المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دعوة الكوثري للمباهلة - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - ط المكتب الإسلامي - جـ ١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ مقدمة

- ‌قلبه للحقائق رأساً على عقب

- ‌الكوثري وتبين كذب المفترى

- ‌خيانته في النقل وجرأته على الله عز وجل

- ‌عرش الرحمن

- ‌كذب مفضوح في كتاب مطبوع

- ‌فصل: في الكشف عن مذهب المعتزلة وبيان حقيقته

- ‌خلاصة ما تقدم

- ‌كلام هؤلاء الطوائف

- ‌نفي القول بخلق القرآن

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله

- ‌طلب المباهلة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌الإيمان قول وعمل

- ‌إحراج الكوثري

- ‌اللامذهبية

- ‌الكوثري يشتم الأئمة

- ‌الكوثري يشتم الصحابة

- ‌طبع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌الكوثري والغلو

- ‌دعوة الكوثري للمباهلة

- ‌الجزء الأول

- ‌القسم الأول: في القواعد

- ‌1- رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

- ‌2- التهمة بالكذب

- ‌3 - رواية المبتدع

- ‌4- قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك

- ‌5- هل يشترط تفسير الجرح

- ‌تحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل

- ‌6- كيف البحث عن أحوال الرواة

- ‌7- إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل

- ‌8- قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا

- ‌9- مباحث في الاتصال والانقطاع

- ‌المبحث الأول: في رواية الرجل بصيغة محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت لقاؤه له

- ‌المبحث الثاني: في ضبط المعاصرة المعتد بها

- ‌المبحث الثالث: لا يكفي احتمال المعاصرة

- ‌المبحث الرابع: اشترط العلم باللقاء أو بالمعاصرة إنما هو بالنظر إلى من قصدت الرواية عنه

- ‌المبحث الخامس: اشتهر في هذا الباب العنعنة مع أن كلمة «عن» ليست من لفظ الراوي

- ‌القسم الثاني في التراجم

- ‌1- أبان بن سفيان

- ‌2- إبراهيم بن بشار الرمادي

- ‌3- إبراهيم بن الحجاج

- ‌4- إبراهيم بن راشد الآدمي

- ‌5- إبراهيم بن سعيد الجوهري

- ‌6- إبراهيم بن شماس

- ‌7- إبراهيم بن أبي الليث

- ‌8- إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر أبو إسحاق الفزاري

- ‌9- إبراهيم بن محمد بن يحيى أبو إسحاق المزكي النيسابوري

- ‌10- إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني

- ‌11- أحمد بن إبراهيم

- ‌12- أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك أبو بكر القطيعي

- ‌13- أحمد بن جعفر محمد بن سلم

- ‌14- أحمد بن الحسن بن جنيدب أبو الحسن الترمذي الحافظ

- ‌15- أحمد بن الحسن بن خيرون

- ‌16- أحمد بن خالد الكرماني

- ‌17- أحمد بن الخليل

- ‌18- أحمد بن سعد بن أبي مريم

- ‌19- أحمد بن سلمان النجاد

- ‌20- أحمد بن صالح أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري

- ‌21- أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق أبو نعيم الأصبهاني الحافظ

- ‌22- أحمد بن عبد الله الأصبهاني

- ‌23- أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن العكي

- ‌24- أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود

- ‌25- أحمد بن عبيد بن ناصح أبو عصيدة النحوي

- ‌26- أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي

- ‌27- أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس الأبار

- ‌28- أحمد بن الفضل بن خزيمة

- ‌29- أحمد بن كامل القاضي

- ‌30- أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي

- ‌31- أحمد بن محمد بن الحسين الرازي

- ‌32- أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني إمام أهل السنة

- ‌33- أحمد بن سعيد بن عقدة

- ‌34- أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلِّس الحماني

- ‌35- أحمد بن محمد بن عبد الكريم أبو طلحة الفزاري الوساوسي

- ‌36- أحمد بن محمد بن عمر

- ‌37- أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست أبو عبد الله العلاف

- ‌38 - أحمد بن المعذل

- ‌39- أحمد بن موسى النجار

- ‌40- أحمد بن يونس

- ‌41- الأحوص الجَوَّاب أبو الجواب

- ‌42- إسحاق بن إبراهيم الحنيني

- ‌43- إسحاق بن إبراهيم الموصلي

- ‌44 - إسحاق بن عبد الرحمن

- ‌46- أسد بن موسى بن إبراهيم المرواني الأموي

- ‌47- إسماعيل بن إبراهيم بن معمر أبو الهذلي الهروي الكوفي

- ‌48- إسماعيل بن بشر بن منصور السليمي أبو بشر البصري

- ‌49- إسماعيل بن أبي الحكم

- ‌50- إسماعيل بن حمدويه

- ‌51- إسماعيل بن عرعرة

- ‌52- إسماعيل بن عياش الحمصي

- ‌53- إسماعيل بن عيسى بن علي الهاشمي

- ‌54- الأسود بن سالم

- ‌55- أصبغ بن خليل القرطبي

- ‌56- أنس بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌57- أيوب بن إسحاق بن سافري

- ‌58- بشر بن السري

- ‌59- بقية بن الوليد

- ‌60- تمام بن محمد بن عبد الله الأذني

- ‌61- ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي

- ‌62- جراح بن منهال أبو العطوف

- ‌63- جرير بن عبد الحميد

- ‌64- جعفر بن محمد بن شاكر

- ‌65- جعفر بن محمد الصندلي

- ‌66- جعفر بن محمد الفريابي

- ‌67- حاجب بن أحمد الطوسي

- ‌68- الحارث بن عمير البصري

- ‌69- حبيب بن أبي حبين كاتب مالك

- ‌70- الحجاج بن أرطاة

- ‌71- الحجاج بن محمد الأعور

- ‌ ثناء الأئمة على الحجاج:

- ‌72- حرب بن إسماعيل الكرماني السيرجاني

- ‌73- الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان أبو علي بن أبي بكر

- ‌74- الحسن بن الحسين بن العباس بن دوما النعَّالي

- ‌75- الحسن بن الربيع أبو علي البجلي الكوفي

- ‌76- الحسن بن الصباح أبو علي البزار الواسطي

- ‌77- الحسن بن علي بن محمد الحلواني نزيل مكة

- ‌78- الحسن بن علي بن محمد أبو علي المذهب التميمي

- ‌79- الحسن بن الفضل البوصرائي

- ‌80- الحسين بن أحمد الهروي الصفار

- ‌81- الحسين بن إدريس الهروي

- ‌82- الحسين بن حميد بن الربيع

- ‌83- الحسين بن عبد الأول

- ‌84- الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي

- ‌85- حماد بن سلمة بن دينار

- ‌86- حنبل بن إسحاق

- ‌87- خالد بن عبد الله القسري

- ‌88- خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك

- ‌89- داود بن الحجر

- ‌90- دعلج بن أحمد السجزي

- ‌91- الربيع بن سليمان المرادي

- ‌92- رجاء بن السندي

- ‌93- رقبة بن مصقلة

- ‌94- زكريا بن يحيى الساجي

- ‌95- سالم بن عصام

- ‌96- سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير

- ‌97 - سعيد بن عامر الضبعي

- ‌98- سفيان بن سعيد الثوري

- ‌99- سفيان بن عيينة

- ‌100- سفيان بن وكيع

- ‌101- سلام بن أبي مطيع

- ‌102- سلامة بن محمود القيسي

- ‌103- سلمة بن كلثوم

- ‌104- سليمان بن عبد الله

- ‌105- سليمان بن عبد الحميد البهراني

- ‌106- سليمان بن فليح

- ‌107- سنيد بن داود

- ‌108- شريك بن عبد الله النخعي القاضي

- ‌109- صالح بن أحمد

الفصل: ‌دعوة الكوثري للمباهلة

ما جاء عن أبي حنيفة في كتاب "مشكل الحديث" لابن قتيبة ليخرج لنا تأنيبا ثالثا لابن قتيبة، ثم ما جاء في تواريخ البخاري الثلاثة، والضعفاء له، والضعفاء والمتروكين للنسائي، وتاريخ ابن أبي خيثمة، والساجي والخلال وما جاء في كتاب الحج للترمذي في باب إشعار الأبل، وما جاء في المحلى لابن حزم في كتاب الحج وغيره؛ وما جاء في الانتقاء لابن عبد البر وغيرها وغيرها، لنسمع طرائف من العلم ما كنا لنسمعها، لو لم نثر هذا الكاتب اللوذعي ونهيجه بنقل ما سجله التاريخ من كلام معاصري أبي حنيفة فيه، والحَكَم بينهم هو الله يوم القيامة.

‌دعوة الكوثري للمباهلة

وإن عودة الكوثري إلى رمي المؤمنين بالله وبما جاء من صفاته في القرآن والسنة، أنهم محددون لله ويصفونه بالجلوس والمس والحركة، وتجويز استوائه على ظهر بعوضة، إلى آخر ما هذى به. سبق الكلام على هذا البهتان وأجبنا عن ذلك الهراء ودعوناه إلى المباهلة ليحكم الله بيننا وبينه، أننا نؤمن بالله على الوجه الذي أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، مع التنزيه ونفي التشبيه، ولا تلزمنا لوازم النفاة الجعدية الجهمية المريسية، ونقول لمن يلزمنا إياها: سبحانك هذا بهتان عظيم.

فإن شاء أن يباهل على ذلك، باهلته أنا أمام بيت الله تعالى وقت السحر وليتخير له ما شاء من ضريح أو معبد أو وثن أو مشهد وكفى بالله شهيداً، ونمر على ما وصف به خيار خلق الله، الذين يؤمنون بصفات الله تعالى كما أخبر بها بأنهم أهل الضلال الأغبياء والطغام، نمر على ذلك مر الكرام، كذلك ما وصف به الكوثري الخطيب لروايته ما جاء عن الأولين في تاريخه عن أبي حنيفة بأنه سخيف من سخفاء الرواة، ونعرض عن تناقضه إذا أراد تكذيب هشام بن عروة، فحينئذ يكون الحطيئة ثقة معتمداً عنده، ولسنا نعجب أن يكون الحاكم عند الكوثري بالغ التخليط من أجل أنه روى في مستدركه الذي قيل إنه كان مسودة لم يبيض فوقع فيه عدة أحاديث قابلة للتمحيص لو أمهلته المنية لأعاد النظر فيه، والعلماء قبلوا الحاكم عالماً راوياً وناقداً للرجال، ونقلوا أقواله في ذلك واعتمدوا إلا عند الكوثري في القرن الرابع عشر لنقله ما قيل في أبي حنيفة.

ص: 136

وقبول الذهبي لتوثيق الحاكم لا قيمة له عند الكوثري، لأن الذهبي عند الكوثري كالببغاء ردد قول الحاكم وتابعه بلا فحص مباشر، فلا يكون كلامه من كلام أهل الشأن المعاصرين للراوي فليسقط توثيق الحاكم وتوثيق الذهبي معه (1) ، لأن الكوثري أسقطهما ولأنهما لِرَجُلٍ روى ما سجله التاريخ عن رجل عرفه أهل عصره، وجاء الغلاة فقالوا فيه: إمام الأئمة والإمام الأعظم وفقيه الأمة الأوحد

إلخ. وعندما يحتاج الكوثري إلى اتهام هشام بن عروة أحد رجال الكتب الستة، بنقل لا يصح عن مالك يعتمد الخطيب وينقل تلك الفرية، وأعاد الكوثري رمي أهل السنة من الصحابة والتابعين الذين يقولون إن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، لأنهم لم يقولوا إن إيمان السكير العربيد قاطع الطرق كإيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فعاد يرميهم بالانحياز إلى طوائف الاعتزال والخوارج، شاعرين أو غير شاعرين.

