الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا " (1) ولا بأس أن نشغل الكوثري بشيء من هذا حتى نستريح من تجارته التي اعتادها من رمي خيار الأمة، بالتعصب وعدم الثقة، من أجل أنهم قاموا لله تعالى برد بطلان المبطلين، ولا بأس كذلك أن يرميني فوق ما رماني به من النذالة والبهتان بما شاء له قلمه وعلمه، ولست أستشهد لنفسي بألوف المصلين ورائي في المسجد الحرام، وإنما حسبي رضاهم وكفى.
وليغضب عليّ بعد ذلك الكوثري ما شاء أن يغضب، وليسبني ما شاء له السب، وليشتمني ما شاء له الشتم، فأنا أجلس في حلقة تدريس التفسير والحديث في المسجد الحرام أول بيت وضع للناس لعبادة الله تعالى، وأؤم الناس في الجمع والأعياد والجماعات، نيابة عن إمامه الأول، وأخطب الجمع والأعياد على منبر المسجد الحرام على ألوف الحجيج والمصلين، وأدرِّس الحديث متنه وفقهه بدار الحديث المكية، وحسبي ذلك كله في رد شتائم الكوثري وبذاءته.
الكوثري والغلو
!!
يغلو الكوثري غلواً لا يقبله ذو عقل منصف في إمامه أبي حنيفة، بما نظن أن أبا حنيفة لا يرضى مثل هذا الغلو والاطراء عملا بحديث (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)(2) .
ويقول تعالى: " لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ "(3) وإذاً فأبو حنيفة كسائر الرجال له ما للناس وعليه وما عليهم، فليس هو كما زعم الزاعم فيه أنه لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين مثل ما ظهر له من الأصحاب والتلاميذ، ولا أنه لم ينتفع العلماء وجميع الناس بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة والمسائل المستنبطة والنوازل والقضاء إلى آخر ما حشى به كتابه هذا المحب الجاهل الذي خير منه عدو عاقل، يضع الأمور في ميزان العدل والانصاف، ويقول: إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم، وأن كل مؤمن له حسنات وسيئات كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فأبو حنيفة كسائر الناس، له ما كسب وعليه ما اكتسب.
(1) سورة الإسراء: 20
(2)
متفق عليه
(3)
سورة النساء: 171
أما السر الذي يحكيه الكوثري عن ابن الأثير بأمانة أو بغير أمانة، وشكنا في أمانته أنه لم يجرؤ أن ينقل في لفظ المجد ابن الأثير، وقد عرفنا أمانة الكوثري في تأنيبه للخطيب وحسبك منه بهت أنس بن مالك بالخرف والأمية واتهامه براوية ما يعلمه الرسول في قتل اليهودي، وقاتل الجارية الأنصارية بغير بينة، وأن أحد رواة الصحيحين أبي عوانة اليشكري وضَّاع - أي كذاب، حسبك في أمانته هذا إذا نقل نصوصا بألفاظها، فكيف إذا عدل عن النص إلى المعنى؟ كيف يكون أمينا عليه عند من عرف حاله هذه؟
هذا السر الذي يتكثر به الكوثري أنه ما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا يعبدون الله على فقه هذا الإمام - يعني أبا حنيفة - لو لم يكن لله سر خفي في ذلك، هذا السر الخفي عند الكوثري ومن نقل عنه هو حصاد التتار للملايين من هؤلاء الأتباع حصد القمح والشعير، وهذا السر هو سوم الجهريين من الروس والشيوعيين لهؤلاء الأتباع العابدين لله تعالى على مذهب هذا الإمام سوم الماشية التي تقتنى للحرث والسقي والحلب والذبح هذا السر هو شيخوخة الدولة العثمانية بعد الفتوة، حتى اندثرت وخلفتها حكومة لا دينية، طردت وكيل المشيخة الإسلامية إلى حيث لا رجعة له، إلى بلاد آمنت بمدنية مادية لا أثر للروح والدين فيها!
تقول اللامذهبية التي يبهتها الكوثري بأنها قنطرة اللادينية تقول له ولأمثاله كلمة صريحة صادقة: إن أزهر عصور الإسلام هو عصر اللامذهبية، عصر الصحابة والتابعين إذ كانت هداية الناس وبصيرتهم مقتبسة من الكتاب والسنة، وإذ لم يكن هناك فيهم من يقول: الأصل كلام أصحابنا: فإن كان هناك ما يعارضه من القرآن تأولناه، وإن كان هناك حديث معارض رددناه كرد حديث أنس في رضِّ رأس اليهودي الذي رض رأس الأنصارية لأجل نقل عن أبي حنيفة (ولو ضربه بأبا قبيس) ، كانت خير عصور المسلمين عصر الصحابة والتابعين، حيثلا مذاهب تُرَدُ لأجلها نصوص الكتاب والسنة.
