الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الأول
الفاتحة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين (1) الرحمان الرحيم (2) مالك يوم الدين (3) إياك نعبد وإياك نستعين (4) اهدنا الصراط المستقيم (5) صراط الذين أنعمت عليهم (6) غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
هذا نص هذه السورة الجليلة ويحسن بنا أن نضع - يا أخي القارئ المسلم - أمامك مختصراً لتفسيرها حتى يسهل علينا جميعاً
…
بيان وجه التوسل الذي يكون بين طيات هذه السورة الكريمة.
لقد اشتملت أم الكتاب - وهي سبع آيات - على حمد الله والثناء عليه وتمجيده وأفراده بالعبادة والاستعانة فلا يعبد إلا هو ولا يستعان بأحد سواه فلما تقدم الحمد والثناء والتمجيد وإفراده بالعبادة والاستعانة ناسب أن يعقب بعد ذلك
…
بالسؤال والدعاء منه تعالى بالهداية إلى الصراط المستقيم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
[قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل .. فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: (مالك يوم الدين) قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال:
(إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل]
فقوله تعالى: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) أي قسم سورة الفاتحة نصفين نصف له سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى في النصف الأول:
(الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين) أي هذا النصف الأول هو لله تعالى وذلك لأن العبد حمد الله تعالى وأثنى عليه بحمده وحصر العبادة والاستعانة فيه وحده لا شريك له.
فأما الحمد فهو خالص دون كل ما برأ من خلقه على النعم الظاهرة والباطنة فاستغرق جميع أنواع الحمد وصنوفه لله تعالى وهذا الحمد إنما هو عمل صالح من العبد فلما حمده كان حمده هذا من أجل الأعمال الصالحة وأي عمل صالح أعظم من حمد رب العالمين المالك المتصرف في كل ما خلق في جميع عوالم السماوات والأرض وما بينهما على اختلاف أجناس هذه المخلوقات وأصنافهم مما نعلم وما لا نعلم وما الله به أعلم. فلا شك أنه الحمد الذي استغرق جميع أنواع الحمد لله سبحانه ولا ريب أنه من أجل أنواع الأعمال الصالحة.
ثم أثنى العبد على ربه باسميه: (الرحمن الرحيم) المشتقين من صفة الرحمة التي هي صفة له جل وعلا هذه الرحمة عامة لجميع خلقه. وإنما وصف الله نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله: (رب العالمين) ليكون من باب بعد الترهيب فـ (الرحمن الرحيم) فيه ترغيب جاء من بعد (
…
رب العالمين) الذي فيه ترهيب وذلك مطابق للآية: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) 49 - الحجر
ثم مجد العبد ربه فقال: (مالك يوم الدين) أي أنه تعالى وحده المالك يوم القيامة لا يملك معه أحد ذلك اليوم كملكهم في الدنيا إذ يجوز في الدنيا أن يقول أحد ما: هذا ملكي .. هذا ما لي
…
أما يوم القيامة، ليس لأحد ملك ولا مال ولما قدموا على خالقهم .. لم يقدموا عليه بأموال ولا أملاك
بل جاءوه فرادى كما خلقهم أول مرة
…
والملك يومئذ لله الواحد القهار.
فعندما يقول العبد: (مالك يوم الدين) إنما يمجد الله تعالى بأنه الملك والمالك وليس لأحد ملك معه.
وإنك لترى يا أخي أن صبغة: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين جاءت بصيغة الغائب ولكن لما تلاها العبد: فحمد الله وأثنى عليه ومجده فقرب منه لأن هذا الحمد والثناء والتمجيد لمما يقرب إلى الله تعالى .. فلما قرب العبد من ربه فكأنه صار أمامه تماماً فناسب أن يخاطبه بصيغة المخاطب فقال: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن رب العالمين ورب كل شيء والرحمن الرحيم بجميع عباده ومالك يوم القيامة وحده لا شريك له وملكيه .. يستحق أن يعبد وحده وأن يستعان به وحده. إذا هو معبود بحق فلا يملك غير هذه الصفات العلى ولا ينادي غيره بهذه الأسماء الحسنى فصاحب هذه الأسماء والصفات إله عظيم يحق أن تصمد له العبادة وحده وأن يستعان وحده في كل شيء
…
فمن كانت له تلك الصفات الكاملة
…
يستحق إفراده بالعبادة وحده لا شريك له.
وإنك با أخي لتلاحظ في قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) أنه قدم العبادة على الاستعانة لأن العبادة هي الغاية وأن الاستعانة هي الوسيلة إليها فإذا لم يعن الله عبده على طاعته ولم يطلب العبد إعانته على ذلك لا تحصل منه تمام العبادة .. أي إننا إذا لم نجعل طلب الإعانة من الله وحده لا تكون العبادة خالصة له.
وهكذا فإن العبد بقوله (إياك نعبد وإياك نستعين إنما حصر العبادة والاستعانة بالله وحده فـ (إياك نعبد) تبرؤ من الشرك (وإياك نستعين) تبرؤ من الحول والطول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل.
لا شك يا أخي القارئ الكريم في أنك مقتنع معي أن النصف الأول من الفاتحة هو لله تعالى خاصة .. لأنه مشتمل على الحمد له والثناء عليه والتمجيد لذاته العلية وإخلاص العبادة له واقتصار الاستعانة عليه.