فنؤكد للكوثري أن هؤلاء الأئمة، من الصحابة والتابعين وتابعيهم أعرف بالإيمان وبكتاب الله تعالى وبالصراط المستقيم وطريق السنة والجماعة، وبما خالف ذلك من طرق الاعتزال والخروج، أعرف بذلك منه ومن إمامه ومن سائر المرجئة والجهمية والجعدية والمريسية، فليطمئن خاطرا أو ليحترق بما شاء من حطب الغيظ والحقد، ولينبزهم بما شاء له الهوى من ألقاب الضلال والحشو والغباء

إلخ ما منحهم به مما جاد به عليهم من أدبه ونزاهته.

لو كنت أعلم أن ما علقت به على طليعة الأستاذ اليماني أن سيرميني بالنذالة والبهت التي يكذبه فيها إمامتي بالمسجد الحرام أمام بيت الله الكعبة المشرفة بألوف المسلمين حجاج ومجاورين بلد الله ولكن:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي

فلا زال غضباناً عليَّ لئامها

(1) هنا يرد الكوثري كلام الذهبي ويسقط منزلته بين أهل الفهم والدراية وكذلك جميع كلامه في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن إن جاء إلى الرسالة المزعومة جعل يكيل المدح للذهبي!!

ودون إثبات رسالة الذهبي خرط القتاد.

ص: 137

لو كنت أعلم أنه سيرميني بالنذالة والبهت، وأنه سيرميني ويرمي خيار خلق الله من أتباع سلف الأمة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل مع التنزيه التام- بأنهم الضلال الطغام

الأغبياء، أقول لو كنت أعلم ذلك ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لتركته يحترق في غيظه ويتفتت من حنقه وحقده من خيار خلق الله تعالى، وكنت التزمت النهي في قول الله تعالى:" وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(1) .

وأخيراً فليتهمني بما شاء من ألقاب النذالة؛ وليبهت الخطيب بما أحب من تسخيف وتكذيب؛ والحاكم بما شاء من تخليط، والذهبي بما شاء من تقليد أعمى ومتابعة بغير فهم ولا بصيرة؛ وأبا نعيم والبيهقي وأبا الشيخ بالتعصب وعدم الوثوق بهم وأهل السنة الذين يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل السنة الذين يؤمنون بزيادة الايمان ونقصه بسبب الطاعات والمعاصي اتباعاً لنصوص الكتاب والسنة، ولا يقولون إن إيمان السكير المعربد، كايمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فليرم كل هؤلاء بالضلال والغباء والحشو والطغامية، حتى يبرد قلبه من النار التي أحرقته لبيان حال إمامه وما قاله فيه معاصروه فمن بعدهم بمبلغ علمهم واجتهادهم الذي يؤجرون عليه ولو أخطأوا ونسوق اليه بشرى أمل يكتب على رجائها تأنيباً آخر لحافظ الأندلس فيما قاله من نفسه أو أثره عن غيره مما لا ينقص عما نقله الخطيب إن لم يزد عليه، فنرى ماذا يتحف ابن عبد البر به من سباب وشتم وتجريح ثم قد نتمادى بإمداده بأسباب رزق له بما ننقل عن البخاري في تواريخه الثلاثة وضعفائه؛ وعن النسائي وعن الترمذي وعن كتاب الوتر لمحمد بن نصر المروزي، وعن كتاب مشكل الحديث لابن قتيبة والضعفاء والمتروكين لابن الجارود ممن ترجموا إمامه وبينوا حاله، فإن رمانا بعداوة إمامه تمثلنا له بالمثل المشهور: عدو عاقل خير من محب جاهل، فيكون عليه وحده تبعات ما أوجب صنيعه من اثارة مدفوعات الدفاتر، ودخائل الأثار وما صرح به علماء الجرح والتعديل الذي لا تأخذهم في الله لومة لائم

(1) سورة الأنعام: 108.

ص: 138

فقالوا ونصحوا وبينوا وكتبوا ما حفظه عنهم التاريخ وما كنا نحب أن تثار لولا غلوه الجاهل وحبه الأحمق وجنونه على حد تعبير بعضهم فيه، وان كانت المسألة لا تعدو عند من دقق أن تكون مورد ارتزاق لمن أغلقت في وجهه سبل العيش المعتاد الهني الرغد.

يتمدح الكوثري بما نقل عن ابن رجب أن مذهب أبي حنيفة رد الزائد إلى الناقص في الحديث متناً وسنداً، وأن ذلك احتياط بالغ في دين الله، ويصور ذلك بأن يرد سندان أحدهما بذكر راو والثاني بحذفه، فيعتمد الحذف ويجعل الخبر منقطعاً ويطرحه، ولم يقدر الكوثري أن يعين وجه بناء مذهبه على المرسل المتقطع، وفَرَّ عن ذلك فرار الجبان من مواجهة رماح الشجعان.

ولا أدري ما هي الزيادة أو النقص متناً وسنداً في حديث أم سلمة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ فأحكم بينكمْ بنحو مما أسمع، ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَنَ بحجته من بعض فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذ أو ليدع " أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأخذ العلماء من ذلك أن حكم القاضي لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال، وأما صاحب العقلية الجبارة والرأي الحسن، فرأى حكم القاضي يحل الحرام ويحرم الحلال، وأجاز لمن شهد زوراً بطلاق امرأة وأثبت القاضي طلاقها بهذه الشهادة الزور أن يتزوجها ذلك الشاهد زوراً وتحل له ليجمع عند الله بين شهادة الزور في طلاق من لم يطلق وينكح الفرج الحرام الذي حلله بشهادة الزور، وهذا من الاحتياط البالغ عند صاحب العقلية الجبارة والرأي الحسن في الدين، ولا أدري ما هي الزيادة والنقص متناً وسنداً في حديث جعله صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم من الغنيمة، وللراجل سهم حتى رده صاحعب العقلية الجبارة، والاحتياط البالغ للدين بقوله: لا أُفَضِّل بهيمة على رجل مسلم- والعلماء يعلمون أن ذلك ليس من باب تفضيل البهيمة على الرجل المسلم، وإنما ذلك من تفضيل مسلم صاحب فرس أنفق عليها وأبلى بها بلاء حسناً في الجهاد على رجل راجل ليس معه هذه الفرس ولا له هذا البلاء، فلذلك أعطى الفارس بسبب فرسه لنفقته عليها وبلائه بها ثلاثة أسهم، فزيد سهمين على الراجل الذي لا فرس له، وهذا عَدْل جاء

ص: 139

به الشرع وتشهد له الفطرة إلا عند صاحب العقلية الجبارة، ولا أدري ما الزيادة أو النقص في السند أو المتن، في حديث سهل بن سعد الساعدي في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا بإمرأة على ما معه من القرآن فرده صاحب العقلية الجبارة باشتراط أن يكون الصداق ربع دينار فأكثر، قياساً لحل الفروج على قطع اليد في السرقة، فأين البصرة من الدار البيضاء؟ ولا أدري ما هو القرآن أو الإجماع الذي دل على حديث نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وحديث نقض الوضوء بالقيء والرعاف الخ، وليست القهقهة في الصلاة بأفحش من قذف المحصنات الغافلات في الصلاة وهم لا ينقضون به الوضوء، فاين القياس والعقلية الجبارة والرأي الحسن؟

(10)

أسرف الكوثري في جرح رجال أسانيد الخطيب الذين روى عنهم ما قيل في مثالب أبي حنيفة، واعتذر في ترحيبه بتأنيبه بأن روايتهم ساقطة بنفسها، لأنها تنافي ما زعمه من التواتر على رفع إمامة أبي حنيفة إلى مستوى لا يؤخذ عليه شيء ولا يناله خطأ ولا يتطرَّق إلى عصمته مساس، وهو الذي رمى أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم بالخرف والأميَّة والكذب على الرسول في قتل قاتل الجارية الأنصارية بغير بينة بزعمه ولا إقرار سوى رواية قتادة بزعمه المتهم عنده بتدليسه لرواية الاعتراف لأن إمامه قرر برأيه الحسن- وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ - أن القصاص لا يكون إلا بالسيف ولو ضربه (بأبا قبيس)(1) ، وجعل ذلك من باب التخيير بين أقوال الصحابة، وإن كانت المسألة ليست من باب التخيير بين الأقوال، وإنما هي رد صريح لرواية صحابي من أجل رأي حسن أو قبيح، لمن يزعم أن الدين إنما هو الرأي الحسن، فإذا سألناه من هو الصحابي الآخر الذي رد إمامه رواية أنس بن مالك لأجل قوله أو روايته؟ فانا ننظر الجواب لنعرف العذر من رمي أنس الخرف واختلاق الرواية، وأن أبا حنيفة رد روايته لرواية صحابي آخر فيكون تخيراً، ولا نعيد لمز الشافعي بالخلاف في قرشيته وتبطيء عمله الذي لا يسرع به نسبه؛ ومالك بخلوه إلا من سكنى المدينة في وقت لا فضل

(1) إشارة إلى أمر لغوي أخطا به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهو أمر يسير لا يضره، ولكن المتعصّبة من أتباعه ركبوا الصعب والذلول لدفعه عنه مما أدى لجعله محلْ تَنَدِّرٍ من غيرهم.

ص: 140

فيه لسكناه، وأحمد بن حنبل بعدم تمحيص الرواية وعدم الغوص فيها وإن كثرت رواياته إلخ.

فهذا التواتر الذي رفع به إمامه فوق متناول النقد؛ وفوق درجات العصمة، وأنه أوحد الأمة وقدوة الأئمة، هذا التواتر هل كان يعرفه من أَرَّخَ أبا حنيفة؛ كالبخاري في تواريخه الثلاثة وضعفائه، ومحمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل والوتر"،

وابن قتيبة في "مشكل الحديث" له. والترمذي في جامعه في باب الاشعار، والنسائي في "ضعفائه ومتروكيه"، وابن الجارود في "ضعفائه ومتروكيه"، والغزالي في "منخوله" أو "مستصفاه" إلى ابن عبد البر في "انتقائه".

ويتهم الكوثري الشيخ اليماني صاحب التنكيل بعداوته لأبي حنيفة من أجل تكلُّمه على مغالطات الكوثري في تأنيبه، أوبيان تلبيساته في هذا الكتاب (1) ، وفات الكوثري أنه إن صحت تهمته للشيخ اليماني بهذه العداوة، فهي من باب عدو عاقل وهو خير من صديق جاهل، وحذف الشيخ اليماني متون أسانيد الخطيب عند كلامه على رجالها هو من باب العقل والحزم، وترك الحكم الفصل في ذلك لعلَاّم الغيوب الذي يأجر مجتهدهم وإن أخطأ أجرا واحداً ومصيبهم أجرين، فان كلام معاصري أبي حنيفة فيه ليس بأكثر ولا أشد مما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من خلاف أَدَّى إلى القتال بينهم، ومع هذا نعتقد أنهم جميعاً مجتهدون: إما مصيبون فلهم أجران، أو بعضهم مخطىء مع الاجتهاد فله أجر، ولسنا في كل وقت وبدون حاجة ضرورية إلى ذكر اختلافهم نذكره، وإن ذكرناه لم نغفل عن فضلهم وحسن بلائهم في الإسلام وعذرهم فيما نظن أنهم أخطاوا فيه.