فلما انحدر المسلمون إلى هو ة التقليد وصار فيهم من يقول: الأصل كلام
أصحابنا، ونرد ما خالفه من كتاب وسنة (1) دالت دولة المسلمين واستولى عليهم من لا يقيم للإسلام وزنا وإن تظاهر به لإسكات العامة، ثم كانت المصائب أتخم بها بطن التاريخ من غزو التتار لشرق البلاد وفيهم أتباع مقتدي الأمة وقدوة الأئمة، وغزو الافرنج للشام ومصر، وقبلها تنصير مسلمي الأندلس، ثم تنفس الإسلام بحيويته الكامنة؛ فكان طرد الفرنجة من الشام وشواطئ مصر وغزو الترك لشرق أوروبا وفتح القسطنطينية.
ثم فترت همة الإسلام بشؤم التقليد، والإعراض عن الكتاب والسنة، حتى كان ما نراه اليوم وقبل اليوم من استيلاء الدهرية الأوروبية على معاقل الإسلام وحصونه ودياره من الهند وأندونيسيا وشواطئ إفريقيا؛ الجزائر وتونس ومراكش وطرابلس ومصر والشام والعراق وأطراف الأمبراطورية العثمانية وارتماء تركيا الحديثة إلى أحضان أوروبا ودهريتها وخلاعتها.
كل هذا - وربك أيها القارئ - بشؤم وترك هداية الكتاب والسنة، وآخر الطوام خروج تركيا الفتاة وأعني رجال حكومتها عن دين الإسلام الصحيح والمحرف وإعلانهم دهرية الحكومة وأنها لا دين لها؛ فهل كان هذا من عواقب اللامذهبية الذي يأخذون دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أو هو شؤم التمهذهب بغير بصيرة ولبس الدين مقلوبا، وقياس المرأة المسلمة الشافعية التي تقول: أنا مؤمنة إن شاء الله تعالى، في حل نكاحها على اليهودية والنصرانية، وجعل طول "الذَكَر" أو قصره من مرجحات الإمامة في الصلاة فيقدم طويل الذكر أو قصيره إماما على من ليس كذلك، وأخيراً: إن الأصل كلام أصحابنا، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وما خالفه من
(1) ومثلها عبارة الكرخي: كل آية أو حديث ليس عليه أصحابنا فهو منسوخ أو مؤول.
وهذا الكلام خطير يجعل أقوال الناس - وبعضهم مجهول الحال أو العين - الحكم على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى فيه:"وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى".
وهذا أسهل ممن جاء بعدهم ممن جعل للأحناف قواعد خاصة لتصحيح الحديث وتضعيفه، وجعل قواعدهم مقدمة على تصحيح وتضعيف المحدثين
…
إلخ.
كتاب أوَّلناه؛ ومن سنة رددناه كرد حديث أنس في قتل قاتل الجارية بما قتل به أنه من تخريف أنس الذي شاخ وخرف فروى لنا قتل النبي ليهودي بلا بينة ولا اعتراف، ورواية الاعتراف يرويها قتادة المدلس، الذي لم يعرف البخاري تدليسه، وعرفه أذكياء: ولو ضربه بأبا قبيس، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وفي أصحابي من يبول قلتين لتقذير حديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وإذا كانوا في سفينة كيف يتفرقون لرد حديث: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا و
…
و
…
وأن القرآن الذي نسمعه ليس إلا صوت القارئ ونغمه، ليس هو كلام الله فليس لله كلام بيننا!! وإنما هي أصوات محدثة ليس من الله بدأ، ولا إليه يعود وإن إيمان السكير العربيد مثل إيمان جبريل وميكائيل ومحمد وأبي بكر وعمر
…
إلخ.
كل هذا وأضعافه كان سبب ضعف الإسلام؛ وزوال دوله وقوته وعزته، وتحكم الكفار في مصائر أهله، وسومهم سوء العذاب.
وليس بين المسلمين اليوم إلى يوم القيامة وبين العز والسؤدد ومزاحمة ركب الحياة سوى التوجه إلى كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهما والعلاج بأدويتهما في تصحيح ما فسد من عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم ودينهم ودنياهم بلا تقيد بأحد معين كائنا من كان، سوى التقيد برواية الثقات منهم وإيضاح ما أبهم مما أثر من علم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
وقد حفظ الله القرآن فضلا منه، وإعذارا بنصه وحروفه وكلماته ومعناه، وقيض لما فسره من السنة النبوية من باعوا أنفسهم لله تعالى في تدوينها وتمحيصها وتهذيبها وتبويبها للتناول، وما على الناس إلا الاهتداء والعمل والاقتداء واليقظة بعد طول المنام والغفلة والجهالة، أخذ الله بأيدينا وقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا إلى سلوك الصراط المستقيم آمين.
(9)
يعجب الكوثري عجبا يبرر به جرح رواة حكاية الخراساني الذي جاء إلى أبي حنيفة ليسأله عن مائة ألف مسألة كما زعم، وقول أبي حنيفة له: هاتها، ويقول: إنها أسطورة ومخالفة للمعقول ونقول معه إنها كذلك، ولكن المسؤول عن مجازفتها ومخالفتها للمعقول وأسطوريتها هو الخراساني قائلها، وأبو حنيفة مستعملها لا ابن
عيينة، راويها ولا من رواها عن ابن عيينة.
