكَوْنِ خَيْرِ الزَّادِ التَّقْوَى، وَلَا الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ اُعْبُدْ رَبَّك فَالْعِبَادَةُ حَقٌّ لَهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ لِذَهَابِ دَوْلَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ إنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ لَا لِلْعِلَّةِ نَفْسِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ مَعْلُولًا؟ فَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ مِنْ أَنَّهَا إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَدُومُ فَتَتَرَاخَى عَنْ ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْغَوْثَ بَاقٍ بَعْدَ الْإِبْشَارِ.

(قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ) بِخِلَافِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مُقَارِنًا لِمَضْمُونِ الْعَامِلِ وَهُوَ تَأْدِيَةُ الْأَلْفِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْحَالِ قَيْدًا لِلْعَامِلِ أَيْ يَكُونُ حُصُولُ مَضْمُونِ الْعَامِلِ مُقَارِنًا لِحُصُولِ مَضْمُونِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِهِ سَابِقًا عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الْعَامِلِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِنَا ائْتِنِي وَأَنْتَ رَاكِبٌ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ رَاكِبًا حَالَةَ الْإِتْيَانِ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَقَدُّمُ مَضْمُونِ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ لِكَوْنِهَا قَيْدًا لَهُ وَشَرْطًا، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْحُرِّيَّةُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ أَيْ كُنْ حُرًّا وَأَنْتَ مُؤَدٍّ إلَيَّ أَلْفًا أَوْ هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا مُقَدِّرًا

ص: 198

فَكَذَلِكَ لَا تَجْعَلُ الِاسْمِيَّةَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ مَدْلُولَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بَعِيدٌ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَدْلُولَ الْمَاضِي قَرِيبٌ إلَيْهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا فِعْلًا وَدَلَالَتِهِمَا عَلَى الزَّمَانِ فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلْ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ تُجْعَلْ الِاسْمِيَّةُ بِمَعْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى مَا

(ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَهُوَ) أَيْ التَّرْتِيبُ مَعَ التَّرَاخِي (رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَإِلَى الْحُكْمِ عِنْدَهُمَا فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقْنَ جَمِيعًا وَيَنْزِلْنَ مُرَتَّبًا فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةً وَكَذَا إنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ وَعِنْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَأْتِي هُنَاكَ قَوْلُهُ وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَحْثَ السَّابِقَ فِي تَقْدِيمِ الْجَزَاءِ (يَقَعُ الْأَوَّلُ) أَيْ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّكَلُّمِ (وَيَلْغُو الْبَاقِي) لِعَدَمِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا (وَإِنْ قَدَّمَ

ــ

[التلويح]

الْحُرِّيَّةَ فِي حَالَةِ الْأَدَاءِ أَوْ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا تَصِرْ حُرًّا أَوْ الْحَالُ وَصْفٌ، وَالْوَصْفُ لَا يَتَقَدَّمُ الْمَوْصُوفَ فَالْحُرِّيَّةُ تَتَأَخَّرُ عَنْ الْأَدَاءِ

(قَوْلُهُ يَقَعُ الْأَوَّلُ) أَيْ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُهُ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ الِاتِّصَالُ لِيَكُونَ كَلَامًا وَاحِدًا فَيَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّمِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْآخَرِ.

(قَوْلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ، وَأَنْتَ طَالِقٌ) فَإِنْ قُلْت لَمَّا جَعَلَ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ فَلَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ الْوَاوِ، وَلَمَّا جَعَلَ هَذَا فِي حُكْمِ الْمُنْقَطِعِ عَمَّا قَبْلَهُ فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ أَعْنِي الْمُبْتَدَأَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ طَالِقٌ مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ وَلَا مُبْتَدَأٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ قُلْت ثُمَّ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالتَّرَاخِي فَإِذَا قَامَ السُّكُوتُ مَقَامَ التَّرَاخِي بَقِيَ الْجَمْعُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَاوِ، ثُمَّ الِاتِّصَالُ صُورَةً كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ وَإِثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَبْدَأِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاتِّصَالِ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ.

(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ يَخُصُّ الْإِنْشَاءَ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّهَا لِمُطْلَقِ التَّرَاخِي فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ فِي اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَأَيْضًا دَخَلَتْ كَلِمَةُ التَّرَاخِي عَلَى اللَّفْظِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيهِ أَيْضًا يَعُمُّ الْخَبَرَ وَالْإِنْشَاءَ. (قَوْلُهُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَرَاخِيًا تَقْدِيرًا) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِمَا أَنَّ التَّكَلُّمَ مُتَّصِلٌ حَقِيقَةً فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُنْفَصِلًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْعَطْفِ مَعَ الِانْفِصَالِ؟

(قَوْلُهُ بَلْ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ) أَيْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَارَ نَصًّا فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ فَعَلَى هَذَا

ص: 199

الشَّرْطَ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَنَزَلَ الثَّانِي) أَيْ وَقَعَ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ وَأَنْتِ طَالِقٌ (وَلَغَا الثَّالِثُ) لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَفَائِدَةُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ مَلَكَهَا ثَانِيًا وَوَجَدَ الشَّرْطَ يَقَعُ الطَّلَاقُ (وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا) أَيْ إنْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِلْعُذْرِ السَّابِقِ (نَزَلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي) أَيْ يَقَعَانِ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمَا بِالشَّرْطِ لَهَا كَأَنَّهُ سَكَنَ عَنْهُمَا ثُمَّ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَلَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا تَكُونُ مَحَلًّا فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ (وَتَعَلَّقَ الثَّالِثُ) لِقُرْبِهِ بِالشَّرْطِ (وَإِنْ قَدَّمَ) أَيْ الشَّرْطَ (تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَنَزَلَ الْبَاقِي) وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّرَاخِيَ رَاجِعًا إلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ فِي الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهِ فِي التَّكَلُّمِ مُمْتَنِعٌ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَاخَى عَنْ التَّكَلُّمِ فِيهَا فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا كَانَ التَّكَلُّمُ مُتَرَاخِيًا تَقْدِيرًا كَمَا فِي التَّعْلِيقَاتِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَالِ تَطْلِيقًا أَيْ تَكَلُّمًا بِالطَّلَاقِ بَلْ يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ

(بَلْ لِلْإِعْرَاضِ) عَمَّا قَبْلَهُ وَإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَارُكِ نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو فَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفَانِ يَجِبُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ تُطْلَقُ ثَلَاثًا قُلْنَا الْإِخْبَارُ يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ وَذَا فِي الْعُرْفِ نَفْيُ انْفِرَادِهِ ذَا إشَارَةٌ إلَى التَّدَارُكِ أَيْ التَّدَارُكُ فِي الْإِعْدَادِ بِكَلِمَةٍ بَلْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِانْفِرَادِ عُرْفًا (نَحْوَ سِنِّي سِتُّونَ بَلْ سَبْعُونَ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ) أَيْ الْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّدَارُكِ تَدَارُكُ الْكَذِبِ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ

ــ

[التلويح]

لَا يَكُونُ مَعْنَى التَّدَارُكِ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ وَغَلَطٌ بَلْ إنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِبْطَالُهُ، وَإِثْبَاتُ الثَّانِي تَدَارُكٌ لِمَا وَقَعَ أَوَّلًا مِنْ الْغَلَطِ، وَبِالْجُمْلَةِ وُقُوعُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلْأَخْذِ فِي كَلَامٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ رُجُوعِ إبْطَالٍ.