فكذلك مخالفوا أبي حنيفة وجارحوه والطاعنون عليه على حد تعبير ابن عبد البر، هكذا يرى الشيخ اليماني ما جرى بين معاصري أبي حنيفة من الكلام فيه بسبب ما علموه عنه أنهم في ذلك مجتهدون في النصح للاسلام إن أصابوا فلهم أجران؛ وإن

(1) إن نغمة اتهام كل من يرد خبراً نسب للإمام أبي حنيفة بالعداوة والبغضاء لهذا الإمام شِنْشنة معروفة عن الكوثري وطغمته مع أن من يردّ فريه أو يدفع باطلًا يكون موالياً لهذا الإمام الجليل أكز من الذين يريدون أن يثبتوا له ما لم يثبت للأنبياء من الفضائل.

ص: 141

أخطاوا فلهم أجر الاجتهاد، وبرفع عنهم وزر الخطأ، لذلك كف عن ذكر المنقول عنهم في ذلك، لهذا ولعلمه بما جاء في الحديث الصحيح الذي فيه (إن الله يجمع المؤمنين على قنطرة على الصراط قبل دخول الجنة، ويصفي ما بينهم من خلاف وتبعات، يتبعها العفو والتسامح والصفا، ولا يدخلون الجنة إلا وقد نُقُّوا وهُذِّبوا مما كان بينهم) ، (1) لذلك سكت الشيخ اليماني عن ذكر ما كان من معاصري أبي حنيفة من طعن أو جرح، فإن كان الإمام سفيان الثوري قد قال في أبي حنيفة أنه ضال مضل، لما بلغه عنه من القول بخلق القرآن الذي يدافع الكوثري عنه فيه، اخترعه من فلسفة دال ومدلول وحقيقة ومجاز مما يخرج منه أنه ليس لله تعالى بيننا كلام نسمعه من القارىء أو نقرؤه في المصحف، وإنما ذلك دال ومجاز عن كلام الله تعالى، فإذا كان الثوري لم يفهم هذه الفلسفة واشتد كلامه في أبي حنيفة مجتهداً في ذلك، أصاب أو أخطا، فهو مأجور على كلا الحالين، والموعد عند الله يوم القيامة وعلى قنطرة الصفاء قبل دخول الجنة يصفى ما بينهما، واليماني أحسن كل الإحسان بالسكوت عن تلك المتون التي هزت أعصاب الكوثري، فلم يشأ أن جهزها مراراً وتكراراً، أو يهز أعصاب غيره بلا داع.

فإذا أراد محب أبي حنيفة- ولا أقول مجنونه على حد تعبير بعضهم- أن نذكر له هذه المتون فسأذكرها له من تاريخ الخطيب بل من الانتقاء لحافظ المغرب ومحدث الأندلس أبي عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

وليخلع غليَّ الكوثري ما شاء من ألقاب النذالة والبهت في كتاب يعرضه في سوق الوراقين ويجود عليه بنفقات طبعه بعض أهل السخاء، ويكون لي من وراء ذلك ربح صَرْف الكوثري عن الخوض في أعراض خيار خلق الله تعالى.

أما ما سيفيضه عليَّ الكوثري من سبابٍ وشتائم فهي رخيصة عندي في مقابل ما أربحه من صرفه عن هذه الأعراض الطيبة، وأكتفي بمعرفة من يصلي ورائي مقتدين بي في المسجد الحرام جمعة وعيداً وجماعة، ومعرفة من يخالطني في دروسي وأحوالي.

(1) أخرجه البخاري في "المظالم" من صحيحه.

ص: 142

يكفيني ذلك كله ولا أحتاج أن أقول مع ذلك متمثلا بقول الأول:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل (1)

وأتمثل بقول الأخر:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي

فلا زال غضباناً عليَّ لئامها

وسأشرع في نقل ما أريد نقله من كتاب ابن عبد البر للغرض الذي شرحت آنفاً، مع إيماني بأن ما جرى من معاصري أبي حنيفة ومنه ليس بأشد مما جرى بين الصحابة، والكل مؤمنون وخلافهم عن اجتهاد يؤجر فيه أجرين والمخطىء أجراً

واحداً إن شاء الله تعالى. ولا نكابر كالكوثري فندعي توتراً لا واقع له، ليكذب به الواقع الذي كاد يتواتر.

قال ابن عبد البر حافظ المغرب: ونبدأ بما طعن عليه، لرده بما أَصَّلَهُ لنفسه في الفقه. صرد بذلك أخبار الآحاد الثقات، إذا لم يكن في كتاب الله تعالى، وما أجمعت الأمة عليه، دليل على ذلك الخبر، وسماه: الخبر الشاذ وطرحه، وكان مع ذلك لا

يرى الطاعات وأعمال البر من الإيمان، فعابه بذلك أهل الحديث إهـ.

فهذا كلام ابن عبد البر في أبي حنيفة، ورأيه فيه: أنه ردّ أخبار الثقات بما أصله لنفسه لا تابعاً في ذلك لأحد من السلف في اشتراط دلالة الكتاب والاجماع، ولا مستنداً في هذا الرد إلى معارضة كتاب أو صحيح من السنة أو إجماع إلخ. أقول معارضة ولا أقول باشتراط دليل من الكتاب لما يقبله من أخبار الثقات، فيطرح منها بزعمه ما لا دليل عليه بفهمه ويسميه شاذاً، فمن ذا الذي شرط في خبر الثقات هذا الشرط الباطل من سلف الأمة وأئمتها سوى أبا حنيفة فيما يقبله ويرفضه؟

(1) البيت للمتنبي من قصيدته التي مطلعها: لك يا منازل في القلوب منازل

ص: 143

ويا ليت شعري هل كان أبو حنيفة أعلم وأهدى من أهل قباء من الصحابة؟

الذين تحولوا في صلاتهم عن قبلة كانوا عليها متيقنين بها، لما أخبرهم مخبر ثقة أنه صلى مع رسول الله إلى الكعبة، فتحولوا كما هم ولا أدري هل كان عمال الزكاة الذين يذهبون لجبايتها وجمعها من سائر القبائل معهم إجماع أو دلالة من كتاب الله على أنهم رسُل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم لأخذ زكاة أموالهم، ومن امتنع منهم عن أدائها إليهم كان

يرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يؤدبه ويخضعه لأدائها وإلا قاتله. فأين الكتاب والاجماع الذي مع هؤلاء العمال سوى صدقهم وأمانتهم؟، وعامله بخيبر لما بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يتسلم منه شيئاً من التمر بأمارة (1) يعرفها الوكيل فلم يحتج مع هذا إلى دلالة كتاب أو اجماع، وهكذا رُسُلُ رسول الله إلى القبائل والملوك هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي، يذهب إليهم رسول واحد معه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقيها إليه من غير دلالة من كتاب ولا إجماع، تشهد له أنه رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى صدقه وثقته، إلى آخر ما طفحت به السّنة والسيرة وعمل الصحابة والتابعين، فتبين من هذا أنه أصَّل له أصلا انفرد به عن سائر المسلمن. فلماذا؟ ألا يغضب الثوري وابن عيينة ومالك من ذلك وحق لهم أن يغضبوا. وأما عدم جعله الطاعات وأعمال البر من الإيمان فالذين جعلوها من الإيمان أفقه بمعرفة نصوص الكتاب والسنة من أبي حنيفة خصوصاً وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم باحسان وأعرف الناس بدينهم كمالك والثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد ومن سلك سبيلهم، وهم أبعد الناس عن الاعتزال والخروج والحرورية عن بينة وعلم وبصيرة، فليسوا منحازين إلى الاعتزال ولا الخروج، والحرورية كما رماهم بذلك محب أبي حنيفة أو مجنونه أنهم إذا جعلوا العمل من الايمان كانوا منحازين إلى الاعتزال والخروج شاعرين أو غير شاعرين.

وكذب مجنون أبي حنيفة وافترى، فما منهم منحاز إلى الاعتزال والخوارج وإنما قالوا اتباعاً للكتاب والسنة والفطرة السليمة والعقل من أن إيمان السكير العربيد لا أن يكون كايمان جبريل وميكائيل إلخ. ولا أن إيمان آخر من يخرج من النار يكون كايمان الرسل وأولي العزم، حاشا ذا عقل أن يقول بهذا.

(1) العلامة والإشارة.

ص: 144

قال ابن عبد البر: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيراً من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه، ويقول: الطاعات من الصلاة وغيرها، لا تسمى إيماناً، وكل من قال من أهل السنة: الايمان قول وعمل، ينكرون قوله ويبدِّعونه بذلك، وكان مع ذلك محسوداً لفهمه وفطنته اهـ.

(قلت) وليست الفطنة والفهم مما يبدع بهما صاحبهما عند أهل السنة إذا جرى صاحبهما على قواعد السنة، ولم يشذ عن جادة الصواب من الكتاب والسنة. فترى ابن عبد البر أثبت تبديع أهل السنة لأبي حنيفة وانكارهم لقوله، وأما قوله: إنه كان مع ذلك محسوداً، فنرجىء معرفة أشخاص الحاسدين له، إلى أن نلقى ابن عبد البر يوم القيامة فنسأله: من هم؟ هل هم مالك والثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد والبخاري!! أو من هم؟

قال ابن البر: ونذكر في هذا الكتاب من ذمه، والثناء عليه ما يقف فيه الناظر على حاله. عصمنا الله وكفانا الحاسدين آمين رب العالمين (نقول معك: آمن رب العالمين) .

قال: فممن طعن عليه وجرحه أو عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه في "الضعفاء والمتروكين": أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي. قال نعيم بن حماد، نا يحى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ، سمعا سفيان الثوري، قال: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: لعنه الله، إن كان (كاد) يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود شر منه. هذا ما ذكره البخاري اهـ كلام ابن عبد البر 1) .

(1) يوسف بن عبد الله القرطبي المالكي أبو عمر من كبار حفاظ الحديث، صاحب الرحلات الطويلة والمؤلفات الكثيرة. وكان يقال له: حافظ المغرب ولد سنة 368 في قرطبة. وكانت وفاته سنة 463 ب "شاطبة" وقد تَمَحَّلَ الكوثري في الإعتراض عليه لأنه قدم الإمام مالك والإمام الشافعي على الإمام أي حنيفة في كتابه "الإنتقاء" أضف إلى ما يضمره من عداوة لكل من خدم الحديث النبوي.

ص: 145

وليتحفنا الكوثري بِعَدِّه الثوري وابن عيينه، ويحيى القطان، ومعاذ العنبريَ ونعيم ابن حمادَ والبخاري وابن عبد البر، في عداد الحاسدين لأبي حنيفة، أما نحن فنصبر إلى أن يجمعهم الله يوم القيامة على قنطرة القصاص فيقتص لمظلومهم من ظالمه، وأما في الدنيا فنقول: رحم الله الجميع وتجاوز عن سيئاتهم وأخطائهم "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"(1) ونقول: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(2) .

وقال ابن عبد البر: وقد نقل عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في أبي حنيفة ما ذكر عن سفيان: شر مولود في الإسلام، وأنه لو خرج على هذه الأمة بالسيف كان أهون.

قال عبد البر: وروي عنه- أي عن مالك- أنه سئل عن قول عمر: بالعراق الداء العضال فقال: أبو حنيفة.