وفرعون عندما قال لهامان: "ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (*) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"، كان السخف في قوله وتصوره وعقله لا فيمن حكى هذا السخف وذلك الهراء عنه، فالمسؤول عن سخف السؤال عن مائة ألف مسألة: هو الخراساني السائل والمستمع المتهيء للإجابة، فالانصاف تحميل كل مسؤول مسؤوليته عن عمله، لا تبرئة المجرم وتحميل جرمه للبريء.
ولو كنا نكذب الرواة الذي يروون جزاف المجازفين، وحماقة الحمقى، وإغراب المغربين، لما صح لنا شيء عن مجازف ولا أحمق ولا مجنون ولا دونت الغرائب والعجائب. كذلك حكاية كتابة ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، حينما كان أبو جعفر بالمدينة، بشهادة حماد ابن أبي سليمان عنده على قول أبي حنيفة بخلق القرآن، وأن أبا جعفر أمر بضرب عنقه إن شهد عليه آخر مع حماد، يحاول الكوثري ردها بما جاء فيها: أن أبا جعفر كان بالمدينة، فنسج له خياله أن ذلك كان في أيام هشام بن عبد الملك في العصر الأموي قبل أن تولد الدولة العباسية بزمن ليس باليسير، وقبل أن يعرف أبو جعفر؛ فإن كان في الدنيا عجب عجاب فهذا نموذج منه، وإن كان في الدنيا قلب للحقائق وإنكار للشمس في ضحى النهار، فهاك مثالا له، كأن أبا جعفر المنصور العباسي لم يدخل المدينة ولا وطئتها قدماه أيام خلافته لا في حج ولا زيارة ولا غيرها، ولا عرف المدينة إلا في عهد هشام كما تخيله الكوثري، وكأن ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بلغ من البلاهة وهو القاضي الذي يعرف من يكتب إليه ومن بيده تنفيذ ما يكتب، فيكتب إلى رجل مدسوس مغمور لا يملك من سلطة المسلمين والحكم فيهم قطمير ولا نقير؛ يكتب من الكوفة التي هو قاض فيها، متعديا عامل الكوفة وأميرها ومتعديا ملك المسلمين وخليفتهم حيث هو إلى رجل ليس له من الأمر شيء، هو أبو جعفر المنصور في عصر هشام بن عبد الملك الأموي، ربما كان فتى يطلب العلم ليس بيده من السلطة ولا سلطة شرطي، فيكتب إليه قاضي الكوفة في
مسألة استتابة فيها ضرب عنق! يا للهذر ويا للمحششة والأفينة! (1) .
ثم يتصور الكوثري جواب أبي جعفر المنصور حينئذ الذي ليس بيده من الحكم تقليم ظفر أن يكتب إلى قاضي الكوفة بضرب عنق من قال بخلق القرآن، كأن القاضي ورواة الحكاية بلغوا من الجنون والهذيان ما يرثي لهم، كل هذه المضحكات المخزيات المبكيات يولدها الكوثري من لفظة:(المدينة) التي جاءت في الحكاية ليسوغ له رمي رواة الحكاية بالحمق الذي يتندر به ويماجن المجان به، أن يرووا حكاية أبطالها ومسرحهم وفصولهم لا تكون إلا في العصر العباسي، فيروونها في العصر الأموي، عصر هشام ابن عبد الملك جهلا منهم بألف باء التاريخ والواقع، من أجل أن الرواي روى فيها: أن القاضي قاضي الكوفة كتب إلى أبي جعفر المنصور العباسي الخليفة بالمدينة؛ فيحلل المحقق الكوثري من كلمة (بالمدينة) أن يكون ذلك في عهد هشام بن الملك الأموي قبل أن تولد الدولة العباسية، وقبل أن يعرف أحد الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور بالخلافة أو الملك، وأخيراً: ما لنا ولمناقشة هذه الهزيلة المسرحية حسب تصوير خيال الكوثري لها، وإنما نريد أن نسأله عما جاء في كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري من روايته عن حماد بن أبي سليمان لما بلغه قول أبي حنيفة بخلق القرآن: أبلغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من دينه (أو ما هذا معناه) .
نريد تأنيبا شديدا للأشعري نسمع منه طرائف علم الكوثري فلعله يفتح له بابا من الرزق نضب منه معين تأنيب الخطيب، ولعلنا نسمع فيه نذالة الأشعري وبهته وحسده لأبي حنيفة من أجل حرمانه من القضاء الذي فاز به الحنفيون وتحسر عليه أهل الورع والتقوى من رواة الأخبار، التي جاءت في بيان حال أبي حنيفة، فحملهم الحسد أن يقولوا في أبي حنيفة ما ليس فيه، وعندما يخرج لنا تأنيب الأشعري نذكر له