الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ يَجِبُ لَا مَحَالَةَ) أَيْ فَإِذَا حَبِطَ الْعَمَلُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَاحْتَجَّ عَلَى ضَعْفِ التَّفْرِيعِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ.
(وَلِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ لِلْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَعَ الْإِيمَانِ) فَقَوْلُهُمْ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ فَقَطْ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ لَمَّا أَبْطَلَ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَالَ (وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ بِصَوْمِ شَهْرٍ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ) فَعُلِمَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ.
(فَصْلٌ وَالنَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ) الْمُرَادُ بِالْحِسِّيَّاتِ مَا لَهَا وُجُودٌ حِسِّيٌّ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِيَّاتِ مَا لَهَا وُجُودٌ شَرْعِيٌّ مَعَ الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ لَهُ وُجُودًا حِسِّيًّا، فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ مَوْجُودَانِ حِسًّا، وَمَعَ هَذَا الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولَ الْمَوْجُودَيْنِ حِسًّا يَرْتَبِطَانِ ارْتِبَاطًا حُكْمِيًّا فَيَحْصُلُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ يَكُونُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي أَثَرًا لَهُ فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْبَيْعُ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ بَيْعًا، وَإِذَا وُجِدَ مَعَ الْخِيَارِ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِوُجُودِ الْبَيْعِ بِلَا تَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ.
(فَيَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ اتِّفَاقًا
ــ
[التلويح]
الْعِبَادَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ.
(قَوْلُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ) لَا يُقَالُ إنَّهُ خَرَجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا فِي السَّيِّئَاتِ، وَنَذْرُ الصَّوْمِ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ النَّذْرَ مِنْ الْأَعْمَالِ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ.
[فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ]
(قَوْلُهُ فَصْلٌ) النَّهْيُ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَفْعَلْ اسْتِعْلَاءً أَوْ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ أَوْ طَلَبُ كَفٍّ عَنْ الْفِعْلِ اسْتِعْلَاءً، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ فِيهِمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ، ثُمَّ النَّهْيُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ اعْتِقَادَاتِهِمْ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ فِعْلٍ حِسِّيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَعَ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ، وَفُسِّرَ الشَّرْعِيُّ بِمَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ بِخِلَافِهِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكَلَّفِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ الشَّرْعِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَعَ وَصْفِ كَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقِدَ مَخْصُوصًا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَرَائِطَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْعِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الشَّرْعِ حِينَئِذٍ هُوَ وَصْفُ كَوْنِهِ عِبَادَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي الْحِسِّيَّاتِ أَيْضًا وَصْفُ كَوْنِ الزِّنَا أَوْ الشُّرْبِ مَعْصِيَةً لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشُّرْبِ، فَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا يَكُونُ لَهُ مَعَ تَحَقُّقِهِ الْحِسِّيِّ تَحَقُّقَ شَرْعِيٍّ بِأَرْكَانٍ وَشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِحَيْثُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهَا لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَحْكُمْ بِتَحَقُّقِهِ كَالصَّلَاةِ بِلَا طَهَارَةٍ وَالْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ، وَإِنْ وُجِدَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْإِيجَابِ
إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ غَيْرِهِ فَهُوَ إنْ كَانَ وَصْفًا فَكَالْأَوَّلِ لَا إنْ كَانَ مُجَاوِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَأَمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَالْأَوَّلِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ فَيَصِحُّ وَيُشْرَعُ بِأَصْلِهِ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ إنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا) اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَفْظَ الِاقْتِضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا يَنْهَى عَنْ الشَّيْءِ لِقُبْحِهِ لَا أَنَّ النَّهْيَ يُثْبِتُ الْقُبْحَ، فَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَبِيحًا لَا غَيْرُهُ فَقُبْحُ عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إمَّا لِقُبْحِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، فَالْقُبْحُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ دَاخِلٌ فِي الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ لَا يُصْرَفُ عَنْهُ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَهَذَا حَرَامٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا لَا يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] دَلَّ الدَّلِيلُ
ــ
[التلويح]
وَالْقَبُولِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا فِي الشَّرْعِ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ فَشَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَحِسِّيٌّ.
(قَوْلُهُ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ) أَشَارَ بِلَفْظِ الِاقْتِضَاءِ إلَى أَنَّ الْقُبْحَ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَيَنْهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ قُبْحَهُ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ أَيْ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ، بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْقَبِيحِ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرِ إنْ كَانَ وَصْفًا، قَائِمًا بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقَبِيحِ لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْعَكْسِ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ هَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ أَمْ لَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لِأَحْكَامٍ مَقْصُودَةٍ كَالصَّوْمِ لِلثَّوَابِ وَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَهَلْ بَقِيَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ ذَلِكَ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ حَتَّى يَكُونَ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَنَاطًا لِلثَّوَابِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَوْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْوَضْعُ فِيهَا فَمَنْ حَكَمَ بِارْتِفَاعِ الْوَضْعِ جَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَمَنْ لَا فَلَا لِتَنَافِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ وَالْقُبْحُ الذَّاتِيُّ ثُمَّ الْفِعْلُ الشَّرْعِيُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مُجَاوِرًا فَهُوَ صَحِيحٌ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فَفَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ بِأَصْلِهِ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ بِوَصْفِهِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُبْحَ لِوَصْفِهِ.