قال ابن عبد البر: رَوَى ذلك كله عن مالك أهلُ الحديث، وأما أصحاب مالك من أهل الرأي فلم يرووا من ذلك شيئاً عن مالك اهـ.

وابن عبد البر يعلم أن سكوت الساكت ليس حجة على رواية الرواي، وأن الحديث من أصحاب مالك، كابن وهب (3) ، ويحيى بن يحيى النيسابوري (4) والقعنبي (5) ،

(1) سورة الحشر: 10.

(2)

سورة البقرة: 134.

(3)

هو عبد الله بن وهب ابن مسلم. ولد بمصر سنة 125 روى عن نحو 400 شيخ من كبار المحدثين بمصر والحجاز والعراق وقد وثقه الإمام أحمد ويحى بن معين، وسماه الإمام مالك: الفقيه. وكان من أهل الصلاح والخوف من الله. وكانت وفاته بمصر سنة 197 وقد طعن به الكوثري وجعله من الرواة البعيدين عن الفقه غير المميزين.. فتأمل.

(4)

هو الإمام الجليل يحى بن يحى بن بكر التميمي النيسابوري ممن روى عنه البخاري ومسلم وجمع غفير بل لم يرو مسلم الموطأ إلا عنه. وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما أخرجت نيسابور تعد ابن المبارك مثل يحى بن يحى، وكان من اهل الورع الشديد. وكان يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.

(5)

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب المدني سكن البصرة وكانت وفاته بمكة سنة 221.

ص: 146

والتنيسي، ويحي القطان وغيرهم من رجال الكتب الستة الذين رووا عن مالك هم أوثق من أصحاب الرأي من أصحابه فكيف سكت أهل الرأي ولم يخالفوا المحدثين إلا بسكوتهم؟

قال ابن عبد البر: وقال ابن الجارود في كتابه: في "الضعفاء والمتروكين": النعمان ابن ثابت أبو حنيفة: جُل حديثه وَهْمٌ، وقد اختلف في إسلامه ". قال ابن عبد البر: وهذا ومثله لا يخفى على من أحسن النظر والتأمل فيه.

أقول: (1) نعم التشكيك في إسلام رجل من أهل القبلة ليس من قواعد الإسلام.

فلنا ظاهر أهل القبلة، وباطنهم الى الله، وننكر ما يخالف الصراط السوي منهم، ونبين وجه الدين والسنة لمن خالفها، ولا نقول فيه: إنه الإمام الأعظم، ولا أنه قدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، ولم ينتفع بأحد ما انتفع به إلخ، هذا الغلو السمج.

ونعتبر بما قال ابن الجارود: إن جل حديثه وهم (2) فلم يكن له من معرفة صحيح الحديث ما يرد به الزائد الى الناقص، ويتحكم في صحاح الأحاديث بالرد، بدعوى عدم دليل عليها من الكتاب والسنة، كما زعمه له الزاعمون.

قال عبد البر بسنده الى أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن ابن مهدي: سألت سفيان- يعني الثوري- عن حديث عاصم، في المرتدة، فقال: أما عن ثقة فلا. قال ابن أبي خيثمة: وكان أبو حنيفة يروي حديث المرتدة عن عاصم الأحوال اهـ. ولا

يحضرني الآن هذا الحديث فمن عرفه فليتكرم به مشكوراً!

وبسنده الى وكيع قال سمعت أبا حنيفة قال: سمعت عطاء، إن كان سمعه- فدعوى أبي حنيفة السماع من عطاء موضع شك عند وكيع؛ فليستح من ادعى له سماع ثلاثين من الصحابة- من هذه المهاترة.

(1) القائل: هو المؤلف الشيخ عبد الرزاق حمزة.

(2)

ولابن الجارود سلف من أئمة الحديث في هذه الجملة؛ فراجع "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للشيخ ناصر الدين الألباني (4/78، 5/86) و (ص- 5) من رسالة التوضيح للأستاذ زهير الشاويش. التي قدم بها "شرح العقيدة الطحاوية".

ص: 147

قال ابن عبد البر: وذكر الساجي في كتاب "العلل " أنه- يعني أبا حنيفة- استتيب في خلق القرآن فتاب، والساجي كان ينافس أصحاب أبي حنيفة.

أقول: والعتب عليك يا ابن عبد البر إن كنت ترى منافسته لهم تحمله على الكذب على إمامهم، ثم تملاء كتابك بالنقل عنه، أو لعلّك أردت بذلك تأشيرة المرور فقط عند مجانين أبي حنيفة، قال ابن عبد البر: وذكر الساجي عن أبي السائب عن وكيع ابن الجراح قال: وجدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قلت) لعلة خالفها إلى الرأي الحسن، وهل الدين إلا الرأي الحسن؟ وبما أصله؛ من عَرْضِهَا على الكتاب والاجماع، وان شَذَّ بذلك عن صراط الصحابة والتابعين.

ومن طريق الساجي، عن محمد بن نوح المدائني، عن معلى بن أسد، قلت لابن المبارك: كان الناس يقولون إنك تذهب إلى قول أبي حنيفة، قال: ليس كل ما يقول الناسُ يصيبون فيه، قد كنا نأتيه زمانا ونحن لا نعرفه، فلما عرفناه تركناه. (قلت)

فهذا ابن المبارك شيخ شيوخ الجماعة ترك أبا حنيفة بعد معرفته به. وبسند ابن عبد البر إلى أحمد بن زهير: كان أبي يقرأ علينا في أصل كتابه حديث أهل الكوفة، وإذا مر بأحاديث عن أبي حنيفة لم يقرأها علينا، فهذا زهير بن معاوية شيخ شيوخ الجماعة يترك أبا حنيفة وأحاديثه، لماذا؟ وبسند ابن عبد البر إلى سفيان بن عيينة قال: كان أبو حنيفة يضرب بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثال فيرده بعلمه، حدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار" فقال أبو حنيفة: أرأيتم إن كانوا في سفينة كيف يفترقون؟ هل سمعتم بشرّ من هذا؟ اهـ والحديث بالتثنية. والمثل المضروب لرده بالجمع، ولا بأس بذلك عند من يقول: ولو ضربه (بأبا قبيس) . قلت: ولمن يدافع عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: إفتراق كل شيء بحسبه، والسفينة لها مقدم ومؤخر وظهر وبطن، وجانب أيمن وأيسر ولها جوانب، ومن السفن ما هو كالمدينة، وذكروا منها ما على ظهره سباق خيل ومطبعة صحيفة أخبار.

ولو عاش أبو حنيفة حتى رأى الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، التي هي مدن متحركة على ظهر البحر يضيع فيها الإنسان لسعتها وتعدد طبقاتها وغرفها، لعله كان

ص: 148

لا يقول: كيف يفترقان؟ وإن كان الحديث ليس على شرطه من دلالة الكتاب والاجماع عليه!

قال ابن البر. وذكر الساجي عن أبي حاتم الرازي عن العباس بن عبد العظيم العنبري عن محمد ابن يونس قال: إنما استتيب أبو حنيفة لأنه قال: القرآن مخلوق، واستتابه عيسى بن موسى اهـ. فليكذِّب الكوثري الخطيب وليصدق ابن عبد البر أو ليكذبه مع الخطيب.

وبسنده إلى أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري (وليس بوضاع كما افتراه عليه الكوثري) قال أبو عوانة: سمعت أبا حنيفة سئل عن الأشربة- يعني الانبذة المسكرة- فما سئل عن شيء إلا قال حلال، فسئل عن السكر فقال: حلال. فقلت:

يا هؤلاء إنها زلة عالم فلا تأخذوا عنه. اهـ. وسيدافع مجنون أبي حنيفة عنه أن الخمر المحرمة إنما هي من العنب فقط، وإن كانت المدينة لا تعرف خمر العنب عندما نزل تحريم الخمر، وإنما كان خمرهم من البسر والرطب كما في حديث أنس وغيره.

وأسند ابن عبد البر عن محمد بن جرير الطبري بسنده الى الحكم بن واقد: رأيت أبا حنيفة يفتي من أول النهار الى أن يعلى النهار، فلما خف عنه الناس دنوت منه فقلت: يا أبا حنيفة لو أن أبا بكر وعمر في مجلسنا، ثم ورد عليهما ما ورد عليك من

هذه المسائل المشكلة لكفّا عن بعض الجواب ووقفا عنه، فنظر إليه وقال: أمحموم أنت؟ يعني مبرسما اهـ ص 147.

فليردَّ أبي حنيفة ما في هذه الحكاية من علم طريف في السند والمتن، وهل تؤيد حكاية السائل الخرساني حامل المائة ألف مسألة، وهل استغراب الحكم بن واقد من جرأة أبي حنيفة من نوع استغراب ابن عيينة للجرأة على الفتوى فيما لا يعقل من المسائل، أو ذلك لون آخر، وعلى كل حال فهي مادة ليكتب عنها مجنون أبي حنيفة، ونرجو منه عذراً لابن عبد البر في إخراجها وليكن غير حسد الحكم بن واقد أو غيره من أحد رواتها، وفيهم امام المفسرين والمحدثن ابن جرير رحمه الله تعالى.

وبسند ابن عبد البر ص 148 الى أبي أسامة حماد بن أسامة قال: مَرَّ قوم على رقبة- لعله ابن مصقلة- فقال: من أين جئتم؟ قالوا: من عند أبي حنيفة، فقال: يكفيكم من رأيه ما مضغتم، وترجعون الى أهليكم بغير ثقة اهـ.

ص: 149

نقول لرقبة: لعلك لم تذق لذة الرأي الحسن، والعقلية الجبارة، التي عند قدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، فسميت ما سمعوا من رأيه مضغاً كمضغ العلك. وإنما الغريب رجوعهم عنه بغير ثقة، فهل كنت يا رقبة حاسداً للإمام الأعظم؟ أم كنت ناصحاً، والعجب أن يسكت هؤلاء الراجعون عن أبي حنيفة على كلام رقبة في أبي حنيفة، وما مضغوه من رأيه ورجوعهم منه بغير ثقة، فلم يعارضوا رقبة ولم يسكتوه، ولم يؤلفوا فيه كتأنيب الكوثري، ولكن ما سكت عنه هؤلاء الراجعون من مجلس أبي حنيفة، لا يمكن أن يسكت عنه مجنون أبي حنيفة، بل سترى الطرائف والظرائف منه في رقبة ومن دونه من رجال السند، حتى أحمد بن زهير، اللهم سلمه من لسانه وقلمه، واحفظ عرضه طاهراً من ولوغ الوالغين.

قال ابن عبد البر ص 148. بسنده الى ابن عيينة، قال: مر رجل بمسعر بن كدام فقال: أين تريد؟ قال: أريد أبا حنيفة. قال: يكفيك من رأيه ما مضغت، وترجع إلى أهلك بغير ثقة.

والمناقشة مع مسعر بن كدام كالمناقشة مع رقبة، أنه لم يذق طعم الرأي الحسن، ولم يعرف تلك العقلية الجبارة، فسمى سماعها مضغاً، ولكن العجب أن يكون الإمام الأعظم وقدوة الأئمة، ومقتدى الأمة، عنده غير ثقة، سنرى ونسمع ما لم نر ولم نسمع، فلنتمهل حتى نرى تأنيباً جديداً، أو طبعة أخرى لتأنيب الأول يضم فيها ابن عبد البر خصما آخر لأصحاب العقول الجبارة، فضلا عن مسعر بن كدام، ورقبة، والثوري، وابن عيينة.

