الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرقة الكتب والأمر بالكذب وبناء الرواية عليه ما يمنع الاعتماد على الرجل فيما ينفرد به. وانظر ما يأتي في ترجمتي محمد بن حسين بن حميد ومحمد بن عثمان.
34- أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلِّس الحماني
. وقد ينسب إلى جده وإلى أبي جده، ويقال له، أحمد بن عطية وغير ذلك أخرج الخطيب من طريقه في مناقب أبي حنيفة عدة حكايات ثم أخرج عنه (13/ 419) حكايتين:
الأولى: قوله «سمعت يحيى بن معين وهو يسأل عن أبي حنيفة: أثقة هو في الحديث؟
قال: نعم، ثقة ثقة، كان والله أورع من أن يكذب وهو أجل قدراً من ذلك» .
الثانية: قوله «سئل يحيى بن معين: هل حدث سفيان عن أبي حنيفة؟ قال: نعم كان أبو حنيفة ثقة صدوقاً في الحديث والفقه مأموناً على دين الله» . ثم قال الخطيب:
«أحمد بن الصلت هو أحمد بن عطية وكان غير ثقة» .
قال: الأستاذ ص165 «سبق أن تحدث عن أحمد بن الصلت هذا في هامش ص353 من (تاريخ الخطيب)
…
» .
أقول عبارته هناك «وعنه يقول ابن أبي خيثمة لابنه عبد الله: اكتب عن هذا الشيخ يا بني فإنه كان يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة،
…
وفي شيوخه كثرة وقد أخذ عنه أناس لا يحصون من الرواة وتحامل أبي عدي عليه كتحامله على البغوي، ولعل ذنبه كونه ألف في مناقب النعمان. وحديث ابن جزء لن ينفرد هو بروايته والكلام في حقه طويل الذيل، ومن الغريب أنه إذا طعن طاعن في رجل تجد أسراباً من ورائه يرددون صدى الطاعن أيا كانت قيمة طعنه» .
أقول أما الحكاية عن ابن أبي خيثمة فأعادها الأستاذ في (التأنيب) ص 167 ثم اتبعها بقوله:
«وهذا ما يغيظ الخطيب جداً ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى» .
وقد نعيت على الأستاذ في (الطليعة) ص 93 أنه «يتعارف المجاهيل ويحتج بروايته إذا كانت روايتهم توافق هواه» ص93 أنه «يتعارف المجاهيل ويحتج بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه» ثم ذكرت ص93 هذه الحكاية وقلت «كذا قال ثم لم يبين ما يعرف به أولئك الذين جهلهم الخطيب» .
فتعامى الأستاذ في (الترحيب) عن ذلك فلم يذكر فيه شيئاً. فلننظر في سند هذه الحكاية أصحيح هو؟ حتى يسوغ للأستاذ أن يجزم بقوله «يقول ابن أبي خيثمة» وماذا قال الخطيب في هذه الحكاية؟ أركب كل مركب للتخلص منها بدون جدوى؟ قال الخطيب ج4 ص209 «أخبرنا علي بن المحسن التنوخي: حدثني أبي: ثنا أبو بكر محمد ابن حمدان بن الصباح النيسابوري بالبصرة: حدثنا أبو علي الحسن بن محمد الرازي قال قال لي عبد الله بن أبي خيثمة قال لي أبي أحمد بن أبي خيثمة: أكتب عن هذا الشيخ يا بني فإنه يكتب معنا في المجالس منذ سبعين سنة - يعني أبي العباس أحمد بن الصلت المغلس الحماني»
فلندع الجملة الأولى والثالثة، ولننظر في الوسطى، هل جميع رجال السند معروفون ثقات حتى يسوغ للأستاذ أن يعول بدون جدوى، وأن يجزم بنسبة ذاك القوم إلى ابن أبي خيثمة. أما علي بن المحسن وأبوه معروفان، فمن أبو بكر محمد بن حمدان بن الصباح النيسابوري؟ ومن شيخه؟ وهل يعرف لابن أبي خيثمة ابن اسمه عبد الله؟ أما الأول ففي (لسان الميزان) ج 5 ص 147 «محمد بن حمدان صباح بن النيسابوري عن الحسن بن محمد الرازي وعنه علي بن الحسن (صوابه: المحسن) التنوخي قال الخطيب مجهول» ولم يتعقبه بشيء، نعم عرفنا محمد بن حمدان هذا بأنه يروي فيكثر عن ابن الصلت صاحب هذه الترجمة وعنه التنوخي، أخرج
الخطيب في مناقب أبي حنيفة بهذا الطريق عدة حكايات منها في ص339 مرتين في ص340 وص443 وص445 وص346 وص353 وص358 وأكل الاستنتاج إلى القارئ.
أما الثاني ففي (لسان الميزان) ج2 ص253 «الحسن بن محمد بن نصر عثمان بن الوليد بن مدرك الرازي أبو محمد (كذا) المتطيب، قال: الحاكم قدم نيسابور سنة 337 وكان يحدث عن الكديمي وأقرانه بعجائب فمنها
…
أقول: وللحسن هذا عجائب في (مناقب أبي حنيفة) للموفق.
وأما الثالث فلم أر أحدا ذكر أن لأحمد بن أبي خيثمة ابناً اسمه عبد الله وما سبق عن ابن حجر من جعله بدل عبد الله «محمد» فهل وقع في نسخته من تاريخ الخطيب «محمد» ؟ أم وقع فيها «أبو عبد الله» وهي كنية محمد، أم وقع فيها كما في النسخ المطبوع عنها «عبد الله» ولكنه ظن أن الصواب «أبو عبد الله» وأن كلمة «أبو» سقطت من الناسخ، الأشبه هذا الثالث ولوتم هذا لنجا الثالث من الجاهلة والضعف فإن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن أبي خيثمة معروف ثقة، لكن وجدت الحكاية في (تهذيب تاريخ ابن عساكر) ج2 ص57 وفيها «عبد الله» فضعف ما ظنه ابن حجر. هذا حال الإسناد فكيف ترى حال الأستاذ؟
وهب أن الحكاية صحت عن أحمد بن أبي خيثمة فأي شيء فيها؟ لم يعرف ابن أبي خيثمة بالتوقي عن الرواية عن الضعفاء فضلا عن الكتاب عنهم، بل عامة المحدثين يكتبون عن كل أحد إلا أن منهم أفراداً كانوا يتقون أن يرووا إلا عن
ثقة ويكتبون عن الضعفاء للمعرفة كما مر في ترجمة الإمام أحمد من نظره في كتب الواقدي. وأحمد بن أبي خيثمة وابنه محمد لو اتجه ظن ابن حجر كانا مشتغلين بجمع (التاريخ) والتاريخ يحتاج إلى مواد وتسامح في الرواية عن الضعفاء، فلو صحت القضية لما كان فيها إلا شهادة ابن أبي خيثمة لابن الصلت انه كان يكتب معهم من زمان طويل وبذلك علل «و» أمر ابنه بالكتابة عنه على ما جرت عادتهم من الحرص على الكتابة عن المعمر ولو كان ضعيفاً رغبة في العلو وعلى كل حال فليس فيها توثيق.
قول الأستاذ: «وفي شيوخه كثرة»
أقول سيأتي كلام الأئمة فيه وبه تعرف أن من كان في مثل حاله فالناس كلهم
شيوخه!
قوله «وقد أخذ عنه أناس لا يحصون» .
أقول أما الذكورون في ترجمته فقليل ومع ذلك فليس فيهم من عرف بأنه لا يروي عن الساقطين وهذا الكلبي أشهر الرواة بالكذب روى عنه السفيانان وابن جريج وابن المبارك وغيرهم من الأئمة فلم ينفعه ذلك.
قوله «وتحامل عليه ابن عدي كتحامله على البغوي» .
أقول: لا سواء، البغوي وهو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز تأتي ترجمته، تحامل عليه ابن عدي بما ليس بجرح، ثم عاد فأثنى عليه، ووثقه الناس، وابن الصلت جرحه ابن عدي جرحاً صريحاً مفسراً وجرحه الناس كما يأتي، ولم يثن عليه أحد، ومع ذلك فقد رجع الأستاذ حين احتاج إلى الكلام في البغوي فلم يعد كلام ابن عدي فيه تحاملاً بل بني على ذاك التحامل وهو ل، ورمى البغوي بالكذب!
قوله: «ولعل ذنبه كونه ألف في مناقب النعمان» .
أقول: لم يخب رجاء الأستاذ فإن من ذنب ابن الصلت عندهم أنه خلط في
المناقب كما يأتي وذلك واضح لكل متدبر، وسيأتي أن أعلى الجارحين لابن الصلت حافظ حنفي!
قوله: «وحديث ابن جزء لم ينفرد هو بروايته» في (التأنيب) ص 166: «بل أخرجه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ج 1 ص 45 بسند ليس فيه ابن الصلت» .