أما النصف الثاني منها: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فإن هذا النصف الثاني هو للعبد
…
لأنه يسأل الله فيه الهداية إلى الصراط المستقيم أي صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً غير صراط الذي غضب الله عليهم الذين عرفوا الحق ومالوا عنه إلى الباطل وهم يعلمون أنه باطل!!! وهم اليهود وكل من شابههم من الأقوام الآخرين
…
الذين عرفوا الحق وأنكروه وكانوا حرباً عليه وعلى أهله وغير الضالين الذين لم يعرفوا الحق ولم يهتدوا إليه ولا فتشوا عنه بل تخطبوا في كل مهمه
…
وتاهوا في كل فقر فضلوا سبيل الحق لأنهم لم يسلكوا الطريق إليه وهم النصارى .. ومن شابههم من الأقوام الذين ضلوا سواء السبيل ولم يسلكوا طريق الحق ليوصلهم إليه فظلوا في ضلالهم يعمهون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
هذه سورة الفاتحة الجليلة وضعتها بشطريها أمام ناظريك يا أخي الحبيب في الله موجزاً تفسيرها لك تأكدت معي من أن الله تعالى أرشدنا فيها إلى التوسل إليه جل جلاله بحمده والثناء عليه وتمجيده وبإخلاص العبادة إليه والاستعانة به وحده لا شريك له فلما قدم العبد كل لربه تبارك وتعالى متوسلاً إليه بحمده والثناء عليه وتمجيده وإفراده بالعبادة
…
ناسب أن يعقب بالسؤال وطلب حاجته وما حاجته إلا يهديه الصراط المستقيم فقال: (اهدنا الصراط المستقيم) إذا فإنه لم يدع قبل أن قرب عملاً صالحاً يكون له وسيلة لقبول الدعاء
…
وإنه لم يدع إلا لأنه يعلم يقيناً أنه لا يهديه الصراط المستقيم إلا وحده لا شريك له
…
فرفع إليه الدعاء
…
موقناً بالإجابة ثم أوضح مطلبه عن نوعية هذا الصراط المستقيم الذي يحصر رغبته بالهداية إليه فقال: (صراط الذي أنعمت عليهم) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
…
الذي سبقونا بالإيمان
…
ونهجوا في حياتهم المنهج القويم والصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف أي (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) أي غير صراط المغضوب
عليهم الذين استحقوا الغضب من الله لانحرافهم - على علم - عن الحق الذي وضح لهم
…
ولا صراط الضالين الذين تاهوا وضلوا بمتاهات بعدت بهم عن الحق ويحسبون أنهم على الهدى.
أن هذا الدعاء الواضح من جميع جوانبه
…
والذي هو كلام الله الذي علم به عباده المؤمنين أن يدعوه به بعد تقديم التوسلات المشروعة التي سبقته، من حمد وثناء وتمجيد وإخلاص العبادة والاستعانة له لدعاء عرف كل من يدعو به كيف الحق لأهله
…
أي علم أنه لن يهديه إلى الصراط المستقيم إلا الله ولن يجنبه مزالق الزلل ومهاوي الغضب إلا الله تعالى وتقدس.
فحق لهذا الداعي من ربه أن يستجيب دعاءه ويهديه إلى الصراط المستقيم وهذا الحق .. إنما هو حق أحقه الله على نفسه
…
تفضلاً منه وتكريماً وامتناناً جل جلاله لا إله غيره ولا رب سواه.
على أن هذه السورة الكريمة
…
على فضلها وجلالتها ووضوحها ودلالتها غرب عن أذهان ((بعض الناس .. !!؟)) وما فيها من معاني التوسل إلى الله تبارك وتعالى الذي يحض هو على العمل به التوسل به إليه.
وغاب عن عقولهم ما يلفت الأنظار إلى ضرورة انتفاع قارئيها منها وما تدل عليه من الخير الذي من جملته هذه التوسلات العظيمة
…
المفضية إلى استجابة الدعاء فعشوا عما فيها من هذا الخير
…
وعمهوا عنه
…
رغم أنهم يرددونها في صلواتهم مرات عديدة .. !!! كأن المراد من قرائتها .. سرد حروفها وألفاظها فحسب دون إمعان النظر في معانيها ومعرفة ما يتضمن هذا القول الحكيم من تعيين مراد الله من هذه السورة الكريمة المباركة.
تركوا ما فيها من توسلات كريمة يلجون بها إلى رحاب عفو ورحمته ومغفرته
…
وتعلقوا بتوسلات غير مشروعة!!! فضلوا
…
وأضلوا
…
وذهبوا يحملون أوزارهم وأوزار من أضلوهم
…
ولا أدري إذا كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!!؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الدليل الثاني
لا شك في أن من المعلوم لديك يا أخي .. أنه ليس في الفاتحة وحدها إرشاد إلى هذه التوسلات فحسب بل أن كتاب الله مليء بمثل هذه الإرشادات والأمثلة على التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة.
وإليك يا أخي أدلة وأمثلة عديدة من القرآن الكريم وآياته الخالدة بما يثبت لك ذلك:
قال الله تعالى في كتابه العزيز:
وإذ يرف إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128)
…
البقرة
أمر الله تعالى عبده ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يبني بيته في مكة فذهب إليها .. ولما وصل .. رأى ابنه إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من زمزم فلما رآه قام إليه وصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: با إسماعيل إن الله أمرني بأمر .. قال فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
فعند ذلك رفعا القواعد من البيت
…
فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني. حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر (1) فوضعه له فقام عليه
(1) وهو الحجر الذي كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة وهو نفسه مقام إبراهيم الذي قال الله فيه: ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى))
وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).