قال ابن عبد البر ص 150: وذكر الساجي عن بندار ومحمد بن المقرى عن معاذ ابن معاذ العنبري عن سفيان الثوري قال: استتيب أبو حنيفة مرتين. اهـ

ولعل الثوري ذلك الإمام الزاهد الورع التقي المحدث كان حاسداً للامام الأعظم ذي العقلية الجبارة، والرأى الحسن قدوة الأئمة ومقتدى الأمة الذيلم ينتفع بأصحاب أحد ما انتفع الناس بأصحابه (1) ، فنتركهم إلى قنطرة القصاص قبل دخول

(1) إن هذا الاطلاق من الكوثري يشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشمل أصحاب الصحابة والتابعين فهل يريد القول: إن الناس انتفعوا باصحاب أبي حنيفة أكثر من انتفاعهم بمن نقل=

ص: 150

الجنة ونقول: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"(1)"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(2) .

وذكر ص 151: عن أبي عبد الرحمن المقرىء قال: دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء غير مرة فلم أجبه. اهـ. وحسنا فعل أبو عبد الرحمن المقرىء إذ وقف مع سواد أهل السُّنة، والجماعة في الايمان ولم يقل: إن إيمان السكير كايمان جبريل وميكائيل.

وذكر ابن عبد البر ص 151: عن أحمد بن سنان القطان قال: سمعت علي بن عاصم قال: قلت لأبي حنيفة: حديث إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا- أي سهو اً- فأخذ أبو حنيفة شيئاً من الأرض ورمى به، وقال: إن كان جلس في الرابعة مقدار التشهد، وإلا فلا تساوي صلاته هذه- أي القشة التي أخذها من الأرض.

ولا ندري ما هو الأصل الذي أصله أبو حنيَفة رحمه الله تعالى في ردّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستدراك عليه وتصحيح ما يراه منها صحيحاً، وإبطال ما يراه منها باطلا، لا نعرف لذلك أصلا، إلا أن يكون ذلك هو الرأي الحسن، وحاشاه يقول ذلك (3) في العبادات، وأحسن الظن به، أنه لم يصدق حديث ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، غير أن التعبير الأبعد عن الايهام أن يقول: لعل ذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فان صح فسمعاً وطاعة "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (4) وحينئذ يكون طعناً في صدق

= علم النبي صلى الله عليه وسلم!! أو أن انتفاعهم بأصحاب عمر بن الخطاب، وعلي بن أي طالب، وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم كان أقل من انتفاعهم بآراء أصحاب النعمان!! إن كان هذا مقصود الكوثري فسبحانك اللهم. هذا بهتان عظيم.

(1)

سورة الحشر: 10.

(2)

سورة البقرة: 134.

(3)

إن استغراب الشيخ عبد الرزاق حمزة أن يقول الإمام أبو حنيفة مثل هذا في غاية الانصاف والتماس العذر جزاه الله كل خير.

(4)

سورة النور: 51.

ص: 151

إبراهيم أوعلقمة أو ابن مسعود، وذلك كله أهو ن من تخطئة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي كفر بالإجماع.

وأسند ابن عبد البر ص 151: عن بشر بن المفضل قال: قلت لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" قال: هذا رجز؟! فقلت: قتادة عن أنس، أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين فرضَّ النبي رأسه بين حجرين، فقال: هذا هذيان.

وعسى أن يكون بشر بن المفضل قد وهم في هذا النقل عن أبي حنيفة أوعَمَّنْ دونه فلا يقع في قلوبنا عن مسلم أن يقول مثل هذا، وأحسن محامله أن يكون شكاً في رواة الحديث، والعتب على ابن عبد البر أن يسكت على مثل هذا بعد روايته في كتاب كَتَبَهُ في فضائل الأئمة ومنهم أبو حنيفة!!

وأسند ابن عبد البر ص 132 عن عبد الله بن عثمان قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: كان أبو حنيفة قديماً، أدرك الشعبي والنخعي وغيرهما من الأكابر، وكان بصيراً بالرأي يسلم له فيه، ولكنه كان تهيما (1) في الحديث. اهـ وإذن لم يعترف له ابن المبارك بادراك صحابي واحد، فأقدم ما عنده الشعبي والنخعي.

والذي في النسخة تهيما في الحديث أي متهما فيه، والذي أحفظه فيما نقله محمد بن نصر المروزي يتيما في الحديث، أي قليل البضاعة فيه، وهذه أهو ن من ذلك، وأيا كان ابن المبارك لا يعترف لأبي حنيفة بعلم الحديث إلا يُتما أو اتهاما فيه، لا أنه امام فيه يرد ما شاء منه بما أصل لنفسه من أصول أو فطنة أو ذكاء، وإنما هي الجرأة التي انفرد بها عن الأئمة.

(1) هذا ما يقوله الإمام العابد المجاهد عبد الله المبارك عن منزلة الإمام أبي حنيفة في الحديث.

فما هو رد الذين يجعلون ابن المبارك من تلاميذ أبي حنيفة، بل ويعدونه من مفاخر مذهبه تجاه هذه الشهادة منه عليه. وما أظن أن أبا غدة سيكون موقفه إلا العداء الشديد لابن المبارك لشهادته هذه في الإمام أبي حنيفة ولألحقه بمن طعن فيهم من الأئمة.

(2)

أخرجه الترمذي بنحوه وقال: والموقوف أصح.

ص: 152

وأسند ابن البر ص 157 من طريق أبي يعقوب المكي عن عثمان بن زائدة قال: كنت عند أبي حنيفة فقال له: ما قولك في الشرب في قدح أوكأس في بعض جوانبها فضة؟ فقال: لا بأس به، فقال عثمان: فقلت له: ما الحجة في ذلك؟ فقال: أما ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب، فما كان غير الذهب والفضة فلا بأس بما كان فيهما منهما، ثم قال: يا عثمان ما تقول في رجل مر على نهر وقد أصابه عطش وليس معه إناء فاغترف الماء من الخهر فشربه بكفه وفي أصبعه خاتم- أي فضة- فقلت: لا بأس بذلك. قال: كذلك. قال عثمان: فما رأيت أحضر جواباً منه.

ونحن بدورنا نحمد الله تعالى على التحلل من هذا القياس من تلك العقلية الجبارة قياس جواز الشرب في إناء مضبب بذهب أو فضة قد تكون الضبة أكثر حجم الأناء، وأظهره وأكثره على جواز الشرب باليد فيها الخاتم، وأقل الناس تفكيراً يدرك الفرق بين يد فيها خاتم فضة يأكل ويشرب بها، أن ذلك ليس استعمالا لآنية فضة، وبين إناء ضبب أو خلط فيه الذهب بغيره سبكا، وليتهنَّ الذين يشربون ويأكلون في أواني الذهب والفضة بما أضيف سبكا إليها من نحاس قليل للصلابة والقوة أنهم يستعملون ما يباح، كالاغتراف بيد فيها خاتم فضة، أما من ليس لهم هذه العقول الجبارة فيحمدون الله تعالى على نعمته عليهم بعدم هذه العقول الجبارة التي أباحت لهم هذه الأواني المنهي عنها.

وأسند ص 154: عنِ المذكور بسنده إلى علي بن المديني يقول: حدثت أن رجلا من القواد تزوج امرأة سراً فولدت منه، ثم جحدها، فحاكمته إلى ابن أبي ليلى، فقال لها: هات بينة على النكاح، فقالت: إنما تزوجني على أن الله عز وجل الولي، والشاهدان الملكان، فقال لها: اذهبي وطردها فأتت المرأة أبا حنيفة مستغيثة، فذكرت له، فقال: لها ارجعي الى ابن أبي ليلى فقولي له: إني قد وجدت بينة، فإذا هو دعا به ليشهد عليه، قولي: أصلح الله القاضي، يقول هو كافر بالولي والشاهدين، فقال له ابن أبي ليلى ذلك فنكل ولم يستطع أن يقول ذلك، وأقر بالتزويج (التزوج) فألزمه المهر وألحق به الولد اهـ

أقول: إذا تجاوزنا ما صيغت به الحكاية للاشادة بذكاء أبي حنيفة وفطنته وإنقاذه

ص: 153

لحرج الموقف، ونفع هذه الخدن الموطؤوة سراً بلا وليٍ ولا شهود ولا مهر حتى حملت ووضعت. إذا تجاوزنا عن هذا كله فالعجب من تصوير الحكاية بحيث يخفى على قاضي الكوفة ابن أبي ليلى أن النكاح باطل ولو اعترف به الواطىء المتخذ خِدْناً لخلوه من ولي وشاهدين شرطتها الأحاديث وظاهر القرآن، كحديث:(لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)(1) ، (والسلطان ولي من لا ولي له)(2)، وحديث:(البغي أو العاهر هي التي تزوج نفسها)(3)، وحديث:(البكر تُستأذن والأيم تُستأمر)(4) وقول الله تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا

بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ" (5) فخاطب الأولياء بالنهي عن العضل لأنهم هم الذين بيدهم أمر إبرام النكاح وعقده.

وما أدري ماذا كانت فائدة هذه الحيلة إذا كان الواطىء المخادن لبقاً فاجاب القاضي: اني أومن بالله وملائكته، ولكن الله تعالى لم يشرع نكاحاً ليس فيه وليّ ولا شهود من الآدميين وجحد وطء المرأة، أفما كان عليها الرجم أو على الأقل التعزير.

ثم الذين يقولون بمقتضى هذه الحكاية هل لنا أن يسألهم عن الفرق بين هذا النكاح المدعى صحته، وبن سفاح المخادنة السري وما يسمى في هذا العصر بخادمة السرير (كمريره) وقصة الخليعة انجريد السويدية وولادتها ولداً من سفاح ومن عشيق طلياني اعترف بولدها منه وأمثالها كثير، وكثير لا يحصى، تذكره الصحف الناشرة للخلاعة عن الأفرنج ومن سار على منهجهم في الفسوق والفجور. هل هناك فرق ديني من كتاب أو سنة بيئ هذه الأنواع من الفسق والفجور والمخادنة، وبن هذا النكاح الذي صورته الحكاية صحيحاً عن أبي حنيفة وألزم به القاضي بزعمه، وساقوا حكايته

(1) رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح كما قال الذهبي فيما نقله المناوي في "فيض القدير" و "التيسير لشرح الجامع الصغير" و"صحيح الجامع الصغير"7433.

(2)

هو طرف من حديث أوّله: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها

" أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحسَّنه الترمذي؛ وصحّحه ابن حبان كما قال المناوي.

(3)

أخرجه الترمذي بنحوه وقال: والموقوف أصح.

(4)

رواه مسلم انظر "مختصر مسلم" رقم 802.

(5)

سورة البقرة: 232.

ص: 154

لاثبات عبقرية أبي حنيفة (1)

وأسند ابن عبد البر ص 157 إلى حكام بن سلم قيل لأبي حنيفة إن العزرمي يقول: "سافرت عائشة مع غير محرم " فقال أبو حنيفة: وما يدري العزرمي ما هذا؟ كانت عائشة أم المؤمنن كلهم، فكانت من كل الناس ذات محرم اهـ

ولا أدري هل كان العزرمي يلتزم جميع لوازم الأمومة من خلوة وكشف زينة

وتوارث، أم يقتصر بها على الحرمة، حرمة الزواج بها المنصوصة في القرآن، والاحترام

والمودة فقط. وما لنا نسأل العزرمي، وإنما نسال مصور الحكاية هل هذه الأمومة

حرمت أخوات أمهات المؤمنن وبناتهن على المؤمنين، وأجازت لهن الخلوة وكشف

الزينة على المؤمنن، فضلا عن قسمة ما يملكنه تعد موتهن على أبنائهن المؤمنين الخ.

