الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباس وعمرو بن مرزوق الباهلي وممن روى له مسلم سويد بن سعيد، وهؤلاء قد سبق جرحهم ممن قبل صاحبي (الصحيح) وكذلك سبق تعديلهم أيضا فهذا يدل أن التوقف الذي ذكره ابن الصلاح والنووي يشمل من اختلف فيه فعدله بعضهم وجرحه غيره جرحاً غير مفسر وسياق كلامهما يقتضي ذلك، بل الظاهر أن هذا هو المقصود فإن من لم يعدل نصاً أو حكما ولم يجرح يجب التوقف عن الاحتجاج به، ومن لم يعدل وجرح جرحاً مجملا فالأمر فيه أشد من التوقف والارتياب.
فال
تحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل
نصاً ولا حكماً، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أورده، وسيأتي تفضيل ذلك إن شاء الله تعالى.
6- كيف البحث عن أحوال الرواة
من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل عن حال رجل وقع في سند، فعليه أن يراعي أموراً:
الأول: إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل فإن الأسماء كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها كما يأتي في الأمر الرابع، وراجع (الطليعة) ص 11 - 43.
الثاني: ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب. راجع (الطليعة) ص 55 - 59.
الثالث: إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا؟ راجع (الطليعة) ص 78 - 86
الرابع: ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه، وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك وقد
يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على آخر. ففي الرواة المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ابن حزام الحزامي، والمغيرة بن عبد الرحمن بن عوف الأسدي. حكى عباس الدوري عن يحيى بن معين توثيق الأول وتضعيف الثالث. فحكى ابن أبي حاتم عن الدوري عن ابن معين توثيق الثاني ووهمه المزي، ووثق أبو داود الثالث وضعف الأول، فذكرت له حكاية الدوري عن ابن معين فقال: غلط عباس.
وفي الرواة محمد بن ثابت البناني ومحمد بن ثابت العبدي وغيرهما، فحكى ابن أبي حاتم عن ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال في الأول «ليس بقوي
…
» وذكر ابن حجر أن الذي في (تاريخ ابن أبي خيثمة) حكاية تلك المقالة في الثاني، وحكى عثمان الدرامي عن ابن معين في الثاني أنه ليس به بأس، وحكى معاوية بن صالح عن ابن معين أنه ينكر على الثاني حديث واحد. وحكى الدوري عن ابن معين أنه ضعف الثاني، وقال الدوري «فقلت له أليس قد قلت مرة: ليس به بأس؟ قال: ما قلت هذا قط»
وفي الرواة عمر بن نافع مولى عمر وعمر بن نافع الثقفي، حكى ابن عدي في ترجمة الأول عن ابن معين أنه قال:«ليس حديثه بشيء» فزعم ابن حجر أن ابن معين إنما قالها الثاني.
وفي الرواة عثمان البتي وعثمان البري، حكى الدوري عن ابن معين في الأول «ثقة» وحكى معاوية بن صالح عنه فيه «ضعيف» قال النسائي «وهذا عندي خطأ ولعله أراد عثمان البري»
وفي الرواة أبو الأشهب جعفر بن حيان وأبو الأشهب جعفر بن الحارث، وثق الإمام أحمد الأول فحكى ابن شاهين ذلك في الثاني - كما في نبذة من كلامه طبعت مع (تاريخ جرجان) وضعف جماعة الثاني فحكى ابن الجوزي كلماتهم
في ترجمة الأول.
وفي الرواة أحمد بن صالح ابن الطبري الحافظ وأحمد بن صالح الشمومي، حكى النسائي عن معاوية بن صالح عن ابن معين كلاماً عده النسائي فذكر ابن حبان: إنما قاله ابن معين في الثاني.
وفي الرواة معاذ بن رفاعة الأنصاري ومعان رفاعة السلامي نقل الناس عن الدوري أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الثاني وهو معان «ضعيف» ونقل أبو الفتح الأزدي عن عباس أنه حكى عن ابن معين أنه قال في الأول وهو معاذ «ضعيف» فكأنه تصحف على الأزدي.
