الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلْوُجُوبِ) ، وَهَذَا بَحْثٌ دَقِيقٌ مَا مَسَّهُ إلَّا خَاطِرِي (هَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ وَأُرِيدَ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ مَا إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ عَدَمُ الْوُجُوبِ بِالنَّسْخِ حَتَّى يَبْقَى النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ دَلَالَةُ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ. وَالْمَجَازُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ)
أَيْ هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ دَلَالَةَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ الْأَمْرُ، وَأُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ أَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ الْأَمْرُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ، وَبَقِيَ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَالْأَمْرُ هَلْ يَكُونُ مَجَازًا أَمْ لَا فَأَقُولُ لَا يَكُونُ
ــ
[التلويح]
وَيُعْلَمُ كَوْنُهُ إنْسَانًا بِالْقَرِينَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْفَرَسِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا أَوْ مَاشِيًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى خُصُوصِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ الْمُنْصِفِ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ عِنْدَ قَصْدِ الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ مَدْلُولَ الْأَوَّلِ جَوَازُ الْفِعْلِ، وَمَدْلُولَ الثَّانِي جَوَازُ التَّرْكِ لَا أَنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا جَوَازُ الْفِعْلِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ فَإِنْ قُلْت فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَقَوْلِنَا هُوَ لِلْإِبَاحَةِ، إذْ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ قُلْت: الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ لِلنَّدْبِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ مَعَ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ لِلْإِبَاحَةِ أَنَّهُ خَالٍ عَنْ ذَلِكَ كَمَا إذَا قُلْنَا يُرْمَى الْحَيَوَانُ أَوْ يَطِيرُ حَيَوَانٌ فَإِنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَالثَّانِي فِي الطَّيْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ الدَّقِيقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ.
(قَوْلُهُ هَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ) يَعْنِي أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ مَعَ الْحَرَجِ فِي التَّرْكِ فَارْتِفَاعُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِارْتِفَاعِ الْجُزْأَيْنِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُونَ بِارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقَاءِ الْجَوَازِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ، وَامْتِنَاعِ التَّرْكِ، وَدَلِيلَ النَّسْخِ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ لِجَوَازِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمُرَكَّبُ بِارْتِفَاعِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ فَبَقِيَ دَلِيلُ الْجَوَازِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ فَلَا نِزَاعَ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ الْوَاجِبِ لَا يَرْتَفِعُ بِنَسْخِ الْوُجُوبِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، وَدَلَالَةَ أَمْرِ الْوُجُوبِ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ دَلَالَةَ الْحَقِيقَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا التَّضَمُّنِيِّ لَا دَلَالَةَ الْمَجَازِ عَلَى مَدْلُولِهِ الْمَجَازِيِّ فَعَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِ الْوُجُوبِ، وَبَقَاءِ الْجَوَازِ لَا يَصِيرُ اللَّفْظُ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ انْقِلَابُ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ
[فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ]
(قَوْلُهُ فَصْلٌ) عُمُومُ الْفِعْلِ شُمُولُهُ أَفْرَادَهُ، وَتَكْرَارُهُ وُقُوعُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَذَلِكَ بِإِيقَاعِ أَفْعَالٍ مُتَمَاثِلَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا يَجِبُ
مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْوُجُوبُ بَلْ يَكُونُ دَلَالَةَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مَجَازًا فَإِنَّكَ إذَا أَطْلَقْتَ الْإِنْسَانَ، وَأَرَدْت بِهِ الْحَيَوَانَ النَّاطِقَ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ، وَلَا مَجَازَ هُنَا بَلْ إنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إذَا أَطْلَقْتَ الْإِنْسَانَ، وَأَرَدْتَ بِهِ الْحَيَوَانَ فَقَطْ أَوْ النَّاطِقَ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِنَا إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ لَا تَبْقَى الْإِبَاحَةُ الَّتِي تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ كَمَا أَنَّ قَطْعَ الثَّوْبِ كَانَ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْقَطْعُ مُسْتَحَبًّا، وَلَا مُبَاحًا.