(قَوْلُهُ قُلْنَا: حَقِيقَةُ النَّهْيِ) أَصْلُ هَذَا الدَّلِيلِ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقُرْبَانِ لِلْمُجَاوِرِ، وَهُوَ الْأَذَى حَتَّى إنْ قَرِبَهَا وَوُجِدَ الْعُلُوقُ يَثْبُتُ النَّسَبُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَالْأَوَّلِ أَيْ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ بِأَصْلِهِ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ كُلُّ مَا هُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا لِلشَّرْعِيَّاتِ نَظِيرَيْنِ الصَّوْمَ وَالْبَيْعَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ يَقُولُ لَا صِحَّةَ لَهَا أَيْ لِلشَّرْعِيَّاتِ (شَرْعًا إلَّا وَأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً مَعَ نَهْيِ الشَّرْعِ عَنْهَا إذْ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْمَشْرُوعِيَّةِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ انْتَفَتْ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ وَهُوَ يُنَافِي الْمَشْرُوعِيَّةَ) اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ بِلَا قَرِينَةٍ أَصْلًا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَهُ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ بَاطِلًا، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ وَالصِّحَّةَ بِأَصْلِهِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ بِسَبَبِ الْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ وَصْفًا، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَنَا يَكُونُ صَحِيحًا
ــ
[التلويح]
فِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّلَاقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ» أَنَهَانَا عَمَّا يَتَكَوَّنُ أَوْ عَمَّا لَا يَتَكَوَّنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا لَا يَتَكَوَّنُ لَغْوٌ إذْ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى لَا تُبْصِرْ وَلِلْآدَمِيِّ لَا تَطِرْ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَوُجِدَ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ فَيُعَاقَبَ بِإِقْدَامِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْفِعْلِ فَيُثَابَ بِامْتِنَاعِهِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَبْقَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ شَرْعًا كَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحِلِّ الْأَخَوَاتِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ فِي الْأَوَامِرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ لِلْعُرْفِ الطَّارِئِ وَمَا وَجَدْنَا ذَلِكَ الْعُرْفَ فِي النَّوَاهِي فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ مِنْ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ إمْكَانَ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ كَافٍ فِي النَّهْيِ، وَلَا نُسَلِّمُ احْتِيَاجَهُ إلَى إمْكَانِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْحَائِضَ إنَّمَا نُهِيَتْ عَمَّا سَمَّاهُ الشَّرْعُ صَوْمًا وَصَلَاةً لَا عَنْ نَفْسِ الْإِمْسَاكِ وَالدُّعَاءِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَصَّلَ الْكَلَامَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ، وَحَاوَلَ الرَّدَّ فِي الْبَيْعِ الَّذِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ بِأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَبِإِطْلَاقِ الشَّرْعِ فَبِالنَّهْيِ امْتَنَعَ الْإِطْلَاقُ فَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لَكِنَّ تَصَوُّرَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَيَصِحُّ النَّهْيُ
بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ وَنُسَمِّيهِ فَاسِدًا، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَسَيَجِيءُ هَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَالدَّلِيلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْمَتْنِ يَدُلَّانِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّصَرُّفِ بَاطِلًا.
(قُلْنَا حَقِيقَةُ النَّهْيِ تُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنًا فَيُثَابُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَيُعَاقَبُ بِفِعْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ) هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْمَشْهُورُ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِمْ أَنَّ إمْكَانَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَافٍ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ فَأَجَبْت عَنْ هَذَا بِقَوْلِي (فَإِمْكَانُهُ إمَّا بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لَا يُوجِبُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي نَهَى لِأَجْلِهَا حَتَّى لَوْ وَجَبَ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ) تَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَمْرٌ لَغَوِيٌّ مِنْ غَيْرِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُمَا بِعْت وَاشْتَرَيْت، وَهَذَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ، وَالثَّانِي هَذَا الْقَوْلُ مَعَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الشَّرْعِيُّ، فَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي نَهَى لِأَجْلِهَا فِي نَفْسِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْقَوْلُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ بَاطِلًا لَكِنَّ الْوَاقِعَ لَيْسَ هَذَا الْقِسْمَ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ بِعْت هَذَا
ــ
[التلويح]
بِنَاءً عَلَيْهِ مَثَلًا أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ فِي النَّهَارِ، فَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ عِبَادَةً فَإِلَى الشَّارِعِ فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ لَمَّا زَالَ إذْنُ الشَّارِعِ لَمْ يَبْقَ صَوْمًا مَشْرُوعًا مَعَ بَقَاءِ تَصَوُّرِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ بِدُونِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَا يُسَمَّى صَوْمًا كَالْإِمْسَاكِ مَعَ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا إلَّا الْإِمْسَاكُ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْمَغْرِبِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهَذَا مُتَصَوَّرٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّارِعُ عَنْهُ حَتَّى صَارَ يَوْمُ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْلَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّحَّةِ لَكَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرَ الشَّرْعِيِّ أَيْ غَيْرَ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعِيَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الصَّحِيحُ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَصَلَاةِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّانِ لَا الْإِمْسَاكُ وَالدُّعَاءُ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ الْمُمْتَنِعِ عَبَثٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الشَّارِعُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، وَهُوَ الصُّورَةُ الْمَعْنِيَّةُ، وَالْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ صَحَّتْ أَمْ لَا نَقُولُ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ وَصَلَاةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَصَلَاةُ الْجُنُبِ، وَصَلَاةُ الْحَائِضِ بَاطِلَةٌ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ مَنْعُ الْمُمْتَنِعِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى كَالْحَاصِلِ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا بِغَيْرِ هَذَا
الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ الْحِسِّيِّ لَا يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْأَمْرِ الثَّانِي، يَجِبُ إمْكَانُهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ لِلْقُبْحِ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي إمْكَانَ وُجُودِهِ شَرْعًا فَيَكُونُ لِقُبْحِ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ، وَأَيْضًا إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْضُوعُ لَهُ لُغَةً، وَشَرْعًا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ الشَّرْعِيِّ فَيَجِبُ الْإِمْكَانُ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ مَثَلًا لَيْسَ إلَّا عَنْ التَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ فَأَمَّا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ فَلَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهُ قُلْنَا الشَّارِعُ قَدْ وَضَعَ اللَّفْظَ لِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ يُوجَدُ إنْشَاءُ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ قَطْعًا فَالْقُدْرَةُ حَاصِلَةٌ عَلَى إنْشَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ الصَّالِحِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مَقْدُورًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، ثُمَّ بِتَبَعِيَّةِ هَذَا النَّهْيِ يَكُونُ التَّكَلُّمُ بِاللَّفْظِ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ بِهِ يُثْبِتُ بِهِ مَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ ثَبَتَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَهُوَ الْإِنْشَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَنَظِيرُهُ الطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ (وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لَا عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِحُكْمِهِ كَالْمِلْكِ مَثَلًا فَنَقُولُ بِصِحَّتِهِ لِإِبَاحَتِهِ، وَالْقُبْحُ مُقْتَضَى النَّهْيِ فَلَا يَثْبُتُ
ــ
[التلويح]
التَّحْصِيلِ.