أقول: في الموضع المذكور من كتاب (العلم) : «وأُخبِرنا أيضاً عن أبي يعقوب يوسف بن أحمد الصيدلاني المكي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي وأبو علي عبد الله بن جعفر الرازي ومحمد بن سماعة عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: حججت مع أبي سنة ثلاث وتسعين ولي ست عشرة سنة..» ذكر القصة. فينظر في المخبر لابن عبد البر من هو؟ وفي الصيدلاني فإني لم أجد من وثقه، ومع هذا ففي بقية السند تحريف لم يشر إليه الأستاذ رجاء أن يغتر به من لا معرفة له، فإن الصيدلاني لم يدرك ابن سماعة والعقيلي لم يدرك أبا يوسف ولا ابن سماعة، وعبد الله ابن جعفر هذا قد جاء كما يأتي هذا الخبر عنه عن أبيه عن ابن سماعة، وعبد الله بن جعفر هذا قد جاء كما يأتي هذا الخبر عنه عن أبيه عن ابن سماعة. فصواب هذه العبارة كما يعلم من (الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية) للقرشي 1/ 273: «
…
العقيلي ثنا أبو عبد الله بن جعفر الرازي ثنا (أو: عن) محمد بن سماعة..» ترجم القرشي عبد الله ابن جعفر هذا أخذاً من هذا الموضع في (كتاب العلم) فقط كما يتضح من مراجعة كلامه. ولما شعر أن عبد الله بن جعفر لا يدري من هو رأى حقا عليه أن يموه فخلع عليه لقب «الإمام» وفي (مناقب أبي حنيفة) للموفق 1/25 عن الجعابي: «حدثني أبو علي عبد الله بن جعفر الرازي من كتاب فيه حديث أبي حنيفة حدثنا أبي عن محمد سماعة عن أبي يوسف قال: «حججت مع أبي سنة ست تسعين ولي ست عشرة سنة
…
» وذكر القصة. زاد في السند كما مر، وقال:«سنة ست وتسعين» وفي كتاب (العلم) و (الجواهر المضيئة) عنه: «سنة ثلاث وتسعين» تارة حاول أن يقرب التاريخ من وفاة عبد الله بن الحارث، وتارة راعى المعروف من
مولد أبي حنيفة. وفي (لسان الميزان) و (ذيل اللآليء) للسيوطي من طريق أبي علي الحسن بن علي الدمشقي عن عبد العزيز بن حسن الطبري عن مكرم بن أحمد عن محمد بن أحمد بن سماعة عن بشر ابن الوليد عن أبي يوسف، فذكر القصة. قال في (اللسان) : وهو باطل أيضاً.. وللحسن بن علي الدمشقي ترجمة في (لسان الميزان) 2/236 وفي (شرح مسند أبي حنيفة) لعلي قاري: «الأقرب ما ذكره أبو منصور البغدادي بإسناده عن بلال بن أبي العلاء عنه قال: حملني أبي على عاتقه وذهب إلى عبد الله بن الحارث
…
»
ولا أدري ما ذاك السند؟ ومن بلال بن أبي العلاء؟ وربما كان عند القوم غير هذا!.
قال الأستاذ: «فثبت أنه لم ينفرد بروايته فيجب أن تزول نقمة الذهبي بزوال سببها» .
أقول: هذا إذا كان سند المتبعة مقبولاً، أما إذا كان ساقطاً فلا يدفع التهمة بل يقال بعضهم وضع، وبعضهم سرق أو وهم أو لقن أو أدخل عليه، على أنه إذا كان مقبولاً والمروي منكراً فإن الراوي يبرأ وتلصق التهمة بمن فوقه، ومع ذلك فلا ينفع ابن الصلت زوال تبعة ذلك الحديث عنه إلى فقوه لأن له بلايا أخر لا تحصى.
قال الأستاذ: «ولكن لا يمكنهم أن يسامحوه لأنه بروايته الحديث المذكور بطريق أبي حنيفة يثبت أن أبا حنيفة من التابعين حتى عند من لا يكتفي بالمعاصرة أو الرؤية في ذلك وهذا مما لا يمكن مسامحته والصفح عنه
…
» .
أقول: لخصمك أن يقول أنت أحق بالتهمة وأهلها، بل الأمر أو ضح من أن يسمى تهمة ومع ذلك لو جئت بحجة صحيحة لوجب قبولها، فكيف ترجو أن ترد حجج الأئمة باتهامك لهم؟ . وفي (التأنيب) ص165 بعد الإشارة إلى قول الذهبي في الحديث «هذا كذب فابن جزء مات بمصر ولأبي حنيفة ست
سنين» قال الأستاذ «تغافل الذهبي عن أن في مواليد رجال الصدر الأول ووفياتهم اختلافاً كثيراً لتقدمهم على تدوين كتب الوفيات بمدة كبيرة فلا يبت في أغلب الوفيات برواية أحد النقلة، وها هو أبي بن كعب رضي الله عنه من أشهر الصحابة اختلفوا في وفاته من سنة 18 إلى سنة 32 والذهبي يصر على أن وفاته سنة 22 في كتبه جميعاً مع أن عاش إلى سنة 32 وشارك جمع القرآن في عهد عثمان كما يظهر من طبقات ابن سعد وأين منْزلة ابن جزء من منْزلة أبي حتى يبت بوفاة تروي له عن ابن يونس وحده، وقد قال الحسن بن علي الغزنوي أن وفاته سنة 96 كما في «شرح المسند» لعلي القاري، ولعل ذلك هو الصواب في وفاته» .
أقول الجواب من وجوه:
الأول: وقوع الاختلاف في ذلك في الجملة إنما هو بمنزلة وقوعه في أدلة الأحكام لا يبيح إلغاء الجميع جملة بل يؤخذ بما لا يخالف له وينظر في المتخالفين فيؤخذ بأرجحها، فإن لم يظهر الرجحان أخذ بما اتفقا عليه، مثال ذلك ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص سنة 51، 54، 55، 56، 57، 58، فإن لم يترجح أحدها أخذ بما دل عليه مجموعها أنه لم يعش بعد سنة 58. فان جاءت رواية عن رجل أنه لقي سعد بمكة سنة 65 مثلاً استنكرها أهل العلم، ثم ينظرون في السند فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقة حملوا عليه. فابن جزء قيل في وفاته سنة 85، 86، 87، 88، وأرجحها الثاني لأنه قول ابن يونس مؤرخ مصر وهي مع ذلك مجتمعة على أنه لم يعش بعد سنة 88، فلما جاءت تلك الرواية أنه لقي بمكة سنة 96 أو 98 استنكرها أهل العلم ووجدوا أحق من يحمل عليه ابن الصلت، فأما قول الغزنوي المتأخر أن ابن جزء توفي سنة 99 فهو من نمط ما في (المناقب) للموفق ج 1 ص 26 روى من طريق الجعابي القصة وفيها أن اللقاء كان سنة 96 ثم حكى عن الجعابي أن ابن جزء مات سنة 97 فهذان القولان مع تأخر قائليهما إنما حاولا بهما تمشية القصة، رأيا أن فيها أن اللقاء كان بالموسم وأن المعروف في وفاة ابن جزء أنها بمصر بقرية يقال لها سفط القدور كما جاء عن
الطحاوي وأن من شهد الموسم لا يمكن أن يصل إلى مصر إلا في السنة التالية فبنيا على ذلك ولم تمكنهما الزيادة على ذلك لئلا تفحش المخالفة لما نقل عن المؤرخين جداً.
الوجه الثاني: ابن جزء أقرب إلى عصر تدوين الوفيات من أبي بن كعب ففي (فهرست ابن النديم) ص 281 أن لليث بن سعد تاريخاً، وتواريخ المحدثين مدارها على بيان الوفيات والليث ولد سنة 94 ومات سنة 175 ومن أشهر شيوخه يزيد بن أبي حبيب المتوفى سنة 128وهو أشهر الرواة عن ابن جزء. وفي (تدريب الراوي) في شرح النوع الستين «وقال سفيان الثوري لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ» والثوري ولد سنة 97 ومات سنة 161 فيظهر أن البحث والسؤال عن الوفيات قد شرع فيه في حياة الرواة عن ابن جزء وهكذا غيره ممن تأخرت وفاته فلم يكن بين الباحث وبين الصحابي إلا رجل واحد فيخبره عما أدركه بخلاف الحال في متقدمي الوفاة كأُبيّ بن كعب.