تعال يا أخي القارئ المسلم ولنقف قليلاً
…
ونستعرض هذا العمل العظيم
…
خطوة خطوة .. نر الامتثال لأمر الله في كل خطوة بارزة فيه أخلاق النبوة من الطاعة والتنفيذ .. دون أي زمن يفصل بين الأمر والطاعة
1 -
تنفيذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر ربه ببناء البيت وبسفره فوراً من فلسطين إلى مكة.
2 -
قول إبراهيم: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر
…
ولم يسمه له وجواب إسماعيل فوراً: فاصنع ما أمرك ربك دون أن يسأله عنه.
3 -
قول إبراهيم: وتعنني عليه
…
؟ وجواب إسماعيل فوراً: وأعينك.
4 -
مباشرتهما بالعمل: إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة.
إنها النبوة الجليلة السامية تظهر واضحة جلية هكذا النبي ينفذ أمر ربه دون بحث أو سؤال عن نوع هذا الأمر .. وهكذا فإن أمر الله يجب تنفيذه فوراً .. دون السؤال عن الحكمة منه ما دام صادراً عن الحكيم العليم. هكذا كان موقف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
بعد أن استعرضنا وإياك .. هذه المراحل الأربعة القولية والعملية لهذين النبيين والرسولين الجليلين .. فكر يا أخي بهذا العمل وشكل تنفيذه
…
أتراه عملاً صالحاً أم لا
…
؟ لا ريب أنك ستجيب فوراً: أكرم وأعظم به من عمل صالح عظيم كريم جليل وكيف لا
…
وهو تنفيذ أمر الله تعالى بعمارة بيته المحرم الذي جعل أفئدة من الناس تهوي إليه أجل أنه عمل صالح لا من آحاد الناس
…
بل من أبي الأنبياء إبراهيم وبكره النبي الرسول إسماعيل جد خير الأنبياء محمد صلى الله عليهم أجمعين.
وخليق ببناء بيت الله، العمل الصالح العظيم أن يرفعاه وسيلة صالحة طيبة إلى جانب الله تبارك وتعالى وتقدس يتقربان إليه عز وجل.
با شرا به فعلاً
…
ثم ابتهلا إليه عز شأنه: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
سألاه: أن يجعلهما مستسلمين إليه عز وجل في كل أمورهما ويجعل من ذريتهما أمة مسلمة مستسلمة له وأن يعلمهما مناسكاً وأن يتوب عليهما إنه هو التواب الرحيم.
أرأيت يا أخي المسلم الكريم: كيف أن هذين النبيين الرسولين الجليلين لم يدعوا الله قبل أن يقدما له وسيلة إليه من العمل الصالح
…
وهو بناء بيته العظيم.
فإذا كان هذان النبيان الرسولان الجليلان لم يدعوا إلى الله عز وجل إلا قربا إليه وسيلة من عملهما الصالح
…
أفر يجدر بنا ونحن الذين استجيبت فينا دعوتهما فكنا أمة مسلمة من ذريتهما أن نتخذها لنا أسوة حسنة وقدوة صالحة فيما فعلاه من تقديم إلى الله بالعمل الصالح فنسعى جاهدين أن يكون لنا دائما عمل صالح .. نتوسل به إلى الله جل جلاله كما فعلا عليهما الصلاة والسلام.
ولعل ذكر قصتهما هذه في القرآن حض من الله تعالى على التأسي بهما عليهما أفضل الصلاة والسلام اللهم نحن على ملة إبراهيم اللهم فثبتنا عليها إلى أن نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين.
(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفياه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين).
…
(130) البقرة
الدليل الثالث
قوله تعالى:
لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (284) ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285) لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)
…
البقرة
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال [لما نزلت على سول الله صلى الله عليه وسلم:
(لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبيدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد
والصدقة وقد أنزلت هذه الآية لا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) فلما أقر بها القوم ونطقت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل سبحانه: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)] رواه مسلم، ولفظه: [
…
فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال: نعم، (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قال: نعم (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قال: نعم (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال: نعم] وفي رواية ابن عباس: [قد فعلت]
يتضح من الآيات الثلاث خواتيم سورة البقرة
…
ومن حديث الإمام أحمد ولفظ مسلم: أنه شق على المسلمين أن يحاسبوا حتى على أحاديث النفس الخفية
…
فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصارحوه بأنهم لا يطيقون ذلك.
لنقف هنا هنيهة
…
لنرى تأديب الرسول الأعظم لأمته ونصحه المحض لها .. ولننظر كيف أدبهم
…
قال عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي: [أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا
…
؟!!! بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
هكذا الراعي الصالح والرسول الأمين يمحض النصح والتأديب لأمته ولولا هذه النصيحة المخلصة المحضة لهلك المسلمون من قولتهم: هذه آية لا نطيقها!!!