وفي الرواة القاسم العمري وهو ابن عبد الله بن عمر بن حفص، والقاسم المعمري وهو ابن محمد فحكى عثمان الدارمي عن ابن معين أنه قال «قاسم المعمري كذاب خبيث» قال الدرامي «وليس كما قال يحيى» والمعمري قد وثقه قتيبة، أما العمري فكذبه الأمام أحمد وقال الدوري عن ابن معين «ضعيف ليس بشيء» فيشبه أن يكون ابن معين إنما قال «قاسم العمري كذاب خبيث» فكتبها عثمان الدارمي ثم بعد مدة راجعها في كتابه فاشتبه عليه فقرأها «قاسم المعمري
…
» .
وفي الرواة إبراهيم بن أبي حرة وإبراهيم بن أبي حية، روى ابن أبي حاتم من طريق عثمان الدارمي على ابن معين توثيق الثاني ومن تدبر الترجمتين كاد يجزم بأن هذا غلط على ابن معين وأنه إنما وثق الأول.
وحكى أبو داود الطيالسي قصة لأبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي وحكى هو عن شعبة قصة نحو تلك لمحمد بن الزبير التميمي البصري. وأخشى أن يكون الطيالسي وهم في أحدهما.
وذكر ابن أبي خيثمة في كلامه في فطر بن خليفة ما لفظه «سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت فطراً لأنه روى أحاديث فيها إزرار على عثمان» .
وذكر هو في كلامه في فضيل بن عياض «سمعت قطبة بن العلاء يقول تركت حديث فضيل لأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان» .
وأخشى أن تكون كلمة قطبة إنما هي في فطر فحكاها ابن أبي خيثمة مرة على الصواب، ثم تصحفت عليه «فطر» بفضيل فحكاها في فضيل بن عياض.
وحكى محمد بن وضاح القرطبي أنه سأل ابن معين عن الشافعي فقال «ليس بثقة» فحكاها ابن وضاح في الشافعي الإمام، فزعم بعض المغاربة أن ابن معين إنما قالها في أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الأعمى المشهور بالشافعي فأنه كان ببغداد، وابن وضاح لقي ابن معين ببغداد فكأنه سأل ابن معين عن الشافعي يريد ابن وضاح الإمام فظن ابن معين أنه يريد أبا عبد الرحمن لأنه كان حيا معهما في البلد. وفي ترجمة والد أبي عبد الرحمن من «التهذيب» أن ابن معين قال.. ما أعرفه وهو والد الشافعي الأعمى»
الخامس: إذا رأى في الترجمة «وثقة فلان» أو «ضعفه فلان» أو «كذبه فلان» فليبحث عن عبارة فلان، فقد لا يكون قال:«هو ثقة» أو «هو ضعيف» أو «هو كذاب» ففي (مقدمة الفتح) في ترجمة إبراهيم بن سويد بن حبان المدني «وثقه ابن معين وأبو زرعة» والذي في ترجمته من (التهذيب) : قال أبو زرعة ليس به بأس» وفي (المقدمة) في ترجمة إبراهيم ابن المنذر الحزامي «وثقه ابن معين
…
والنسائي» والذي في ترجمته من «التهذيب» :
وفي (الميزان) و (اللسان) في ترجمة معبد بن جمعة «كذبه أبو زرعة الكشي» وليس في عبارة أبي زرعة الكشي ما يعطي هذا بل فيها أنه «ثقة في الحديث» وقد شرحت ذلك في ترجمة معبد من قسم التراجم.
السادس: أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب فإذا وجد اختلافاً بحث عن العبارة الأصلية ليبنى عليها.
السابع قال ابن حجر في (لسان الميزان) ج 1 ص 17:
«وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها
…
فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن إسحاق وموسى بن عبيدة الربذي: أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال: صدوق وليس بحجة، ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضليه على يونس، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضليه على يونس، وسئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر
…
» (1) .
أقول وكذلك ما حكوا من كلام مالك في ابن إسحاق إذا حكيت القصة على وجهها تبين أن كلمة مالك فلتة لسان عند سورة غضب لا يقصد بها الحكم. وكذلك ما حكوه عن ابن معين أنه قال لشجاع بن الوليد «يا كذاب» فحملها ابن حجر على المزاح.
ومما يدخل في أنهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك، فإسماعيل بن عياش ضعفوه فيما روى غير الشاميين. وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون. وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم أو فيما رووه بعد الاختلاط. ثم قد يحكى التضعيف مطلقاً فيتوهم أنهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء. ويقع نحو هذا في التوثيق راجع ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود قال أحمد مرة
(1) في مقدمة رجال البخاري للباجي باب في هذا المعنى.