الوجه الثالث: كان الصحابة في عهد أبي بن كعب متوافرين فلم يكن لطلبة العلم كبير حرص على لقائه لأنهم يجدون غيره من الصحابة ويرون أنه مات لم يفتهم شيء لبقاء كثير من الصحابة، وهو لعلمه بذلك لم يكن يبذل نفسه حتى نسب إلى شراسة الخلق فلعله لم يكن يتجشم لقاءه إلا ذوو الأسنان، فإذا نظرنا في الرواة عنه فلم نجد فيهم إلا من كان رجلاً في عهد عمر لم يكن في ذلك دلالة بينة على أنه توفي في عهد عمر، فأما ابن جزء فكان آخر الصحابة بمصر فطلبة العلم بغاية الحرص على السماع منه لأنهم يرون أنه إن مات لم يجدوا صحابياً آخر وتزلوا طبقة عظيمة وهو لعلمه بذلك يبذل نفسه لتحديث من يريد أن يسمع منه، صغيراً كان أم كبيراً كما كان سهل بن سعد يقول: «لومت لم تسمعوا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في ترجمته من (الاستيعاب)، يحرضهم بذلك والله أعلم على السماع منه. ولما مات أنس قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم. قيل كيف ذاك؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا تعال إلى من سمعه من النبي صلى
الله عليه وآله وسلم. فالظن بمن كان من طلبة العلم بمصر أنه إذا بلغ سن الطلب في حياة ابن جزء كان أهم شيء عنده أن يلقاه ويسمع منه فلو عاش ابن جزء إلى سنة 97 أو 99 لكان في الرواة عنه من لم يبلغ سن الطلب إلا قبل ذلك بقليل، ولو كان فيهم من هو كذلك لأشتهر أمره لعلو سنده ولما خفي على مثل ابن يونس وغيره ممن ذكر وفاة ابن جزء، وقد تتبع الرواة عن ابن جزء فإذا أخرهم وفاة عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب توفي سنة 131 وقد روى عبيد الله أيضاً عن ناعم مولى أم سلمة ووفاة ناعم سنة 80 على ما قيل ولم يذكروا خلافه.
الوجه الرابع: لو حج ابن جزء سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين في الموسم واجتمع الناس حواليه كما تزعمه تلك الرواية لكان من حضر الموسم من أهل العلم وطلبة الحديث أحرص الناس على لقائه والسماع منه، أنه لم يبق حينئذ على وجه الأرض صحابي سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدث عنه إلا هو على فرض صحة الرواية، ثم لتناقلوا ما يسمعون منه وتنافسوا فيه لعلوه، ولا سيما ذاك الحديث المذكور في تلك الرواية «من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب» فإن فيه بشارة عظيمة لهم وفضيلة بينة وترغيباً في طلب العلم، ولا يعرفونه من رواية غيره فما بالنا لا نجد لذلك أثراً إلا ما تضمنته تلك القصة؟
الوجه الخامس: لو لم يكن فيما يدل على تأخر وفاة أُبيّ بن كعب إلا ما أشار إليه الأستاذ من الرواية التي عند ابن سعد لاستنكرها أهل العلم لكن لذلك شواهد وعواضد منها ما روي عن عبد الرحمن بن أبزي أنه قال: «قلت لأبي لما وقع الناس في أمر عثمان يا أبا المنذر -» ومنها ما روى عن زر بن حبيش أنه لقي أُبياً في خلافة عثمان، ومنها ما روي عن الحسن البصري في قصة أن أُبياً مات قبل مقتل عثمان بجمعة. فأما الرواية في لقى ابن جزء بمكة سنة ست وتسعين أو ثماني وتسعين فلا شاهد لها ولا عاضد. فإن قيل أرأيت لو وجد لها شواهد وعواضد قوية أتقبلونها؟ قلت أن صح سندها فنعم وأي شيء في هذا؟ أرأيت من قامت عليه
البينة العادلة بما يوجب القتل أيدرأ عنه القتل أن يقال لو وجدت بينة عادلة بجرح الشهود لما كان عليه قتل؟.
الوجه السادس: متأخرو الوفاة من الصحابة قد يقع الاختلاف في تاريخ وفاتهم لكنه لا يكاد يكون التفاوت شديداً فعبد الله بن أبي أوفى سنة 86، 87، 88، وسهل بن سعد الساعدي سنة 88، 91، وأنس سنة 91، 93، 95، وأشد ما رأيته من التفاوت ما قيل في وفاة السائب بن يزيد وذلك نادر مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي وللسائب نحو سبع سنين وعامة روايته عن الصحابة، وقد يرسل، أما ابن جزء فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً ولم يذكروا له رواية عن غيره فالحرص على السماع من ابن جزء محقق بخلاف السائب.
أقول حاصل هذا أنه يحتمل أن يكون هناك صحابي آخر وافق عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي في الاسم واسم الأب والنسب فيكون هو الذي جاء في تلك القصة أن أبا حنيفة لقيه بمكة سنة 97 أو 98، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال لا يكفي لدفع الحكم مع أنه قد علم مما تقدم في الوجه الرابع وغيره ما يدفع هذا الاحتمال، فإن كان الأستاذ يشير بقوله «في الاسم واسم الأب والنسب» ولم يذكر اسم الجد - إلى عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب فذاك تابعي معروف.
ثم ذكر الأستاذ أن ابن عبد البر «نص على أبا حنيفة رأى أنس بن مالك وعبد الله ابن جزء الزبيدي رواية عن ابن سعد» .
أقول: يحكي الذهبي عن ابن سعد أنه روى عن سيف بن جابر عن أبي حنيفة أنه رأى أنساً، ولم أر في (الطبقات) المطبوع لا ذا ولا ذاك فلا أدري أفي كتاب آخر
لابن سعد؟ أم حكاية مفردة رويت بسند، فإن كان الثاني فلا أدري ما حال ذاك السند وكيف وقعت لابن عبد البر زيادة «وعبد الله بن جزء الزبيدي» مع أني لم أعرف سيف بن جابر، وما دام الحال هكذا فلا تقوم بذلك حجة، مع أن صنيع ابن عبد البر في (الاستيعاب) يقتضي أنه لم يعتد بما حكاه في (كتاب العلم) من رؤية أبي حنيفة لابن جزء، فإنه قال في ترجمة أنس بعد أن ذكر أنه توفي سنة 91 و92 و93 «ولا أعلم أحداً مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبا الطفيل» وقال في ترجمة ابن جزء «كانت وفاته بعد الثمانين وقد قيل سنة ثمان أو سبع وثمانين سنة خمس وثمانين» .
فصل
في (تاريخ بغداد) 4/207 من طريق ابن الصلت «حدثنا بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف حدثنا أبو حنيفة قال سمعت أنس ابن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم» ثم قال الخطيب: لم يروه عن بشر غير أحمد بن الصلت وليس بمحفوظ عن أبي يوسف، ولا يثبت لأبي حنيفة سماع من أنس بن مالك. والله أعلم. حدثني علي بن محمد بن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول سئل أبو الحسن الدارقطني وأنا أسمع عن سماع أبي حنيفة من أنس يصح؟ قال: لا ولا رؤيته، لم يلحق أبو حنيفة أحداً من الصحابة» أشار الأستاذ إلى هذا ثم قال:«مع أن أبا حنيفة كان أكبر سناً من أقل سن التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس مع ثبوت قدومه إلى الكوفة قبل وفاته اتفاقاً» .
أقول: أما أنا فلم أعرف أن أنساً قدم الكوفة في أواخر عمره فإن بنى هذا على ما اشتهر من تحديثه للحجاج بحديث العرنيين وإيذاء الحجاج له وكتابة أنس إلى
عبد الملك يشكوه فهذا كان بالبصرة سنة 75 على أن الحجاج انتقل من الكوفة إلى واسط سنة 86 وفيها مات عبد الملك كما هو معروف في التاريخ. وإن بنى على ما حكى عن ابن سعد في رؤية أبي حنيفة لأنس فقد مر ما فيه. وإن بني على أن الدارقطني على ما في (تبييض الصحيفة) عن حمزة السهمي قال: «لم يلق أبو حنيفة أحداً من الصحابة إلا أنه رأى أنساً بعينه ولم يسمع منه» كما نقله الأستاذ ص15 وأن جماعة ممن بعد الدارقطني ذكروا رؤية أبي حنيفة لأنس كما ذكره ص15 أيضاً فلا أرى في هذا حجة، أما ما حكاه السيوطي عن حمزة فقد عارضه ما مر عن الخطيب، والخطيب يروي في مواضع كثيرة من (تاريخه) عن علي بن محمد نصر عن حمزة سؤالات حمزة للدارقطني وغيره كما ترى شواهد ذلك في المقدمة (تاريخ جرجان) فيعلم مما ذكر مع النظر إلى عادة الخطيب وعادة أهل عصره التي أشرت إليها في (الطليعة) ص 110، أنه كان عنده نسخة من كتاب حمزة وسمعها من علي بن محمد بن نصر فما روى عن علي بن محمد بن نصر عن حمزة من سؤالات الدارقطني فهو من ذاك الكتاب، فرواية الخطيب ثابتة. وأما حكاية السيوطي فان كان أخذها من نسخة من كتاب حمزة فنسخة الخطيب أثبت لقرب العهد وسماعه للكتاب بواسطة واحدة ولما عرف من تثبيت الخطيب، وإن كان أخذها من مأخذ آخر فلا ندري ما حاله؟ وزعم الأستاذ أن ما وقع في (التاريخ) : «مما غيرته يد أثيمة وكم لمصحح الطبع من إجرام في الكتاب وكان أصل الكلام
…
إلا رؤيته - فغيرته اليد الأثيمة إلى: ولا رؤيته» .