(فَصْلٌ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ " اضْرِبْ " مُخْتَصَرٌ مِنْ أَطْلَبُ مِنْكَ الضَّرْبَ، وَالضَّرْبُ اسْمُ جِنْسٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلِسُؤَالِ السَّائِلِ فِي الْحَجِّ
ــ
[التلويح]
فِيهِ الْمُدَاوَمَةُ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا يَجِبُ إيقَاعُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُدَّةَ الْعُمُرِ مِثْلُ صَلُّوا الْفَجْرَ يَجِبُ الْعَوْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي كُلِّ فَجْرٍ فَيَتَلَازَمَانِ فِي مِثْلِ صَلُّوا، وَصُومُوا لِامْتِنَاعِ إيقَاعِ الْأَفْرَادِ فِي زَمَانٍ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مِثْلِ طَلِّقِي نَفْسَك لِجَوَازِ أَنْ يَقْصِدَ الْعُمُومَ دُونَ التَّكْرَارِ، وَعَامَّةُ أَوَامِرِ الشَّرْعِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ فِيهِ الْعُمُومُ التَّكْرَارَ فَلِذَا يَقْتَصِرُ فِي تَحْرِيرِ الْمَبْحَثِ عَلَى ذِكْرِ التَّكْرَارِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْعُمُومُ أَيْضًا نَظَرًا إلَى تَغَايُرِ الْمَفْهُومَيْنِ، وَصِحَّةِ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِقَرِينَةِ الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ أَوْ الْخُصُوصِ، وَالْمَرَّةِ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْأَفْرَادِ، وَالتَّكْرَارَ فِي الزَّمَانِ، أَمَّا الْعُمُومُ فَلِدَلَالَتِهِ عَلَى مَصْدَرٍ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ؛ لِأَنَّ اضْرِبْ مُخْتَصَرٌ مِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ الضَّرْبَ عَلَى قَصْدِ إنْشَاءِ الطَّلَبِ دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَسَتَعْرِفُ جَوَابَهُ، وَأَمَّا التَّكْرَارُ، فَلِأَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَهِمَ التَّكْرَارَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ حِينَ سَأَلَ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ لَا يُقَالُ: لَوْ فَهِمَ لَمَا سَأَلَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ عَلِمَ أَنْ لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ فِي حَمْلِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ عَلَى مُوجِبِهِ مِنْ التَّكْرَارِ حَرَجًا عَظِيمًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ.
وَجَوَابُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَهِمَ التَّكْرَارَ، بَلْ إنَّمَا سَأَلَ لِاعْتِبَارِهِ الْحَجَّ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ حَيْثُ تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَأَى الْحَجَّ مُتَعَلِّقًا بِالْوَقْتِ، وَهُوَ مُتَكَرِّرٌ، وَبِالسَّبَبِ أَعْنِي الْبَيْتَ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَكَرِّرٍ، وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ سُرَاقَةُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَمْرِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ «النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا
أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ) .
سَأَلَ أَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فِي الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَهِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يُوجِبُ التَّكْرَارَ (قُلْنَا اعْتَبَرَهُ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْتَمِلُهُ؛ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمَصْدَرَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَخُصُّ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ، وَعِنْدَ بَعْضِ عُلَمَائِنَا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قُلْنَا لُزُومٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ لَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَائِنَا لَا يَحْتَمِلُهُمَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ فَرْدٌ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ مُتَيَقَّنٌ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ، وَذَا مُحْتَمَلٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْضِ) أَيْ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْضِ (فَفِي طَلِّقِي نَفْسَكِ يُوجِبُ الثَّلَاثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا الِاثْنَيْنِ) ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَجْمُوعُ أَفْرَادِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ وَاحِدًا اعْتِبَارِيًّا، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ، وَلَا دَلَالَةَ لِاسْمِ الْفَرْدِ عَلَى الْعَدَدِ فَذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
ــ
[التلويح]
ثَلَاثًا فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَالْمَعْنَى لَوْ قُلْت نَعَمْ لَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْأَمْرِ، قُلْنَا: لَا بَلْ مَعْنَاهُ لَصَارَ الْوَقْتُ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ صَاحِبَ الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ نَصْبُ الشَّرَائِعِ.
الثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً، وَمُتَكَرِّرًا، وَلِهَذَا يَتَقَيَّدُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلُ اضْرِبْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لِمَا مَرَّ مِنْ سُؤَالِ الْأَقْرَعِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مُخْتَصَرًا مِنْ أَطْلُبُ مِنْك ضَرْبًا أَوْ أَفْعَلُ ضَرْبًا، وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ مَعْرِفَةً بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يَحْتَمِلُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ وَاحِدٌ.
الثَّالِثُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ مُقَيَّدًا بِثُبُوتِ وَصْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قَيَّدَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ بِتَحَقُّقِ وَصْفِ دُلُوكِ الشَّمْسِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَجَدُّدِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِتَجَدُّدِ الْمُسَبِّبِ لَا مِنْ مُطْلَقِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفٍ، وَلَا يَلْزَمُ تَكَرُّرُ الْمَشْرُوطِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ فَإِنْ قُلْت: الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ مُقَيَّدٍ فَلَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ لَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بَلْ لِلْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ قُلْت: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هُوَ
بَيَانًا لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَمَرَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ فَأَوْرَدْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ فَعَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ يَنْبَغِي؛ أَنْ يَثْبُتَ التَّكْرَارُ وَإِنَّمَا قُلْتُ يَنْبَغِي لِأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ التَّكْرَارَ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ التَّكْرَارُ عِنْدَهُمْ.
(وَفِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ يَنْبَغِي
ــ
[التلويح]
الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةِ التَّكْرَارِ أَوْ الْمَرَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ أَوْ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا إشْكَالَ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوجِبُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ حَتَّى لَا يَنْتَفِي إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَك، وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي التَّقْوِيمِ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤَثِّرُ التَّعَلُّقُ فِي إثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ قُلْنَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ فَإِنَّ الْقَيْدَ رُبَّمَا يَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ مَدْلُولِهِ كَصِيَغِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ وَإِذَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ يَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ.
الرَّابِعُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ بَلْ هُوَ لِلْخُصُوصِ، وَالْمَرَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا مِثْلُ اُدْخُلْ الدَّارَ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ مِثْلُ إنْ دَخَلْت السُّوقَ فَاشْتَرِ اللَّحْمَ لَا يَقْتَضِي إلَّا اشْتِرَاءَ اللَّحْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ، وَالتَّكْرَارُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ كَتَكَرُّرِ السَّبَبِ مَثَلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِصِفَةٍ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا، وَيُحْتَمَلُ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ مُفْرَدٍ، وَالْمُفْرَدُ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ فَيَتَعَيَّنُ، أَوْ اعْتِبَارًا أَعْنِي الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْحَيَوَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَالطَّلَاقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَكَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ أَوْ الْجُزْئِيَّاتِ لَا يَمْنَعُ الْوَحْدَةَ الِاعْتِبَارِيَّةَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ لَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ مِثْلُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثِنْتَيْنِ أَوْ صُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بَلْ تَغْيِيرٌ إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا قُرِنَ بِالصِّيغَةِ ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الْإِيقَاعِ يَكُونُ الْوُقُوعُ بِلَفْظِ الْعَدَدِ لَا بِالصِّيغَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً، وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ طَلَّقْتُك، وَطَلِّقِي نَفْسَك فَقَدْ سَبَقَ فِي بَحْثِ الِاقْتِضَاءِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ؛ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُقْتَرِنَ بِشَيْءٍ مِنْ