ثقة وكذا قال ابن معين ثم بين كل منهما مرة أنه اختلط وزاد ابن معين فبين أنه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه غير صحيح الحديث عنهم.
ومن ذلك أن المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في ذاك الحديث ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حال في هذا الحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف، وقع مثل هذا للدارقطني في (سننه) وغيرها وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم. وقد ينقل الحكم الثاني والثالث وحده فيتوهم أنه حكم مطلق.
الثامن: ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في (الثقات) من يجد البخاري سماه في (تاريخه) من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكر وإن كان الرجل معروفاً مكثرا والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو مشاهد، وإن لم يروا عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب الأسقع بن الأسلع والحكم بن عبد الله البلوي ووهب بن جابر الخيواني وآخرون، وممن وثقه النسائي رافع ابن إسحاق وزهير بن القمر وسعد بن سمرة وآخرون، وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً ولا يعرف الأسود وحنظله إلا في تلك الرواية فوثقهما ابن
معين وروى همام عن قتادة بن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً ولا يعرف قدامة إلا في هذه الرواية فوثقها ابن معين مع أن الحديث غريب وله علل آخر راجع (سنن البيهقي) 3 ج ص 248.
من الأئمة من لا يوثق من تقدمه حتى يطلع على عدة أحاديث له تكون مستقيماً وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذاك الراوي، وهذا كله يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في (الثقات) وذكره ابن حجر في (لسان الميزان) ج 1 ص 14 واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط ولَم يبلغه وما يوجب طعناً في دينه وثقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، (1) وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره. وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغداد شيخ فسمع منه مجلساً فرأى تلك الأحاديث مستقيمة ثم سأل عن الشيخ؟ وثقه وقد يتفق أن يكون الشيخ دجالاً استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك ذكر ابن الجنيد أنه سئل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال «ما كان به بأس» فحكى له عنه أحاديث تستنكر، فقال ابن
(1) يشير إلى ابن حبان فإنه قد يوثق الرجال بإيراده إياه في الكتاب (الثقات) مع أنه لا يعرفه.
يؤيد ذلك أنني رأيته قال في بعض المترجمين عنده: «لا أعرفه، ولا أعرف أباه» ! وعلى مثل هذا التوثيق أقام كتابه (الصحيح) المعروف به، فاحفظ هذا فإنه مهم، لم يتنبه له إلا أهل التحقيق في هذا العلم الشريف منهم المصنف رحمه الله، وجزاه خيراً كما تقدم (وانظر كلامه الآتي في آخر الصفحة التالية: الأمر التاسع) وقد بسطت القول في هذه المسألة في «الرد على التعقيب الحثيث» ص 18 - 21 فليراجع. ن
معين: «فإن كان الشيخ روى هذا فهو كذاب وألا فإني رأيت الشيخ مستقيماً» . وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: «ثقة وقد كتبت عنه» وقد كذبه أحمد وقال: «أحاديثه موضوعة» وقال أبو داود: «غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة» .
وهكذا يقع في التضعيف ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد استنكره وقد يكون له عذر.
ورد ابن معين مصر، فدخل على عبد الله بن الحكم فسمعه يقول: حدثني فلان وفلان وفلان. وعد جماعة روى عنهم قصة، فقال ابن معين:«حدثك بعض هؤلاء بجميعه وبعضهم ببعضه؟» فقال: «لا حدثني جميعهم بجميعه، فراجعه فأصر، فقام يحيى وقال للناس: «يكذب» .
ويظهر لي أن عبد الله إنما أراد أن كلا منهم حدثه ببعض القصة فجمع ألفاظهم، وهي قصة في شأن عمر بن عبد العزيز ليست بحديث فظن يحيى أن مراده أن كلاً منهم حدثه بالقصة بتمامها على وجهها في ذلك، وقد أساء الساجي إذا اقتصر في ترجمة عبد الله على قوله:«كذبه ابن معين» .
وبلغ ابن معين أن أحمد بن الأزهر النيسابوري يحدث عن عبد الرزاق بحديث استنكره يحيى فقال: «من هذا الكذاب النيسابوري الذي يحدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟!» وكان أحمد بن الأزهر حاضراً فقام فقال: «هو ذا أنا» فتبسم يحيى وقال: «أما إنك لست بكذاب
…
» وقال ابن عمار في إبراهيم بن طهمان «ضعيف مضطرب الحديث» فبلغ ذلك صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة فقال: «ابن عمار من أين يعرف إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة.. والغلط فيه من غير إبراهيم» .