بأبي أنت وأمي يا رسول الله
…
أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة فجزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
أجل علمهم صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون: (سمعنا وأطعنا
…
) فلما أقر بها القوم ونطقت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون
…
) هذه نتيجة لقولهم: سمعنا وأطعنا
…
وهذا هو شاهدنا من هذا الحديث أي قولهم سمعنا وأطعنا
…
أجل سمعوا قول الله تعالى: (
…
وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) ثم أطاعوا كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قولك بقوله: سمعنا وأطعنا أليس هو عملاً صالحاً
…
؟
أجل
…
إنه عمل صالح وأي عمل صالح أعظم من السمع والطاعة
…
؟
وهل الدين إلا سمع وطاعة .. ؟ السمع: أي استماع الأمر من آمره عز وجل والطاعة: تنفيذ هذا الأمر بحذافيره دونما زيادة أو نقصان إذا: فالسمع والطاعة جماع العمل الصالح أو هو الدين كله
…
وما الدين إلا الأوامر والنواهي والائتمار والانتهاء
…
وهكذا فإنهم قدموا هذا العمل الصالح، وهو قولهم: سمعنا وأطعنا ثم عقبوا بالدعاء فقالوا: (ربنا إنك ربنا) أي نطلب المغفرة منك يا رب مما أخطأنا بقولنا: هذه آية لا نطيقها
…
وإنك لترى يا أخي المسلم إنهم لم يرفعوا الدعاء إلى الله بالمغفرة وإلا قدموا بين يدي دعائهم وسيلة بالعمل الصالح وهو: (سمعنا وأطعنا) ثم رفعوا دعاءهم (غفرانك ربنا وإليك المصير).
ما ظنك يا أخي برب يستغفره عبده مخلصاً تائباً منيباً مقراً بذنبه راجعاً عنه إليه أتراه يطرده من رحمته!!!؟ أم يتقبل دعاءه ويغفر ذنبه
…
؟ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم) 53 - الزمر. أجل
…
إنه تقبل دعاءه وغفر ذنبه.
وهنا أخبر الله تعالى أنه على بما دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه الأبرار رضي الله عنهم من الحديث
…
تعليم رسول الله لهم، تعليمه منه سمعهم وطاعتهم واستغفارهم فقال جل وعلا:(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد م رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). ثم نسخ ما أنزل
من قوله تعالى: ( .. وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وهذا لا شك تخفيف عن عباده فهو الذي خلقهم وهو الذي يعلم تحملهم إنما أنزل الآية الأولى اختباراً لهم
…
أيقولون سمعنا وأطعنا أم يقولون: سمعنا وعصينا؟ وهو ولا شك أعلم بما سيقولون قبل إنزال الآية
…
ولكنه أنزلها حتى تكون سبباً في تعليمهم ماذا يقولون
…
وهكذا كان
…
فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يرفعوا دعاء للرب تبارك وتعالى أن يقدموا بين يدي دعائهم توسلاً بالعمل الصالح ففعلوا
…
فنسخ الله آية الاختبار بآية التكليف بالوسع وأنه لا يثيب أحداً إلا بما كسبه من عمل صالح ولا يعاقبه إلا بما يجترحه من العمل السيء وهذا هو الفضل والعدل. (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ثم شرع الله تعالى يعلم عباده كيف يتضرعون إليه عز وجل فقال عز من قائل: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).
وفي هذه المناسبة الجليلة أذكرك يا أخي المسلم أن هذه الآيات هي خواتيم سورة البقرة التي عناها صلى الله عليه وسلم بقوله: [أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش] رواه أحمد عن أبي ذر.
والخلاصة فإنه يتضح مما تقدم كيف يعلم الله ورسوله المؤمنين الدعاء وأياً من الدعاء يكون مستجاباً
…
وهو الذي سبقه توسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة من السمع والطاعة والتوبة إليه سبحانه. ثم يلفت أنظارنا إلى أن الدعاء المستوفى في شروط القبول، يكون مقبولاً وأحياناً يقبل فوراً .. فما علينا نحن المسلمين لو تمسكنا بهدي الله رسوله صلى الله عليه وسلم وتقيدنا بتعاليمهما التقيد التام طالما نعتقد أنه لا مجيب للدعاء إلا هو سبحانه ونتمسك حرفياً بما أنزل دون أن نجتهد في أمره .. ! ويؤدي بنا هذا الاجتهاد إلى نسخ أمره
بأهواء ابتدعناها من عند أنفسنا
…
!!! وهي: أن نتوسل إليه بأحد مخلوقاته دون العمل الصالح بداعي أنه ليس لدينا عمل صالح ولا ندري إذا كانت أعمالنا مقبولة عند الله حتى نتوسل بها إليه
…
أرأيت يا أخي كيف يدخل الشيطان هذه الشبه علينا .. ؟ وبدلاً من أن نطرد وساوس الشيطان بالكتاب والسنة نسينا الكتاب والسنة وأحللنا مكانها هذه الوساوس التي سولها لنا اللعين فأطعناه وعصينا الله ورسوله ونحن من جهلنا نحسب أننا نحسن صنعاً
…
!!
ألا أن الخير والحق كل الحق أن نرجع إلى الوحيين كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعود إلى تعاليمهما والاكتفاء بهما
…
فإذا عدنا إلى أحكامهما وقارناها بواقعنا الذي نحن فيه نتأكد تماماً كنا على الباطل ويحفزنا هذا التأكيد .. للرجوع إلى الحق بدل التمادي في الباطل وما بعد الحق إلا الضلال.
الدليل الرابع
قوله تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءآيات محكمات هن أم الكتاب وأهر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8)
…
آل عمران
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي واضحات لا التباس فيها ولا غموض على أحد ومنه آيات فيها اشتباه في الدلالة على الكثير من الناس أو بعض منهم فالأصل في ذلك رد المتشابهة إلى المحكم فمن فعل ذلك اهتدى ومن عكس انعكس.