1 -
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ النَّهْيَ) جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ لَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْقُبْحُ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْقُبْحِ لِذَاتِهِ بَلْ الْفِعْلُ إنَّمَا يَحْسُنُ لِلْأَمْرِ، وَيَقْبُحُ لِلنَّهْيِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالصِّحَّةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى فِي الشَّرْعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ وَمُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَتَرَتُّبِ الْآثَارِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ، وَلَا دَلَالَةَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
(قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَقْتَضِي الْإِمْكَانَ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقُبْحِ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ فَيَكُونُ مُحَافَظَةً عَلَى الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْقُبْحُ، وَعَلَى الْمُقْتَضِي وَهُوَ النَّهْيُ بِأَنْ لَا يَكُونَ نَهْيًا عَلَى الْمُسْتَحِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ الْقُبْحُ عَلَى الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، وَحُكِمَ بِبُطْلَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ إسْقَاطُ النَّهْيِ وَجَعْلُهُ لَغْوًا عَبَثًا.
(قَوْلُهُ وَالْبَعْضُ سَلَّمُوا) ذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَسْقُطُ الطَّلَبُ عِنْدَهَا؛ لَا بِهَا يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا تَصِحُّ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِتَضَادِّ الْأَمْرِ
عَلَى وَجْهٍ يُبْطِلُ النَّهْيَ) ، وَقَدْ ثَبَتَ فِيمَا مَضَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا قَبْلَ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قَبِيحًا قَبْلَهُ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ الْمُقْتَضَى عَلَى وَجْهٍ يُبْطِلُ الْمُقْتَضِيَ وَهُوَ النَّهْيُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ يَكُونُ بَاطِلًا أَيْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ (فَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ) ، وَهُوَ الْقُبْحُ لِغَيْرِهِ.
(وَالْبَعْضُ سَلَّمُوا ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لِمَا قُلْنَا لَا فِي الْعِبَادَاتِ أَصْلًا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ) اعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ أَخَذَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَذْهَبَنَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي يَأْتِي أَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ دَالًّا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ بِسَبَبِ الْقُبْحِ فِي الْمُجَاوِرِ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ، وَأَمَّا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَحِيحَةٌ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ الْكَرَاهَةِ (لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ قُلْنَا كُلُّ مُعَيَّنٍ يَأْتِي بِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بَلْ مُطْلَقُ الْفِعْلِ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِإِتْيَانِهِ بِمُعَيَّنٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ ذَاتًا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَرَضًا، وَالْمَشْرُوعَاتُ تَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ إجْمَاعًا كَالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ، وَالنِّكَاحِ الْحَرَامِ، وَنَحْوِهِمَا) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا ذَاتًا وَعَرَضًا؛ لِأَنَّهُ
ــ
[التلويح]
وَالنَّهْيِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ نَفْسُ مَفْهُومِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهُوَ مُحَالٌ إذْ الْمَأْتِيُّ بِهِ لَا يَكُونُ لَا مُعَيَّنًا، وَهُوَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ بِهِ ضَرُورَةَ تَغَايُرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِفْرَادِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلُهُ هُمَا مُتَضَادَّانِ قُلْنَا: التَّضَادُّ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ بِالذَّاتِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِالْعَرَضِ فَلَا نُسَلِّمُ تَضَادَّهُمَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الِامْتِنَاعُ لَوْ اتَّحَدَ جِهَتَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجِبُ هَذَا الْفِعْلُ لِكَوْنِهِ صَلَاةً، وَيَحْرُمُ لِكَوْنِهِ غَصْبًا كَالسَّيِّدِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَخِطْهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَلَوْ خَاطَهُ فِيهِ يُعَدُّ مُمْتَثِلًا بِالْخِيَاطَةِ وَعَاصِيًا لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
(قَوْلُهُ فَهَذَا الْجُزْءُ الْقَبِيحُ يَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ) أَيْ مُنْتَهِيًا إلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لِجُزْئِهِ يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَيْ وُجُودُ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَمْرٍ مَوْجُودٍ أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُبْحُ ذَلِكَ الْجُزْءِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَارِجَ إنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْكُلِّ أَيْضًا لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْقَبِيحِ لِجُزْئِهِ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى قُبْحِهِ.
(قَوْلُهُ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا) قَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَقَبِيحًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَرَكَّبَ عَنْ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ لِعَيْنِهِ، وَالْآخَرُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ.؟ قُلْنَا: هُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ مِثْلَهُ قَبِيحٌ
بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِذَاتِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ أَوْ مَأْمُورًا بِهِ بِالْعَرَضِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْعَرَضِ، أَوْ مَأْمُورًا بِهِ بِالذَّاتِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْعَرَضِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا بِحَسَبِ عَيْنِهِ فَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِعَيْنِهِ وَقَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَيَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ وَأَمَّا بِحَسَبِ جُزْئِهِ فَهَذَا الْجُزْءُ الْقَبِيحُ يَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فَيَكُونُ بَاطِلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْكُلُّ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَبِيحَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِجُزْءٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْحُسْنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِالْعَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَسَنٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ لَكِنْ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ الْعَكْسُ فَيَكُونُ بَاطِلًا لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ فَبَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُدَّعَى، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّكُمْ قَدْ اخْتَرَعْتُمْ نَوْعًا مِنْ الْحُكْمِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ فَيَكُونُ نَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ فَنَقُولُ فِي جَوَابِهِ الْمَشْرُوعَاتُ تَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ أَيْ كَوْنَهُ حَسَنًا لِعَيْنِهِ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ لِذَاتِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَارِضٍ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَوْنَهُ صَحِيحًا وَمَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ
ــ
[التلويح]
لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ إذْ الْحُسْنُ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَكُونُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ بِمَنْزِلَةِ الْوُجُودِ وَالْقَبِيحَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَوُجُودُ الْمُرَكَّبِ يَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْعَدَمِ.