أقول الكتاب أي (تاريخ بغداد) طبع بمصر ولعل الأستاذ إن كان شك في تلك الكلمة قد راجع الأصل المطبوع عنه أو روجع له كما عرف من عادته في الحرص على تأييد قوله والتنديد بمخالفيه كالمصحح الذي عناه، فلو وجد في الأصل «إلا رؤيته» لصرح به، فإن عاد فحمل على الأصل نفسه فما باله يذكر مصحح الطبع؟ هل أذكرته كلمة «الطبع» قولهم: قيل للغراب لم تسرق الصابون؟ قال:
الأذى طبعي! . (1)
وعلى كلا الحالين ليس لخصمه أن يعارضه باتهام مصحح «تبييض الصحيفة» أو كاتب أصلها؟ ومع هذا فلا مانع من صحة الحكايتين معناً بأن يقال كان الدارقطني استند فيما في «تبييض الصحيفة» من قوله «إلا أنه رأى أنساً بعينه» إلى رواية لينة أو شهرة بين حنفية عصره تسمح بذلك لأن ذكر الروية وحدها «من باب المناقب الذي يتساهل فيه» كما قال الأستاذ ص 21 في قضية أخرى، فلما سئل في رواية الخطيب على الصحة نفاها، وقول الأستاذ ص 15 «ونفيه لسماعه بعد إثباته لرؤيته دعوى مجردة وشهادة على النفي» يرد عليه أن دعوى الرؤية دعوى مجردة أيضاً، فإن قيل الظاهر أنه لم يقل ذلك إلا عن حجة، قلنا هذا الظاهر لا يبلغ أن يكون حجة ولا سيما مع التساهل في المناقب، ومع هذا فكذلك الظاهر أنه لم ينفي السماع إلا عن حجة قد تكون بنفي خاص تقبل على مثله الشهادة.
فأما من ذكر الرؤية ممن بعد الدارقطني فبنوا على اشتهار ذلك بين متأخري الحنفية وأنه «من باب المناقب الذي يتساهل فيه» كما نص عليه الأستاذ.
فصل
قضية سماع أبي حنيفة ترتبط بقضية ميلاده فلا بأس فيها هنا. في «تاريخ بغداد» (13/330) من طريق ابن عقدة بسنده إلى «مزاحم بن داود بن علية يذكر عن أبيه أو غيره قال: ولد أبو حنيفة سنة إحدى وستين
…
» قال الخطيب «لا أعلم لصاحب هذا القول متابعاً» . قال الأستاذ ص 19:
(1) وعاد الأستاذ فعلق على ص 167 قوله «وما نسب إلى الدارقطني في (4 / 208) من نفي رؤيته لأنس من تصرف مصحح الطبع كما سبق تحقيقه في صدر الردود على الخطيب
…
» كذا يجازف هذا الرجل هذه المجازفة ثم يضج ويعج إذا نسب إلى بعض ذلك.
«ألف في رواية أبي حنيفة الأحاديث عن جملة من الصحابة مباشرة جماعة من القدماء من أمثال أبي حامد محمد بن هارون الحضرمي
…
وإلى هذه الرواية في ميلاده يكون ميل هؤلاء وإلا ما ساغت روايته من بعض تلك الأحاديث في عداد مسموعاته
…
» .
أقول ابن عقدة هو أحمد بن محمد بن سعيد تقدمت ترجمته، ومزاحم وأبوه ضعيفان على أنه لم يدر أعن أبيه أم عن غيره؟ فأما الذين ألفوا في رواية أبي حنيفة عن جملة من الصحابة فليسوا متقدمين على عصر الخطيب ولا هم ممن يعتد به في هذا الشأن، بلغهم شيء فرووه ووكلوا النقد إلى أهله.
ثم ذكر الأستاذ أنه رأى في نسخة قلمية من (ضعفاء ابن حبان) تاريخ ميلاد أبي حنيفة سنة سبعين وأن بعض المطالعين صحح في الهامش: سنة ثمانين، وأن في «أنساب ابن سمعاني» المطبوع بالزنكوغراف في مادة «الخزاز» : سنة سبعين، وفي موضع آخر من الكتاب سنة ثمانين، وأن في «ملخصه» لابن الأثير وفي مادة «الخزاز» : سنة ثمانين، وأن أبا القاسم السمعاني عصري الخطيب ذكر قولين: سبعين، ثمانين، وأن صاحب
«الجواهر المضيئة» ذكر ثلاث روايات: 61، 63، 80، وأن العيني ذكر في «تاريخه» ثلاثاً أيضاً: 61، 70، 80، أقول أما رواية 61 فقد مر ما فيها. وأما رواية 63 فتفرد بذكرها في جملة ما قيل صاحب «الجواهر المضيئة» المتوفى سنة 775 ولم يذكر من قالها. وأما رواية 70 فحكاها السمعاني عصري الخطيب ولم ينسبها إلى قائل ووقعت في نسخة من (الضعفاء) لابن حبان وفي موضع من نسخة من (الأنساب) كما مر عن الأستاذ مع ما فيه، فغاية الأمر انه قيل بها في القرن الرابع.
وأما سنة ثمانين فثبتت من طرق في «انتقاء ابن عبد البر» ص 122- 123 و «تاريخ بغداد» (13/ 330) عن أبي نعيم الفضل بن دكين وهو إمام جليل كوفي كأبي حنيفة سمع منه وروى عنه، وكذلك في «تاريخ بغداد) عن زفر بن
الهذيل صاحب أبي حنيفة، وفيه أيضاً ص 325- 326 عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة «ولد جدي في سنة ثمانين وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب
…
» وفي السند نظر لكن الأستاذ أحتج بتلك الرواية في تعليقه على «مناقب أبي حنيفة» الذهبي ص 7 وقال «صح عن إسماعيل بن حماد
…
» وكذلك في «الانتقاء» عن يحيى بن نصر بن حاجب وهو حنفي توفي سنة 215، وفي «الانتقاء» آخر ص 123 من طريق أبي يعقوب يوسف ابن أحمد بن يوسف المكي الذي يكثر الأستاذ من ذكر كتابه والثناء عليه يعبر عنه بابن الدخيل تلميذ العقيلي قال «سمعت القاضي أبي الحسن أحمد بن محمد النيسابوري قال: وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده أنه ولد سنة ثمانين
…
» والنيسابوري هذا متقدم على الذين ذكروا سنة سبعين، ومن العجب أن الأستاذ قال ص 20 «قول ابن عبد البر: وأما أبو حنيفة فلا اختلاف في مولده
…
، يدل على أنه لم يطلع على تلك الروايات، وعذره انه لم يرحل إلى الشرق
…
» ولا أدري أغلط هذا أم مخالطة، فأن ابن عبد البر لم يقل ذلك من عند نفسه، وإنما رواه عن شرقي متقدم كما رأيت. وعلى كل حال فتاريخ المورد لم يثبت ببعض ما ذكر فضلاً عن جميعه ولم يعارض ذلك ما يستحق أن يلتفت إليه. ولا يبعد أن تكون الأقوال الأخرى. إنما بنيت على رواية على بعض تلك الأحاديث الواهية دفعاً لوضوح البطلان عنها كما تقدم في قول من قال: أن وفاة عبد الله ابن الحارث بن جزء سنة 97 أو 99 ثم أخذها بعض من لم ينظر فيها! ومن عجيب شأن التعصب أنه يبلغ بصاحبه من العمى أن يسعى جاهداً في الإضرار بمن يتعصب له متوهماً أنه أنما يسعى في نفعه، لو كان مولد أبي حنيفة متقدماً كما زعموا بحيث أدرك جماعة من الصحابة وأكابر التابعين كان الذي ينبغي له يتحرى له أنه السماع منهم لأحاديث كثيرة يحتج بها في كتبه ويرويها عنه أصحابه كأبي يوسف ومحمد في كتبهم الثابتة عنهم، فلو ثبت مع ذلك أحاديث عن أولئك لكنها قليلة وكان معظم روايته عمن سنه قريب من سنه كحماد ابن أبي سليمان لكانت شُنْعَةً عليه أن يتشاغل عن الاستكثار من أولئك حتى يبلغ عمره ثلاثين أو
أربعين سنة أو أكثر بالمخاصمة في الإرجاء والقدر كما يأتي، وسيأتي في ترجمة أبي العطوف جراح بن منهال عن سلمة بن سليمان أحد ثقات أصحاب ابن المبارك قال:«قال على لابن المبارك هل كان أبو حنيفة عالماً؟ قال: لا ما كان خليقاً لذاك، ترك عطاء وأقبل على أبي العطوف» وقد نازع الأستاذ في صحة هذه الحكاية عن ابن المبارك بما فيه ما فيه، وهب أنها لم تصح عن ابن المبارك فالشنعة بحالها، ولذلك حاول الأستاذ أن يثبت أن أبا حنيفة استكثر من عطاء، وربما أنظر في ذلك في ترجمة أبي العطوف، وعلى كل حال فهذه الشنعة أخف بكثير من عدم الاستكثار من الصحابة وكبار التابعين، فكيف إذا لم تثبت عنه رواية واحدة عن صحابي أو تابعي كبير؟! فأولئك المساكين والأستاذ معهم يركبون - كما يعبر به الأستاذ - كل مركب لمحاولة إثبات أن أبا أدرك عدة من الصحابة ويحتمل أن يكون قد سمع منهم. وفي ذلك عبرة!