هذه الآية الكريمة يعلمنا ويأمرنا فيها جل جلاله أن نؤمن بكل ما نزل إلينا منه تعالى محكماً كان أو متشابها ونقول: (آمنا به كل من عند ربنا) دون أن نؤول المتشابه تأويلاً يخرج عن مراد الله تعالى فنقع في الزيغ.
إن شاهدنا من هذه الآية الكريمة قوله تعالى فيها: (آمنا به كل من عند ربنا) هكذا قول الراسخين في العلم، والناس تبع لهم في ذلك لأن الله تعالى أخبرنا أن المتشابه لا يعلمه إلا هو والراسخون في العلم يقولون (آمنا به كل من
عند ربنا) أي آمنا بالمحكم والمتشابه أنهما من عند الله أنهما من عند الله ولا شك في أن هذا الإيمان الوصف الذي ورد، أي ما علمنا منه طبقناه وما لم نعلم أو كلنا علمه إلى الله تعالى نعم أن الإيمان بذلك هو عمل صالح عظيم ندبنا إليه سبحانه وحضنا عليه وأمرنا به فالخروج عن أمر الله زيغ حذرنا الله منه أي إذا أولنا المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله بما تراه أهواؤنا يكون ذلك سبيلاً إلى الزيغ لا محالة فحتى لا نقع فيه أمرنا أن نتوسل إليه تعالى بالإيمان به وبما أنزل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إلى أنه لا يعلم المتشابه إلا الله (وما يذكر إلا أولوا الألباب) أي ما يتعظ بأمر الله والإيمان بما نزل وأنه جميعه حق وصدق وما يفهمه ويعقله ويتدبر معانيه على مراد الله إلا أولو العقول السليمة والمفهوم المستقيمة.
فبعد أن علمنا الله تعالى التوسل إليه بإيماننا بمحكم آياته ومتشابهها أرشدنا إلى الدعاء بعد التوسل بقوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) ليكون دعاؤنا هذا مستجاباً فقد دعوناه متوسلين إليه بإيماننا بما أنزل في كتابه الكريم أن يثبت قلوبنا على هذا الإيمان ولا يزيعها بعد إذ هداها إلى الحق إنه هو الذي يهب القلوب هدايتها ويجنبها الزيغ والضلال لا يفعل ذلك إلا هو وحده لا شريك له. إنه هو الوهاب لا إله غيره ولا رب سواه.
أخي القارئ المسلم الحبيب: لا شك في أن كل داع إلى الله تعالى: يود ويرغب من صميمه أن يتقبل الله دعاءه ليحصل على ما يود ويرغب
…
ولكن هل كل من يدعو يستجاب له
…
؟ فلكي يكون دعاؤه مستجاباً عليه أن يتقيد باتباع الطريقة التي يرضى الله عنها في الدعاء.
وإن الداعي إلى الله تعالى على الطريقة الموافقة لإرشاده وهداه
…
يحصل ولا شك على نتيجتين طيبتين.
1 -
يحصل على رضاء الله عن عمله ويثيبه عليه
…
لأنه أخذ بالهدى الذي دله عليه.
2 -
يحصل على استجابة الدعاء فيحظى بالمطلوب الذي دعا الله من أجله.
أما الذي يهجر هدى الله في الدعاء
…
ويتوسل إلى الله بتوسلات ما شرعها الله ولا هدى إليها في كتابه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يحصل على نتيجتين عكسيتين تماماً.
1 -
عدم رضاء الله عنه فيما عمل
…
لأنه ابتدع في دعائه طريقة ليست من هدي الله تعالى ولا من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وإن عدم رضاء الله تعالى ولا من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وإن عدم رضاء الله يعني غضبه ولا شك أن الغضب مفض إلى العقاب فكما أن من أطاع الله فله ثواب فكذلك من عصاه فله عقاب والعياذ بالله من عقاب الله.
2 -
لا يستجاب دعاؤه
…
فلا يحصل على مطلوبه الذي دعا الله تعالى للحصول عليه لأنه من أطاع الشيطان وعصى الرحمن.
وعلى هذا
…
فإن الله تعالى لا يتقبل عملاً إلا إذا كان راضياً عنه ومصداق ذلك قوله تعالى: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه) وأن العمل وإن كان صالحاً في حد ذاته
…
لا يتقبله الله إلا إذا كان راضياً عنه ومن أجل ضمانة رضاء الله عنه يجب أن تكون مطابقاً لشيئين:
1 -
أن يكون مطابقاً لشرع الله تعالى ومصداقه (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
…
).
2 -
أن يكون خالصاً لوجهه تعالى لا يبتغي فيه من مخلوق شيئاً ومصداقه: (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى).
الدليل الخامس
قوله تعالى:
الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) آل عمران
يحسن بنا قبل أن نشرع بشرح الشاهد من هذه الآية الكريمة المستشهد بها في موضوعنا الذي نحن بصدده وبيان الحق من الباطل
…
أن نرجع إلى ذكر الآيتين اللتين قبل هذه الآية حتى يتسنى لنا ربط الموضوع وتسهيل فهم المقصود منه على القارئ المسلم الكريم.
قال تعالى:
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) آل عمران).
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الدنيا من أنواع الملاذ والشهوات من النساء والبنين. فبدأ بالنساء
…
لأن الفتنة بهن أشد ثم بالبنين ثم بالمال
…
من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام من الإبل والبقر والغنم والحرث أي الأرض للغرس وللزراعة.