(قَوْلُهُ وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ) أَيْ وَلِكَوْنِهَا لِلْإِعْرَاضِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْأَوَّلِ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضًى، بَلْ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِعْرَاضُ بَلْ لِتَغْيِيرِ صَدْرِ الْكَلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّلَاثَةُ وَتَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، فَلُزُومُ الثَّلَاثَةِ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْإِعْرَاضِ لَا لِلتَّغْيِيرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَيَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ إلَّا أَنَّ التَّدَارُكَ فِي الْأَعْدَادِ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِانْفِرَادِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا لَا نَفْيُ أَصْلِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ تَدَارَكَ ذَلِكَ الِانْفِرَادَ وَأَبْطَلَهُ وَقَالَ بَلْ مَعَ ذَلِكَ الْأَلْفِ أَلْفٌ آخَرُ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ كَمَا يُقَالُ سِنِّي سِتُّونَ بَلْ سَبْعُونَ، يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ الْعَشْرِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ

ص: 200

(فَقُلْنَا) تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ أَيْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبَ قُلْنَا (تَقَعُ الْوَاحِدَةُ إذَا قَالَ ذَلِكَ) أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ (لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالْإِبْطَالُ لِكَوْنِهِ إنْشَاءً فَإِذَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ لِيَقَعَ بِقَوْلِهِ بَلْ ثِنْتَيْنِ (بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ (فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ الْأَوَّلِ) أَيْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْوَاحِدَةِ بِالشَّرْطِ (وَإِفْرَادَ الثَّانِي بِالشَّرْطِ مَقَامَ الْأَوَّلِ) أَيْ قَصَدَ تَعْلِيقَ الْكَلَامِ الثَّانِي بِالشَّرْطِ حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا غَيْرَ مُنْضَمٍّ إلَى الْأَوَّلِ (وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلَ) أَيْ الْإِبْطَالَ الْمَذْكُورَ (وَيَمْلِكُ الثَّانِيَ) أَيْ الْإِفْرَادَ الْمَذْكُورَ (فَتَعَلَّقَ بِشَرْطٍ آخَرَ) أَيْ تَعَلَّقَ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ ثِنْتَيْنِ بِشَرْطٍ آخَرَ فَاجْتَمَعَ تَعْلِيقَانِ أَحَدُهُمَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَالثَّانِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الثَّلَاثُ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارِ بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهُ الْعَطْفُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ كَمَا قُلْنَا) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَإِنَّ

ــ

[التلويح]

جِنْسُ الْمَالِ مِثْلُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفُ ثَوْبٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الْجَمِيعُ.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَاوِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْعَطْفُ عَلَى الْجَزَاءِ بِالْوَاوِ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مِثْلِهِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ الْوُقُوعُ عِنْدَ الشَّرْطِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَلَا يَبْقَى الْمَحَلُّ بِوَاسِطَةِ وُقُوعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِكَلِمَةٍ بَلْ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ مُمَاثِلٍ لِلْمَذْكُورِ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِتَكْرِيرِ الشَّرْطِ مِثْلَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَيْنِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالدُّخُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيرِ الشَّرْطِ وَامْتِنَاعِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ كَانَ مِنْ قَضِيَّتِهِ اتِّصَالُهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ لَكِنْ بِشَرْطِ إبْطَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إبْطَالُ الْأَوَّلِ وَفِي وُسْعِهِ إفْرَادُ الثَّانِي بِالشَّرْطِ لِتَصِلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَصِيرُ كَالْحَلِفِ بِيَمِينٍ لَكِنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّصَالَهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ مَوْقُوفٌ عَلَى إبْطَالِ الْأَوَّلِ، وَتَمَسَّك بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَقْلٍ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَيْفَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ثِنْتَيْنِ عَطْفٌ عَلَى وَاحِدَةٍ عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عَامِلٍ لَهُ فَضْلًا عَنْ تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الثَّانِي مُعَلَّقًا بِمَا قَصَدَ إبْطَالَهُ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا قَصَدَ إبْطَالَ

ص: 201

الْوَاوَ لِلْعَطْفِ مَعَ تَقْرِيرِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ الْوُقُوعُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ بِوُقُوعِ الْأَوَّلِ لَا يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ كَمَا قُلْنَا فِي حَرْفِ الْوَاوِ

(لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَ فِي الْمُفْرَدِ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ اخْتِلَافُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ) اعْلَمْ أَنْ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ فَإِنْ دَخَلَ فِي الْمُفْرَدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّفْيِ نَحْوَ مَا رَأَيْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا فَإِنَّهُ يَتَدَارَكُ عَدَمَ رُؤْيَةِ زَيْدٍ بِرُؤْيَةِ عَمْرٍو، وَإِنْ دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَجِبُ كَوْنُهُ بَعْدَ النَّفْيِ بَلْ يَجِبُ اخْتِلَافُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَ لَكِنْ مُثْبَتَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا مَنْفِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْفِيَّةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي بَعْدَهَا مُثْبَتَةً وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ فِي أَنَّ بَلْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ (فَإِنْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِعَبْدٍ فَقَالَ زَيْدٌ مَا كَانَ لِي قَطُّ لَكِنْ لِعَمْرٍو فَإِنْ وَصَلَ فَلِعَمْرٍو وَإِنْ فَصَلَ فَلِلْمُقِرِّ لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبًا لِإِقْرَارِهِ فَيَكُونُ) أَيْ النَّفْيُ (رَدًّا إلَى الْمُقِرِّ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ تَكْذِيبًا إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَأَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ فَقَالَ زَيْدٌ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ لِي لَكِنَّهُ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَمْرٍو فَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِذَلِكَ النَّفْيِ فَيَتَوَقَّفُ بَيَانٌ

ــ

[التلويح]

الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَالْوَاحِدَةِ لَا نَفْسَ الشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقِ

(قَوْلُهُ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ) أَيْ التَّدَارُكِ، وَفَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِرَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِثْلَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو إذَا تَوَهَّمَ الْمُخَاطَبُ عَدَمَ مَجِيءِ عَمْرٍو أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مُخَالَطَةٍ وَمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ زَيْدًا جَاءَك دُونَ عَمْرٍو فَبِالْجُمْلَةِ وَضَعَهَا لِلِاسْتِدْرَاكِ وَمُغَايِرَةِ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا فَإِذَا عُطِفَ بِهَا مُفْرَدٌ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلهَا مَنْفِيًّا لِيَحْصُلَ الْمُغَايَرَةُ، وَإِذَا عُطِفَ بِهَا جُمْلَةٌ فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيَكُونُ مَا قَبْلهَا مَنْفِيًّا، وَتَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهَا مُثْبَتًا فَيَكْفِي اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ أَمْ الثَّانِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ لَفْظًا نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَجِئْ أَوْ لَا نَحْوُ سَافَرَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو حَاضِرٌ.