التاسع: ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه
بكلام غيره، فقد عرفنا في الأمر السابق رأي بعض من يوثق المجاهيل من القدماء إذا وجد حديث الراوي منهم مستقيماً، ولو كان حديثاً واحداً لم يروه عن ذاك المجهول إلا واحد، فإن شيءت فاجعل هذا رأيا لأولئك الأئمة كابن معين، وإن شيءت فاجعله اصطلاحاً في كلمة «ثقة» كأن يراد بها استقامة ما بلغ الموثق من حديث الراوي لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة.
وقد اختلف كلام ابن معين في جماعة، يوثق أحدهم تارة ويضعفه أخرى، منهم إسماعيل بن زكريا الخُلقاني، وأشعث بن سوار، والجراح بن مليح الرواسي، وزيد بن أبي العالية، والحسن بن يحيى الخُشَني، والزبير بن سعيد، وزهير بن محمد التميمي، وزيد بن حبان الرقي، وسلم العلوي، وعافية القاضي، وعبد الله الحسين أبو حريز، وعبد الله بن عقيل أبو عقيل، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني، وعبد الواحد بن غياث، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهم. وجاء عنه توثيق جماعة ضعفهم الأكثر ون منهم تمام بن نجيح، ودراج ابن سمعان، والربيع بن حبيب الملاح وعباد بن كثير الرملي، ومسلم بن خالد الزنجي، ومسلمة بن علقمة، وموسى بن يعقوب الزمعي، ومؤمل بن إسماعيل، ويحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني؛ وهذا يشعر بأن ابن معين كان ربما يطلق كلمة «ثقة» لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب.
وقد يقول ابن معين في الراوي مرة «ليس بثقة» ومرة «ثقة» أو «لا بأس به» أو نحو ذلك (راجع تراجم جعفر بن ميمون التميمي وزكريا بن منظور ونوح بن جابر) . وربما يقول في الراوي «ليس بثقة» ويوثقه غيره (راجع تراجم عاصم بن علي وفليح ابن سليمان وابنه محمد بن فليح ومحمد بن كثير العبدي» . وهذا قد يشعر بأن ابن معين قد يطلق كلمة «ليس بثقة» على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه ثقة على المعنى المشهور لكلمة «ثقة» .
فأما استعمال كلمة «ثقة» على ما هو دون معناها المشهور فيدل عليه مع ما تقدم أن جماعة يجمعون بينها وبين التضعيف، قال أبو زرعة لعمر بن عطاء بن وراز «ثقة لين» وقال الكعبي في القاسم أبي عبد الرحمن الشامي «ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي» . وقال ابن سعد في جعفر بن سليمان الضبعي «ثقة وبه ضعف» . وقال ابن معين في عبد الرحمن بن زياد بن أنْعُم «ليس به بأس وهو ضعيف» وقد ذكروا أن ابن معين يطلق كلمة «ليس به بأس» بمعنى «ثقة» وقال يعقوب بن شيبة في ابن أنعم هذا «ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق رجل صالح» وفي الربيع بن صبيح:«صالح صدوق ثقة ضعيف جداً» وراجع تراجم إسحاق بن يحيى بن طلحة، وإسرائيل بن يونس وسفيان بن حسين وعبد الله بن عمر بن جعفر بن عاصم وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي وعبد السلام بن حرب وعلى بن زيد بن جدعان ومحمد بن مسلم بن تدرس ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن يمان. وقال يعقوب بن سفيان في أجلح «ثقة حديثه لين» وفي محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى «ثقة عدل في حديثه بعض المقال لين الحديث عندهم» .
وأما كلمة «ليس بثقة» فقد روى بشر بن عمر عن مالك إطلاقها في جماعة منهم صالح مولى التوأمة وشعبة مولى ابن عباس وفي ترجمة مالك من (تقدمة الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم عن يحيى القطان أنه سأل مالكاً عن صالح هذا؟ فقال: «لم يكن من القراء» وسأله عن شعبة هذا فقال «لم يكن من القراء» فأما صالح فأثنى عليه أحمد وابن معين، وذكر أنه اختلط بأخرة، وأن مالكاً إنما أدركه بعد الاختلاط، وأما شعبة مولى ابن عباس فقال أحمد «ما أرى به بأساً» وكذا قال ابن معين، وقال البخاري «يتكلم فيه مالك ويحتمل منه» قال ابن حجر «قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: قوله ويحتمل منه. يعني من شعبة وليس هو ممن يترك حديثه، قال ومالك لم يضعفه وإنما شح عليه بلفظة ثقة - قلت هذا التأويل غير شائع بل لفظة ليس بثقة في الاصطلاح توجب الضعف الشديد، وقد قال ابن حبان روى عن ابن عباس مالاً أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر» .