قال الأستاذ «والاختلاف شديد في مواليد رجال الصدر الأول» .
أقول: قد مر ما فيه، وهو على كل حال لا يسوغ التشكك فيما قامت عليه الحجة من ذلك.
أقول: لا أثر ههنا للاحتياط المذكور بل القطع بسنة ثمانين أخذاً بالحجة الواضحة التي لم يعارضها ما يستحق أن يلتفت إليه.
قال الأستاذ: «هنا أمور تخدش ما اختاره الأكثرون» .
أقول: فلننظر فيها واحداً واحداً.
قال: «منها ما فعله أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار المتوفى سنة 331
في جزئه الذي سماه: (ما رواه الأكابر عن مالك) حيث عد حماد بن أبي حنيفة من هؤلاء الأكابر، فساق حديثاً بطريق حماد بن أبي حنيفة عن مالك، وحماد هذا وإن توفي قبل مالك بنحو ثلاث سنين لكن عدة من الأكابر لا يتم إلا إذا كان ميلاده قبل ميلاد مالك أيضاً فيجب أن يكون ميلاد أبي حنيفة قبل سنة 80 بمدة لا تقل عن عشر سنين
…
وابن مخلد من الحفاظ البارعين من شيوخ الدارقطني فلا يحيل عن التحقيق فيما يكتب وجزؤه المذكور محفوظ بظاهرية دمشق في قسم المجاميع رقم 98 وعليه تسميعات وبخطوط كثيرة من حملة الرواية» .
أقول: يكفي لحل هذه الشبهة أن الأستاذ نفسه قال في تعليقه على (الانتفاء) لابن عبد البر: «وفي هذا الجزء رواية الزهري
…
والثوري
…
وحماد بن زيد، وإبراهيم ابن طهمان، وورقاء وغيرهم» .
ومولد مالك سنة 93، والثوري سنة 97، وحماد بن زيد سنة 98، ولعل في الجزء من ولد بعد ذلك (1) وإبراهيم بن طهمان لم يذكروا ميلاده ويظهر من أسامي شيوخه أنه اصغر من حماد بن زيد لكنه صار من الأكابر في حياة مالك ومات قبله فإن مالكاً عمر، فإذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 80 فإنه يبلغ سنة آخر سنة 98 وهي السنة التي ولد فيها حماد بن زيد تسع عشر سنة فأي مانع من أن يولد له في هذه السنة أو قبلها، والأقرب أن ابن مخلد - إن صح ما في ذاك الجزء - إنما نظر إلى حماد بن أبي حنيفة بلغ مبلغ الأكابر في حياة مالك ومات قبله ولم يدقق في ميلاده لأنه غير معروف، وبالنظر إلى سن أبيه يحتمل أن يكون ولد سنة 97 كالثوري أو سنة 98 كحماد بن زيد أو قريباً من ذلك.
فاتضح أنه ليس فيما وقع في ذلك الجزء ما يخدش فيما قامت عليه الحجة الواضحة أن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين.
(1)
…
قلت: صدق ظن المؤلف رحمه الله تعالى، ففي الجزء المذكور رواية عبد الله بن وهب عن مالك في عدة مواضع منه (ق 205/ 2 - 207 و2/ و208 / 2) ومولد ابن وهب سنة 125، وفيه (ق 206/ 2) رواية أشهب وهو ابن عبد العزيز عنه، ومولده 145. ن
هذا كله إذا بنينا على صحة ما وقع في ذلك الجزء، وإلا فالغالب على الظن خلاف ذلك فإن ذاك الحديث وقع في ذاك الجزء هكذا: «نا أبو محمد القاسم بن هارون، نا عمران، نا بكار بن الحسن الأصبهاني، نا حماد بن أبي حنيفة ثنا (1)
(1) كذا هو في تعليق الكوثري على (الانتقاء) ص 13، ولعله خطأ غير مقصود من الكوثري لغرض في نفسه، فإن الذي في الجزء المذكور من النسخة التي أثار إليها الكوثري نفسه (ق 204 / 2) «
…
عن مالك
…
» ليس فيها تصريح حماد بالتحديث، وكذلك هو في نسخة أخرى محفوظة أيضاً في ظاهرية دمشق وعليها سماعات كثيرة (ق 38 / 2)، وإسناد الرواية فيهما هكذا: ثنا أبو محمد القاسم ابن = =هارون بن جمهور بن منصور الأصبهاني، ثنا حماد بن أبي حنيفة عن مالك بن أنس
…
» فتأمل كيف تعمد الكوثري أن يسقط من السند نسب عمران «بن عبد الرحيم الباهلي» مع ثبوت ذلك في النسختين من الجزء، وما ذلك - والله أعلم - إلا تعمية لحاله، وتمشية لحال إسناد روايته ليتم له الاستدلال بها على ما رمي إليه من إثبات رواية حماد بن أبي حنيفة عن مالك، التي حاول أن يستنبط منها أن ميلاده كان قبل ميلاد مالك وأن ميلاد أبي حنيفة كان قبل سنة 80! وهيهات هيهات، فإنها ظلمات بعضها فوق بعض، فقد كشف المؤلف رحمه الله تعالى أن عمران هذا هو ابن عبد الرحيم كما جاء في السند، وأنه متهم بالوضع، وأن ما استلزمه الكوثري من روايته - على فرض ثبوتها - غير لازم.
وأزيد عليه فأقول: إن حماد بن أبي حنيفة نفسه ليس بحجة في الرواية، فقد ضعفه ابن عذب وغيره من قبل حفظه، ولهذا أورده الذهبي في كتاب (الضعفاء) وقال (ق 35 / 1) :«مقل ضعيف الحديث» .
ثم إن ما استظهره المصنف رحمه الله تعالى من أصل الجزء المذكور إنما هو «حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة
…
» وأن الناسخ زاغ نظره من «أبي حنيفة
…
» لا يساعد عليه، أن النسخة الأخرى متفقة مع الأول في عدم ذكر أبي حنيفة، زد على =
مالك
…
» كما نقله الأستاذ فيما علقه على (الانتقاء) ، وذكر هو أن ذاك الحديث قد رواه الدارقطني في (غرائب مالك) وابن شاهين عن «محمد بن مخزوم عن جده محمد بن الضحاك ثنا عمران بن عبد الرحيم الأصبهاني ثنا بكار بن الحسن، ثنا حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة عن مالك
…
» فعمران في سند ابن مخلد هو عمران بن عبد الرحيم في سند الدارقطني وابن شاهين، وفي ترجمته من (الميزان) عن السليماني:«هو الذي وضع حديث أبي حنيفة عن مالك» .
فابن مخلد لم يشترط في ذاك الجزء الصحة وإنما اكتفى بما روي فلو وقع في روايته من طريق عمران بسقوط أبي حنيفة لكان الظاهر أن يذكر الرواية الأخرى فإنه لا بد أن يكون عند تأليفه ذاك الجزء تتبع ما يصلح أن يذكر فيه ويبعد أن لا يظفر بالرواية المشهورة عن عمران أن بثبوت أبي حنيفة عن أبي حنيفة ثنا مالك» فزاغ نظر ناسخ ذاك الجزء من (حنيفة) الأولى إلى الثانية، ولا يدفع ذلك ما على الجزء من التسميعات، وقد رأينا عدة من الأصول القديمة عليها كثير من التسميات والتصحيحات وبقي فيها مثل هذا الخلل أو أشد منه، راجع (التاريخ الكبير) للبخاري (ج 1 قسم 1)(ص 70، 79، 80، 101، 105، 154، 157) .
ومن غرائب الأستاذ أن يحاول تثبيت ما وقع في الجزء المذكور مع احتماله كما رأيت، ثم يحاول في (التأنيب) أن يخفي اصطلاح ابن مخلد في «الأكابر» ويثبت أنه إنما يعني بهم الذين ولدوا قبل مالك، ثم يبالغ في الثناء على ابن مخلد ليخدش بصنيعه المزعوم في نصوص المتقدين الصريحة، كل ذلك ليثبت أن أبا حنيفة أدرك
= ذلك أنه قد كتب ناسخ الأولى على الوجه منها وتحت اسم الكتاب أكثر أسماء الرواة عن مالك، وفيهم حماد بن أبي حنيفة دون أبي حنيفة، فهذا وذاك يرجح أن لا زوغ من الناسخ، وأن الرواية هكذا وقعت لابن مخلد. والله أعلم. ن
جماعة من الصحابة وأكابر التابعين ويحتمل أن يكون سمع منهم مع علمه أنه لا تثبت عن أبي حنيفة رواية واحدة عن واحد منهم، ويغفل عن النتيجة التي سلفت الإشارة إليها.