(قَوْلُهُ وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ) ذَكَرَ النُّحَاةُ أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ نَظِيرَةُ بَلْ أَيْ فِي الْوُقُوعِ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ كَمَا أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَقِيضَةُ لَا حَيْثُ يَخْتَصُّ لَا بِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَلَكِنْ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ فَكَأَنَّهُ مَظِنَّةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ مِثْلَ بَلْ فِي مَعْنَى الْإِعْرَاضِ فَنَفَى ذَلِكَ التَّوَهُّمَ فَفِي بَلْ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَالْحُكْمُ هُوَ الثَّانِي فَقَطْ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْعَطْفِ بِبَلْ إلَّا إخْبَارٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ فِي لَكِنْ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ الْحُكْمَانِ مُتَحَقِّقَانِ، وَفِيهِ

ص: 202

عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِ لَكِنْ لِعَمْرٍو (بِشَرْطِ الْوَصْلِ) لِأَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ أَنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَتْنِ وَقَدْ عُرِفَ فِي بَيَانِ التَّغْيِيرِ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْآخِرِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَعًا لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الصَّدْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ الْبَعْضُ (وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمُقْتَضَى لَهُ بِدَارٍ بِالْبَيِّنَةِ إذَا قَالَ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِزَيْدٍ وَقَالَ زَيْدٌ بَاعَ مِنِّي أَوْ وَهَبَ لِي بَعْدَ الْقَضَاءِ أَنَّ الدَّارَ لِزَيْدٍ وَعَلَى الْمُقْتَضَى لَهُ الْقِيمَةُ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِدْرَاكِ مَعًا فَيَثْبُتُ مَعًا مُوجَبُهُمَا وَهُوَ النَّفْيُ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتُ مِلْكٍ لِزَيْدٍ، ثُمَّ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ وَإِثْبَاتُ مِلْكِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَازِمٌ لِذَلِكَ النَّفْيِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِعَمْرٍو بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجَبَيْ الْكَلَامَيْنِ) وَهُمَا النَّفْيُ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتُ مِلْكٍ لِزَيْدٍ (فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ (لَا عَلَى زَيْدٍ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ ثُمَّ إنْ اتَّسَقَ الْكَلَامُ تَعَلَّقَ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ) يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ الْبَحْثِ وَهُوَ

ــ

[التلويح]

إخْبَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَفْيٌ، وَالْآخَرَ إثْبَاتٌ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ مُوجَبَ بَلْ وَضْعًا نَفْيُ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُ الثَّانِي حَتَّى أَنَّ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو انْتَفَى مَجِيءُ زَيْدٍ بِكَلِمَةِ بَلْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ إبْطَالُهُ وَالْحُكْمُ بِنَقِيضِهِ لَا جَعْلُهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ.

(قَوْلُهُ لَكِنْ لِعَمْرٍو) فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو فَغَيَّرَهُ إلَى الْعَاطِفَةِ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَغَيْرِهَا، وَالنَّفْيُ أَعْنِي قَوْلَهُ مَا كَانَ لِي قَطُّ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقِرِّ وَرَدُّ إقْرَارِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلْإِقْرَارِ، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ رَدًّا بَلْ تَحْوِيلًا حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ قَابِلًا لِلْعَبْدِ مُقِرًّا بِهِ لِعَمْرٍو فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ وَالْمُصَنِّفُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِعَدَمِ مِلْكِيَّتِهِ لَهُ فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّحْوِيلُ، وَلَا قَرِينَةَ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَجَازِ بَلْ الِاحْتِمَالُ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ زَيْدٍ زَمَانًا وَاشْتُهِرَ أَنَّهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ قَطُّ بَلْ لِعَمْرٍو فَيَصِيرُ قَوْلُهُ لَكِنْ لِعَمْرٍو بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا حَتَّى يَثْبُتَ النَّفْيُ عَنْ زَيْدٍ وَالْإِثْبَاتُ لِعَمْرٍو مَعًا لَا مُتَرَاخِيًا لِأَنَّ النَّفْيَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ رَدًّا لِلْإِقْرَارِ، وَلَا يُثْبِتُ مِلْكِيَّةَ عَمْرٍو لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا) أَيْ إذَا ادَّعَى بَكْرٌ دَارًا فِي يَدِ عَمْرٍو أَنَّهَا لَهُ، وَجَحَدَ عَمْرٌو فَأَقَامَ بَكْرٌ بَيِّنَةً فَقَضَى الْقَاضِي بِالدَّارِ لَهُ ثُمَّ قَالَ بَكْرٌ مَا كَانَتْ الدَّارُ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِزَيْدٍ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ فَصَدَّقَهُ زَيْدٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَالَ زَيْدٌ بَاعَ بَكْرٌ الدَّارَ مِنِّي أَوْ وَهَبَهَا لِي بَعْدَ الْقَضَاءِ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالُوا الدَّارُ لِزَيْدٍ، وَعَلَى بَكْرٍ الْمَقْضِيِّ لَهُ قِيمَةُ الدَّارِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الِاسْتِدْرَاكَ بِالنَّفْيِ

ص: 203

أَنَّ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ فَيُنْظَرُ أَنَّ الْكَلَامَ مُرْتَبِطٌ أَمْ لَا أَيْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ لَكِنْ تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا أَوَّلًا فَإِنْ صَلُحَ يُحْمَلُ عَلَى التَّدَارُكِ (وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتَّسِقْ أَيْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا يَكُونُ مَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا (نَحْوُ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ قَرْضٌ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا لَكِنْ غَصْبٌ الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَصَحَّ الْوَصْلُ عَلَى أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ) فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ لَكِنْ غَصْبٌ وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا مُرْتَبِطًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى نَفْيِ السَّبَبِ فَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ قَرْضًا تَدَارَكَ بِكَوْنِهِ غَصْبًا فَصَارَ الْكَلَامُ مُرْتَبِطًا (وَلَا يَكُونُ رَدًّا لِإِقْرَارِهِ) بَلْ يَكُونُ نَفْيَ السَّبَبِ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا بِمِائَةٍ فَقَالَ لَا أُجِيزَ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَجَعَلَ لَكِنْ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا

ــ

[التلويح]

وَهُوَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ لَهُ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِمَا مَعًا فَيَثْبُتُ مُوجِبُهُمَا مَعًا أَعْنِي نَفْيَ الْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتَ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ إلَى إثْبَاتِهِمَا مَعًا لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِالنَّفْيِ أَوَّلًا يَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ وَيَصِيرُ الْمِلْكُ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَالِاسْتِدْرَاكُ يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ وَإِخْبَارًا بِأَنَّ مِلْكَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْكَلَامَيْنِ تَثْبُتُ بِتَوَقُّفِ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمُغَيِّرِ حَتَّى كَأَنَّهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُفْصَلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ النَّفْيَ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ عُرْفًا فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمُؤَكَّدِ لَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ وَسَكَتَ أَوْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُؤَكَّدِ أَوْ أَنَّ الْمُقِرَّ قَصَدَ تَصْحِيحَ إقْرَارِهِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِمَا إذَا كَذَّبَهُ زَيْدٌ فِي النَّفْيِ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ أَيْضًا تُرَدُّ الدَّارُ إلَى عَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ عَلَى بُطْلَانِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ) إشَارَةٌ إلَى الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ قِيمَةِ الدَّارِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ عَلَى بَكْرٍ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ نَفْيُ الْمِلْكِ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فَيَشْمَلُ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ تَكْذِيبُ شُهُودِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِإِثْبَاتِ الدَّارِ مِلْكًا لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَكِنْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَازِمٌ لِنَفْيِ الْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُقَارِنٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَازِمُ الشَّيْءِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَعَمَّا مَعَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ مُسْتَلْزِمًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إبْطَالُ الْإِقْرَارِ لِزَيْدٍ، وَهُوَ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُسْمَعُ، وَالثَّانِي إبْطَالُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُسْمَعُ، وَيَقُومُ حُجَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ الدَّارَ مِلْكًا لِعَمْرٍو وَقَدْ أَتْلَفَهَا بِالْإِثْبَاتِ لِزَيْدٍ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا.

(قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ اتَّسَقَ) أَيْ انْتَظَمَ وَارْتَبَطَ

ص: 204

النِّكَاحِ بِمِائَتَيْنِ) فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامُ غَيْرُ مُتَّسِقٍ لِأَنَّ اتِّسَاقَهُ بِأَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بِمِائَةٍ لَكِنْ يَصِحُّ بِمِائَتَيْنِ وَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ انْفَسَخَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ النِّكَاحِ بِمِائَتَيْنِ فَيَكُونُ نَفْيُ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَإِثْبَاتُهُ بِعَيْنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّسِقٍ فَحَمَلْنَا قَوْلَهُ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فَيَكُونُ إجَازَةً لِنِكَاحٍ آخَرَ مَهْرُهُ مِائَتَانِ

(أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا لِلشَّكِّ فَإِنَّ الْكَلَامَ لِلْإِفْهَامِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الشَّكُّ مِنْ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لِلتَّخْيِيرِ كَآيَةِ الْكَفَّارَةِ فَقَوْلُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا إنْشَاءٌ شَرْعًا فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ بِأَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَكُونُ هَذَا) أَيْ إيقَاعُ الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ (إنْشَاءً حَتَّى يَشْتَرِطَ صَلَاحِيَّةَ الْمَحَلِّ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إيقَاعِ الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ (وَإِخْبَارَ لُغَةٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إنْشَاءً شَرْعًا (فَيَكُونُ بَيَانُهُ إظْهَارًا لِلْوَاقِعِ فَيُجْبَرُ

ــ

[التلويح]

وَالْمُرَادُ هَاهُنَا أَنْ يَصْلُحَ مَا بَعْدَ لَكِنْ تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا مِثْلُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو قَاعِدٌ، وَمَا أَكْرَمْت زَيْدًا لَكِنْ أَهَنْته بِخِلَافِ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الْأَمِيرُ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو قَاعِدٌ وَمَا أَكْرَمْت زَيْدًا لَكِنْ أَهَنْتُهُ بِخِلَافِ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الْأَمِيرُ وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَيْسَ بِكَاتِبٍ، وَبِالْجُمْلَةِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ لَكِنْ مِمَّا يَكُونُ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ عَكْسَهُ أَوْ يَكُونُ فِيهِ تَدَارُكٌ لِمَا فَاتَ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالِاتِّسَاقُ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مَا أَمْكَنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا لَكِنْ غَصْبٌ حَيْثُ حُمِلَ عَلَى وُقُوعِ الْخَطَأِ فِي السَّبَبِ فَنَفَى الْقَرْضَ وَأَثْبَتَ الْغَصْبَ فَاتَّسَقَ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ نَفَى إجَازَةَ النِّكَاحِ عَنْ أَصْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهِ بِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّسِقًا لَوْ قَالَ لَا أُجِيزُهُ بِمِائَةٍ، وَلَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ لِيَكُونَ التَّدَارُكُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ لَا فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَلَا يَبْطُلُ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ النَّفْيَ فِي الْكَلَامِ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْحُكْمَ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ لَا رَفْعَهُ عَنْ أَصْلِهِ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ إثْبَاتَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ الْمُنْعَقِدُ الْمَوْقُوفُ هُوَ ذَلِكَ النِّكَاحُ الْمُقَيَّدُ بِمِائَةٍ فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِمِائَتَيْنِ قُلْنَا هُوَ نِكَاحٌ مُقَيَّدٌ، وَإِبْطَالُ الْوَصْفِ لَيْسَ إبْطَالًا لِلْأَصْلِ

(قَوْلُهُ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ) فَإِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ فَهِيَ تُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا جُمْلَتَيْنِ تُفِيدُ حُصُولَ مَضْمُونِ إحْدَاهُمَا، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَالْأُصُولِ إلَى أَنَّهَا فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ شَاكٌّ لَا يَعْلَمُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِفْهَامِ فَلَا يُوضَعُ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّكُّ مِنْ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِمَجِيءِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِشَكِّ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَانِيَ أَحَدُهُمَا، وَلَا يَعْلَمُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَشْكِيكِ السَّامِعِ لِغَرَضٍ لَهُ

ص: 205

عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَيَانِ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنْشَاءٌ فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً حَتَّى لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ لِاحْتِمَالِ الْإِخْبَارِ هُنَا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ شَرْعًا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ أَيْ يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ إيقَاعِ هَذَا الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَكُونُ هَذَا الْإِيقَاعُ إنْشَاءً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إخْبَارٌ لُغَةً يُوجِبُ الشَّكَّ وَيَكُونُ إخْبَارًا بِالْمَجْهُولِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ مَا فِي الْوَاقِعِ وَهَذَا الْإِظْهَارُ لَا يَكُونُ إنْشَاءً بَلْ إظْهَارًا لِمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَلَمَّا كَانَ لِلْبَيَانِ وَهُوَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا شَبَهَانِ شَبَهُ الْإِنْشَاءِ وَشَبَهُ الْإِخْبَارِ عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ شَرَطْنَا صَلَاحِيَّةَ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْبَيَانِ حَتَّى إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ أَرَدْت الْمَيِّتَ لَا يُصَدَّقُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إخْبَارٌ قُلْنَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنَّهُ لَا جَبْرَ فِي الْإِنْشَاءَاتِ بِخِلَافِ الْإِخْبَارَاتِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَجْهُولِ حَيْثُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ (وَهَذَا مَا قِيلَ إنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ إخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ وَفِي قَوْلِهِ وَكَّلْت هَذَا أَوْ هَذَا أَيُّهُمَا تَصَرَّفَ صَحَّ فَلِهَذَا) أَيْ لِمَا قُلْنَا إنَّ أَوْ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِلتَّخْيِيرِ (أَوْجَبَ الْبَعْضُ التَّخْيِيرَ) فِي كُلِّ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى

ــ

[التلويح]

فِي ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ إبْهَامِ وَإِظْهَارِ نَصَفِهِ مِثْلَ {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] بِالْجُمْلَةِ الْإِخْبَارُ بِالْمُبْهَمِ لَا يَخْلُو عَنْ غَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ إلَى الْفَهْمِ هُوَ إلَيْك فَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إلَّا تَبَادُرَ الذِّهْنِ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِفْهَامِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْ لَمْ تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ، وَإِلَّا فَالشَّكُّ أَيْضًا مَعْنًى يُقْصَدُ إفْهَامُهُ بِأَنْ يُخْبِرَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ) فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ أَوْ التَّشْكِيكَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً فَأَوْ فِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّسْوِيَةِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَالتَّخْيِيرُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ فَلِيُكَفِّرْ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي التَّخْيِيرِ الْجَمْعُ وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْإِبَاحَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْإِبَاحَةِ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ، وَفِي التَّخْيِيرِ يَجِبُ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ، وَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِعَارِضِ الْأَمْرِ كَمَا إذَا قَالَ بِعْ عَبِيدِي هَذَا أَوْ ذَاكَ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةَ، وَوَجَبَ بِالْأَمْرِ وَاحِدٌ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا يُسَمَّى التَّخْيِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ.