أما سفر عائشة رضي الله عنها بغير محرم فلها عند الله عذر وتأويل نتركه لها. ولها

عندنا من الحسنات ما يغطي ذلك.

وأسند ص 158: عن زفر بن الهذيل قال: اجتمع أبو حنيفة، وابن أبي ليلى

وجماعة من العلماء في وليمة لقوم، فأتوهم بطيب في مدهن فضة، فأبوا أن يستعملوه

لحال المدهن، فأخذه أبو حنيفة وسلته باصبعه وجعله في كفه، ثم تطيب به. وقال

لهم: ألم تعلموا أن أنس بن مالك أُتي بخبيص في جام فضة فقلبه على رغيف ثم

أكله! فتعجبوا من فطنته وعقله اهـ.

وعجبي من مصور الحكاية أن يفوته أن أخذ أبي حنيفة للمدهن وسلت الطيب

منه، هو استعمال للمدهن الفضة واقرار لهذا الاستعمال، فإذا قصد بها ذكر ذكاء أبب

حنيفة، فقد حطه في الفهم والورع من حيث لا يشعر، فتناول آنية فضة وإخراج ما

فيها، هو استعمال لا يخفى على من دون أبي حنيفة.

(1) وفساد هذا الرأي أدركه أحد كبار المتعصبة للأحناف في هذا العصر فقد استفتى بحالة مماثلة

جرت في اوربة فأفتى بفساد دعوى الزواج، ومنع إلحاق الولد. فهل فعل ذلك اجتهاداً منه مع

مخالفته لأبي حنيفة؟ أم فعله بناء على أنه من الأمور الحادثة التي لم يعرفها الأئمة مثل:، "التأمين،

والعقود التجارية، وأنواع الربا" الخ. اللهم احفظ ديننا وعقولنا.

ص: 155

وأما استشهاده بقصة أنس فانا نطلب ممن وقف عليها مسندة في غير هذه الحكاية

أن يتحفنا بها، لكن لا من طريق ابن الثلجي، ولا الحسن اللؤلؤي وأمثالهما، ولا أن

تكون بسند فيه أبو حنيفة لأنها ادعيت لذكائه، فالتهمه فيها ظاهرة.

وأسند ابن عبد البر ص 159: إلى حمزة بن عبد الله الخزاعي: أن أبا حنيفة هرب من

بيعة المنصور (مع) جماعة من الفقهاء، قال أبو حنيفة: لي فيهم أسوة، فخرج مع

أولئك الفقهاء، فلما دخلوا على المنصور أقبل على أبي حنيفة وحده من بينهم، فقال له:

أنت صاحب حيل، فالثه شاهد عليك، أنك بايعتني صادقاً من قلبك، قال: الله

يشهد عليّ حتى تقوم الساعة، قال: حسبك. فلما خرج أبو حنيفة قال له أَصحابه:

حكمت على نفسك ببيعته حتى تقوم الساعة، قال: إنما عنيت حتى تقوم الساعة من

مجلسك إلى بول أو غائط أو حاجة أو حتى يقوم من مجلسه ذلك. اهـ

والعجب لحاكي الحكاية أن يخفى عليه حديث: "يمينك على ما يصدقك عليه

خصمك لما (1) لعله لا يصدق به، وإن كان في الصحيح - صحيح مسلم- لأنه ليس على

شرط أصحاب العقلية الجبارة، فلعله عندهم شاذ أو مرفوض بالرأي الحسن

والأصول التي أصلها صاحب العقلية الجبارة.

فأبو جعفر المنصور فهم من عهد أبي حنيفة، واشهاد الله عليه التأييد من قوله:

(حتى تقوم الساعة) وهو الفهم المتبادر من أمثال هذا التعبير، وأبو حنيفة قصد إلى

فهم بعيد خفي لا يدل عليه سياق ولا قرينة ولا شاهد حال.

وبعد فلو فتحنا هذا الباب من التلاعب بالألفاظ والكنايات الخفية لما استقام

للناس عهد ولا عقد ولاخْتَلَّتْ معاملاتهم وعقودهم ولم يبق اطمئنان ولا ثقة بعهد ولا

عقد ولا قسم، وخذ ما شيءت من الفوضى ومرج العهو د ما شيءت في ذلك، ولوخرج

(1) بل إن ثبتت عن الإمام ابي حنيفة بطريق صحيح فنقبل بها، لأن هذا الإمام من أهل الصدق

والامانة، وضعفة من جهة حفظه فهو المعتمد.. وهذا لا يقدح في إمامته. بل الذي يقدح في

امامته التعصب البغيض له حيث يعطي فوق قدرة البشر. وانظر تفصيل ذلك في "التوضيح "

الذي قدم به شرح العقيدة الطحاوية الشيخ زهير الشاويش.

ص: 156

أبوحنيفة على أبي جعفر المنصور بناء على ما أخفاه في قلبه من تقييده بيعته بمجلسه إلى أن

يقوم لبول أو غائط، وظفر به المنصور بعد خروجه عليه وصلبه- منفذاً فيه حكم

الخوارج- لما كان ملاماً عند الله تعالى، لأنه عاقب خارجاً ناكثاً ببيعته أعطاها مع

القسم، واشهاد الله تعالى على أبديتها بكلام فهم منه المنصور ذلك، وفهم منه

الحاضرون ذلك؛ ولو استشهد المنصور الحاضرين لشهدوا أنه بايعه بيعة أبدية ولا

ينفع أبا حنيفة- لا عند الله ولا عند الناس- أنه قصد بقوله: (حتى تقوم الساعة) قيام

المنصور لبول أو غائط من مجلسه ذلك لأنه قَصْد خفي مستز لا تدل عليه العبارة ولا

شواهد الحال ولا قرينة صارفة عن الظاهر المتبادر الذي فهمه المنصور والحاضرون معه

في المجلس، والذي يفهمه كل ذي فهم مستقيم لم ينحرف عن الجادة بهذه الحيل.

وحديث: (في المعاريض غنية للبيب عن الكذب)(1) لا يدخل في نطاقه العهو د

والمواثيق والأيمان والعقود والخصومات، لأنه في باب الأخبار إبعاداً للكذب عنها

بالمعاريض، لا في باب الانشاء للعقود والعهو د، وإلا فقل في فساد العقود والمعاملات

ما شيءت إذا اعتبرنا هذه الحيلة السخيفة وذلك التلاعب الصبياني وذلك التحريف

المكشوف. (2)

وإذا سألنا أصحاب العقول الجبارة عن متعاقديْن على إيجار بستان أو مزرعة عشر

سنين مثلا، وبعد ذلك اختلفوا، فقال المؤجر: أردت بعشر سنين أي جدبة قاحلة،

ولكنا الآن في أعوام خصبة هاطلة. وقال المستأجر: بل عقدت معك على عشر سنين

ظرفاً للإيجار تقدر بالأيام والأسابيع والشهو ر، ولم نرد منها صفتها من خصب أو

جدب، فهل تحكمون للمؤجر الملتوي بنية لا دليل عليها، أم للمستأجر المتمسك

بدلالة الكلام وعرفه وظاهره وما يفهمه الناس في أمثال هذه العقود؟

(1) رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي وقال: الصحيح موقوف.

(2)

ولم يأخذ بعض الناس من الإمام ابي حنيفة غير ذلك!! وإما صرعه وتقواه فقد تركوه لغيرهم

وأما هم فلهم الحق في التحايل على الخلق والتلبيس عليهم، ونكث البيعة، وفتح الباب

للخوارج والمنحرفين، وقولهم بجواز بيعتين في وقت واحد.. الخ هذا الهراء فانا لله وانا اليه

راجعون.

ص: 157

وكذلك لو تعاقد الولي والزوج بلفظ: "أنكحتك بنتي أو أختي" وقال الأخر:

قبلت. ثم اختلفا، فقال الولي: أردت "بأنكحتك " من تناكحت الأشجار تمايل

بعضها إلى بعض. "وبأختي" في الإسلام أو الانسانية، فأميلك اليها أو أميلها إليك

مرة على وجه المداعبة والتحل من العقد، وقال الأخر: فهمت من النكاح ما يعرفه

الناس جميعاً من عقد زوجية تحل بها المعاشرة والتمتع والاستيلاد والتوارث الخ ما

يبيحه عقد الزواج والنكاح.

فهل يحكم ذوو العقول الجبارة لالتواء الولي أو لصراحة المتزوج وهكذا؟ ولقد

أذكرتني هذه العقلية الجبارة ما استسخفه الغزالي في إحيائه مما نقل عن أهل الحيل أن

أحدهم يهب مائة لزوجته أو غيرها قبل الحول بيوم ثم يسترده منها بعده بيوم فتسقط

عنه الزكاة التي قاتل الصديق مانعيها، فهذا السخف والتلاعب بدين الله تعالى الذي

نفَر الناس من هذا الهزء فأنكروا ديناً يجىء بهذا التلاعب، وليتهم لا تبلغهم هذه

الحكاية عن أبي حنيفة مع المنصور، أو ليتهم إذا بلغتهم يكذبونها ولا يصدقون أن

ينسسب لإمام من المسلمين متبوع فيهم أن يصدرمنه مثل هذا الهراء.

كما أذكرني الاحتيال على استعمال مدهن الفضة بحيلة صبيانية ما كنت سمعته عن

حضور رهط من العلماء إلى مجلس بعض الخديوين أمير مصر أنهم زاروهُ وِصُبَّتْ لهم

القهو ة في فناجين تحمل على ظروف ذهبية، فلما اعتُرض على من شرب منهم في ذلك

أجاب أنه كان يرفع الفنجان الصيني بأصبعيه عن ظرفه الذهبي، فلم يكن بذلك

مستعملا لآنية الذهب.

فليت هذا التخلص يعرض على شاشة بيضاء لرواية هزلية مسلية للأطفال

والنساء، لا عبقرية علم نحرير يتقي الله تعالى في امتثال أوامره في تحريم أواني الذهب

والفضة، فلا يحتال عليها بأمثال هذه المضحكات.

هذا وستجد في الكتاب المذكور (انتقاء ابن عبد البر) مناقشات لقتادة وعطاء، ولما

نقل عن ابن عباس استدراكا عليه رأيت الإعراض عنها خيراً من الاشتغال بها،

وعناء مناقشتها، فالوقت أنفس من ذلك كله، والزمن يخطو خُطىً سريعة ونحن نيام

أو أموات.

ص: 158

وقال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل" في باب ذكر الوتر بثلاث

عن الصحابة والتابعين ص 123: طبعه عبد التواب الملتاني رحمه الله بالهند بعد ما

ذكر الروايات في ذلك عن الصحابة والتابعين؛ ثم قال: وزعم النعمان- يعني أبا

حنيفة- أن الوتر بثلات ركعات لا يجوز أن يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فمن أَوْتَر

بواحدة فوتره فاسد، والواجب عليه أن يعيد الوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن،

فإن سلم في الركعتين بطل وتره، وزعم أنه ليس للمسافر أن يوتر على دابته، لأن

الوتر عنده فريضة، وزعم أن من نسي الوتر فذكره في صلاة الغداة- أي الصبح-

بطلت صلاته وعليه أن يخرج منها فيوتر ثم يستأنف الصلاة، وقوله هذا خلاف

للأخبار الثابته عن رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخلاف لما أجمع عليه أهل العلم، وإنما

أتى من قلة معرفته بالأخبار وقلة مجالسته للعلماء.