أقول: ابن حبان كثيراً ما يهو ل مثل هذا التهويل في غير محله كما يأتي في ترجمته وترجمة محمد بن الفضل من قسم التراجم، وكلمة «ليس بثقة» حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له «ثقة» ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى وقد ذكرها الخطيب في (الكفاية) في أمثلة الجرح غير المفسر، واقتصار مالك في رواية يحيى القطان على قوله «لم يكن من القراء» يشعر بأنه أراد هذا المعنى. نعم إذا قيل «ليس بثقة ولا مأمون» تعين الجرح شديد، وإن اقتصر على «ليس بثقة» فالمتبادر جرح شديد، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حملت عليه، وهكذا كلمة ثقة معناها المعروف التوثيق التام، فلا تصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية كقول يعقوب «ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق» وبقية الأمثلة السابقة، وإما حالية منقولة أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها كما مر في الأمر السابع عن (لسان الميزان) ، أو عن غيره ولا سيما إذا كانوا هم الأكثر.
فتدبر ما تقدم وقابله بما قاله الكوثري في (الترحيب) ص 15 قال: «وكم من راو يوثق ولا يحتج به كما في كلام يعقوب الفسوي، بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعد ثقة كما قال ابن مهدي: أبو خلدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة» .
وعلى الأستاذ مؤاخذات:
الأولى: أنه ذكر هذا في معرض الاعتذار، وأنا لم أناقشه فيما قام الدليل فيه.
الثانية: أن كلمة يعقوب التي أشار إليها هي قوله «كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات ما أحد منهم أتخذه عنه الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر وأحمد بن حنبل بالعراق» أوردتها في (الطليعة) ص 21 إلى قوله «ثقات» ذكرت ذلك من جملة الشواهد على أن شيخ يعقوب في ذاك السند هو أحمد بن الخليل الموثق لا أحمد بن الخليل المجروح، فزعم الأستاذ في (الترحيب) أنني
اقتصرت على أول العبارة لأوهم أن شيخ يعقوب في ذاك السند ثقة يحتج به ! وهذا كما ترى، أولاً لأن سياق كلامي هناك واضح في أني إنما أردت تعيين شيخ يعقوب فأما الاحتجاج وعدمه فلا ذكر له هناك.
ثانياً لأن بقية عبارة يعقوب لا تعطي أن شيوخه كلهم غير الأَحْمَدَيْن لا يحتج بأحد منهم في الرواية، كيف وفيهم أئمة أجلة قد أحتج براويتهم الأحمدان أنفسهما، بل قام الإجماع على ذلك، وإنما أراد يعقوب بالحجة عند الله من يؤخذ بروايته ورأيه وقوله وسيرته.
الثالثة: أن كلمة ابن مهدي لا توافق مقصود الأستاذ فأنها تعطي بظاهرها أن كلمة «ثقة» إنما تطلق على الدرجات كشعبة وسفيان، ومع العلم بأن ابن مهدي وجميع الأئمة يحتجون برواية عدد لا يحصون ممن هم دون شعبة وسفيان بكثير فكلمته تلك تعطي بظاهرها أن من كان دون شعبة وسفيان فإنه وإن كان عدلاً ضابطاً تقوم الحجة بروايته فلا يقال له «ثقة» بل يقال «صدوق» ونحوها وأين هذا من الأستاذ؟
الرابعة: أن كلمة ابن مهدي بظاهرها منتقدة من وجهين:
الأول: أنه وكافة الأئمة قبله وبعده يطلقون كلمة «ثقة» على العدل الضابط وإن كان دون شعبة وسفيان بكثير.
الثاني: أن أبا خلدة قد قال فيه يزيد بن زريع والنسائي وابن سعد والعجلي والدارقطني «ثقة» وقال ابن عبد البر «هو ثقة عند جميعهم وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ» وأصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال «حدثنا أبو خلدة -» فقال له رجل «كان ثقة؟» فأجاب ابن مهدي بما مر. فيظهر لي أن السائل فخم كلمة «ثقة» ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه