الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل
تأليف: العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني (1313 - 1368)
الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م
مع تخريجات وتعليقات
عبد الرزاق حمزة - محمد ناصر الدين الألباني - زهير الشاويش
الجزء الأول
المكتب الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: فهذا كتاب (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) .
تعقبت فيه ما انتقدته من كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري مما يتعلق بالكلام في أئمة السنة ورواتها، غير عامد إلى ذب عن الإمام أبو حنيفة ولا خلافه، ورتبته إلى أربعة أقسام:
الأول: في تحرير قواعد خلط فيها الأستاذ.
الثاني: في تراجم الأئمة والرواة الذين تكلم فيهم الأستاذ وأفراد حاول الدفاع عنهم.
الثالث: في النظر في مسائل فقهية تعرض لها.
الرابع: في تثبيت عقيدة السلف التي طعن الأستاذ فيها وفي المعتصمين بها، ومسائل اعتقادية تعرض لها.
وقد قدمت قبل هذا نموذجاً من مغالطاته طبع بمصر بعنوان (طليعة التنكيل)(1) وأجاب عنها برسالة سماها (الترحيب بنقد التأنيب) سأنظر فيما يُلتفت إليه مما فيها في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وأسال الله التوفيق.
وأقدم فصولاً:
(1) انتقد الأستاذ في الترحيب كلمات نابية - كما يقول - وقعت في متن الطليعة والتعليق عليها وقد انتقدتها قبله وهي من تصرف المعلق الأستاذ محمد عبد الرزاق حمزة باجتهاده، وقد صرح بذلك في رسالته حول ترحيب الكوثري ص 37. وذكر لي بعض المطلعين أن عامة تلك الكلمات كانت على وجه التعليق، لكن التبس الأمر عند الطبع فأدرجت في المتن. المؤلف.
الفصل الأول
المقصود الأهم من كتابي هذا هو رد المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها والذي اضطرني إلى ذلك أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها ومعرفة العربية وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه إنما مدارها على النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضر بهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله، بل في الدين من أصله. وحسبك أنَّ المقرر عند أهل العلم أنه إذا نقل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء ولم ينقل عن أحد منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قول بالحل، عد ذاك الشيء مجمعا على حرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حله، فإن ذهب إلى حله غافلاً عن الإجماع كان قوله مردوداً، أو عالماً بالإجماع فمن أهل العلم من يضلله، ومنهم من قد يكفره. لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قول بحل ذلك الشيء كانت المسألة خلافية لا يحظر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذلك الصحابي، أو بقول مفصل يوافق هذا في شيء، وذاك في شيء، ولا يحرم على المقلد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل إما على سبيل الترجيح والاختيار إن كان أهلاً، وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه. وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكل منهم، والاعتداد بتوثيق الموثق يتوقف على العلم
بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحة سند التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثقه ثقة عارف، وصحة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والثقة لرجاله، وهلم جراً.
والسعي في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق أو الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه، فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعاً للأمرين كان الأمر أشد جداً كما يعلم بالتدبر، ولولا أن أُنسب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة يترتب على الطعن فيهم - زيادة على محاولة إسقاط رواياتهم - محاولة توثيق جم غفير ممن جرحوه، وجرح جم غفير ممن وثقوه.
ففي (التأنيب) الطعن في زهاء ثلاثمائة رجل تبين لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظاً، وجماعة من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟! على أن الأمر لا يقف عندهم فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتهم غير محصورة، فيمكن كل من يهوى رد شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته وموثقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك، بل يعيد (1) الملحدون الإسلام نفسه ذريعة لاتهام كل من روى من المسلمين ما يثبت النبوة والقرآن ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يساورون المتواترات بزعم التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض، لو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعلم أو غير متبوع لهان الخطب، ولكنه من رجل مشهور ينعته أصحابه بأمثال ما كتب على لوح كتابه (تأنيب الخطيب) الذي طبع تحت إشرافه بتصحيحه «تأليف الإمام الفقيه
(1) كذا الأصل، ولعله (يتخذ) .
المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير
…
» (1) ويلي ذلك كلمة الناشر وترجمة المؤلف بتلك الألقاب الضخمة والعبارات الفخمة (2) ، ويتبعه الحنفية وهم كما يقول السواد الأعظم، ويتابعه في الجملة كل من تخالف السنة هواه من غلاة المقلدين وأتباع المتكلمين وعباد القبور، ويعتضد بكلامه الملحدون.
بلى إن في أفاضل علماء الحنفية أنفسهم جماعة يمقتون تصرف الأستاذ، ولكن تصدهم عن رفع أصواتهم بالإنكار عليه موانع هم أعلم بها. والله المستعان.
(1) هذه الألقاب كانت من دأب الكوثري لنفسه وأشياخه ومن يتعصب لهم، وجرى إتباعه عليها نحوه، ونحو أنفسهم، وانظر إذا شيءت مقدمة شرح الطحاوية وكشف النقاب عما في كلمات أبي غدة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني
(2)
مع أنه يشير في صفحة 14 من (الترحيب) إلى كتب ابن خزيمة (*) ، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويقول: طبع كثير منها تحت ظلال الحرية
…
بعد نسج هالات من التبجيل حول أسماء مؤلفيها تمهيداً للإضلال بأقاويلهم!
(*) وهو صحيح ابن خزيمة بتحقيق العالم الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
ومراجعة المحدث الألباني، وهو أحد كتابيه اللذين نال عنهما جائزة الملك فيصل رحمه الله عن السنَّة.
وقد تم طبعه في المكتب الإسلامي بأربعة مجلدات.
الفصل الثاني
من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، ويرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك فكان هذا من أعظم ما ساعد على أن انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره، ومقتهم الجمهور، وأوذوا فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان، وقريب من هذا حال الغلاة الروافض وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين.
وعلى هذا جرى الأمر في هذا القضية فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين وأسكت أهل العلم في مصر وغيرها برمي كل من يهم أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته، ولما اطلع الأستاذ على (الطليعة) جرد على صاحبها ذلك السلاح، ومن تصفح (الترحيب) علم أن ذلك، بعد المغالطة والتهويل هو سلاحه الوحيد، فهو يبدئ فيه ويعيد، ونفسه تقول هل من مزيد، ومع ذلك يضطرب، فمن جهة يقول في (الترحيب) ص 15:«أخبار الآحاد على فرض ثقة رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلاً عن المتواتر وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأمة بالتواتر» ويقول بعد ذلك: «خبر الآحاد
يكون مردوداً عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد فضلاً عن مصادمته لما تواتر» ويقول ص 17 «وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد فيرد حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ» ويقول ص 39 «من المقدر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن» .
ويعد حسناتي ذنوباً فيقول ص 99: «وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري (1) في موضوع المسألة لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مسقط فيكون ذكر المتون قاصماً لظهره» وقول ص 25 «ولو كان الناقد ذكر في طلب متنه الخبر المتحدث عنه كان القارئ يحكم بكذب الخبر مجرد سماعه لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاء لحاله» .
ومن جهة أخرى يقول ص 19 «وعادة أيضاً في مثل تلك الأخبار تطلب ضعفاء بين رجال السند (2) بادئ ذي بدء ضرورة أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات» ويقول ص 19 «ومن المضحك تظاهره بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجروح ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها» .
وأقول: أما الباعث لي على تعقب (التأنيب) فقد ذكرته في أول (الطليعة)
(1) التأنيب مطبوع والأستاذ أقدر على إعادة طبعه، وسواء أكان مقصودي ما شرحته في أول الطليعة في الفصل الأول أم الغرض الذي يرميني به الأستاذ أم كلاهما فعل كل حال لا داعي إلى ما اقترحه الأستاذ من نقل كلامه. المؤلف.
(2)
أرجو من القارئ أن يتدبر قول الأستاذ "وعادتي
…
" مع مراجعة الطليعة ص 11 - 43 المؤلف.
وتقدم شرحه في الفصل الأول، وهب أن غرضي ما زعمه الأستاذ وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات فلا يخلو كلامي مبيناً على الأصول المألوفة المعروفة، أو يكون على خلاف ذلك، فإن كان الأول فلازم الحق حق، وإن كان الثاني ففي وسع الأستاذ أن يوضح فساده بالأدلة المقبولة، فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين (طليعتي) و (ترحيبه) حتى يتبين لهم أقام بنقض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم أم ردف ما في (التأنيب) من تهويل ومغالطة وتمحل بمثلها ولم يكد يضيف إلى ذلك إلا رمي مؤلف (الطليعة) ببغض أبي حنيفة؟! كأن الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تتقى إلا بالهوى، فأثاره ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمه شأنهم ليضرب به بينهم وبيم (الطليعة) و (التنكيل) حجاباً لا تمزقه حجة ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدة.
والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق ولذلك أهملت ذكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد:
الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة وهو أن يطلع عليها حنفي متحمس فيحمله ذكر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة ولا يستفيد إلا بغض من نسب إليه المتن من الأئمة.
الثانية: أن يطلع عليها رجل من خصوم الحنفية فيجترئ بذاك المتن ويذهب يعيب أبا حنيفة غير مبال أصح ذاك المتن أم لم يصح.
الثالثة: أن يطلع عليها عامي لا يميز فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض ويكبر ذلك عليه ويسيء الظن بهم جميعاً.
فإهمال ذكر المتن يمنع هذه المفاسد كلها ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشت فيها الأستاذ.
والواقع أيضاً أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم ولا يلزمني قصد ذلك، ومن تأمل عبارات الأستاذ في الجهة الأخرى بان له صحة قولي. وأزيد ذلك
إيضاحاً وشرحاً وتتميماً فأقول: وعامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في بعض رجال تلك الأسانيد وقد وافقته على ضعف جماعة منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقة رجل من رجال السند ثبوت ثقة غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإن المقالة المسندة، إذا كان ظاهرها الذم أو ما يقتضيه لا يثبت الذم إلا باجتماع عشرة أمور:
الأول: أن يكون الرجل المعين الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة.
الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد كلهم ثقات.
الثالث: ظهور اتصال السند تقوم به الحجة.
الرابع: ظهور أنه ليس هناك علة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية.
الخامس: ظهور أنه لم يقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير قد توقع فيه الرواية بالمعنى.
السادس: ظهور أن المراد في الكلام ظاهره.
السابع: ظهور أن الذامّ بنى ذمه على حجة لا نحو أن يبلغه إنسان أن فلاناً قال كذا أو فعل كذا فيحسبه صادقاً وهو كاذب أو غالط.
الثامن: ظهور أن الذام بنى ذمه على حجة لا على أمر حمله على وجه مذموم وإنما وقع على وجه سائغ.
التاسع: ظهور أنه لم يكن للمتكلم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذام.
العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذم لم يرجع عنه صاحبه. والمقصود بالظهور في هذه المواضع الظهور الذي تقوم به الحجة.
وقد يزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية.
فهذه الأمور إذا اختل واحد منها لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل.
والذي تصديت لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني فضلاً عن الجميع وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني لكن لا يلزم من ذلك تثبيت الثالث فضلاً عن الجميع، وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف فالمقصود من ذلك كشف مغالطته ولا يلزم من ذلك تثبيت الأمور كلها، وقد يتهم الأستاذ رجلاً في رواية مع علمه بأنه قد توبع متابعة تبين صدقه في تلك الرواية فيضطرني إلى التنبيه على تلك المتابعة. وقد يشنع على الخطيب بإيراده رواية من فيه كلام في صدد ما زعم أنه المحفوظ عنده، ويتبين لي من سقوط الشناعة من هذه الناحية أما لأنه إنما ذكر رواية ذلك الراوي في المتابعات وأما لأن الراوي إنما غمز بأنه يخطئ أو يهم وليس تلك الرواية مما يخشى فيه الخطأ أو الوهم فاحتاج إلى بيان ذلك. وكل هذا لا يلزم منه تثبيت الأمور كلها وأذكر هنا مثالاً واحداً:
قال إبراهيم بن بشار الرمادي: سمعت بن عيينة يقول: ما رأيت أحداً أجرأ على الله من أبي حنيفة، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان فقال يا أبا حنيفة قد أتيتك بمائة ألف مسألة أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها، فهل سمعتم أحداً أجرأ على الله من هذا؟» هذه الحكاية أول ما ناقشت الأستاذ في بعض رجال سندها في (الطليعة) ص 12 - 20 فإنه خبط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في (الطليعة) وتكلم في الرمادي وستأتي ترجمته وزاد في (الترحيب) فتكلم في ابن أبي خثيمة بما لا يضره، وذكر ما قيل أن ابن عيينة اختلط بأخرة، وهو يعلم ما فيه وستأتي ترجمته وقد ذكر الأستاذ في (التأنيب) جواباً معنوياً جيداً ولكنه مزجه بالتخليط فقال بعد أن تكلم في السند بما أوضحت ما فيه في (الطليعة) :
«وابن عيينة برئ من هذا الكلام قطعاً بالنظر إلى السند» .