ثم يخبر أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة. (قل أؤنبئكم
بخير من ذلكم) أي مما في الدنيا من تلك الملاذ والشهوات التي تقدم ذكرها
…
فإن الله تعالى قد أعد (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد).
أي أن الله تعالى قد أعد كل هذا النعيم الذي لا يفنى والملك الذي لا يبلى مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
…
كل ذلك للمتقين (الذي يقولون ربنا إننا آمنا) أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وما يستلزم هذا الإيمان من الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر.
والإيمان في حد ذاته عمل صالح بل هو أساس كل عمل صالح فلا عمل صالحاً بلا إيمان فلما صدر عنك الإيمان يا أخي
…
كان ولا شك عملاً صالحاً عظيماً كما أن صدور الكفر من العبد لا شك أنه عمل غير صالح.
فلما تقرب المتقون إلى ربهم بقولهم: (ربنا إننا آمنا) وتوسلوا إلى الله تعالى بإيمانهم
…
أصبحوا قريبين منه بما تقدم من الوسيلة الطيبة التي رفعوها إليه فناسب بعد هذا القرب منه تعالى أن يقدموا الدعاء الذي يرغبون فيه إليه فقالوا: (
…
فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) أي بسبب ما آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وجنبنا عذاب النار الذي لا يطاق إنك على كل شيء قدير.
إن هؤلاء الذين صدرت عنهم هذه التوسلات بإيمانهم وأعمالهم الصالحة شهد الله لهم بأنهم هم الصابرون على طاعتهم الصادقون في عقيدتهم وأعمالهم القانتون الخاشعون في عباداتهم المنفقون أموالهم في طاعة الله كما أمر والمشفقون على أنفسهم المستغفرون من ذنوبهم قليلة كانت أو كثيرة المتيقنون بأن الله وحده غافر الذنب وقابل التوب فاستغفروا وتابوا إليه في الأسحار وجوف الليل في أوقات تجلي الله على عباده فيغفر للمستغفرين ويتوب على التائبين.
هكذا
…
فإن الله تعالى أعطانا نماذج من أعمالهم وتوسلاتهم الصادقة الطيبة حتى نتأسى بها ونعمل مثلها .. فإنهم آمنوا وصبروا وصدقوا وأنفقوا وقنتوا ثم طلبوا المغفرة.
وإن الله تعالى يمتدحهم بهذه الصفات الطيبة ويهيب بنا أن نقتدي بهم. فكما أحب منهم هذه الصفات
…
كذلك فإنه تعالى يحبها منا أيضاً ومن كل عبد لنحصل على ما حصلوا عليه من الرضا والمحبة الخالدات والنعيم الذي لا يبلى.
فهيا يا أخي المسلم إلى هذا الميدان، ميدان الإيمان والعمل الصالح
…
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وأن صدر منك الذنب فتوسل إليه تعالى بما أسلفت من الطاعات والأعمال الصالحة الطيبة فإنه يغفر ذنبك ويقبل توبك
…
لأن الذي توسلت به إليه
…
إنما هو توسل شرعه لك وباب مفتوح لقبول إنابتك إليه فهيا يا أخي إلى تلك الرحاب الظليلة الوارفة وإلى روح وريحان ورب غير غضبان.
الدليل السادس
قوله تعالى:
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءآمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون (52) ربنا ءامنا بما أنزلت وتبعت الرسول فاكتبا مع الشاهدين (53)
آل عمران
يقول تعالى: (فلما أحس عيسى) أي استشعر من بني إسرائيل التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال. (قال من أنصاري إلى الله) أي من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ (قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).
الحواريون: جمع حواري وهو الناصر. والحواريون هم أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام الذين آمنوا به وعددهم اثني عشر رجلاً قالوا نحن أنصار الله كيف لا نكون أنصاره وقد آمنا به واشهد يا عيسى بأنا مسلمون ولا شك أن الإسلام هو دين الأنبياء ومن اتبعهم من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ثم وجهوا خطابهم إلى الله سبحانه فقالوا: (ربنا آمنا بما أنزلت) أي الإنجيل وهو كتاب الله الذي نزل على عيسى عليه السلام (واتبعنا الرسول) أي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام (فاكتبا مع الشاهدين) أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس رضي الله عنه وهذا كقوله تعالى: (وجعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) شهداء على الناس أي تشهدون للأنبياء يوم القيامة أنهم بلغوا رسالات ربهم
لأقوامهم والوسط هاهنا: الخيار وقد جعل الله أمة محمد وسطاً لما خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول: محمد وأمته قال: فذلك قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) قال: الوسط: العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم] رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق عن الأعمش ومن حديث لأحمد عن أبي سعيد الخدري: فيدعي محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا قوله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)]
أخي القارئ المسلم الكريم: وضعت أمامك تفسيراً مقتضباً للآيتين المتقدمتين لتأخذ فكرة عامة عن معناهما ثم أشرع في توضيح الشاهد منها في بحثنا وموضوعنا الذي نحن بصدد تحقيقه:
لنعد قليلاً إلى الآية: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا به واشهد بأنا مسلمون). إن قول الحواريين: نحن أنصار الله آمنا به) ألا ترى يا أخي في قولهم عملاً صالحاً .. ؟ أجل إنه عمل صالح. وما قولك يا أخي بنصرة الله ورسوله والإيمان بهما
…
؟ فإذا لم يكن ذلك عملاً صالحاً فأين هو العمل الصالح .. ؟ لا شك ولا ريب في أنه عمل صالح بل هو رأس العمل الصالح وأساسه أيضاً. ودليلنا قولهم لرسولهم: (واشهد بأنا مسلمون) أي واشهد على إيماننا وإسلامنا فشهادة رسولهم لهم بذلك هي شهادة حق بإيمانهم وإسلامهم وصدقهم في قولهم: (نحن أنصار الله آمنا به واشهد بأنا مسلمون) ثم توجهوا إلى ربهم سبحانه وقالوا: (ربنا آمنا بما أنزلت وتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) الذي يشهدون لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في جملة ما يشهدون للأنبياء -
أنه بلغ قومه رسالة الله.
وإنك لترى يا أخي
…
أنهم ما دعوا الله بهذا الدعاء
…
وإلا وقدموا بين يدي دعائهم توسلاً بإيمانهم بعبده ورسوله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وبما أنزل عليه من الإنجيل وبما اتبعوا به هذا الرسول الكريم فيما دعاهم إليه من أمر ونهي وكل ما تقدم إنما هو توسلات بأعمالهم الصالحة الخالصة لوجهه تعالى. ثم عقبوا على ذلك بدعائهم قائلين: (فاكتبنا مع الشاهدين) أي بسبب ما آمنا بك وبعبدك ورسولك المسيح عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه وبالإنجيل الذي أنزلته عليه وباتباعنا له فيما أمر ونهى
…
اكتبنا مع الشاهدين.
ولعلك أدركت يا أخي
…
أن الأنبياء والرسل جميعاً على منهج واحد في التوسل إليه تعالى فلم يخبرنا الله أن أحداً منهم توسل إليه بأحد الأنبياء الذين سبقوهم ولا توسلوا إليه بملائكته ولا بأحد من خلقه
…
بل توسلوا إليه بما شرع لهم من التوسل الذي يرضى عنه بل وأمر به عباده جميعاً.
فإذا كان الأمر كذلك
…
ونعلم أن الأنبياء والرسل وأعمال أصحابهم الذين اهتدوا بهديهم هي أحسن أعمال قاطبة فما علينا إلا أن نتخذ لنا من أعمالهم وسيرتهم الحسنة الطيبة نبراساً لنا وهدي نسير على أساسه في كل أمورنا
…
أفلا يكفينا ما كفى أولئك المصطفين من الناس وهم خيار الخيار وصفوة الخلق.
ولهذا فإن الله خصنا على ذلك
…
لنقتفي آثارهم ونتعقب خطاهم ونسلك ما سلكوه من الهدي والحق والخير وإنا إن شاء الله لفاعلون.
الدليل السابع
قوله تعالى:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فئاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)
…
آل عمران
لقد عاتب الله بهذه الآيات من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل فقال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) أي وكم من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينهم وذلك الصبر (والله يحب الصابرين).
لا شك أن الجهاد في سبيل الله تعالى من الأعمال الصالحة العظيمة التي تقرب صاحبها إلى الله سبحانه وإنه جل وعلا يعطينا أمثلة عن الذين كانوا يجاهدون مع أنبيائهم فقد يقتل نبيهم في سبيل الله إنما يبقى من بعده أصحابه يواصلون الجهاد فلم يضعفوا ولم يستكينوا بعد نبيهم
…
بل ثبتوا وصبروا ورفعوا دعائهم إليه متوسلين بصبرهم في ساحات القتال على مناجرة الأعداء أن يغفر الله ذنوبهم ويثبت أقدامهم فلا يفرون من المعركة حتى ينصرهم الله أو يلقوه
شهداء راضياً عنهم ومثيبهم بما أعد لهم في الجنات الخالدات من الكرامة.
إذا فالشاهد من هذه الآية هو ثباتهم وصبرهم في المعركة فما وهنوا ولا استكانوا بعد نبيهم وهذا كله من أعظم الطاعات والقربات إليه تعالى فتقربوا بها متوسلين إليه بها أن يغفر ذنوبهم وإسرافهم وأن يثبت أقدامهم ويهبهم النصر على القوم الكافرين فتقبل الله وسيلتهم ودعاءهم بالنصر فقال تعالى مخبراً بذلك:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) أي آتاهم ثواب الدنيا وهو النصر على الأعداء الكافرين وتوريثهم ديارهم من بعدهم وإضفائه عليهم أثواب العز والمجد والسؤدد والكرامة والتمكين في الحكم
…
هذا عدا عما ادخره لهم عنده سبحانه من الثواب العظيم الدائم بأحسن الطاعات ما يجزي به عباده المخلصين المحسنين لأنهم قدموا إلى الله تعالى أحسن الطاعات وهو بذل الأرواح والمهج رخيصة في سبيله ومن أجل إعلاء كلمته فكان ذلك .. جزاءاً وفاقاً قدموا عملاً حسناً
…
فجوزوا عليه بثواب أحسن.
هكذا يروي لنا الله سبحانه من سيرة السالفين من إخواننا الذين سبقونا بالإيمان أخباراً وعلوماً عنهم يعلمنا فيها كيف نرفع العمل الصالح إليه ونتقرب به منه ونتوسل به إلي جنابه العلي العظيم حتى إذا دعونا بالنصر وغفران الذنوب والفلاح في الدنيا والنجاح في الآخرة واستجاب لنا دعاءنا بما قدمنا إليه من وسيلة العمل الصالح.