(قَوْلُهُ إنْشَاءً شَرْعًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَكَانَ كَذِبًا فَيَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةً قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ إنْشَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا

ص: 206

{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَقُلْنَا ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ مُقَابِلَةً لِأَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عَادَةً مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَتْلٍ وَأَخْذِ مَالٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ تَخْوِيفٍ (فَالْقَتْلُ جَزَاؤُهُ الْقَتْلُ وَالْقَتْلُ وَالْأَخْذُ جَزَاؤُهُ الصَّلْبُ وَأَخْذُ الْمَالِ جَزَاؤُهُ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالتَّخْوِيفُ جَزَاؤُهُ النَّفْيُ أَيْ الْحَبْسُ الدَّائِمُ) عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَإِنْ أَخَذَ وَقَتَلَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنْ شَاءَ قَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ أَوْ صَلَبَ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ أَوْ صَلَبَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ وَالتَّعَدُّدَ وَلِهَذَا قَالَا فِي هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا مُشِيرًا إلَى عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِأَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِعِتْقٍ هُنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ لِلْعَيْنِ مَجَازًا إذْ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ وَيُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ لَكِنْ حَمَلَهُ عَلَى قَوْلِنَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ وَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ حُرَّانِ

ــ

[التلويح]

إخْبَارَ الْحَقِيقَةِ، وَلُغَةً.

(قَوْلُهُ وَيَكُونُ هَذَا إنْشَاءً) لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ إنْشَاءٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي مُبْهَمٍ لَا فِي مُعَيَّنٍ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ، وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُعَيَّنِ بِالْبَيَانِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ.

(قَوْلُهُ أَيُّهُمَا تَصَرَّفَ صَحَّ) حَتَّى لَوْ بَاعَهُ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِ الْمُوَكِّلِ.

(قَوْلُهُ وَقُلْنَا ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ مُقَابِلَةً لِأَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ) ، وَالْجَزَاءُ مِمَّا يَزْدَادُ بِازْدِيَادِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَيَبْعُدُ مُقَابَلَةُ أَغْلَظِ الْجِنَايَةِ بِأَخَفِّ الْجَزَاءِ، وَبِالْعَكْسِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّخْيِيرِ الظَّاهِرِ مِنْ الْآيَةِ فَوُزِّعَتْ الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ فِي مَعْرِضِ الْجَزَاءِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْمَعْلُومَةِ عَادَةً حَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُنَاسَبَةُ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أَبَا بُرْدَةَ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ، وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ فَجَاءَهُ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» ، وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْهُ «، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جَمَاعَةٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَوَقَعَ مِنْهُمْ أَحَدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَجْرَى عَلَى مَجْمُوعِهِمْ الْجَزَاءَ الْمُقَابِلَ لِذَلِكَ النَّوْعِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فَإِنْ قُلْت قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَكَيْفَ

ص: 207

وَلَفْظُ حُرٍّ مَذْكُورٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا لَفْظُ حُرَّانِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي الْمَعْطُوفِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ هَذَا مُغَيِّرٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ مُغَيِّرٍ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلتَّشْرِيكِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَوَّلِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمُغَيِّرِ لَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى الثَّالِثِ فَصَارَ مَعْنَاهُ أَحَدُهُمَا حُرٌّ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفَرَّدَ بِهِمَا خَاطِرِي (وَإِذَا اسْتَعْمَلَ أَوْ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ نَحْوُ {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تُطِعْ أَحَدًا مِنْهُمَا فَيَكُونُ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَإِنْ قَالَ لَا أَفْعَلُ هَذَا أَوْ هَذَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا وَإِذَا قَالَ هَذَا وَهَذَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِمَا لَا بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ) أَيْ لَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا الْمَجْمُوعَ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ بَلْ بِفِعْلِ الْمَجْمُوعِ (إلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا) كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ الزِّنَا وَأَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا فِي النَّفْيِ أَيْ لَا يَفْعَلُ أَحَدًا مِنْهُمَا لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ (بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ) أَيْ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ

ــ

[التلويح]

حُدُّوا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى قَوْمٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ؟ قُلْت مَعْنَاهُ يُرِيدُونَ تَعَلُّمَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، وَلَوْ سَلِمَ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِيُسْلِمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فَيُحَدُّ قَاطِعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ» حَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى اخْتِصَاصِ الصَّلْبِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا لَا عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالصَّلْبِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُهُ بَلْ أَثْبَتَ فِيهَا لِلْإِمَامِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ الْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ ثُمَّ الصَّلْبُ، وَالْقَتْلُ فَقَطْ وَالصَّلْبُ فَقَطْ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَطْعُ الْمَارَّةِ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ، وَالتَّعَدُّدُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْقَتْلِ وَسَبَبُ الْقَطْعِ فَيَلْزَمُ حُكْمُ السَّبَبَيْنِ، وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُرَنِيِّينَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَأَمَرَ بِتَرْكِهِمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا» ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ «مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَصُلِبَ» فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ الصَّلْبُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

(قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا مُشِيرًا إلَى عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ أَنَّ كَلَامَهُ بَاطِلٌ أَيْ لَغْوٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ وَضْعَ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَالْأَعَمُّ يَجِبُ صِدْقُهُ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْوَاحِدُ الْأَعَمُّ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَهُ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي هُوَ الْعَبْدُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ لَا عَلَى الْمَفْهُومِ الْعَامِّ إذْ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التلويح]

لَا بِالْمَفْهُومَاتِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْعَبْدَ خَاصَّةً لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَهُمَا، وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنِّيَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ أَعْنِي الْوَاحِدَ الْأَعَمَّ فَالْعُدُولُ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ وَإِبْطَالِهِ، وَالْمُعَيَّنُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْكَلَامِ كَمَا إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي عَبْدَيْنِ لَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّعْيِينِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فِي عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عِتْقُ عَبْدِهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْغَيْرِ أَيْضًا مَحَلٌّ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا) عَطْفًا لِلثَّانِي بِأَوْ، وَلِلثَّالِثِ بِالْوَاوِ يُعْتَقُ الثَّالِثُ فِي الْحَالِ، وَيُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَيُعَيِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ وَتَشْرِيكِ الثَّالِثِ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِهِمَا حُرٌّ، وَهَذَا فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ بِالتَّعْيِينِ، وَقِيلَ إنَّهُ لَا يُعْتَقُ أَحَدُهُمْ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ لِأَنَّ الثَّالِثَ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ، وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَهَذَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالْأَخِيرَيْنِ جَمِيعًا لَا بِالثَّانِي وَحْدَهُ أَوْ الثَّالِثِ وَحْدَهُ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ هَذَا مُحْتَمَلٌ إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَا أَرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ تَفَرَّدْت بِهِمَا، وَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ حُرٌّ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلِاثْنَيْنِ إذْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ حُرٌّ، وَلِلِاثْنَيْنِ حُرَّانِ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مِثْلِهِ لَا لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ لَفْظًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْخَبَرَ يَصْلُحُ لِلِاثْنَيْنِ يُقَالُ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ لَا أُكَلِّمُ هَذَيْنِ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُهُ، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَهُ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ قَدْ يُغَايِرُ الْمَذْكُورَ لَفْظًا كَمَا فِي قَوْلِك هِنْدٌ جَالِسَةٌ، وَزَيْدٌ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ سَبَبًا لِلْأَوْلَوِيَّةِ وَالرُّجْحَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجْرِي فِي مِثْلِ أَعْتَقْت هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا، وَمُقْتَضَى كَلَامِ السَّرَخْسِيِّ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَعْتَقْت هَذَا أَوْ هَذَيْنِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَعْتَقْت أَحَدَهُمَا، وَهَذَا كَمَا فِي هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ حُرَّانِ بَلْ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مِثْلَ الْمَلْفُوظِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ لَوْ كَانَ ذَكَرَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لَا يُقَالُ يَلْزَمُ كَثْرَةُ

ص: 209

الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ فَإِنْ كَانَ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ أَيْ إنَّمَا مَنَعَهُ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمَجْمُوعِ كَمَا

ــ

[التلويح]