قال الأستاذ: «ومنها أن العقيلي روى في ترجمة حماد بن أبي سليمان ما يفيد أن إبراهيم بن يزيد النخعي لما مات اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة فجمعوا نحو أربعين آلف درهم ثم أعطوه حماد بن أبي سليمات ليستعين به ويتفرغ لرياسة الجماعة في العلم وكانت وفاة إبراهيم النخعي سنة 95 ولو كان ميلاد أبي حنيفة سنة ثمانين لكان سنة عند وفاة النخعي خمس عشرة سنة، ومن يكون في مثل السن لا يتصور أن يهتم هذا الاهتمام بمن يخلف النخعي
…
» .
أقول قال الأستاذ نفسه فيما علقه على (مناقب أبي حنيفة) الذهبي ص 7 «قال العقيلي في الضعفاء) حدثنا أحمد بن محمد الهروي، قال: حدثنا محمد بن المغيرة البلخي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأصفهاني، قال: لما مات إبراهيم اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة فجمعوا أربعين ألف درهم وجاءوا إلى الحكم بن عتيبة فقالوا: أنا قد جمعنا أربعين آلف درهم نأتيك بها وتكون رئيسنا في الأرجاء فأبى عليهما الحكم فأتوا حماد بن أبي سليمان فقالوا له فأجابهم وأخذ الأربعين ألف درهم» !
لا أناقش الأستاذ في تمويهه، وإنما أنظر في الحكاية فالهروي والبلخي لم أجدها وإسماعيل لم يتضح لي من هو، وابن الأصبهاني متكلم فيه، قال أبو حاتم:«لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به» وأخرج له النسائي حديثاً ثم قال «هذا خطأ، ابن الأصبهاني ضعيف» وقال ابن عدي «مضطرب الحديث قليل الحديث مقدار ماله قد أخطأ في غير شيء» .
وكانت وفاته سنة 181، ويظهر من وفيات شيوخه أنه لم يدرك موت إبراهيم، فإن صح سند الحكاية إليه، فممن سمع القصة؟ وما عسى أن يكون أخطأ في سياقها؟ ثم أي شيء فيها؟! كان إبراهيم شديداً على المرجئة وفي ترجمته من (طبقات ابن سعد) عدة حكايات في ذلك منها عن الحارث العكلي عن إبراهيم قال:«إياكم وهذا الرأي المحدث يعني المرجئة» وعن مجل بن محرز عن
إبراهيم قال: «كان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم لا تجالسنا» وعن محل أيضاً «قال لنا إبراهيم: «لا تجالسوهم يعني المرجئة» وعن حكيم بن جبير عن إبراهيم قال: «لأنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة» وعن غالب بن أبي الهديل أنه كان عند إبراهيم فدخل عليه قوم من المرجأة قال فكلموه فغضب وقال: «إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي» .
وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة ذر بن عبد الله المرهبي «قال أبو داود: كان مرجئاً وهجرة إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير للإرجاء» وفيه ترجمة محمد بن السائب الكلبي «وقال ابن فضيل عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لمحمد بن السائب: ما دمت على هذا الرأي لا تقربنا، وكان مرجئاً» .
فكأنهم كانوا مقموعين في حياته فلما مات خلالهم الجو واستعانوا بالمال، وفي ترجمة إبراهيم من «تهذيب التهذيب» :«روى عنه الأعمش ومنصور وابن عون وزبيد اليامي وحماد بن أبي سليمان ومغيرة بن مقسم الظبي وخلق» وهؤلاء سوى حماد منكرين للأرجاء ولما دخل فيه حماد أنكروا عليه، وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد: «قال أبو حذيفة: ثنا الثوري قال: كان الأعمش يلقي حماداً حين تكلم في الأرجاء فلم يكن يسلم عليه،
…
وقال شعبة: كنت مع زبيد فمررنا بحماد فقال: تنح عن هذا فأنه قد أحدث» وفيه في ترجمة عمر بن مرة «قال جرير عن مغيرة: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو في الإرجاء فتهافت الناس فيه» .
وعلى فرض صحة سند الحكاية إلى ابن الأصبهاني وأنه سمع من ثقة، فالظاهر أنها تأخرت عهن موت إبراهيم مدة، وفي كتاب ابن أبي حاتم ج 2 قسم 2 ص
146: «أنا أحمد بن سنان الواسطي أنا أبو عبد الرحمن المقرئ نا ورقاء عن المغيرة قال: لما مات إبراهيم دلس الحكم وأصحابه إلى حماد حتى أحدث ما أحدث. قال المقرئ يعني
الأرجاء» . ورجاله ثقات.
وعلى صحة تلك الحكاية وأنها على ظاهرها في أن القضية وقعت عقب موت إبراهيم فقد يكون ذكر أبي حنيفة مدرجاً أو قع فيه اشتهاره بالأرجاء مقرونة بعمر بن قيس الماصر كم قرناً في البيتين الذين في (تاريخ بغداد) 13 / 380 و (التأنيب) ص 59، وبعد التيار والتي فإبراهيم توفي في أوائل سنة 97 وذلك أن أبا نعيم الفضل بن دكين قال سنة 96، وقال ابن حبان:«مات بعد الحجاج بأربعة أشهر» ، والحجاج هلك في شوال سنة 95، وقيل في رمضان منها، فإذا كان أبو حنيفة ولد أول سنة ثمانين فأنه يتم له عند وفاة إبراهيم ست عشر سنة ومن كان في هذا السن وهو جلد ذكي لا يمتنع أن يستعين به أصدقاء أبيه في جمع المال ونحوه ولا سيما إذا كان أبوه مرجئا فانه ينشا متحمساً لأري أبيه جاهداً فيه.
أقول: ما تظافرت الروايات بل تنافرت، ففي (تاريخ بغداد) 13/331 من طريق
«محمد بن شجاع الثلجي ثنا الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لم أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها
…
قلت: فإن نظرت في الكلام ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنعات الكلام فيرما بالزندقة.. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل ونفتي الناس وتطلب للقضاء وأن كنت شاباً قلت: ليس في العلوم شيئاً أنفع من هذا فلزمت الثقة وتعلمت» وروايات المخالفة لهذه والموافقة لها يعلم بما فيها بالنظر في أسانيده، وهب أنه صح أن أبا حنيفة كان جديداً ثم أنصرف إلى الفقه، فمتى أنصرف؟
إن قيل: قد جاء عنه أنه لازم حماداً ثمانية عشر سنة، قلت: أن صح ذلك فلعله لازمه أولاً بالأرجاء، فان حماداً كان يقول به في الجملة كما مر، ثم أكمل المدة للفقه فأن صح هبوطه البصرة نحو عشرين مرة للمخاصمة القدرية فليس من لازم انصرافه إلى الفقه هجره الكلام في القدر البتة، ولا من لازمة ملازمته حماداً أن لا يغيب عنه في السنة الأسبوع والأسبوعين والشهر والشهرين بالحجج والحاجة. على أن حماداً توفي سنة 120 كما قال أبو بكر ابن أبي شيبة. وحكى ابن سعد إجماعهم عليه، وقول البخاري وتبعه ابن حبان سنة 119 متأخر عن هذا الإجماع، وملازمة أبي حنيفة حداداً ثمانية عشر سنة معناه إذا كان مولد أبي حنيفة أول سنة 180 أنه ابتدأ في الملازمة وسنة نحو ثلاث وعشرين سنة فلا مانع أن يكون قد مهر في مسائل الكلام المعروفة حينئذ كالأرجاء والقدر، وهذا ابن سينا يزعم أنه أحكم المنطق وإقليدس والمجسطي والطبيعي والإلهي والطب وألف فيها أو في أكثرها وكان مع ذلك يلتقي الفقه ويناظر فيه، وأخذ الأدب، كل ذلك وعمر إحدى وعشرين سنة، ولذلك نظائر.
وبالجملة فلم يأتي الأستاذ بعد اللتيا والتي بما يصح أن يعد معارضاً لما ثبت من أن مولد أبي حنيفة سنة ثمانين، ولم يستفد إلا تضيع وقته ووقت من يعقبه، والسعي فيما لو صح لأنتج نقيض مقصودة كما سلف. والله المستعان.
فصل
ولنعطف على ابن الصلت، هب أن أبا حنيفة ولد سنة 61 أو قبلها وأنه سمع من أنس وروى عنه عدة أحاديث، فان هذا لا يدفع أمثال الخطيب ذلك الحديث على ابن الصلت، من جهة أنه لم يروه غيره عن بشر، ولا يحفظ عن أبي يوسف ولا يثبت عن أبي حنيفة، وهذا الحديث مما توفر الدواعي على كثرت روايته واشتهاره، فلو كان عند أبي حنيفة لكثر تحديثه به لعلو السند، واثبات السماع من الصحابي،
والترغيب فيما كان يدعوا إليه من طلب والعلم، لو حدث به لكثر التحديث تلاميذه به وإثباته في كتبهم، فلو قال قائل: لو كان عنده لتواتر عنه، لما أبعد. وأهل العلم من قديم يلهجون بمتن هذا الحديث ويتطلبون له إسناداً صحيحاً فلا يجدونه، ولأجل ذلك وقع كثير من الناس في روايته بأسانيد مركبة أو مدلسة أو نحو ذلك واحتاج أهل العلم إلى نقله من وجوه ضعيفة، ذكره ابن عبد البر في أوائل (كتاب العلم) ثم قال:
ثم ذكر عن إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238 «أنه كان يقول: طلب العلم واجب ولم يصح في الخبر» وقال ابن عبد البر «يريد إسحاق - والله أعلم - أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكنه معناه صحيح عندهم..»