(قَوْلُهُ بَلْ وَاقِعٌ) كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ فَلَوْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَأْمُورًا بِهَا أَمْرًا مُطْلَقًا أَيْ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلْغَيْرِ لِمَا تَأَدَّى بِهَا الْمَأْمُورُ بِهِ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الرَّابِعُ) هُوَ مَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ وَمَأْمُورًا بِهِ بِالْعَرَضِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحُسْنَ لِذَاتِهِ.
(قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِبَارَتَانِ عَمَّا يُقَابِلُ الصَّحِيحَ بِمَعْنَى عَدَمِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ أَوْ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَبِمَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ السَّبَبِيَّةِ لِلثَّمَرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِي التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، وَلَا فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ أَمْ لَا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَجْزَاءِ وَالشُّرُوطِ كَافِيَةٌ) فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ الْوَصْفُ اللَّازِمُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الشُّرُوطِ، ثُمَّ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ مُجَاوِرًا، وَفِي الصَّوْمِ لَفْظًا لَازِمًا لِمَا سَيَجِيءُ.
(قَوْلُهُ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ) يَعْنِي شَرْطًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ نَفْعٌ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عليه السلام عَنْ
لَا بِوَصْفِهِ أَوْ مُجَاوِرِهِ، وَالْكُلُّ وَاحِدٌ.
(فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَشْرُوعَاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَهُ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ بِأَصْلِهِ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ.
(إنْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (يَبْطُلُ عِنْدَهُ، وَيَصِحُّ بِأَصْلِهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا لَهُ يَبْطُلُ عِنْدَهُ، وَيَفْسُدُ عِنْدَنَا أَيْ يَصِحُّ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ إذْ الصِّحَّةُ تَتْبَعُ الْأَرْكَانَ وَالشَّرَائِطَ فَيَحْسُنُ لِعَيْنِهِ وَيَقْبُحُ لِغَيْرِهِ بِلَا تَرْجِيحِ الْعَارِضِيِّ عَلَى الْأَصْلِيِّ، وَعِنْدَهُ الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ سَوَاءٌ) هَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْآخَرُ الَّذِي وَعَدْت ذِكْرَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْبُطْلَانَ عِنْدَهُ يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَصْلِهِ الْأَوَّلِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالضَّرُورَةُ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى مَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْمُجَاوِرِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ أَمَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي أَنْ لَا يَجْرِيَ النَّهْيُ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ إذَا كَانَ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا فَيَجْرِيَ عَلَى أَصْلِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى
ــ
[التلويح]
بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَالنَّهْيُ رَاجِعٌ لِلشَّرْطِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ لَكِنْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَالْحُرْمَةِ كَالشَّرْطِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْبَيْعِ لَازِمٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
(قَوْلُهُ وَالرِّبَا) أَيْ وَكَالْبَيْعِ بِالرِّبَا، وَهُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَإِنْ فُسِّرَ الرِّبَا بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ لَا عَلَى الشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ) ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخَمْرَ جُعِلَتْ ثَمَنًا وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ إذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ إذْ الْمُتَقَوِّمُ مَا يَجِبُ إبْقَاؤُهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَالْخَمْرُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهَا بِالنَّصِّ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا لَكِنَّهَا تَصْلُحُ لِلثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُدَّخَرُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ مَا خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ، وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ.
(قَوْلُهُ وَصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ) أَعْنِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ مَشْرُوعٌ لِكَوْنِهِ إمْسَاكًا عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ وَقَهْرِ النَّفْسِ لِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَتَحْرِيضًا لَهَا عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِمْ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَالْوَقْتُ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ
أَنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ أَمَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَجْزَاءِ وَالشُّرُوطِ فِيهِ كَافِيَةٌ لِصِحَّةِ الشَّيْءِ، وَتَرْجِيحُ الصِّحَّةِ بِصِحَّةِ الْأَجْزَاءِ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ الْبُطْلَانِ بِالْوَصْفِ الْخَارِجِيِّ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً هُنَا يَجْرِي النَّهْيُ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَوْجُودًا شَرْعًا أَيْ صَحِيحًا.
(وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ، وَصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ) هَذِهِ أَمْثِلَةُ الصَّحِيحِ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ الَّذِي نُسَمِّيهِ فَاسِدًا.
(لَكِنْ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ) أَيْ مَعَ أَنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَاسِدٌ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ.
(لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهِ ذِكْرًا بَلْ فِعْلًا) ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي ذِكْرِهِ وَالتَّلَفُّظِ بِهِ فَلَا مَعْصِيَةَ فَصَحَّ النَّذْرُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ ذِكْرُهُ لَا فِعْلُهُ.
(فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ) ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِعْلٌ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ.
(وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ فَقَدْ نُهِيَتْ لِفَسَادٍ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ سَبَبُهَا، وَظَرْفُهَا فَأَوْجَبَ نُقْصَانًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ لَا مِعْيَارُهَا فَلَمْ يُوجِبْ فَسَادًا فَيَضْمَنُ بِالشُّرُوعِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ، وَظَرْفٌ لَهَا، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ يَجِبُ الْمُلَاءَمَةُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا كَمَا فِي الْفَجْرِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ نَاقِصًا يَتَأَدَّى نَاقِصًا كَمَا فِي أَدَاءِ الْعَصْرِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِالصَّلَاةِ تَعَلُّقَ الْمُجَاوَرَةِ لَا تَعَلُّقَ
ــ
[التلويح]
يَتَقَدَّرُ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لَازِمٍ خَارِجٍ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلصَّوْمِ خَارِجٌ عَنْهُ أَيْ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَفْهُومِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ مُغَايِرٌ لِلصَّوْمِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ كَتَرْكِ السُّكُونِ، فَإِنَّهُ عَيْنُ التَّحَرُّكِ وَبِالْعَكْسِ وَفِي الطَّرِيقَةِ الْمَعْنِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الصَّوْمِ فَصَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ يَقْتَضِي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قُبْحَهُ لِغَيْرِهِ إذْ لَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ لَمَا كَانَ مَشْرُوعًا، وَأَيْضًا فَوَائِدُ الصَّوْمِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَرْكٌ لِلْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْإِجَابَةُ فَمِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُفْطِرَاتِ يَكُونُ عِبَادَةً مُسْتَحْسَنَةً وَمِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَى يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَالضِّدُّ الْأَصْلِيُّ لِلصَّوْمِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ فَالصَّوْمُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَضْدَادِ الَّتِي هِيَ الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ، وَبِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْإِجَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ فَتَرْكُ الْإِجَابَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ، وَتَرْكُ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ فَبَقِيَ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَكَانَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا.