سمعت إسحاق بن ابراهيم- يعني ابن راهويه شيخ الجماعة- يقول: قال ابن

المبارك: كان أبو حنيفة يتيما في الحديث (أي بخلاف رواية ابن عبد البر تهيما من

التهمة) حدثني علي بن سعيد النسوي، قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: هؤلاء

أصحاب أبي حنيفة ليس لهم بصر بالحديث ما هو إلا الجرأة. قال محمد بن نصر

فاحتج له بعض من يتعصسب له ليموِّه على أهل الغباوة والجهل الخ ما ساق من

المناقشة إلى أن قال: ولم نجد في شيء من الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم قضى الوتر، قال: وزعم

النعمان- يعني أبا حنيفة- في كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الوتر في اليوم الذي نام فيه عن الفجر

حتى طلعت الشمس، فزعم أنه أوتر قبل أن يصلي ركعتي الفجر، ثم صلى الركعتين، وهذا لا

يعرف في شيء من الأخبار. اهـ ما أردت نقله ولا أريد أن أعلق عليه.

* * *

قد فرغنا مما أحوجنا إلى كتابته محب جاهل غالى في رجل من المسلمن نظن به الخير

وأنه لا يحب هذا الغلو الممقوت فيه، وأنه قدم على الله تعالى هو وخصومه يحكم بينهم

"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(1)

(1) سورة البقرة: 134.

ص: 159

وليس علينا إلا الاهتداء بهديهم والدعاء لهم بالغفران والرحمة، وأدعو لله تعالى بهذا

الدعاء المأثور: "اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل (فاطر السموات والأرض عالم

الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) (1) ، اهدني لما اختلف فيه

من الحق باذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"

ويقول اللة تعالى عن خيار عباده المؤمنين: " وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا

رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (2) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على نبينا محمد النبي الأميّ خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه

وسلم الى يوم الدين.

(1) سورة الزفر: 46.

(2)

سورة الحشر: 10.

ص: 160

ترجمة المؤلف رحمه الله تعالى (1)

بقلم

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي

هو عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن أبي بكر المعلمي العتمي اليماني.

ولد في أول سنة 1313هـ بقرية (المحاقرة) من عزلة (الطفن) من مخلاف (رازح) من ناحية (عتمة) في اليمن، وكفله والداه، وكانا من خيار تلك البيئة، وهي بيئة متدينة وصالحة، ثم قرأ القرآن على رجل من عشيرته وعلى والده قراءة متقنة مجودة، وقبل أن يختم القرآن ذهب مع والده إلى (بيت الريمي) حيث كان أبوه يمكث يعلم - أولادهم ويصلي بهم.

ثم سافر إلى (الحجرية) حيث كان أخوه الأكبر محمد بن يحيى رحمه الله كاتباً في محكمتها الشرعية وأدخل في مدرسة للحكومة كان يعلم فيها القرآن والتجويد والحساب واللغة التركية (2) فمكث مدة فيها، ومرض مرضاً شديداً، فحوله أخوه إلى بيت أرملة هناك فمرضته حتى شفاه الله تعالى بوصفة بلدية من رجل من أهل الصلاح هناك، ثم جاء والده إلى (الحجرية) ، وسأله عما قرأ؟ فأخبره، فقال له: والنحو؟ فأخبره أنه لم يقرأ النحو، لأنه لا يدرس في المدرسة، فكلم أخاه وأوصاه بقراءة النحو، فقرأ عنده شيئاً من (شرح الكفراوي) على (الأجرومية) نحو أسبوعين. ثم سافر مع والده.

(1) نشرت في مجلة الحج الصادرة بمكة بالجزء العاشر 16 ربيع الثاني سنة 1386 صحيفتي 617 و618 والعدد 11 جمادى الأولى من السنة ذاتها.

أرسلها الشيخ محمد نصيف جزاه الله خيراً. والتعليقات الآتية عليها لفضيلته.

(2)

في زمن كان اليمن تحت سلطة الحكومة العثمانية كانت تفتح في البلاد مدارس كانت فائدتها في الأكثر لتعليم أبناء الموظفين وكان خط التعليم اللغة التركية أكثر من اللغة العربية.

ص: 165

ثم اتجهت رغبته إلى قراءة النحو؛ فاشترى بعض كتب النحو فلما وصل (بيت الريمي) وجد رجلاً يدعى أحمد بن مصلح الريمي فصارا يتذكران النحو في عامة أوقاتهما، مستعينين بتفسيري الخازن والنسفي، وأخذت معرفته تتقوى حتى طالع (المغني) لابن هشام نحو سنة، وحاول تلخيص بعض فوائده المهمة في دفتر، وحصلت له ملكة لا بأس بها.

ثم ذهب إلى بلده (الطفن) ورأى ورأى والده أن يبقى هناك مدة ليقرأ على الفقيه العلامة الجليل أحمد بن محمد بن سليمان المعلمي - وكان متبحراً في العلم، فلازمه ملازمة تامة، وقرأ عليه الفقه والفرائض والنحو. ثم عاد إلى (بيت الريمي) وانكب على كتاب (الفوائد الشنشورية) في الفرائض بحل مسائله، ويعرض مسائل أخرى ويحاول حلها ثم امتحانها وتطبيقها. وقرأ (المقامات) للحريري (1) وبعض كتب الأدب فأولع بالشعر فقرضه، فجاء أخوه من (الحجرية) فأعجبه تحصيله في النحو والفرائض فتركه وسافر إلى (الحجرية) ، ثم استقدمه فسافر إليها، وبقي هناك مدة لا يستفيد فيها إلا حضوره بعض مجالس يتذاكر فيها الفقه. ثم رجع إلى (عتمة) وكان القضاء قد صار إلى الزيدية (2) وعين الشيخ علي بن مصلح الريمي كاتباً للقاضي، فأنابه، فلزم القاضي الذي هو السيد علي بن يحيى بن المتوكل (وكان رجلاً عالماً فاضلاً معمراً إلا أنه لم يقرأ عليه شيئاً ولا أخذ منه إجازة) ثم عين بعده القاضي السيد محمد بن علي الرازي وكتب عنه مدة.

وله إجازة من صدر شعبة الدينيات وشيخ الحديث في كلية الجامعة العثمانية بـ (حيدر آباد الدكن) الشيخ عبد القدير محمد الصديقي القادري قال فيها بعد البسملة والحمد لله والصلاة على النبي الأعظم صلوات الله عليه: ((إن الأخ الفاضل والعالم العامل الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني قرأ علي من ابتداء ((صحيح البخاري)) و ((صحيح مسلم)) ، واستجازني ما رويته

(1) كانت قراءة مقامات الحريري يحفظها بعض الناس ويكثرون من قراءتها، وهي لذيذة أحسن من الروايات الإفرنجية.

(2)

حسب الاتفاق بين الحكومة العثمانية والإمام يحيى أن قضاة المحاكم ينتخبهم الإمام.

ص: 166

عن أساتذتي، ووجدته طاهر الأخلاق طيب الأعراق، حسن الرواية جيد الملكة في العلوم الدينية، ثقة عدلاُ، أهلاً للرواية بالشروط المعتبرة عند أهل الحديث، فأجزته برواية ((صحيح البخاري)) و ((صحيح مسلم)) و ((جامع الترمذي)) )) و ((سنن أبي داود)) و ((ابن ماجه)) و ((النسائي)) و ((الموطأ)) لمالك رضي الله عنهم.

حرر بتاريخ 13 - القعدة - سنة 1346هـ))

أعماله:

ثم ارتحل إلى (جيزان) سنة 1329 والتحق بها في خدمة السيد محمد الإدريسي أمير

(عسير) حينذاك، فولاه رئاسة القضاة، ولما ظهر لم من ورعه وزهده وعدله لقبه بـ

(شيخ الإسلام) ؛ وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس، ومكث مع السيد محمد الإدريسي حتى توفي الإدريسي سنة 1341هـ فارتحل إلى (عدن) ومكث فيها سنة مشتغلاً بالتدريس والوعظ. وبعد ذلك ارتحل إلى (الهند) وعين في دائرة المعارف العثمانية بـ (حيدر أباد الدكن) مصححاً لكتب الحديث وما يتعلق به وغيرها من الكتب في الأدب والتاريخ.

وبقي بها مدة ثم سافر إلى مكة المكرمة ووصل إليها في عام 1371هـوفي عام 1372هـفي شهر ربيع الأول منه بالذات عين أميناً لمكتبة الحرم المكي الشريف حيث بقي بها يعمل بكل جد وإخلاص في خدمة رواد المكتبة من المدرسين وطلاب العلم حتى أصبح موضع الثناء العاطر من جميع رواد المكتبة على جميع طبقاتهم

ص: 167

بالإضافة إلى استمراره في تصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بالهند، حتى وافاه الأجل المحتوم صبيحة يوم الخميس السادس من شهر صفر عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين من الهجرة بعد أن أدى صلاة الفجر في المسجد الحرام وعاد إلى مكتبة الحرم حيث كان يقيم وتوفي على سريره. رحمه الله.

مؤلفاته وما حققه من كتب:

مؤلفاته: - المطبوع منها:

1-

((طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) .

2-

ورسالة في مقام إبراهيم وهل يجوز تأخيره.

3-

و ((الأنوار الكاشفة بما في كتاب ((أضواء على السنة)) من الزلل والتضليل والمجازفة))

4-

ومحاضرة في كتب الرجال وأهميتها ألقيت في حفل ذكرى افتتاح دائرة المعارف بالهند عام 1356هـ.

مؤلفاته المخطوطة:

((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) في مجلدين تحت الطبع.

و ((إغاثة العلماء من طعن صاحب الوراثة في الإسلام)) .

ورسائل أخرى في مسائل متفرقة لم يسمها (1) . وديوان شعر وآخر ما قال في الشعر القصيدة التي رثا بها جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله والتي نشرت في (المنهل) العدد (53) من السنة الرابعة عشرة.

أما الكتب التي قام بتحقيقها وتصحيحها والتعليق عليها فهي:

1-

التاريخ الكبير للبخاري إلا الجزء الثالث.

(1) قلت: سيأتي في مواضع من ((التنكيل)) أن له ((كتاب العبادة)) ، و ((أحكام الكذب)) . ن

ص: 168

2-

وخطأ الإمام البخاري في تاريخه لابن أبي حاتم الرازي.

3-

وتذكرة الحفاظ للذهبي.

4-

والجرح والتعديل لابن حاتم الرازي أيضاً.

5-

وكتاب موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي.

6-

والمعاني الكبير في أبيات المعاني لابن قتيبة.

7-

والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.

8و9- وآخر ما كان يقوم بتصحيحه كتاباً ((الإكمال)) لابن ماكولا و ((الأنساب)) للسمعاني، وصل إلى خمسة أجزاء، تم طبعها وشرع في السادس من كل منهما حيث وافاه الأجل المحتوم..

هذا بالإضافة إلى اشتراكه في تحقيق وتصحيح عدد من أمهات كتب الحديث والرجال وغيرها مع زملائه في دائرة المعارف العثمانية بـ (حيدر أباد) بـ (الهند) . وأهمها ((السنن المبرى)) للبيهقي، و ((مسند أبي عوانة)) و ((الكفاية في علم الرواية)) للخطيب البغدادي و ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي و ((المنتظم)) لابن الجوزي أيضاً، و ((الأمالي الشجرية)) :

1-

مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده طبعة أولى (1) .

2-

تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر لكمال الدين أبي الحسن الفارسي.