فصل
ثم روى الخطيب من طريق ابن الصلت: «حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث قال: سمعت ابن عيينة قال: العلماء ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وأبو حنيفة في زمانه» قال الخطيب: قلت: ذكر أبي حنيفة في هذه الحكاية زياد من الحماني (ابن الصلت)، والمحفوظ ما أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المقرئ الحذاء أخبرنا أحمد بن جعفر بن سالم (صوابه: سلم) الختلي حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق حدثنا أبو بكر المروزي «صوابه: المروذي» حدثني محمد بن أبي محمد (صوابه: محمد بن أبي عمر، كما قاله الأستاذ) عن سفيان بن عيينة قال: علماء الأزمنة الثلاثة، ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه»
إشارة الأستاذ ص 166 إلى رواية ابن الصلت عن محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث بقوله «
…
وبأنه روى عن ابن محمد بن المثنى عن ابن عيينة
…
» وأشار إلى رواية ابن أبي عمر وقال في الحاشية:
أقول: لا يكاد الأستاذ يقول «نسأل الله الصون» أو: السلامة، أو: المعافاة، إلا حيث يكون قد فعل إحدى الفعلات، والفعلة هنا أنه لم يسرق السند وفيه: عن ابن الصلت «حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر بن الحارث» واقتصر في الأصل (التأنيب) وفي حاشيته في ذكره شيخ ابن الصلت عن قوله «محمد بن المثنى» فلم يكن «صاحب بشر بن الحارث» وإشارة إلى رجحان محمد بن المثنى على محمد بن يحيى بن أبي عمر يريد إيهام أنه محمد بن المثنى بن عبيد ابن قيس بن دينار العنزي أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزمن، أنه هو الذي يفهم عند إطلاق «محمد بن المثنى» وليس
في كتب أسماء الرجال المتداولة من يقال له «محمد بن مثنى» غير وقد سمع من ابن عيينة وأدرك ابن الصلت، فعلم الأستاذ أن من يطالع (التأنيب) ولا يقف على «تاريخ الخطيب) ، أولاً يراجعه في ذاك الموضوع لا يقع إلا على هذا الحافظ. والواقع أن الذي في السند «محمد بن مثنى صاحب بشر بن الحارث» كما مضى، وهذا رجل آخر، ترجمته في «تاريخ بغداد» ج 4 ص 286 «محمد بن المثنى بن زياد أبو جعفر السمسار كان أحد الصالحين صحب بشر بن الحارث وحفظ عنه وحدث عن نوح بن يزيد وعفان بن مسلم وغيرهم
…
» ثم ذكر قول ابن أبي حاتم: «كتبة عنه مع أبي وهو صدوق» وأنه «مات سنة 260» وهذا دون ابن أبي عمر بكثير ولم يخرج له أحد من الستة وابن أبي عمر روى عنه مسلم في صحيحه مائتي حديث وستة عشر حديثاً على ما في «التهذيب» عن كتاب «الزهرة» وستأتي ترجمته والنظر في كلام الأستاذ فيه. وفوق ذلك فالسمسار يظهر أنه لم يدرك ابن عيينة وان ابن الصلت افتضح في روايته عنه انه قال «سمعت ابن عيينة» فان ابن عيينة مات سنة 98 والمسلمون من شيوخ السمسار ماتوا بعد ذلك بزمان، فبشر ابن الحارث سنة 227 وعفان 220، ونوح بن يزيد قريباً من ذلك، ولم اظفر بتاريخ وفاته ولكن ذكروا في الرواة عن أحمد بن سعد بن إبراهيم أبا إبراهيم الزهري الذي ولد سنة 198 كما في «تاريخ بغداد» ج 4 ص 181، وأحمد بن علي بن الفضيل أبا جعفر الخراز المقرئ المتوفى سنة 286 كما في «تاريخ بغداد» ج4 ص303 فظهر بذلك أن وفاة كانت سنة بضع عشرة ومائتين أو بعد ذلك. أضف إلى ذلك آن من عادتهم أنهم يحرصون على أن يذكروا في ترجمة الرجل أقدم شيوخه واجلهم فلو عرف لسمسار سماعاً من ابن عيينة أو أحد أقرانه أو من قرب منه لكن أولى أن يذكروه في شيوخه من نوح وعثمان.
فإن قيل: أن كان ابن الصلت أراد الكذب فما الذي منعه أن يسمى شيخاً أشهر من السمسار واثبت لا يشك في سماعه من ابن عيينة؟ قلت منعه علمه بان الكذب على المشاهير سرعان ما يفتضح لإحاطة أهل العلم بما رووه بخلاف المغمورين الذين لم يرغب
أهل العلم في استقصاء ما رووه.
ومع ما تقدم فلا معنى للموازنة بين شيخ ابن الصلت وبين ابن أبي عمر ما دام ابن الصلت فيه ما فيه ومع ذلك فقد عضد الخطيب رواية ابن أبي عمر برواية عبد الرزاق بن هارون وهي عنده في ترجمة سفيان من (التاريخ) ج 9 ص 154 من وجهين بنحو رواية ابن أبي عمر، وقريب منها رواية العباس بن يزيد البحراني في (تاريخ بغداد) ج 3 ص 227.
فقد اتضح جدا صحة قول الخطيب أن المحفوظ عنده اقتصار ابن عيينة على الثلاثة لم يذكر أبا حنيفة، فإن المحفوظ عندهم هو الطرف الراجح كما مر في ترجمة الخطيب ولا يخفى على عارف اطلع على ترجمة ابن الصلت أن روايته بالنسبة إلى ما قال الخطيب أنه المحفوظ عنده نسبة الوهم إلى الظن.
وأما قول الخطيب: «الأمر الآخر إن المحفوظ عن ابن عيينة
…
» فالحكاية التي ذكرها ساقها بسندين في أحدهما المنكدري وفي الآخر ابن درستويه وستأتي ترجمتهما وحاصل الكلام فيهما أن المنكدري ليس بعمدة ولكنه أحسن حالا من ابن الصلت بكثير وأن ابن درستويه موثق لا يضره ما قيل فيه مع أن رواية الخطيب من طريقة عن يعقوب بن سفيان إنما يأخذهما من (تاريخ يعقوب بن سفيان) فرجحان هذه الرواية وحدها على رواية واضح جدا فقول الأستاذ: «أفبمثل هذين الإسنادين يكون الخبر محفوظا؟» لا وجه له على أن الخطيب ضم إلى ذلك رواية الحميدي وهي عنده في (التاريخ) ج 13 ص 399 من وجهين رجال كل منها ثقات وإن تكلم الأستاذ في بعضهم بما بينت حاله في تراجمهم والحميدي إمام وان كره الأستاذ. ثم أشار الخطيب إلى الكلمات الأخرى وهي معروفة.
ومن تأمل ما تقدم وعرف ابن الصلت معرفة جيدة ولم يعمه الهوى لم يرتب في صحة حكم الخطيب على ابن الصلت بأنه زاد تلك الزيادة من عنده، على أن
المدار في هذه الأمور على غلبة الظن فلا يلتفت إلى الاحتمالات البعيدة. بل من تدبر ما يرويه ابن الصلت في المناقب وقارن ذلك بما رواه الثقات فيها وفي غيرها عرف تزيده في غير موضع. والله المستعان.
ثم قال الأستاذ «فكان ابن الصلت كفر في نظر الخطيب بذكره أبا حنيفة في عدد هؤلاء الثلاثة
…
وهذا هو محض الإجحاف، أبو حنيفة الذي ملأ ما بين الخافقين علما
…
إذا ذكر في صف هؤلاء الثلاثة يكون ذلك من أبرز الحجج على كذب ابن الصلت كذباً بيناً، هذا ما لا يقوله إلا من اعتل اعتلالاً لا دواء له
…
» .
أقول: هذا ديدن الأستاذ إذا أعوزته الحجة لجأ إلى التهويل على العامة، قد ذكر الخطيب حجته كما تقدم شرحه، وأئمة الحديث كثيرا ما يطعنون مثل ذاك الطعن بنحو تلك الحجة، وإن كان المروي فضيلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأحد كبار أصحابه كما تراه في كتب الموضوعات وكتب الضعفاء، فهل يرد كلامهم بمثل هذا التهويل؟ فلينظر الأستاذ أو غيره من العارفين في (دلائل النبوة) لأبي نعيم أو في (الخصائص الكبرى) للسيوطي، وليراجع نفسه فيما يستنكر وعم نشأ استنكاره أعن اعتقاد نقصاً في النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بغض له أو حرص على غمط فضله؟ فالخطيب لم يجعل زيادة ابن الصلت من أبرز الحجج على كذبه من جهة أنها منقبة لأبي حنيفة بل من الوجهين اللذين نص عليهما مع ما عرف من حال ابن الصلت بغير هذه الحجة وماذا يغني الضجيج أمام الحجة إلا كما قيل:
أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل!