(قَوْلُهُ لَكِنْ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ) أَيْ بِالصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ هِيَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ
الْوَصْفِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ بَلْ يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ مِعْيَارُهُ فَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ فَيَكُونُ كَالْوَصْفِ لَهُ فَفَسَادُهُ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ، وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي النَّفْلِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا، وَلَوْ أَفْسَدَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا أَمَّا إنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ لَا يَجِبُ إتْمَامُهُ بَلْ يَجِبُ رَفْضُهُ، فَإِنْ رَفَضَهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ.
(وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ) هَذَا الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ يَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ أَمْرٍ مُجَاوِرٍ.
(كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ) أَوْرَدْت هُنَا مِثَالَيْنِ أَحَدُهُمَا
ــ
[التلويح]
تَعَالَى وَهِيَ فِي فِعْلِ الصَّوْمِ لَا فِي ذِكْرِ اسْمِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلصَّوْمِ جِهَةَ طَاعَةٍ وَجِهَةَ مَعْصِيَةٍ، وَانْعِقَادُ النَّذْرِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى حَتَّى قَالُوا لَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا لَوْ قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ غَدًا، وَكَانَ الْغَدُ يَوْمَ نَحْرٍ أَوْ حَيْضٍ، وَأَمَّا ضَرْبُ أَبِيهِ وَشَتْمُ أُمِّهِ فَلَا جِهَةَ فِيهِ لِغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ أَصْلًا، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَبِالْقَوْلِ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْمَشْرُوعُ إيجَابٌ بِالْفِعْلِ، وَفِي الْفِعْلِ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَهَذَا كَمَا جَوَّزُوا بَيْعَ السَّمْنِ الذَّائِبِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ لِإِمْكَانِ إيرَادِ الْبَيْعِ عَلَى السَّمْنِ دُونَ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ) يُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ حَيْثُ يَفْسُدُ الصَّوْمُ دُونَ الصَّلَاةِ، وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ الصَّلَاةُ دُونَ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِكَوْنِهِ مِعْيَارًا لَهُ وَلِلصَّلَاةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُجَاوِرِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا لَهَا، وَفِي الطَّرِيقَةِ الْمَعْنِيَّةِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ قَدْ يَكُونُ جُزْؤُهُ كَالْكُلِّ فِي الِاسْمِ كَالْمَاءِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْحَيَوَانِ، وَالصَّوْمُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إمْسَاكَاتٍ مُتَّفِقَةِ الْحَقِيقَةِ كُلٌّ مِنْهَا صَوْمٌ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ حَنِثَ بِصَوْمِ سَاعَةٍ، فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ لِكَوْنِهِ صَوْمًا فَكَانَ مَا انْعَقَدَ مِنْهُ انْعَقَدَ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا، وَالْمُضِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُ لِإِبْقَاءِ مَا انْعَقَدَ فَلَا يَلْزَمُ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَاجِبُ التَّرْكِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ تَقْرِيرُ مَا انْعَقَدَ مَشْرُوعًا وَاجِبًا لَكِنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَخْبَارُ، بِخِلَافِ وُجُوبِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّرْكِ فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إبْعَاضَهَا مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً مَا لَمْ يَجْتَمِعْ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِالسَّجْدَةِ فَمَا انْعَقَدَ
لِلْعِبَادَاتِ، وَالْآخَرُ لِلْمُعَامَلَاتِ.
(وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِعَيْنِهِ) أَيْ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ (يَبْطُلُ اتِّفَاقًا) هَذَا الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ (كَالْمَلَاقِيحِ، وَالْمَضَامِينِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ مَعْدُومٌ فَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ النَّسْخِ فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ) قَوْلُهُ فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ مَعْدُومٌ فَيَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهِ قُبْحُهُ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ الْمَلَاقِيحُ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ، وَهِيَ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الْجَنِينِ، وَالْمَضَامِينُ جَمْعُ مَضْمُونٍ، وَهُوَ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ مِنْ الْمَاءِ وَفِي الْحَدِيثِ «نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ» فَلَمَّا كَانَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَبِيعُ مَعْدُومًا لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْبَيْعِ فَلَا يُرَادُ حَقِيقَةُ النَّهْيِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ فَيَكُونُ النَّهْيُ مَجَازًا عَنْ النَّسْخِ، فَإِنَّ النَّسْخَ لِإِعْدَامِ الصِّحَّةِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ رُوعِيَّةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالنَّسْخِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْفَصْلِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إمَّا أَنْ يَصْدُقَ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَصْدُقْ فَالْجُزْءُ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الْكُلِّ، وَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الشَّيْءِ، وَيَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى تَصَوُّرِهِ كَالْعِبَادَةِ لِلصَّلَاةِ، وَإِمَّا غَيْرُ صَادِقٍ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالْمَبِيعِ لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا الْوَصْفُ فَالْمُرَادُ بِهِ اللَّازِمُ الْخَارِجِيُّ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَصْدُقَ عَلَى الْمَلْزُومِ نَحْوُ: الْجِهَادُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَصَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَصْدُقَ كَالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا يُوجَدُ الْبَيْعُ يُوجَدُ الثَّمَنُ لَكِنَّ الثَّمَنَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَيْسَ رُكْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَبِيعِ لَا مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ فَجَرَى مَجْرَى آلَاتِ الصِّنَاعَةِ كَالْقَدُومِ، وَأَمَّا الْمُجَاوِرُ فَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصْحَبُهُ وَيُفَارِقُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ اشْتِغَالٌ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ
ــ
[التلويح]
قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ عِبَادَةً مَحْضَةً يَجِبُ صِيَانَتُهَا، وَالْمُضِيُّ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الْمُضِيُّ فِي حَقِّ مَا مَضَى امْتِنَاعًا عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ، وَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِي حَقِّ مَا يُسْتَقْبَلُ تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْصِيَةِ فَكَانَ الْمُضِيُّ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً وَامْتِنَاعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ أَعْنِي إبْطَالَ الْعِبَادَةِ وَتَرْكَ الْمُضِيِّ امْتِنَاعًا عَنْ مَعْصِيَةٍ وَطَاعَةٍ وَارْتِكَابًا لِمَعْصِيَةٍ هِيَ إبْطَالُ عِبَادَةٍ فَتَرَجَّحَتْ فِيهَا جِهَةُ الْمُضِيِّ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي النَّفْلِ) إذْ لَا فَرْضَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا مِثْلُ الْقَضَاءِ وَالْمَنْذُورَاتِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةً كَانَتْ أَوْ صِيَامًا لِوُجُوبِهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ.
(قَوْلُهُ الْمَلَاقِيحُ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ) مُوَافِقٌ لِمَا فِي الصِّحَاحِ، وَذَكَرَ فِي الْفَائِقِ أَنَّهَا جَمْعُ مَلْقُوحٍ يُقَالُ لَقِحَتْ النَّاقَةُ وَوَلَدُهَا مَلْقُوحٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ بِحَذْفِ الْجَارِّ.
(قَوْلُهُ وَلَيْسَ) أَيْ الثَّمَنُ رُكْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَبِيعِ لِقَائِلٍ
الِاشْتِغَالُ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ إذَا جَرَى الْبَيْعُ فِي حَالَةِ السَّعْيِ، وَإِمَّا غَيْرُ صَادِقٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَصْدُقُ عَلَى السَّفَرِ بَلْ السَّفَرُ الْمُوصِلُ إلَى الْقَطْعِ فَالْقَطْعُ يُوجَدُ بِدُونِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ بِدُونِ السَّفَرِ أَوْ سَافَرَ لِلْحَجِّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ بِأَنْ سَافَرَ بِدُونِ نِيَّةِ الْقَطْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَطْعُ أَوْ سَافَرَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ الْقَطْعُ إذَا ثَبَتَ هَذَا جِئْنَا إلَى تَطْبِيقِ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَّا الرِّبَا، فَإِنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ شُرِطَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ كَانَ لَازِمًا لِلْعَقْدِ، ثُمَّ هُوَ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا إلَّا لِمِثْلِهِ، فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ بَيْنَ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصِ عُدُولٌ عَنْ قَضِيَّةِ الْعَدْلِ فَلَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّائِدِ لَكِنَّ الزَّائِدَ هُوَ فَرْعٌ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَصْفِ أَوْ نَقُولُ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَقَدْ وُجِدَ لَكِنْ لَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ التَّامَّةُ فَأَصْلُ الْمُبَادَلَةِ حَاصِلٌ لَا وَصْفُهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا تَامَّةٌ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالشَّرْطِ فَكَالرِّبَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَمْرٌ زَائِدٌ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَجَعَلَهَا ثَمَنًا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ تَابِعٌ وَوَسِيلَةٌ فَيَجْرِيَ مَجْرَى الْأَوْصَافِ التَّابِعَةِ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ لَكِنَّ الْمُبَادَلَةَ التَّامَّةَ لَمْ تُوجَدْ لِعَدَمِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَّا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَقْتَ كَالْوَصْفِ، وَلِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ
ــ
[التلويح]
أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ رُكْنَيْ الشَّيْءِ وَسِيلَةً إلَى الْآخَرِ، وَالْآخَرُ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ هُوَ أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الثَّمَنِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْمَبِيعِ نَعَمْ تَصَوُّرُ مَفْهُومِ الْبَيْعِ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى التَّرَاضِي، وَالتَّلَفُّظُ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ شَرْعًا بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُصَّ الْمَبِيعُ بِأَنَّ الْبِيَعَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ وُجُودِهِ فَجَعَلُوهُ رُكْنًا، بِخِلَافِ الثَّمَنِ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فِي الْبُطْلَانِ لَا فِي أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِذَاتِهِ إذْ لَا نَهْيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِالشُّهُودِ» نَفْيٌ لِتَحَقُّقِ النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ بِدُونِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْضُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ، وَهِيَ وُجُودُ صُورَتِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا النَّفْيَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة: 197] وَأَيْضًا قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ النِّكَاحِ مَعَ بُطْلَانِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] أَشَارَ إلَى جَوَابٍ أَعَمَّ وَأَتَمَّ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِّعَ لِلْحِلِّ ضَرُورَةَ
الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّ شُغْلَ مَكَانِ الْغَيْرِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُصَلِّي فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُتَمَكِّنٍ فَوَقَعَ بَيْنَ شُغْلِ مَكَانِ الْغَيْرِ، وَبَيْنَ الصَّلَاةِ مُلَازَمَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَأَمَّا الْبِيَعُ الْفَاسِدَةُ، فَإِنَّهَا أَوْجَبْت تِلْكَ الْمَفَاسِدَ أَيْ الْمَفَاسِدَ الْمَذْكُورَةَ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَالرِّبَا فَتَكُونُ قَبِيحَةً بِوَصْفِهَا، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاشْتِغَالِ عَنْ السَّعْيِ مُلَازَمَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ.
(وَكَذَا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ؛ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» ) أَيْ يَكُونُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ لَا مَنْهِيٌّ، وَكَلَامُنَا فِي الْمَنْهِيِّ فَيَرِدُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَاطِلًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُثْبِتَ النَّسَبَ، وَلَا يُسْقِطَ الْحَدَّ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا النَّسَبُ وَسُقُوطُ الْحَدِّ لِلشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّهُ) عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ.