ثم قال بعد ذلك:
«وأما من جهة المتن فتكذب شواهد الحال الأخلوقة تكذيباً لا مزيد عليه
…
رجل يبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبث ولا تريث» .
«كذا قال، وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسالة واحدة فضلاً عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألة واحدة فضلاً عن مائة ألف فضلاً عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها. وكان يمكن للأستاذ أن يجيب بجواب بعيد عن الشغب كأن يقول: يبعد جداً أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائة ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين، إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة فبالغ، وإما أن يكون بطالاً لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع والتعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذاك الجواب الحكيم، فإن الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة نظر فيها أبو حنيفة على حسب ما يتسع له الوقت ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب.
فأما ابن عيينة فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بين الأستاذ ذلك في التأنيب) فكأنه كره قول أبي حنيفة: هاتها، لما يشعر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة، وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالم إذا سئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي، للأمر بالتبليغ والنهي عن كتمان العلم، ولئلا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرهم ذلك إلى ما فيه فساد العلم والدين، ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني وإن حمدنا الفريق الأول حيث يكف أحدهم عن الفتوى مبالغة في التورع واتكالاً على غيره حيث يوجد، فأما الجرأة فمعناها الإقدام والمقصود هنا كما يوضحه السياق وغيره الإقدام على الفتوى فمعنى الجرأة على الله هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفة موثوق بها فهو محمود وإن كرهه المبالغون في التورع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: «لقد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن
عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً» وعنه أيضاً أنه قال: أكثر أبو هريرة، فقيل له: هل تنكر شيئاً مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا، فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ راجع الإصابة ترجمة ابن عباس وترجمة أبي هريرة.
وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود، وقد روى الخطيب نفسه
…
هاتين الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في (التأنيب) فهذا وغيره يدل على بعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة فأما إذا علمنا أن ابن عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة فإن ذلك يرشدنا إلى حمل تلك المقالة على معنى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى باب عظيم النفع في فهم ما ينقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض.
وحاصله أن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ والدليل قائم على خلاف قوله في كذا فدل ذلك على أنه أخطأ ولا يحل لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه، قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا، فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه.
خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة فقال «والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي» أخرجه البخاري في (الصحيح) من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار فلم يؤثر هذا في كثير من الناس بل روي أن بعضهم أجاب قائلاً «فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار» .
فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعة اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم فيه إما لأن حالهم غير حاله وإما لأنه يراه أخطأ -
أطلق كلمات يظهر منها الغض من ذاك الفاضل لكي يكف الناس عن الغلو فيه الحامل لهم على إتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه، فمن هذا ما في (المستدرك)(2 ص329) «
…
عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر فذكروا علياً فشتموه فقال سعد: مهلاً عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم
…
فقال بعضهم فوالله إنه كان يبغضك ويسميك الأخنس، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك ثم قال أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه ثم لا تبلع ذلك أمانته
…
» قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي.
وفي الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال «ما سمعت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جمع أبويه إلا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي» .
وتروى عن كلمات أخرى من ذا وذاك وكان سعد قد قعد عن قتال البغاة فكان علي إذا كان في جماعة يخشى أن يتبعوا سعداً بالقعود ربما أطلق غير كاذب كلمات توهم الغض من سعد وإذا كان مع من لا يخشى منه القعود فذكر سعداً ذكر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكاً من إطلاق كلمات فيها غض من مالك مع ما عرف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك، وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين» كما يأتي في ترجمة مالك إن شاء الله تعالى.
ومنه ما نراه في كلام مسلم في مقدمة صحيحه مما يظهر منه الغض الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو البخاري، وقد عرف عن مسلم تبجيله للبخاري.
وأنت إذا تدبرت تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد.
وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حي من (تهذيب التهذيب) كلمات قاسية أطلقها بعض الأئمة فيه مع ما عرف من فضله، وفيها «أبو صالح الفراء: ذكرت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن فقال: ذاك يشبه أستاذه يعني الحسن (بن صالح) بن حي - فقلت ليوسف أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أو زارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم» .
أقول: والأئمة غير معصومين من الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطأوا فيه كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بذل الوسع في تحري الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلو في تقليدهم.
على أن الأستاذ إذا أحب أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأن ابن عيينة كان يعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعل ابن عيينة رأى أناساً قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطون مثل ما كان يقع منه من الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم اغتراراً منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار فاحتاج ابن عيينة في ردعهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشغبهم. والله أعلم.
الفصل الثالث
حاول الأستاذ في (الترحيب) التبرؤ مما نسب إليه في (الطليعة) من الكلام في أنس رضي الله عنه وفي هشام بن عروة بن الزبير وفي الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد.
فأما كلامه في أنس فتراه وما عليه في (الطليعة) ص 98 - 106 ويأتي تمامه في ترجمته إن شاء الله تعالى. وينبغي أن يعلم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسان حال الأستاذ يقول: ومن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة، كما أشار إلى ذلك في (الترحيب) ص 24 إذ قال:«وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في (المؤمل) لأبي شامة الحافظ، وليس هذا إلا تحرياً بالغاً في المرويات يدل على عقلية أبي حنيفة الجبارة» فزادنا مع أنس جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وإلى ما غالط به من الترجيح الذي دفعته (الطليعة) ص105 - 106 التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السند أن ينفرد برواية السنة بعض أولئك الصحابة. هذا مع أن رواية أنس في الرضخ تشهد لها أربع آيات من كتاب الله عز وجل بل أكثر من ذلك كما يأتي في (الفقهيات) إن شاء الله تعالى ومعها القياس الجلي، ولا يعارض ذلك شيء إلا أن يقال: إن عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدم قوله على ذلك كله، وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب عن قوله في
(التأنيب) ص 139 عند كلامه على ما روي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها. قال الأستاذ هناك «ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً ففرع عليه المسائل فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلاً ففرع عليه الفروع
…
» .
إلا أن يقول الأستاذ إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب وإنما قلد فيها بعض التابعين كشريح وإبراهيم فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما قاله من عند نفسه، فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبق مسألة القود على هذه القاعدة.
أما نحن فلا نعتد على أبي حنيفة بقول الأستاذ ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبيت أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة بل نقول لعل أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحد من الصحابة بل هو موافق لغيره في أن انفراد الصحابي مقبول على كل حال وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث لأنه لم يبلغه من وجه يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه، وإذا كان يأخذ برأي رجل من التابعين فيجعله أصلاً لباب عظيم من أبواب الشرع كشريح في الوقف وإبراهيم في المزارعة فكيف يرغب عن سنة لتفرد بعض الصحابة بها؟ ثم راجعت (المؤمل) فرأيت عبارته تشعر بأن الكلام فيما تفرد أنس ومن معه يقوله برأيه، لا في ما كان رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما التحري البالغ فإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه أن يقبل ورد ما حقه أن يرد فلا موضع له هنا، وإن كان هو الذي يؤدي إلى قبول ما حقه الرد
كرأي شريح في الوقف ورأي إبراهيم في المزارعة، وإلى رد ما حقه القبول كما يتفرد به بعض الصحابة ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كرد حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له فهذا إن وقع ممن لم يقف على الأدلة المخالفة له أو ذهل عنها وعن دلالتها، له اسم آخر لا يضر صاحبه إن شاء الله، وإن وقع ممن عرف ذلك كله فهو تجرٍ «بالجيم لا تحر بالحاء» أو قل تحر للباطل لا للحق.
فإن كان المقصود التخييل الشعري فيستطيع من يرد انفراد الصحابي أي صحابي كان يقول أن ذلك تحر بالغ. بل من يرد السنن المتواتر، بل من يرد المتواتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه، بل من يرد المتواتر أيضاً فيقول إن التحري البالغ يقتضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلا ما نص عليه كلامه، بل من يرد الدلالات الظنية من القرآن ويرد الإجماع، ولم يبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن؛ وشيوخ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها كما في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى.
فأما القياس فهو بأن القياس إلغاؤه تحرياً واحتياطاً في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل:
ويذهب بينها المرئي لغوا
…
كما ألغيت في الدية الحوارا
والمقصود هنا أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلا غرو أن يزعم الأستاذ أنه ليس في كلامه فيه ما ينتقد ! وفي (فتح الباري) في «باب المصراة» :«قال ابن السمعاني (1) في (الاصطلام) : التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة» ذكر ذلك في صدد رد كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصراة.
(1) هو أبو المظفر بن عبد الجبار كان أهل بيته حنفية ونشأ على ذلك ومهر في المذهب ثم تشفع تديناً، وترجمته في طبقات ابن السبكي ج 4 ص 21 وقد أسرف الشافعية في التبجح بذلك كما تراه هناك.
وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة - وفي رواية للدرامي ج1 ص 51: هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة (1) . قال لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى ظهر فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فقالوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا «فذكرها الأستاذ في (التأنيب) ص 98 ثم قال وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه (مالك) لقول مالك فيه بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذاب، قال فسألت يحيى بن معين؟ فقال عسى أراد في الكلام فأما في الحديث فهو ثقة» وعلق في الحاشية «هذا من انفرادات الساجي، وأهل العلم قد تبدر منهم بادرة فيتكلمون في أقرانهم بما لا يقبل فلا يتخذ ذلك حجة، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمر يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ» ففهمت من قوله «وإنما أراد هشام النكاية
…
» أنه يريد أن هشاماً افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأن ذلك من الكذب الذي عني بالكلمة المحكية عن مالك «هشام بن عروة كذاب» ومن الكذب في الكلام على ما في الكلمة عن ابن معين ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية، وبنيت على ذلك في الكلمة التي كنت كتبتها إلى بعض الإخوان فاتفق أن وقعت بيد المعلق على (الطليعة) أو طابعها فطبعت كمقدمة للطليعة بدون علمي، قلت فيها كما في (الطليعة) المطبوعة ص 4:«وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام حتى نسب إليه الكذب في الرواية» فتعرض الأستاذ لذلك في الترحيب ص 48 وتوهم أو أو هم أنني إنما بنيت على ما في الحكاية التي ينقلها مما نسب إلى مالك من قوله «
…
كذاب» فأعاد الأستاذ الحكاية هنالك ثم قال: «أهذا قولي أم قول مالك أيها الباهت الآفك؟ !» .
فأقول: أما قولك، فقد قدمت ما فيه من إفهام أن هشاماً افترى تلك الحكاية
(1) وهكذا في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي من مقدمة كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
انتقاماً من مالك، وأما قول مالك فلم يصح بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ أنه اقتصر فيما تظاهر به في صدر الحاشية من محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله:«من انفرادات الساجي» وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظ ثقة ثبت، وإن حاول في موضع آخر أن يتكلم فيه كما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، هذا مع جزمه في المتن بقوله:«لقول مالك فيه» والحكاية أخرجها الخطيب في (تاريخ بغداد) ج 1 ص 223، وتعقبها بقوله:«فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا» .
يعني أحمد بن محمد البغدادي، وبغدادي لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثر عمره في تتبع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولاً، فهذا هو المسقط لتلك الحكاية من جهة السند، ويسقطها من جهة النظر أن مالكاً احتج بهشام في الموطأ مع أن مالكاً لا يجيز الأخذ عمن جُرب عليه كذب في حديث الناس فكيف الرواية عنه فكيف الاحتجاج به؟! صح عن مالك أنه قال:
«لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يتهم أن يكذب على رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
…
» أسنده الخطيب في (الكفاية) ص 116 وذكره ابن عبد البر في (كتاب العلم) كما في (مختصره) ص 122 وقال: «وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد
…
» .
وكأن الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاول أن يدخل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غض من أبي حنيفة وهكذا ما يرويه
أحدهم عن غيره مما فيه غض من أبي حنيفة ولومن بُعد كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كل كلام إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو- والعياذ بالله - تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون، أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيق الأئمة للرواة كلام ليس فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن أن يكذبوا فيه، وتوثيق من بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذباً وإن كان قائله ثقة، وهكذا رواية من بعد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام، وبالجملة فيشمل ذلك سائر كلمات الجرح والتعديل، والمدح والقدح، قولها وروايتها، وحكاية مقتضيها وروايته، وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين وغير ذلك فكله كلام.
وسيأتي تمام الكلام في القاعدة الأولى من قسم القواعد إن شاء الله تعالى.
وأما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد فسيأتي إن شاء الله تعالى في تراجمهم ويكفي العبارة التي قالها في (التأنيب) في معرض الثناء عليهم زعم، ونقلها في (الترحيب) في معرض التبرؤ عن الطعن فيهم. وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يفرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصل من مجموع كلامه في (التأنيب) ، ويرى أنه قد تفضل على الأئمة الثلاثة وجامل أتباعهم بأن أو هم في بعض عباراته رفعهم عن تلك المنزلة قليلاً، فلما رآني لم أعتد بذاك الإيهام الفارغ كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته ويفهم العلماء أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهو ا. وتمام الكلام في التراجم إن شاء الله تعالى.
الفصل الرابع
ذكر الأستاذ في (التأنيب) أسباباً اقتضت المنافرة بين الحنفية ومخالفيهم وأطنب في فتنة القول بخلق القرآن، ثم ذكر في (الترحيب) ص 18 - 19 أنه يتحتم علي أن أدرس ملابسات تلك الفتنة، يريد أن الدعاة إليها كانوا من أتباع أبي حنيفة كبشر المريسي وابن أبي داود، ونسبوا تلك المقالة إلى أبي حنيفة، وساعدهم حفيده إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة واستحوذوا على الدولة فسعت في تنفيذ تلك المقالة بكل قواها في جميع البلدان فكان علماء السنة يكلفون بأن يقولوا: إن القرآن مخلوق، فمن أجاب مظهراً الرضا والاعتقاد صار له منزلة وجاه في الدولة وأنعم عليه بالعطاء وولاية القضاء وغير ذلك، ومن أبى حرم عطاءه وعزل عن القضاء أو الولاية ومنع من نشر العلم، وكثير منهم سجنوا ومنهم من جلد، ومنهم من قتل، وأسرف الدعاة في ذلك حتى كان القضاة لا يجيزون شهادة شاهد حتى يقول إن القرآن مخلوق، فإن أبي ردوا شهادته، ومن أجاب مكرهاً ربما سجنوه وربما أطلقوه مسخوطاً عليه، وفي كتاب (قضاة مصر) طرف من وصف تلك المحنة. فيرى الأستاذ أن ذلك أو غر صدور أصحاب الحديث على أبي حنيفة فكان فيهم من يذمه ومنهم من يختلق الحكايات في ثلبه.
فأقول ليس في ذلك ما يبرر صنيع الأستاذ.
أما أولا فلأن أصحاب الحديث منهم من صرح بأنه لم يثبت عنده نسبة تلك المقالة إلى أبي حنيفة، كما رواه الخطيب من طريق المروذي عن أحمد بن حنبل،
ومنهم من وقعت له روايات تنسب إلى أبي حنيفة بأن القرآن غير مخلوق، وتلك الروايات معروفة في (تاريخ بغداد) و (مناقب أبي حنيفة) وغيرها، فكيف يظن بهم أن يحملوا على أبي حنيفة ذنباً يرونه بريئاً منه ويخرجوه من صفهم مع عدم استغنائهم عنه إلى صف مخالفهم؟.
وأما ثانياً: فهل يريد الأستاذ أن يستنتج من ذلك أن أصحاب الحديث صاروا كلهم بين سفيه فاجر كذاب، وأحمق مغفل يستحل الكذب الذي هو في مذهبه من أكبر الكبائر وأقبح القبائح؟ فليت شعري عند من بقي العلم والدين؟ أعند الجهمية الذين يعزلون الله وكتبه ورسله عن الاعتداد في عظم الدين وهو الاعتقاديات ويتبعون فيها الأهواء والأوهام؟ ! يقال لأحدهم قال الله عز وجل
…
، وقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فتلتوي عنقه ويتقبض وجهه تبرماً وتكرهاً، ويقال له: قال ابن سينا
…
، فيستوي قاعداً ويسمو رأسه وينبسط وجهه وتتسع عيناه وتصغي أذناه كأنه يتلقى بشرى عظيمة كان يتوقعها. فهل هذا هو الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص يا أستاذ!!
وأما ثالثاً: فإن ما يسميه الأستاذ «مثالب أبي حنيفة» أكثرها كان معروفاً قبل المحنة ولهذا احتاج الأستاذ إلى مساورة كبار الأئمة وأركان الدين وجبال الأمة مثل أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وسفيان بن سعيد الثوري وحماد بن سلمة.
وأما رابعاً: فقد أثبتها في كتبه أو أثبت مقتضاها من عاصر المحنة وعرف ما لها وما عليها كيعقوب بن سفيان والبخاري وهل يتهم البخاري إلا مجنون؟.
وأما خامساً: فإن تلك المشادة لم تقتصر على أصحاب الحديث بل كان لأصحاب أبي حنيفة النصيب الأوفر من اختلاق الحكايات في مناقبه، بل جاوزوا ذلك إلى وضع الأحاديث كحديث:«يكون في أمتي رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي» ، وزاد بعضهم فيه «وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من إبليس»
وتناول الأعاجم هذه الفرية فاختلقوا لها قاعدة طرق وقبلها علماء الحنفية واحتجوا بها، حتى إن البدر العيني شارح (صحيح البخاري) الذي يحاول الأستاذ تفضيله على الحافظ الشهاب ابن حجر ويقول في تفضيل شرحه على (فتح الباري) :«وليس الشهاب كل حين بثاقب، بينما البدر ملتمع الأنوار من كل جانب» . (1)
ذكر العيني تلك الطرق ثم قال: نقله الأستاذ في (التأنيب) ص 30 «فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرق مختلفة (بل مختلقة) ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن له أصلاً وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يدعون أنه موضوع، وربما كان هذا من أثر التعصب، ورواة الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام
…
» .
ولا أدري أأقول هذا مبلغ علم العيني أم مبلغ تعصبه؟ وقد سعى الأستاذ في تأييد كلام العيني وسيأتي الكلام في ترجمة محمد بن سعيد البورقي إن شاء الله تعالى. والذي تفنن في طرق تلك الفرية هو يونس بن طاهر النضري الملقب شيخ الإسلام ومن جملة رواياته ما ذكر الموفق في (مناقبه) ج 1 ص 16 من طريق النضري بسنده «رأى أبو حنيفة في المنام
…
فارتحل إلى البصرة فسأل محمد بن سيرين عن هذه الرؤيا فقال: لست بصاحب هذه الرؤيا صاحب هذه الرؤيا أبو حنيفة، فقال: أنا أبو حنيفة، فقال: اكشف عن ظهرك، فكشف، فرأى بين كتفيه خالاً فقال له محمد بن سيرين: أنت أبو حنيفة الذي قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يخرج في أمتي رجلٌ يقال له أبو حنيفة بين كتفيه خال يحيى الله على يديه السنة» ، ولا يخفي ما في ذكر الخال بين الكتفين من المضارعة لخاتم النبوة.
فالأستاذ عافانا الله وإياه يأخذ روايات الحنفية في مناقب أبي حنيفة كأنها مسلمة بل يصرح بأنها متواترة ويتجلد حق التجلد فيدافع عن أحمد بن محمد بن
(1) لا أحب أن أناقش الأستاذ في هذا فإنه يعرف حقيقة الحال، والله المستعان.
الصلت كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى، ويطعن في أئمة الدين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وعبد الله ابن الزبير الحميدي وأضرابهما كما يأتي في التراجم إن شاء الله تعالى مع أن ابن الصلت مُجمَع على تكذيبه، والفزاري والحميدي وجماعة من أضرابهما الذين طعن الأستاذ مجمع على أنهم أثبات. ولا ريب أن في أتباع أصحاب الحديث جهالاً ومغفلين وفجاراً وأنه وقع من هؤلاء الكذب، ولولا أن الخطيب اجتهد فلم يورد في حكايات الغض ما بان له سقوطه لجاء بالعجب العجاب لكن الجهل في الجانب الآخر أعم وأطم لغلبة الجهل بالسنة، وقلة الرواية التي يراقب صاحبها ألسنة النقاد صباح مساء ويخاف أن يفقد رأس ماله بكلمة واحدة منهم.
وكان مقتضى الحكمة إتباع ما مضى عليه أهل العلم منذ سبعمائة سنة تقريباً من سدل الستار على تلك الأحوال وتقارض الثناء واقتصار الحنفية في بعض المناسبات على التألم من الخطيب بأنه أورد حكايات لا تصح، فيقتصرون على هذا الإجمال ونحوه ولا يطعنون في الخطيب ولا في راوٍ بعينه ويعوضون أنفسهم بالاستكثار من روايات المناقب، فإن جاوز بعضهم ذلك فعلى قدر ومراعاة للجانب الآخر، فليت الأستاذ اكتفى بما يقرب من ذلك وطوى الثوب على غرة، فإن أبت نفسه إلا بعثرة القبور فليتحر الحق إما تديناً، وإما علماً بأن في الناس بقايا وفي الزوايا خبايا.
أما أنا فقدمت بيان مقصودي ولا شأن لي بما عداه ولو ألجئت إلى نقد الروايات من الجانبين لتحريت الحق إن شاء الله تعالى، وذلك بالنظر في أحوال الرواة من الفريقين فمن وثقه أهل العلم فلا بد من قبوله، ولا يعد ميله إلى أبي حنيفة ولا انحرافه عنه مسوغاً لاتهامه بالكذب، كما سيأتي في قاعدة التهمة إن شاء
الله تعالى، ولا يلزم من ثقته بنفسه توجه الذم ولا تحقق المدح لما تقدم في الفصل الثاني، كما لا يلزم من اتجاه عدم قبول المروي سقوط رجال السند كلهم، بل ولا سقوط المتفرد به وإن كان من فوقه في السند كلهم ثقات أثباتاً لاحتمال الخطأ والغلط والتأويل وغير ذلك كما يعترف الأستاذ، نعم قد لا يكون مساغ لشيء من ذلك ويتحقق البطلان لكن الحكم بمثل هذا يحتاج إلى معرفة بالغة وإطلاع واسع؛ وصدر غني بالتقوى بعيد عن الهوى. وسترى في التراجم ما ترى إن شاء الله (1) .
(1) وأين التقوى ممن يكذب على الله ورسوله - مع عمله بذلك - وما عهدنا بأتباعه ببعيد، وعلى الأخص ما نشروا من رسائل ومقالات تحت أسماء مستعارة غالبا دون خوف من الله أو حياء من الناس ومنها:"الرد على صلاة التراويح" والتعليق عليها، و"التقرير عن شرح العقيدة الطحاوية" و"رسائل أرشد السلفي" و"مقالات عبد الله ابن عبد الجبار العلي" و"لعبة
…
د. محمد راتب قولي" و"الرسائل التسع" و"الأمة العربية في تحقيق معركة الذات" و"دراسات تاريخية" و"حديث المزارعة عند أبي داود" و"رسائل أبي نوفل" و"ويلك آمن"
…
إلخ. ولتفصيل ذلك مكان آخر إن شاء الله. زهير الشاويش.
الفصل الخامس
الأستاذ من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه، ومن مقلدي المتكلمين، ومن المجارين لكتاب العصر إلى حد ما وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات، ودربة على التمحل في ردها، وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها.
أما أهل الرأي فهذه بدايتهم في (الصحيح) عن أبي هريرة قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والله الموعد، إني كنت امرءاً مسكيناً أصحب رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
…
» ومن تتبع السيرة والسنة علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسألة وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان، ثم كان معظم أصحابه لا يحدثون بالحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلا عندما تدعو الحاجة، ومن لازم ما تقدم مع احتمال نسيان بعضهم أو موته قبل أن يخبر بالحديث أن يكون كثير من السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة، ثم تفرق الصحابة في الأقطار فمنهم من هو في باديته ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كل جهة أحاديث من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر - كما روي عن مالك - ثم اجتهد أصحاب الحديث في
جمع السنة من كل وجه. وقد علم من الشريعة أنه ليس على العالم الإحاطة بالعلم كله، وأن من شهد له أهل العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاء أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليل فإن لم يجد وعرف أن لبعض الصحابة قولاً في تلك المسألة لم يعلم له مخالفاً أخذ به وإن علم خلافاً رجح، فإن لم يجد قول صحابي ووجد قول تابعي ممن تقدمه لم يعلم له مخالفاً فيه أخذ به وإن علم خلافاً رجح.
وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالم قول من كان ببلده من الصحابة أو التابعين لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق هذا مع ما للإلف والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئاً مما تقدم اجتهد رأيه وقضى وأفتى بما يظهر له.
ثم إذا قضى أو أفتى مستنداً إلى شيء مما تقدم ثم وجد دليلاً أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقاً أخذ من حينئذ بالأقوى. على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم كما هو مبسوط في مواضعه ومنها (إعلام الموقعين) .
وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصاً، وكان منهم من يتوسع في ذلك، ثم نشأ من أهل العلم ولا سيما بالكوفة من توسع في ذلك، وتوسع في النظر في القضايا التي لم تقع وأخذوا يبحثون في ذلك ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك، واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبين وغير ذلك، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:«إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم» راجع (إعلام
الموقعين) طبعة مطبعة النيل بمصر ج 1 ص 62 وراجع (كتاب العلم) لابن عبد البر.
فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم فيه لمخالفتهم ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس) ، فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بداً من الأخذ به، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها إتباعا، وتلك التي ردوها مع قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم ربما أخذوا بشيء من النقل ثم بلغهم من السنة ما يخالفه أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح فقنعوا بالرأي كما ترى أمثلة لذلك في قسم الفقهيات ولا سيما في مسألة ما تقطع فيه يد السارق. وهذا ديدنهم وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم.
ولهذا بينما تجد الحنفية يتبجحون بأن مذهب أبي حنيفة وسائر فقهاء العراق تقديم الحديث الضعيف على القياس. وقد ذكر الأستاذ ذلك في (التأنيب) ص 161، إذا بهم يردون كثيراً من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها آراء سلفهم وآراءهم التي أخذوا بها، وقد كان الشافعي ينعى عليهم ذلك، ومن كلامه كما في (سنن البيهقي) ج 1 ص 148:«والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض ولكنه يتبع الآثار، فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميداً، ولكنه يرد منها الصحيح الموصول المعروف ويقبل الضعيف المنقطع» .
فالحنفية يعرفون شناعة رد السنة بالرأي ولكنهم يتلمسون المعاذير فيحاولون
استنباط أصول يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث التي ردوها بعذر سوى مخالفة القياس وسوى الجمود على إتباع أشياخهم، ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطرد لهم لأن أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها ولهذا يكثر تناقضهم، وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم بل من تدبر ما كتبوه في أصول الفقه بان له كثير من التناقض، كما ترى المتأخر منهم يخالف المتقدم حتى أن الأستاذ الكوثري ذكر في (التأنيب) ص 152 - 153 عدة أصول لمحاربة السنن الثابتة ومنها ما خالف فيه من تقدمه منهم، ولما تعقبته في (الطليعة) ص 102 في قوله:«عنعنة قتادة متكلم فيها» بأن الحديث في (صحيح البخاري) وفيه «حدثنا قتادة حدثنا أنس
…
» وفي مسند أحمد وفيه «أن قتادة أن أنساً أخبره
…
» أجاب في (الترحيب) ص 49 بقوله من مذهب أبي حنيفة أيضاً كما يقول ابن رجب في (شرح علل الترمذي) رد الزائد إلى الناقص في الحديث متناً وسنداً. وهذا احتياط بالغ في دين الله
…
فهل عرفت الآن يا معلمي مذهب الإمام لتقلع عن نسج الأوهام» (1) .
هذا والأستاذ يعلم أولاً أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يكفي في إثباتها قول رجل حنبلي بينه وبين أبي حنيفة عدة قرون!
ويعلم ثانياً ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا.
ويعلم ثالثاً أن قول الراوي: «قتادة عن أنس» وقوله مرة أخرى أو قول غيره: «قتادة حدثنا أنس» ومرة أخرى: «قتادة أن أنساً أخبره» ليس من باب النقص والزيادة وإنما هو من باب المحتمل والمعين أو المجمل والمبين.
ويعلم رابعاً أن أصل الحنفية الاحتجاج بالمنقطع، فما لم يتبين انقطاعه بل هو متردد بين الاتصال والانقطاع أولى، فإذا ثبت مع ذلك اتصاله من وجه آخر فآكد.
ويعلم خامساً أنه لا ينبغي له أن يدافع عن نفسه بإلقاء التهم على إمامه.
(1) يلاحظ أن العلامة المعلمي يخاطب الكوثري بـ: (الأستاذ) ، و (العلامة)
…
والكوثري يخاطبه بهذه الجلافة. زهير
فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يموه به الأستاذ فالتحري البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث فلا نعيده.
هذا وحديث الرضخ سيأتي بسط الكلام فيه في الفقهيات إن شاء الله تعالى.
والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه بل أربى عليهم جميعاً كما تراه في (الطليعة) ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى.
وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافة فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيراً.!
وأما المتكلمون فأول من بلغنا أنه خاض في ذلك عمرو بن عبيد، ذكر له حديث يخالف هواه، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمرو «لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا» (1) وتعدى إلى القرآن فقال في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} . «لم يكونا في اللوح المحفوظ» كأنه يريد أن الله تبارك وتعالى لم يكن يعلم بما سيكون من أبي لهب ومن الوحيد. ثم كان في القرن الثاني جماعة ممن عرف بسوء السيرة والجهل بالسنة ورقة الدين كثمامة بن أشرس والنظام والجاحظ
(1) ساقه الذهبي في ترجمة عمرو بن عبيد في «الميزان» مساق المسلمات. ن
خاضوا في ذلك كما أشار إليه ابن قتيبة وغيره، وجماعة آخرون كانوا يتعاطون الرأي والكلام يردون الأخبار كلها، وآخرون يريدون أخبار الآحاد أي ما دون المتواتر، كسر الله تعالى شوكتهم بالشافعي حتى أن شيوخه ومن في طبقتهم من الأكابر كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي انتفعوا بكتبه قال الشافعي في (الأم) ج 7 ص 250 «باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها» ثم ذكر مناظرته لهم. ثم قال بعد ذلك:«باب حكاية قول من رد خبر الخاصة» فذكر كلامه معهم. وبسط الكلام في ذلك في (الرسالة) ، وفي (كتاب اختلاف الحديث) .
ثم كانت المحنة وويلاتها وكان دعاتها لا يجرؤون على رد الحديث وسيأتي في ترجمة علي بن عبد الله بن المديني بعض ما يتعلق بذلك، ثم جاء محمد بن شجاع بن الثلجي فلم يجرؤ على الرد وإنما لفق ما حاول به إسقاط حماد بن سلمة كما يأتي في ترجمة حماد إن شاء الله تعالى، وجمع كتاباً تكلف فيه تأويل الأحاديث وتبعه من الأشعرية ابن فورك في كتابه المطبوع ثم اشتهر بين المتكلمين أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل ونحوها من الاعتقاديات وصرحوا بذلك في كتب الكلام والعقائد كالمواقف وشرحها، والأمر أشد من ذلك كما يأتي في الاعتقاديات إن شاء الله تعالى. والأستاذ يدين بالكلام ويتشدد. ومع هذا كله فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمين لم يقدموا على اتهام الرواة الذين وثقهم أهل الحديث، وإنما يحملون على الخطأ والغلط والتأويل وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي والمقلدين، أما الأستاذ فبرز على هؤلاء جميعاً!
وأما كتاب العصر فإنهم مقتدون بكتاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإسلاميات ونحوها وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منه.
فمن الموانع التدين والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة وقد قال سبحانه {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} وفي
(الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «علامة المنافق ثلاث وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا أتمن خان وإذا وعد أخلف» وإخلاف الوعد أغلب ما يكون إذا كان الوعد كذباً، والخيانة تعتمد الكذب كما لا يخفى.
وقال أبو بكر الصديق «الكذب مجانب للإيمان» (1) فأما توهم حل الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة لأن حظر الكذب مطلقاً هو من أظهر الأحكام الشرعية. وأولئك الكتاب لا يعرفون هذا المانع لأنهم لا يجدونه في أنفسهم ولا يجدون فيمن يخالطونه من تقهرهم سيرته على اعتقاد اتصافه بهذا المانع لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين. ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ (الأغاني) ونحوها وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة، كان فجرة الإخباريين يضعون تلك الحكايات لأغراض منها دفع الملامة عن أنفسهم - يقولون ليس هذا العيب خاصاً بنا بل كان من قبلنا كذلك حتى المشهورون بالفضل. ومنها ترويج الفجور والدعاية إليه ليكثر أهله فيجد الداعي مساعدين عليه ويقوي عذره. ومنها ترغيب الأمراء والأغنياء في الفجور وتشجيعهم عليه ليجد الدعاة المتأدبون مراعي خصبة يتمتعون فيها بلذاتهم وشهواتهم. ومنها التقرب إلى الأمراء والأغنياء بالحكايات الفاجرة التي يلذ لهم سماعها إلى غير ذلك. وما يوجد في تلك الكتب من الصدق إنما يصور طائفة مخصوصة كالأمراء المترفين والشعراء والأدباء ونحوهم. ولو عكف أولئك الكتاب على كتب السنة ورجالها وأخبارهم لعلموا أن هذه الطائفة وهي طائفة أصحاب الحديث كان ذلك المانع غالباً فيهم. وقد احتج بعضهم بما في (الأغاني) في أخبار عمر بن أبي ربيعة
(1) أخرجه أحمد بسند صحيح. ن.
من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت (وهو عبد العزيز بن عمران) عن محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه قال قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام
…
» ولو راجع تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث وفكر في أحوالهم وفي حال القصة لعلم بطلان القصة حتماً.
ومن الموانع خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكتاب يعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر المادي فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفاً من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم. بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالباً وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق بل لعلها تتعطل الأسواق فليتدبر القارئ ذلك. فأما الشطر المعنوي فإن أولئك الكتاب لا يقدرون قدره فأقول: كان العرب يحبون الشرف ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل وفي أوائل (صحيح البخاري) في قصة أبي سفيان بن حرب أن هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بمن كان بالشام من تجار قريش فأتى بأبي سفيان ورهط معه قال «ثم دعاهم ودعا ترجمانه وقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسباً، قال أدنوه مني وقربه أصحابه فجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم أني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبه قال: فوالله لولا الحياة من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه قال ابن حجر في «فتح الباري» : وفي قوله يأثروا دليل دون قوله يكذبوا دليلاً على أنه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه ترك ذلك استحياءً وأنفة من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذاباً وفي رواية ابن اسحق التصريح بذلك» أقول وهذا هو الذي أراده هرقل ثم جاء الإسلام فشدد في تقبيح الكذب جداً حتى قال الله عز وجل {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً كذب عليه فبعث علياً والزبير وقال «أذهبا فإن
أدركتماه فاقتلاه» . (1)
وتوهم رجل من صغار الصحابة أمراً وأخبره بما توهمه وما يقتضيه ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة إذ أنزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، ثم كان الصحابي يرى إكرام التابعين له وتوقيرهم ويبجلهم ما لا يخفي أثره على النفس ويعلم أنه إن بان لهم من أنه كذب كذبة سقط من عيونهم ومقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمناً وإنما كان منافقاً.
وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال ودام ذلك زماناً ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث، وكان التابعون إذا سمعوا حديثاً من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة ولم يبلغنا أن أحداً منهم كذب صاحبه غاية الأمر أنه قد يخطئه، وكان المهلب بن أبي صفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رخص فيه للمحارب من التورية الموهمة فعاب الناس عليه ذلك حتى قيل فيه:
أنت الفتى كل الفتى
…
لو كنت تصدق ما تقول
ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشح لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائباً في الطلب والحفظ والجمع ليلاً ونهاراً ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان ويقاسى المشاق الشديدة كما هو معروف في أخبارهم ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه، وفي (تهذيب التهذيب) ج 11ص 183 «قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: «كنت قاضياً وأميراً
(1) أخرجه الطحاوي في «مشكل الإثارة» (1/ 164- 165) من حديث بريده، والطبراني في «طرق حديث من كذب علي» (ق 47/ 1) من حديث عبد الله بن الحارث، وفي «المعجم الكبير» عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي «الأوسط» وعنه الضياء في «المختارة» عن عبد الله بن عمرو. ن
ووزيراً ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (1) من ذكرت؟ رضي الله عنك» وفيه ج 6 ص 314: «روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب مالي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني» وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبعوا بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا أنه كذاب كذب على البغلة بإيهامها أن المخلاة شعيراً والواقع أنه ليس فيها شيء. وفي (تهذيب التهذيب) ج 11ص 284 «وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام فكنت أول من بكر عليه فسألته أن يملي علي شيئاً فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا؟
…
فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين:«قدم علينا عبد الوهاب ابن عطاء فكتب إلى أهل البصرة: وقدمت بغداد وقبلني يحيى ابن معين والحمد لله»
فمن تدبر أحوال القوم بان له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب، كما أنه من تدبر كثرة ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه وتدبر تعنت أئمة الحديث بان له أنه
(1) كان إذا كثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيت يسمع إملاء الشيخ الحديث ويستفهمه فيما يخفي ثم يعيد بصوت عال ليسمعه الحاضرون فهذا الرجل يقال له المستملي.
وأحيانا يكون أكثر من واحد، كما يروى عن مجالس وعظ ابن الجوزي حيث يحضرها أكثر من ثلاثين ألفاً. - زهير
ليس العجب ممن جرحوه بل العجب ممن وثقوه.
ومن العجب أن أولئك الكتاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا بل في وقائعهم اليومية فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق فيثقون بخبره ولو كان مخالفاً لبعض ما يظهر لهم من القرآن بحيث لو كان المدار على القرائن لكان الراجح خلاف ما في الخبر، ويعرفون آخر بأنه لا يتحرز عن الكذب فيرتابون في خبره ولو ساعدته قرائن لا تكفي وحدها لحصول الظن، وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها فمن الصحف ما تعود الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن، وفيها ما هو على خلاف ذلك. وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائمة على الأخبار الظنية، ولو التزم الناس أن لا يعملوا بخبر من عرفوا أنه صدوق حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره لاستغنوا عن الأخبار بل لفسدت مصالح الدنيا.
ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكتاب من الحق ولكني أقول: ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظناها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن أليس يكثر فيها الخطأ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم وطباع أهله وأغراضهم وسهو لة الإطلاع على العلامات والقرائن، فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع العمر ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع، ثم يقع، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح. والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم، فأما التي مضت عليها قرون والباحثون عنها قليل فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متديناً محترساً من الهوى، على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكتاب بل كثيراً ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره ويحاول اصطناع خلافها وسد الفراغ بالتهويل والمغالطة كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب وأسال الله لي وله التوفيق.