الْحَذْفِ لِأَنَّا نَقُولُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ التَّقْدِيرُ فِيمَا هُوَ الْمُخْتَارُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ تَكْمِيلًا لِلْجُمَلِ النَّاقِصَةِ بِتَقْدِيرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْقَائِمَةَ بِكُلٍّ تُغَايِرُ حُرِّيَّةَ الْآخَرِ كَمَا مَرَّ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَوْ سَلِمَ فَمُعَارَضٌ بِالْقُرْبِ وَكَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا صَرِيحًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ لِمَا قَبْلَهُ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلتَّشْرِيكِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَوَّلِ) قُلْنَا لَا يُنَافِي التَّغْيِيرَ هَاهُنَا بَلْ يُوجِبُهُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّشْرِيكُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الثَّانِيَ وَحْدَهُ، وَبَعْدَ تَشْرِيكِ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي بِعَطْفِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ أَوْ الْأَخِيرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ مُغَيِّرًا تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حُرِّيَّةُ أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَعْمَلَ أَوْ فِي النَّفْيِ) خَبَرًا كَانَ أَوْ إنْشَاءً يَعُمُّ النَّفْيُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْطُوفِ أَوْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَانْتِفَاءُ الْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ لَا تُطِعْ أَحَدًا مِنْهُمَا، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ، وَكَذَا مَا جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَإِنْ قُلْت لَفْظُ أَحَدٍ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهَمْزَتُهُ حِينَئِذٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْوَاوِ، وَجَمْعُهُ آحَادٌ، وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُخَاطَبَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ، وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ أَصْلًا كَذَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فَقَوْلُهُمْ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَأَنَّ مِثْلَ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فِي مَعْنَى اضْرِبْ أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُضَافٌ فَلَا يَكُونُ نَكِرَةً فَلَا يَعُمُّ فِي النَّفْيِ قُلْت هُوَ مَعَ الْإِضَافَةِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ قَالَ ابْنُ يَعِيشَ، وَفِي أَحَدٍ مِنْ الْإِبْهَامِ مَا لَيْسَ فِي وَاحِدٍ تَقُولُ جَاءَنِي أَحَدُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمْ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ هَذَا أَوْ هَذِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ لَا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْفَرْقِ إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ إحْدَى خَاصَّةٌ صِيغَةً وَمَعْنًى، وَلَا يَعُمُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ، وَكَذَا بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بِخِلَافِ كَلِمَةِ أَوْ فَإِنَّهَا قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسِّرَ أَوْ بِأَحَدٍ مُنَكَّرٍ غَيْرِ مُضَافٍ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْإِيجَابِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ) إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوْ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ

ص: 210

إذَا حَلَفَ لَا يَتَنَاوَلُ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ فَهَاهُنَا لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ، فَإِنْ تَنَاوَلَ أَحَدَهُمَا لَا يَحْنَثُ أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَالدَّلِيلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا وَأَيْضًا كَمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَإِنَّهَا أَيْضًا نَائِبَةٌ عَنْ الْعَامِلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ لَا يَفْعَلُ الْمَجْمُوعَ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ لَا يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَفْعَلُ هَذَا فَيَتَعَدَّدُ الْيَمِينُ فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَاحْفَظْ هَذَا الْبَحْثَ فَإِنَّهُ بَحْثٌ بَدِيعٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي

ــ

[التلويح]

الْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَوْ، وَالثَّالِثَ عَلَى الثَّانِي بِالْوَاوِ صَارَ فِي مَعْنَى لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ لَا هَذَيْنِ فَيَحْنَثُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْآخَرَيْنِ لَا بِالثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ وَحْدَهُ فَإِنَّ أَوْ فِي النَّفْيِ لِشُمُولِ الْعَدَمِ، وَالْوَاوُ لِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْعَطْفُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ تَرْجِيحًا لِلْقُرْبِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي قَصْدِ النَّفْيِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْحُكْمِ هُوَ الرَّاجِحُ.

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ) اعْلَمْ أَنَّ أَوْ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي النَّفْيِ فَهُوَ لِنَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَيُفِيدُ شُمُولَ الْعَدَمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لِإِيقَاعِ أَحَدِ النَّفْيَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ عَدَمَ الشُّمُولِ كَمَا ذَكَرَ جَارُ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ إذَا آمَنَتْ عِنْدَ ظُهُورِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ مِنْ قَبْلِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ بِدُونِ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ لِلنَّفْسِ الَّتِي لَمْ تُقَدِّمْ الْإِيمَانَ وَلَا كَسْبَ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْإِيمَانَ كَانَ نَفْيُ كَسْبِ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْعُمُومِ أَيْ النَّفْسِ الَّتِي لَمْ تَجْمَعْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ الْوَاوُ فِي النَّفْيِ فَهُوَ لِعَدَمِ الشُّمُولِ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَنَفْيِ الْمَجْمُوعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَفْيٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا لِشُمُولِ النَّفْيِ وَسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ الزِّنَا، وَأَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ، وَكَمَا إذَا أَتَى بِلَا الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ مِثْلَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو فَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْقَرِينَةُ فِي الْوَاوِ عَلَى شُمُولِ الْعَدَمِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ لِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَأَوْ بِالْعَكْسِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ فَلِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَإِلَّا فَلِشُمُولِ الْعَدَمِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا وَهَذَا فَهُوَ لِنَفْيِ الْمَجْمُوعِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاجْتِمَاعِ فِي الْمَنْعِ، وَمِثْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ

ص: 211

كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ (وَقَدْ تَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ نَحْوَ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ أَحَدُهُمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فَلَهُ أَنْ يُجَالِسَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّخْيِيرِ مَنْعُ الْجَمْعِ وَبِالْإِبَاحَةِ مَنْعُ الْخُلُوِّ (وَيُعْرَفُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ) أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّهُمَا فَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحَتَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ الْآخَرِ كَالْمُغَيَّا يَرْتَفِعُ بِالْغَايَةِ فَإِنْ حَلَفَ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلُ تِلْكَ الدَّارَ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى أَوَّلًا حَنِثَ وَإِنْ دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا بَرَّ

(حَتَّى لِلْغَايَةِ نَحْوُ

ــ

[التلويح]

يُحْصَى.

(قَوْلُهُ وَقَدْ تَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مِثْلَ قَوْلِنَا افْعَلْ هَذَا أَوْ ذَاكَ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي طَلَبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَعَ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيُسَمَّى إبَاحَةً، وَتَارَةً فِي طَلَبِهِ مَعَ امْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيُسَمَّى تَخْيِيرًا، وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يُضَافَانِ إلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُضَافَانِ إلَى كَلِمَةِ أَوْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ أَوْ امْتِنَاعُهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا أَنَّهَا فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسَّرَ التَّخْيِيرَ بِمَنْعِ الْجَمْعِ وَالْإِبَاحَةَ بِمَنْعِ الْخُلُوِّ فَإِنْ قُلْت قَدْ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ، وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ فِي الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي جَالِسِ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إلَّا زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلِّمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَحْنَثْ قُلْت مَا ذَكَرَهُ مُخْتَصٌّ بِصُورَةِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ مَنْعُ الْجَمْعِ أَوْ الْخُلُوِّ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، فَفِي صُورَةِ الْإِبَاحَةِ إذَا لَمْ يُجَالِسْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَمْرِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ جَالَسَهُمَا جَمِيعًا كَانَتْ مُجَالَسَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَجَوَازُ غَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجُزْ كَمَا إذَا قَالَ أُعْتِقُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ ذَاكَ، وَأُطَلِّقُ هَذِهِ الزَّوْجَةَ أَوْ تِلْكَ.

(قَوْلُهُ وَقَدْ يُسْتَعَارُ) أَيْ يُسْتَعَارُ أَوْ لِحَتَّى إذَا وَقَعَ بَعْدَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بَلْ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ يَكُونُ كَالْعَامِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيُقْصَدُ انْقِطَاعُهُ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ أَوْ نَحْوُ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي لَيْسَ الْمُرَادُ ثُبُوتَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بَلْ ثُبُوتُ الْأَوَّلِ مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ وَقْتُ إعْطَاءِ الْحَقِّ كَمَا إذَا قَالَ لَأَلْزَمَنَّكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي حَقِّي فَصَارَ أَوْ مُسْتَعَارًا لِحَتَّى، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ

ص: 212

{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وَحَتَّى رَأْسِهَا وَقَدْ تَجِيءُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ إمَّا أَفْضَلَ أَوْ أَخَسَّ وَتَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ نَحْوَ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدٌ غَضْبَانُ) جَوَابُ

ــ

[التلويح]

الْمَذْكُورَيْنِ، وَتَعْيِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ قَاطِعٌ لِاحْتِمَالِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْغَايَةِ قَاطِعٌ لِلْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَيْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ الْمَعْطُوفِ بِأَوْ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْمُغَيَّا يَرْتَفِعُ بِالْغَايَةِ، وَيَنْقَطِعُ عِنْدَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ النُّحَاةُ إلَى أَنَّ أَوْ هَذِهِ بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ مُمْتَدٌّ إلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الثَّانِي أَوْ إلَّا لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ مُمْتَدٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ الثَّانِي فَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ امْتِدَادُهُ، وَقَدْ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] أَيْ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ فِي عَذَابِهِمْ أَوْ اسْتِصْلَاحِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى تَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أَوْ تَعْذِيبُهُمْ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمَرِهِمْ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَوْ يَهْزِمَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ تِلْكَ بِالنَّصْبِ كَانَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى إذْ لَيْسَ قَبْلَهُ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ يُعْطَفُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ امْتِدَادُ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ الْأُولَى إلَى دُخُولِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَوْ دَخَلَهَا أَوَّلًا حَنِثَ، وَلَوْ دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِانْتِهَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى غَرُبَتْ الشَّمْسُ، وَمَا يُقَالُ إنَّ تَعَذُّرَ الْعَطْفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْفِيٌّ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي عَطْفِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَبِالْعَكْسِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ أَدْخُلُ تِلْكَ بِالرَّفْعِ كَانَ عَطْفًا إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ النَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: عَدَمَ دُخُولِ الْأُولَى، أَوْ دُخُولَ الثَّانِيَةِ فَلَوْ دَخَلَ الْأُولَى، وَلَمْ يَدْخُلْ الثَّانِيَةَ حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَيَلْزَمُ شُمُولُ الْعَدَمِ لِوُقُوعِ أَوْ فِي النَّفْيِ فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ إحْدَى الدَّارَيْنِ أَيَّتِهِمَا كَانَتْ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ فِي قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] عَاطِفَةٌ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ أَيْ عَدَمُ الْجُنَاحِ مُقَيَّدٌ بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ الْمُجَامَعَةِ، وَتَقْدِيرِ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا كَانَ جُنَاحًا أَيْ تَبِعَةً بِإِيجَابِ مَهْرٍ فَيَكُونُ تَفْرِضُوا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَمَسُّوهُنَّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى مَعْنَى إلَّا أَنْ تَفْرِضُوا أَوْ حَتَّى أَنْ تَفْرِضُوا أَيْ إذَا لَمْ تُوجَدْ الْمُجَامَعَةُ فَعَدَمُ الْجُنَاحِ مُمْتَدٌّ إلَى تَقْدِيرِ الْمَهْرِ

(قَوْلُهُ حَتَّى لِلْغَايَةِ) أَيْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ كَمَا فِي أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا أَوْ غَيْرَ جُزْءٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى

ص: 213

الشَّرْطِ هُنَا مَحْذُوفٌ أَيْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ أَوْ فَالْخَبَرُ ذَلِكَ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْخَبَرُ (يُقَدَّرُ مِنْ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ نَحْوَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسُهَا بِالرَّفْعِ أَيْ مَأْكُولٌ إنْ دَخَلَتْ الْأَفْعَالَ فَإِنْ احْتَمَلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ فَلِلْغَايَةِ نَحْوَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] وَإِلَّا فَإِنْ صَلَحَ لَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي يَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ نَحْوَ أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِلَّا فَلِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصِيحَ حَنِثَ إنْ أَقْلَعَ قَبْلَ الصِّيَاحِ) لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ (وَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى الْإِتْيَانِ وَيَصْلُحُ سَبَبًا وَالْغَدَاءُ جَزَاءٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك فَلِلْعَطْفِ

ــ

[التلويح]

أَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ تَكُونُ عَاطِفَةً يَتْبَعُ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ، وَقَدْ تَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً تَقَعُ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ أَوْ اسْمِيَّةٌ مَذْكُورٌ خَبَرُهَا أَوْ مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَفِي الْكُلِّ مَعْنَى الْغَايَةِ، وَفِي الْعَاطِفَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفْضَلَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا فَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي الرِّجَالُ حَتَّى هِنْدٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يَنْقَضِي شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمَعْطُوفِ لَكِنْ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ لَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ نَفْسِهِ إذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمَعْطُوفِ أَوَّلًا كَمَا فِي قَوْلِك مَاتَ كُلُّ أَبٍ لِي حَتَّى آدَم أَوْ فِي الْوَسَطِ كَمَا فِي قَوْلِك مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْعَاطِفَةُ إلَّا فِي صُورَةِ النَّصْبِ مِثْلُ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا بِالنَّصْبِ، وَالْأَصْلُ هِيَ الْجَارَّةُ لِأَنَّ الْعَاطِفَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْغَايَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ تَقْتَضِيهِ حَتَّى مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا غَايَةً لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا عَاطِفَةً بَلْ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ وَالْمُبَايَنَةُ كَمَا فِي جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَيَمْتَنِعُ حَتَّى عَمْرٌو بِالْعَطْفِ كَمَا يَمْتَنِعُ بِالْجَرِّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ يَعِيشَ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ) جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَالْمَعْنَى فَمَرْحَبًا بِالْقَضِيَّةِ، وَنِعْمَتْ الْقَضِيَّةُ، وَهَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ يَجْرِي فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَاعْرِفْهُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأَفْعَالَ) حَتَّى الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ قَدْ تَكُونُ لِلْغَايَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ أَوْ التَّشْرِيكِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ غَائِيَّةٍ وَسَبَبِيَّةٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ حَتَّى مُحْتَمِلًا لِلِامْتِدَادِ وَضَرْبِ الْمُدَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا صَالِحًا لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُمْتَدِّ إلَيْهِ وَانْقِطَاعِهِ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَإِنَّ الْقِتَالَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] أَيْ تَسْتَأْذِنُوا فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَالِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ، وَجَعَلَ حَتَّى هَذِهِ دَاخِلَةً عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَصُورَةِ الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ فَهِيَ دَاخِلَةٌ حَقِيقَةً عَلَى الِاسْمِ.

(قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ

ص: 214

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التلويح]

الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ، وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ فَإِنْ صَلُحَ الصَّدْرُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي أَيْ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ حَتَّى تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ مُفِيدَةً لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ لِأَنَّ جَزَاءَ الشَّيْءِ وَمُسَبَّبَهُ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ مِنْ الْمُغَيَّا نَحْوُ أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ إحْدَاثَهُ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ فَدُخُولُ الْجَنَّةِ لَا يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ بَلْ الْإِسْلَامُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ وَأَقْوَى، وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا قِيلَ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْغَائِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْجَزَاءِ وَالْمُسَبَّبِ كَمَا يَنْتَهِي الْمُغَيَّا بِوُجُودِ الْغَايَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ حَتَّى لِلْغَايَةِ حَقِيقَةً حَيْثُ يَحْتَمِلُ الصَّدْرُ أَعْنِي السَّبَبَ الِامْتِدَادَ، وَالْآخَرُ أَعْنِي الْمُسَبَّبَ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ.

(قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الصَّدْرُ سَبَبًا لِلثَّانِي فَحَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى غَايَةٍ أَوْ مُجَازَاةٍ فَإِذَا وَقَعَتْ حَتَّى فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَفِي الْغَايَةِ يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى وُجُودِ الْغَايَةِ لِيَتَحَقَّقَ امْتِدَادُ الْفِعْلِ إلَى الْغَايَةِ، وَفِي السَّبَبِيَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ لِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ، وَفِي الْعَطْفِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفِعْلَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ التَّشْرِيكُ، وَلْنُوَضِّحْ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ فَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ حَتَّى تُصْبِحْ فَحَتَّى لِلْغَايَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ، وَصِيَاحُ الْمَضْرُوبِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ فَلَوْ أَقْلَعَ عَنْ الضَّرْبِ قَبْلَ الصِّيَاحِ عَتَقَ عَبْدُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرْبِ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ دُونَ الْغَايَةِ لِأَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ أَعْنِي التَّغْدِيَةَ لَا يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الْإِتْيَانِ إلَيْهِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى الْإِتْيَانِ فَالْمُرَادُ بِصُلُوحِهِ لِلِانْتِهَاءِ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جَعْلِهِ غَايَةً يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الصَّدْرِ إلَيْهِ وَانْقِطَاعِهِ بِهِ كَالصِّيَاحِ لِلضَّرْبِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الصَّدْرَ أَعْنِي الْإِتْيَانَ لَا يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ وَضَرْبَ الْمُدَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقْرَبُ، فَبِالْجُمْلَةِ مَجْمُوعُ احْتِمَالِ الصَّدْرِ الِامْتِدَادُ، وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءُ إلَيْهِ مُنْتَفٍ، وَالْإِتْيَانُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْدِيَةِ لِأَنَّهُ إحْسَانٌ بَدَنِيٌّ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ، وَالتَّغْدِيَةُ صَالِحَةٌ لِلْمَجَازَاتِ عَنْ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الِامْتِدَادَ أَوْ عَدَمَهُ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي النَّفْيِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] فَإِنَّهُ جُعِلَ غَايَةً لِعَدَمِ الدُّخُولِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ مُسَلَّطًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُغَيَّا بِالْغَايَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ هَاهُنَا لِلْحَمْلِ دُونَ الْمَنْعِ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرَائِنِ، وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك فَهِيَ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ لِتَعَذُّرِ الْغَايَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ أَمَّا الْغَايَةُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا السَّبَبِيَّةُ وَالْمُجَازَاةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الشَّخْصِ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ إذْ الْمُجَازَاةُ هِيَ الْمُكَافَأَةُ، وَلَا مَعْنَى لِمُكَافَأَتِهِ نَفْسَهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ سَابِقًا هُوَ أَنَّ حَتَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغَايَةِ تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، وَهِيَ تُفِيدُ

ص: 215

الْمَحْضِ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَدَّى عِنْدَك حَتَّى إذَا تَغَدَّى مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ بَرَّ وَلَيْسَ لِهَذَا) أَيْ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ (نَظِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بَلْ اخْتَرَعُوهُ) أَيْ الْفُقَهَاءُ اسْتِعَارَةً

(حُرُوفُ الْجَرِّ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَتَدْخُلُ عَلَى

ــ

[التلويح]

سَبَبِيَّةَ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ لُزُومِ مُجَازَاةٍ وَمُكَافَأَةٍ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مِثْلُ أَسْلَمْت كَيْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَحَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ مِنْ الدُّخُولِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ بَعْضِ أَفْعَالِ الشَّخْصِ سَبَبًا لِلْبَعْضِ وَمُفْضِيًا إلَيْهِ كَالْإِتْيَانِ إلَى التَّغَدِّي، وَإِذَا كَانَ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فَقِيلَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ التَّعْقِيبِ وَالْغَايَةِ فَلَوْ أَتَى وَتَغَدَّى عَقِيبَ الْإِتْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ حَصَلَ الْبِرُّ، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ أَوْ أَتَى، وَلَمْ يَتَغَدَّ أَوْ أَتَى وَتَغَدَّى مُتَرَاخِيًا حَنِثَ، وَالْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ الزِّيَادَاتِ وَشُرُوحِهَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ إنْ نَوَى الْفَوْرَ وَالِاتِّصَالَ، وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ التَّرَاخِي أَوْ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى وَتَغَدَّى مُتَرَاخِيًا حَصَلَ الْبِرُّ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ التَّغَدِّي بَعْدَ الْإِتْيَانِ مُتَّصِلًا أَوْ مُتَرَاخِيًا فِي جَمِيعِ الْعُمْرَانِ أَطْلَقَ الْكَلَامَ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَنَّ وَقْتَهُ مِثْلُ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَدَّى، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ ثُمَّ تَغَدَّى مِنْ بَعْدِ غَيْرِهِ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَغَدَّ عَقِيبَ الْإِتْيَانِ ثُمَّ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُتَرَاخِيًا بِالضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ غَيْرَ مُتَرَاخٍ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتًا آخَرَ فَيَتَغَدَّى عَقِيبَ الْإِتْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَالْإِشْكَالُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَمْلِ التَّرَاخِي عَلَى التَّرَاخِي عَنْ الْإِتْيَانِ الْأَوَّلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا أَتَاهُ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا يُقَالُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْمُؤَقَّتِ أَيْ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ، وَالْمَعْنَى غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْيَوْمِ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْيَوْمِ سَقَطَ عَنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى أَتَغَدَّى بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، وَالصَّوَابُ حَتَّى أَتَغَدَّ بِالْجَزْمِ مِثْلُ فَأَتَغَدَّ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْمَجْزُومِ بِلَمْ حَتَّى يَنْسَحِبَ حُكْمُ النَّفْيِ عَلَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا لَا عَلَى مَجْمُوعِ الْفِعْلِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ حَتَّى لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَبُطْلَانِ الْحُكْمِ.

(قَوْلُهُ بَلْ اخْتَرَعُوهُ) يَعْنِي لَا تُوجَدُ حَتَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَعْمَلَةً لِلْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْغَايَةِ بَلْ صَرَّحُوا بِامْتِنَاعِ مِثْلِ جَاءَنِي زَيْدٌ حَتَّى عَمْرٌو، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَعَارُوهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ الْغَايَةِ وَالتَّعْقِيبِ، وَلِكَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بِشَرْطِ الْغَايَةِ فَاسْتَعْمَلَ الْمُقَيَّدَ فِي الْمُطْلَقِ، وَلَا حَاجَةَ فِي أَفْرَادِ الْمَجَازِ إلَى السَّمَاعِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْهُ اللُّغَةُ فَكَفَى بِقَوْلِهِ سَمَاعًا، وَلَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا

ص: 216