(وُضِعَ لِلْحِلِّ فَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَالْبَيْعُ وُضِعَ لِلْمِلْكِ، وَالْحِلُّ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْرَعُ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ أَصْلًا كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْعَبْدِ) أَيْ وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنَّ نَهْيَهُ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالنِّكَاحَ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْحِلِّ فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْحِلُّ يَكُونُ بَاطِلًا بِخِلَافِ
ــ
[التلويح]
بَقَاءِ التَّنَاسُلِ، وَبِالنَّهْيِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَيَنْتَفِي الْحِلُّ إجْمَاعًا فَيَنْتَفِي مَشْرُوعِيَّتُهُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُرَادُ لِأَحْكَامِهَا لَا لِذَوَاتِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ شُرِّعَ لِلْمِلْكِ فَانْتِفَاءُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يُنَافِيهِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَيْضِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلْ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي الْمَآلِ أَعْنِي بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ لَا يُقَالُ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ لِلْمِلْكِ وَلِحِلِّ الِانْتِفَاعِ، وَالصَّوْمُ لِلطَّاعَةِ فَيَلْزَمُ بُطْلَانُهُمَا بِالنَّهْيِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ لِلْمِلْكِ، وَحِلُّ الِانْتِفَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، وَنَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً إلَّا إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِذَاتِهِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ) ظَاهِرُ السُّؤَالِ نَقْضٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ يَقْتَضِي قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْقَبِيحَ لِعَيْنِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الزِّنَا وَالْغَصْبِ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالزِّنَا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَبِالْغَصْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ الْمِلْكُ وَبِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةُ وَالْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى هَذَا لَا يُتَوَجَّهُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْمُنَاقِضِ بُطْلَانُ الْقَاعِدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ السُّؤَالُ ابْتِدَاءَ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَا هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ بِمُفِيدٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ مُفِيدَةً لِلْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ مَنْعًا لِلنَّتِيجَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَدْحِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا اجْتِمَاعِيَّتَانِ، ثُمَّ اسْتِنَادُ الْمَنْعِ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَيْسَ
الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِلْمِلْكِ لَا لِلْحِلِّ بِدَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ أَصْلًا كَالْعَبْدِ فَإِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ الْحِلُّ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ.
(فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ، وَالْقُبْحُ لِعَيْنِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا إجْمَاعًا فَلَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَالْمِلْكَ بِالْغَصْبِ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَالرُّخْصَةُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَا تُوجِبُ النِّعْمَةَ) ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالظِّهَارَ يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ
ــ
[التلويح]
بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ شَرْعِيَّانِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ اُعْتُبِرَ لَهُمَا فِي الشَّرْعِ شَرَائِطُ وَخُصُوصِيَّاتٌ لَا حِسِّيَّانِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، وَلَيْتَهُ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَوْنَ كُلٍّ مِنْ الشُّرْبِ وَالزِّنَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقَامَةِ مَا ذَكَرَ فَالْجَوَابُ عَنْ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ مَا تُوُهِّمَ مِنْ كَوْنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ وَكَوْنِ الْكَفَّارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الظِّهَارِ وَالْآثَارِ الْمَطْلُوبَةِ بِهِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِحَلِّ الْإِشْكَالِ وَدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ نَقْضًا لِلْقَاعِدَةِ.
(قَوْلُهُ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ النِّعْمَةَ) تَأْكِيدٌ، وَزِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَنْهِيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُوجِبَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ لِكَوْنِهَا نِعَمًا أَمَّا الْمِلْكُ وَالرُّخْصَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.
(قَوْلُهُ وَالْأَسْبَابُ) مَعْنَاهُ، ثُمَّ تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى الْأَطْرَافِ، وَإِيجَابُ الْحُرْمَةِ إلَى الْأَسْبَابِ، ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي السَّبَبِ كَالْوَطْءِ مَثَلًا كَوْنُهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوَلَدِ، وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ حَرَامٌ زَادَهُ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدٌ مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ لَا يُقَالُ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءَيْنِ امْتَزَجَا امْتِزَاجًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَلِهَذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَلَا قَرِينَةَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِمَوْلُودٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا مَعْنَى لِاتِّصَافِ امْتِزَاجِ الْمَاءَيْنِ وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ بِكَوْنِهِ حَرَامًا وَبَاطِلًا وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ نُشَاهِدُ وَلَدَ الزِّنَا أَصْلَحَ مِنْ وَلَدِ الرَّشْدَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ وَلَدُ الزِّنَا جَمِيعَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا وَلَدُ الرَّشْدَةِ مِنْ قَبُولِ عِبَادَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَصِحَّةِ قَضَائِهِ وَإِمَامَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ لَا يَجُوزُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» .
(قَوْلُهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْوَلَدِ الْحُرْمَةِ إلَى أَطْرَافِهِ أَيْ فُرُوعِهِ مِنْ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ وَأُصُولِهِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ.
(وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ يُوجِبُ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ لِغَيْرِهِ وَلَا الظِّهَارَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُكْمٍ مَطْلُوبٍ عَنْ سَبَبٍ لَا فِي حُكْمٍ زَاجِرٍ، فَإِنَّ هَذَا يَعْتَمِدُ حُرْمَةَ سَبَبِهِ) فَحَاصِلُ الْجَوَابِ فِي الطَّلَاقِ إنْ بَحَثْنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لِقُبْحِ الْمُجَاوِرِ، وَفِي الطَّلَاقِ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا فِي الظِّهَارِ فَبَحَثْنَا فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا هُوَ مَطْلُوبٌ عَنْ السَّبَبِ، وَالظِّهَارُ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَذَلِكَ بَلْ أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا هُوَ زَاجِرٌ.
(قُلْنَا الزِّنَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَطْرَافِ وَالْأَسْبَابِ كَالْوَطْءِ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الزِّنَا بِذَاتِهِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَرِدَ الْإِشْكَالُ بَلْ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ
ــ
[التلويح]
النِّسَاءِ ضَرُورَةَ إقَامَةِ النَّسْلِ كَمَا سَقَطَتْ حَقِيقَةُ الْبَعْضِيَّةِ فِي حَقِّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام فَلِهَذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ الْأَطْرَافَ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ وَمَنَعَ تَفْسِيرَهَا بِالْأَبِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأُمِّ وَالْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا لَا يَتَعَدَّى إلَّا إلَى الْأَبِ، وَكَذَا حُرْمَةُ آبَاءِ الْوَاطِئِ وَأَبْنَائِهِ لَا تَتَعَدَّى إلَّا إلَى الْأُمِّ حَتَّى لَا يُحَرِّمَ أُمَّ الزَّوْجَةِ أَوْ جَدَّتَهَا عَلَى أَبِ الزَّوْجِ أَوْ جَدِّهِ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَلَدِ تَتَعَدَّى إلَى فُرُوعِهِ لِوُجُودِ الْبَعْضِيَّةِ فَمَا وَجْهُ تَعَدِّيهَا إلَى الْأُصُولِ.؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ يَخْتَلِطُ فِي الرَّحِمِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيَصِيرُ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَثْبُتُ لِهَذَا الْمَاءِ بَعْضِيَّةٌ مِنْ الْوَاطِئِ وَأُصُولِهِ وَبَعْضِيَّةٌ مِنْ الْمَوْطُوءَةِ وَأُصُولِهَا، فَإِذَا صَارَ الْمَاءُ إنْسَانًا تُعَدَّى الْبَعْضِيَّةُ مِنْهُ إلَى الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جُزْءًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ جُزْءًا مِنْ الْآخَرِ إذْ الْوَلَدُ بِكَمَالِهِ يُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْضًا مِنْ الْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ خَاصَّةً لِضَرُورَةِ التَّنَاسُلِ، وَفِي حَقِّ مَا بَيْنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ضَعِيفٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْأَبَاعِدِ.
(قَوْلُهُ وَالْمِلْكُ بِالْغَصْبِ) فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ بِنَاءً عَلَى صَيْرُورَةِ الضَّمَانِ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَمَّا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُ الْغَاصِبِ، وَلَمْ يُسَلَّمُ الْكَسْبُ لَهُ قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ مِلْكُ الضَّمَانِ أَوْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْغَصْبُ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْصُودًا مِنْ الْغَصْبِ بَلْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى خُرُوجِ الْمَغْصُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ جَبْرًا لِمَا فَاتَ إذْ لَا جَبْرَ بِدُونِ الْفَوَاتِ، وَمَا ثَبَّتَ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَكُونُ حَسَنًا بِحُسْنِهِ، وَإِنْ قَبُحَ فِي نَفْسِهِ، وَيُعْتَبَرُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ ضَرُورَةَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، فَزَوَالُ مِلْكِ الْأَصْلِ مُقْتَضًى، وَمِلْكُ الْبَدَلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ ضَرُورِيًّا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ الَّتِي لَا تَبَعِيَّةَ لَهَا
لَا يَجُوزُ، ثُمَّ تَتَعَدَّى مِنْهُ الْحُرْمَةُ إلَى أَطْرَافِهِ أَيْ فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ كَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَتَتَعَدَّى إلَى الْأَسْبَابِ أَيْ الْوَلَدِ هُوَ مُوجِبٌ لِحُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فَأُقِيمَ مَا هُوَ سَبَبُ الْوَلَدِ مَقَامَ الْوَلَدِ فِي إيجَابِ حُرْمَتِهِنَّ كَمَا أَقَمْنَا السَّفَرَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي إثْبَاتِ الرُّخْصَةِ، وَسَبَبُ الْوَلَدِ هُوَ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ فَجَعَلْنَاهَا مُوجِبَةً لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَا ذَاتًا بَلْ بِتَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ.
(وَمَا يَعْمَلُ بِالْخَلَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ فِي عَمَلِهِ صِفَةً لِأَصْلٍ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْوَلَدُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ) أَيْ لَمَّا جُعِلَ الْوَطْءُ مُوجِبًا لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لِكَوْنِهِ خَلَفًا عَنْ الْوَلَدِ لَا تُعْتَبَرُ حُرْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْخَلَفِ صِفَاتُ الْأَصْلِيِّ لَا صِفَاتُ الْخَلَفِ كَالتُّرَابِ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ لَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ التُّرَابِ بَلْ تُعْتَبَرُ صِفَاتُ الْمَاءِ مِنْ الطَّهُورِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَهُنَا لَا يُعْتَبَرُ صِفَاتُ الْوَطْءِ، وَهِيَ الْحُرْمَةُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْوَلَدُ، وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ.
ــ
[التلويح]
كَالْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَلَيْسَ يَتْبَعُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ، بِخِلَافِ الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَدَلُ خِلَافَةٍ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ لَا بَدَلُ مُقَابَلَةٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا إذَا عَادَ الْعَبْدُ الْآبِقُ قُلْنَا: نَعَمْ إلَّا أَنَّا نَحْتَاجُ إلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْبَدَلِ احْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا عِبْرَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا إذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ.
(قَوْلُهُ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ) يَعْنِي أَنَّ مِلْكَ الْمُدَبَّرِ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الِانْتِقَالَ فَهَاهُنَا قَدْ زَالَ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ كَالْوَقْفِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إذْ بِهِ تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ أَعْنِي امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا حَاجَةَ إلَى دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ.
(قَوْلُهُ أَوْ هُوَ) أَيْ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْغَصْبِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمَضْمُونُ الْأَصْلِيُّ الْوَاجِبُ الرَّدُّ وَالْمُتَقَوِّمُ إلَّا أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ لِتَعَذُّرِ انْعِدَامِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ فَجُعِلَ بَدَلًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ كَضَمَانِ الْعِتْقِ يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ احْتِمَالِ إيجَادِ شَرْطِهِ أَعْنِي تَمْلِيكَ الْعَيْنِ كَمَا فِي الْقِنِّ، وَلَا يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الِاسْتِيلَاءُ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ الِاسْتِيلَاءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى الصَّيْدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَحَلِّ أَعْنِي كَوْنَ الشَّيْءِ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ مَحْضًا لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَعِصْمَةُ أَمْوَالِنَا غَيْرُ