أو كما قال الآخر:
فلا تكثروا فيها الضجاج فإنه
…
محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
فصل
ثم ختم الأستاذ كلامه بقوله ص 168 «ومن الغريب أنه طعن طاعن في رجل تجد أسرابا من الرواة يركضون وراءه يرددون صدى الطاعن أيا كانت قيمة طعنه ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يغبطون عليه» .
أقول مات ابن الصلت سنة 308 ولم يذكروا مولده لكن قال ابن عدي «رأيته سنة 297 فقدّرت أن له سبعين أو أكثر» فلنجعل الزيادة المحتملة سبعاً فيكون مولده سنة 220 لكنه يروي عمن مات سنة 228 كمسدد ويحيى الحماني، وسنة 227 كبشر بن الحارث وسعيد بن منصور وأحمد بن يونس، وسنة 226 كإسماعيل بن إبراهيم، وسنة 221 كالقعنبي وعاصم بن علي، وسنة 220 كعفان، وسنة 219 كأبي نعيم وأبي غسان، وسنة 215 كثابت بن محمد الزاهد ومن هؤلاء من لم يكن بالكوفة منشأ ابن الصلت، فلو كان أدركهم وطبقتهم وسمع منهم لكان مولده تقريباً على رأس المائتين فيكون بلغ من العمر مائة سنة وثماني سنين، ولو صح ذلك أو احتمل الصحة عند محدثي عصره لفتنوا به كعادتهم في الحرص على الإسناد، ولو كان في الشيخ لين، وقد تشبث الأستاذ بذلك في كلامه في عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أنه لم يدرك أولئك القدماء الذين يحدث عنهم، وقد صرحوا بذلك كما يأتي، وليس بيد الأستاذ إلا تلك الحكاية عن ابن أبي خيثمة وقد علمت حالها. فأما الطاعنون فوقفت على جماعة منهم:
الأول: حافظ الحنفية عبد الباقي بن قانع البغدادي (ولد سنة 265 أو في التي تليها ومات سنة 351) وكان مع ابن الصلت في بغداد ولما بلغ أوان الطلب كان ابن الصلت على فرض صحة سماعه من أولئك القدماء في نحو ثمانين سنة من عمره
فلا بد أن يكون ابن قانع قد قصده وجالسه وسمع منه طلبا للسماع مع علو السند والموافقة في المذهب، ولكنه بعد اختباره لابن الصلت قال فيه:«ليس بثقة» فهل كان ذنب ابن الصلت عند ابن قانع الحنفي ما قاله الأستاذ ص 167: «لكن ذنب الرجل أنه ألف كتابا في مناقب أبي حنيفة» ؟!
الثاني: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ الشافعي (277- 365) ينظر تمام كلامه في ابن الصلت في (كامله) والمنقول منه في (لسان الميزان) : «رأيته سنة سبع وتسعين وثلاثمائة
…
ما رأيت في الكذابين أقل حياء منه كان يترك (؟) الوراقين فيحمل من عندهم رزم الكتب ويحدث عمن اسمه فيها ولا يبالي متى مات وهل مات قبل أن يولد أو لا» قال ابن حجر: «ثم ذكر له أحاديث» يعني مما يبين كذبه.
الثالث: أبو حاتم محمد بن حبان البستي الحافظ (قبل 280 - 354) قال في ابن الصلت «راودني أصحابنا على أن أذهب إليه فأسمع منه، فأخذت جزءاً لانتخب فيه، فرأيته قد حدث عن يحيى بن سليمان بن نضلة عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: «رد دانق من حرام أفضل من مائة ألف في سبيل الله» . ورأيته حدث عن هناد عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «لرد دانق من حرام أفضل عند الله من سبعين حجة مبرورة» . فعلمت أنه يضع الحديث فلم أذهب إليه، ورأيته يروي عن جماعة ما أحسبه رآهم» .
وابن عدي دخل بغداد سنة 297 وابن حبان دخلها سنة 300 وكان أحمد بن علي الأبار قد توفي سنة 290 ولكن الأستاذ يقول: «ذنب الرجل أنه ألف كتابا في مناقب أبي حنيفة حينما كان خصوم أبي حنيفة يتمنون أن يصفوا الجو للأبار الذين كانوا حملوه على تدوين مثالب أبي حنيفة إفكاً وزوراً فتحاملوا على الحماني هذا ليسقطوا رواياته» !
الرابع: أبو الحسن علي بن عمر بن مهدي الدارقطني الحافظ (306 - 385) قال في ابن الصلت: «يروي عن ثابت الزاهد وإسماعيل بن أبي أويس وأبي عبيد القاسم بن سلام ومن بعدهم، يضع الحديث» هكذا في (تاريخ بغداد)(ج 5 ص 104) وفيه (ج4 ص 209)«حدثني أبو القاسم الزهري قال: سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا اسمع عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبي حنيفة فقال: موضوع كله كذب وضعه أحمد ابن المغلس الحماني» .
وراجع (الطليعة) ص 96 - 97.
الخامس: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم صاحب (المستدرك)(321-403) قال «روى ابن الصلت عن القعنبي ومسدد وابن أويس وبشر بن الوليد أحاديث وضعها وقد وضع أيضا المتون مع كذبه في لقي هؤلاء» وبشر بن الوليد مات سنة 238 فإن صح فرضناه من مولد ابن الصلت فقد أدرك بشراً، وعن بشر روى حديث «طلب العلم فريضة» كما تقدم.
السادس: أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني الحافظ (333 - 425) عد ابن الصلت فيمن وافق الدارقطني عليه من المتروكين.
السابع: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الحافظ (336 - 430) قال في ابن الصلت «روى عن شيوخ لم يلقهم، بالمشاهير والمناكير» .
الثامن: أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ (338 - 412) قال في ابن الصلت: «كان يضع» هكذا في (تاريخ بغداد)، وفي (الميزان) و (اللسان) :«كان يضع الحديث» .
التاسع: أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ (392 - 463) قال في ابن الصلت: «حدث عن ثابت بن محمد الزاهد وأبي نعيم
…
أحاديث أكثر باطلة هو وضعها، وحكى أيضاً عن بشر بن الحارث ويحيى بن معين وعلى ابن المديني أخباراً جمعها بعد أن صنفها «في (اللسان) : وضعها» في مناقب أبي حنيفة» .
وذكر المثالين السابقين حديث طلب العلم والزيادة في الحكاية عن ابن عيينة.
العاشر: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (673 - 748) قال في ابن الصلت مرة «هالك» ومرة «وضاع» ومرة «كذاب» وأورد له الحكاية في أبي حنيفة لعبد الله بن الحارث بن جزء وقد مر ذلك.
الحادي عشر: أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773 - 852) ذكر في (لسان الميزان) كلام الأئمة في ابن الصلت ثم قال: «ومن مناكيره روايته عن بشر الحافي عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: أزهد في الدنيا يحبك الله - الحديث
…
وهذا الحديث بهذا الأستاذ بهذا باطل» .
فهؤلاء أحد إماماً طعنوا في ابن الصلت وجرحوه جرحاً مفسراً مشروحاً ولو تتبعنا لوجدنا معهم عيرهم كابن عساكر وابن السمعاني وآخرين ولكن الأستاذ الذي جاء بعدهم بقرون يأتي إلا أن يجعلهم أسرابا يركضون وراء يرددون صدى الطاعن أياً كانت قيمة طعنه ولهم موقف يوم القيامة رهيب لا يغبطون عليه» مع أنه عرف حججهم ولم يجد ما يصح أن يعد مخالفاً لهم، وينسى موقفه يوم القيامة كأنه مرفوع عنه القلم دونهم، ويذكرون في ابن درستويه ما هو بالنسبة إلى ما في ابن الصلت كالهباءة بالنسبة إلى الجبل العظيم ثم يقول:«وتضعف كواهل الخطيب وأذنابه عن حمل أثقال التهم التي ركبت على أكتاف هذا الأخباري الهاذي» ولكن لا تضعف كواهله عما على ابن الصلت كأن الخطيب وغيره من أئمة الحديث كما قال حسان:
لو يدب الحولي من ولد الذر
…
عليها لندبتها الكلوم
لكنه هو (ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل) ولو اكتفى بقوله ص 165 «متكلم فيه ولسنا بحاجة إلى رواياته في مناقب أبي حنيفة وعندنا بطرق رجال لم يتكلم فيهم روايات كثيرة بمعنى ما رواه» لاستراح وأراح، لكنه عاد فدل على وثوقه بدعواه. وخير للحنفية أن يغسلوا أيديهم من ابن الصلت فإن المدافعة عن