3-

الأمالي اليزيدية (فيها مراث وأشعار وأخبار ولغة وغيرها) .

4-

عمدة الفقه لموفق الدين ابن قدامه (قابل الأصل وصححه وعلق عليه) .

5-

كشف المخدرات لزين الدين عبد الرحمن بن عبد الله المعلى ثم الدمشقي.

6-

شرح عقيدة السفاريني.

7-

موارد الظمآن إلى زوائد صحيح بن حبان.

(1) وقع في ((المنهل)) هنا وفي ما يأتي من الكتب بعض الأخطاء المطبعية استفدنا تصحيحها من فضيلة الشيخ سليمان الصنيع. جزاه الله خيراً. ن

ص: 169

8-

الجواب الباهر في زور المقابر. لابن تيمية (شارك في تحقيقه وإخراج أحاديثه) .

9-

الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لابن حجر العسقلاني.

10-

نزخة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر. لعبد الحي بن فخر الدين الحسيني.

وغير ذلك رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

ص: 170

مقدمة الطبعة الأولى

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه وحده أستعين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رَسُولُ اللهِ، وآله وصحبه وإخوانه أجمعين.

أما بعد: فإني أقد اليوم إلى القراءِ الكرام كتاب ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) تأليف العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى بن علي اليماني رحمه الله تعالى (1) ، بين فيه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة تجني الأستاذ الكوثري على أئمة الحديث ورواته، ورميه إياهم بالتجسيم والتشبيه، وطعنه عليهم بالهوى والعصبية المذهبية، حتى لقد تجاوز طعنه إلى بعض الصحابة، مصرحاً بأن أبا حنيفة رحمه الله رغب عن أحاديثهم! وأن قياسه مقدم عليها! فضلاً عن غمزه بفضل الأئمة وعلمهم، فمالك مثلاً عنده ليس عربي النسب بل مولى! والشافعي كذلك، بل هو عنده غير فصيح في لغته، ولا متين في فقهه. والإمام أحمد غير فقيه عنده! وابنه عبد الله مجسم، ومثله الأئمة ابن خزيمة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي حاتم، وغيرهم، والإمام الدارقطني عنده أعمى ضال في

(1) انظر ترجمته في الصفحة 165.

(2)

ولا يخفى أن التعصب المذهبي لم يحفل به مثل الأستاذ زاهد الكوثري على الحقيقة، منذ مائة سنة على الأقل.

ص: 171

المعتقد، متبع للهوى، والحاكم شيعي مختلط اختلاطاً فاحشاً!!! وهكذا لم يسلم من طعنه حتى مثل الحميدي، وصالح بن محمد الحافظ وأبي زرعة الرازي وابن عدي وابن أبي داود والذهبي وغيرهم!

ثم هو إلى طعنه هذا يضعف الثقات من الحفاظ والرواة، وينصب العداوة بينهم وبين أبي حنيفة لمجرد روايتهم عنه بعض الكلمات التي لا تروق لعصبية الكوثري وجموده المذهبي.

وهو في سبيل ذلك لا يتورع أن يعتمد على مثل ابن النديم الوراق وغيره ممن لا يعتد بعلمه في هذا الشأن. وهو على النقيض من ذلك يوثق الضعفاء والكذابين، إذا رووا ما يوافق هواه! وغير ذلك مما سترى تفصيله في هذا الكتاب بإذن الله.

ومنه يتبين للناس ما كان خافياً عليهم من حقيقة الكوثري، وأنه كان يجمع في نفسه بين صفتين متناقضتين: فهو في الفقهيات وعلم الكلام مقلد جامد، وفي التجريح والتعديل، والتوثيق والتضعيف، وتصحيح الحديث وتوهينه، ينحو منحى المجتهد المطلق، غير أنه لا يلتزم في ذلك قواعد أصولية، ولا منهجاً علمياً! فهو مطلق عن كل قيد وشرط! لذلك فهو يوثق في من شاء من الرواة ولو أجمع أئمة الحديث على تكذيبه، ويضعف من شاء ممن أجمعوا على توثيقه، ويصرح بأنه لا يثق بالخطيب وأبي الشيخ ابن حيان ونحوهما، ويضعف من الحديث ما اتفقوا على تصحيحه، ولو كان مما خرجه الشيخان في ((صحيحهما)) ولا علة قادحة فيه. ويصحح ما يعلم كل عارف بهذا العلم أنه ضعيف بل موضوع مثل حديث ((أبو حنيفة سراج أمتي)) ! إلى غير ذلك من الأمور التي ستتجلى للقارئ الكريم، مبرهناً عليها من كلام الكوثري نفسه في هذا الكتاب العظيم، بأسلوب علمي متين، لا وهن فيه، ولا خروج عن أدب المناظرة، وطريق المجادلة بالتي هي أحسن، بروح علمية عالية، وصبر على البحث والتحقيق كاد يبلغ الغاية، إن لم أقل: بلغها. كل

ص: 172

ذلك انتصاراً للحق، وقمعاً للباطل، لا تعصباً للمشايخ والمذهب، فرحم الله المؤلف، وجزاه عن المسلمين خيراً.

هذا. وقد قمت على طبع الكتاب برغبة من فضيلة الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته، وعلقت عليه في بعض المواطن التي رأيت من الفائدة التعليق عليها، وميزت هذه التعليقات بالرمز لها بـ (ن) . وفي القسم الرابع من الكتاب تعليقات أخرى بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة حفظه الله تعالى (1) ، رمزت لها بـ (م ع) ، وقد أصرح باسمه، وما كان من التعليقات خلواً عن الرمز فهي للمؤلف على الغالب وكان فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق قد ألحق بقلمه بعض الجمل بأصل الكتاب بالحبر الأحمر، فنزلت بها إلى التعليق عازباً لها إليه وقد لا أفعل، فأجعلها بين معكوفين «» ، وإنما فعلت ذلك لأن الأمانة العلمية تقتضي ذلك ولأن ذلك رغبة المؤلف كما جاء على الوجه الأول من القسم المشار إليه ونصه.

((يقول المؤلف: إذا علق أحد على كتابه فليكن التعليق منفصلاً عن كلامه وعليه توقيعه)) .

وكتب الشيخ عبد الرزاق حمزة تحته ما نصه:

((قرأت الكتاب المذكور (القائد إلى تصحيح العقائد) وعلقت عليه بعض تعليقات بالقلم الأحمر في أسفل بعض الصفحات، ولم أصحح في صلبه سوى بعض كلمات وقعت غلطاً في آيات قرآنية، سهو اً من الكاتب، وللمؤلف حواش مذيلة بلفظ ((المؤلف)) وما لم يذيل بهذا اللفظ فهي تعليقاتي أنا محمد عبد الرزاق حمزة، لي غنمها، وعلي غرمها وتبعتها. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد ذيلت على الكتاب بآخره تذييلاً نافعاً إن شاء الله تعالى. محمد عبد الرزاق حمزة)) (2) .

وأقول: قد وقع في الكتاب وذيله والتعليق عليه بعض الألفاظ، صححتها،

(1) انظر ترجمته في الصفحة 102.

(2)

إن هذا لم يعد له علاقة بهذه الطبعة بعد أن فصلنا "القائد إلى تصحيح العقائد" بطبعة مفردة، زهير.

ص: 173

ونبهت على الأصل فيها ما أمكن، وسقطت بعض الألفاظ من بعض الآيات القرآنية في الذيل فأشرت إليها بجعلها بين معكوفين «» ، وقد يقع مثله في الكتاب أيضاً. والسهو من طبع الإنسان. وجل من لا يضل ولا ينسى.

وإن مما يلفت النظر ويدل على فضل المؤلف رحمه الله تعالى وإنصافه أنه أذن لفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق بالتعليق على كتابه ونقده فيما يراه منتقداً منه. وقد تعقبه المؤلف في بعض المواطن، وكان الصواب حليفه في الغالب، وسكت في غيرها، مما زاد في قيمة الكتاب وفائدته، فجزى الله المؤلف والمعلق خيراً.

ثم إنه والكتاب على وشك تمام طبعه، جاءني كتاب من فضيلة الشيخ محمد نصيف يبدي فيه رغبته بأن نعيد طبع رسالة ((طليعة التنكيل)) للمؤلف رحمه الله تعالى، وهي بمثابة المقدمة لهذا الكتاب ((التنكيل)) فوافق ذلك ما كان في نفسي من الرأي، وكنت صرحت به لفضيلته حين عرض علي القيام على طبع الكتاب، ولكن الشيخ حفظه الله وبارك فيه - لم ينشط لذلك يومئذ، وما قدر يكن.

إن طبع ((الطليعة)) مع أصله ((التنكيل)) أمر هام لأنها أولاً كالمقدمة بالنسبة إليه كما ذكرنا. وثانياً: أن المؤلف يحيل عليها في الكتاب كثيراً، ويشير إلى صفحاتها بالأرقام من الطبعة الأولى منها، فقد كان الأنفع طبع الكتاب قبل الرسالة لنصحح الأرقام منه على وفق الطبعة الجديدة، ولكن هكذا قدر.

وتداركا لما فات، فقد وضعت أرقام صفحات الطبعة الأولى على هامش هذه الطبعة تيسيراً على الطالب، واضعاً رقم كل صفحة بجانب السطر الذي فيه أول كلمة منها مشيراً إليها بوضع محور / أمامها. فما على القارئ إلا أن يتتبع رقم الصفحة المحال عليها من الهامش فيجد البحث المنشود.

وقد اعتمدت في هذه الطبعة على الطبعة الثانية منها وذلك لأمرين:

الأول: أنه كان وقع في الطبعة الأولى بعض الأخطاء نبه على أكثرها المصنف رحمه

ص: 174

الله فيما سيأتي من ((التنكيل)) (1/101 و271)(1) ، وذكر فيه آيات وتصحيحات ينبغي إلحاقها بـ (الطليعة) فاستدركها المؤلف في الطبعة الثانية، إلا جملة واحدة في سطور استدركتها أنا في هذه الطبعة، كما ستراه ص (20)(2) .

والأمر الآخر: أن الطبعة الأولى كان قد أدرج فيها في المتن ولتعليق ما ليس من كلام المصنف رحمه الله تعالى، بخلاف الطبعة الثانية، فقد جاء على الوجه الأول منها:

طبع للمرة الثانية بعد المقابلة على الأصل الذي كتبه المؤلف، وإخراج ما أدرج في الطبع الأولى من غير كلامه في المتن أو الحاشية)) .

قلت: فهي طبعة منقحة ومزيدة بالنسبة إلى الأولى، وطبعتنا هذه امتازت بكونها أشد تنقيحاً وأكثر فائدة.

هذا. ولعل من الحكمة في تقدير الله عز وجل طبع الرسالة بعد الكتاب، أننا تمكنا فيها من استدراك تعليق هام على موضع من ((التنكيل)) لك يتيسر لنا تعليقه هناك، فاستدركناه هنا كما ستراه في ((الرسالة)) (ص 33)(3) . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وأخيراً، أسأل الله تعالى أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب، ويعرفهم بأثر أهل الحديث في خدمة الشريعة، ويجزي المؤلف والمعلق والمنفق على طبعه خير الجزاء، إنه خير مسؤول.

دمشق 21 رمضان سنة 1386

محمد ناصر الدين الألباني.

(1) في طبعتنا هذه 1/296 و 485

(2)

في طبعتنا هذه 1/201 - 202

(3)

في طبعتنا هذه 1/218

ص: 175