هذا ما يريده الله منا وهذا ما يأمرنا به من العمل
…
أما إذا عزفنا عن هداه وعما ندبنا إليه وحضنا عليه من الجهاد والعمل الصالح فيعاقبنا بمثل ما نعانيه اليوم من الذل والهوان وذهاب القوة والاستسلام إلى الأعداء. لأننا خلدنا إلى الخمول وتركنا الجهاد في سبيله تعالى وتفرقنا طرائق قدداً كل حزب بما لديهم فرحون
…
فأصابنا الوهن.
ولو أننا نفذنا أوامره وأحكامه والهدي الذي أنزله علينا فحفظنا أنفسنا وذدنا عن حدودنا ودافعنا عن حياضنا ما كان للكافرين علينا من سبيل والله قد وعدنا: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) فلنصارح إذاً
أنفسنا بأننا لسنا مؤمنين حقاً!!! ولذلك فقد جازانا الله تعالى بأن جعل للكافرين علينا سبيلاً جزاءً وفاقاً
…
على أن الطريق إليه تعالى ما تزال مفتوحة وسالكة واضحة
…
فلنرجع إليها سالكين سبيله المستقيم هاجرين سبل غيره كيلا تتفرق بنا عن سبيله.
وما سبيله إلا الرجوع إلى ما أنزل من الحق متبعين أحكام كتابه وبيان سنة نبيه عقيدة وعبادة وعملاً فهي الوسيلة الوحيدة المقبولة لاستجابة دعائنا وقصدنا عندها يحررنا من ربقة أعدائنا وينصرنا عليهم في كل ميدان لأننا قدمنا وسيلة إليه هو الذي حضنا عليها وهي العودة إلى شرعه الكامل والحكم على أساسه
…
ثم لنجرب
…
!! ولننظر .. أيبقينا الله أذلاء مهانين
…
أم يعزنا في الدنيا ويسعدنا في الآخرة فإنه لا يذل من والاه الله ولا يعز من عاداه.
أجل
…
فلنجرب
…
ونحن واثقين غير حيارى ولا مترددين إنه سينصرنا ويجعلنا كما كنا: (خير أمة أخرجت للناس). فهيا
…
وهيا
…
وحي على الفلاح
…
ولمثل هذا فليعمل العاملون
…
وبهذه الوسائل المقبولة فليتنافس المتنافسون.
الدليل الثامن
قوله تعالى:
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قيماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192)
…
آل عمران
يقول تعالى: (إن في خلق السموات والأرض) أي بما فيها من الآيات العظيمة (واختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما وتعارضهما من طول وقصر الاعتدال. كل ذلك تقدير العزيز العليم (لآيات لأولي الألباب) أي العقول التامة الزكية المستقيمة المستقيمة التي تدرك حقائق الأشياء. ثم وصفهم بقوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أي يذكرونه في جميع أحوالهم
…
على اختلاف معاني الذكر (ويتفكرون في خلق السموات والأرض) أي يتأملون ما فيها ويفهمون الحكم الدالة على عظمة الخالق وعلمه وحكمته واختياره ورحمته ويقولون: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) أي ربنا ما خلقت هذا الكون عبثاً بل بالحق والعدل وسبحانك عن العبث فأنت أجل وأعظم وأقدس من أن تفعل عبثاً أو باطلاً.
فبسبب ما نزهناك ومجدناك بذاتك وأسمائك وصفاتك وأفعالك. وأنت
حقيق بكل ذلك
…
جنبنا عذاب النار، واحمنا منها بفضلك وإحسانك ويسرنا بتيسيرك لما تحب وترضى عنه من الأعمال الصالحة. (ربنا انك من تدخل الجنة فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار أي لا مجير لهم منك يوم القيامة ولا محيد لهم عنك.
لقد وذعت يا أخي المسلم بين يديك تفسيراً مقتضباً لهذه الآيات الكريمة لنستعين بهذا التفسير على فهم شاهدنا منها ونتدرج للحصول على ما نبتغي من صحة ما نذهب إليه من فهم التوسل المشروع وذلك بالأدلة الشرعية التي تثبت ذلك.
إن أولي الألباب الزكية والعقول المستقيمة الذين يفكرون بعمق وتدبر في هذه المخلوقات العلوية والسفلية تتضح لهم آفاق جديدة من الفهم والأدلة الواضحة على إثبات وجود الخالق العظيم ويدفعهم بالحجة والبرهان إلى الإقرار عن بحث وتدقيق بعظمة الله وقدرته وسلطانه فيذكرونه بما يستحق من التوحيد والتمجيد والتعظيم في جميع أحوالهم لا يفترون عن ذلك أبداً لأنهم أينما اتجهوا وكيفهما نظروا تتجلى لهم معرفة هذا الرب العظيم في جميع صفاته وأفعاله وتتضح حقيقتها عندهم فيكون ذكرهم لله جل وعلا شاملاً كل ما في معاني التذكر من أنواع. إذ ليس الذكر مقتصراً على الشفهي فحسب
…
لا
…
بل هناك أنواع منوعة من الذكر ومنها الذكر الشفهي فإن من يمحص ويدقق في آيات القرآن تتضح له هذه ويرى: أن القرآن ذكر وتلاوته ذكر والصلاة ذكر والآذان ذكر والتذكر ذكر والتفكر ذكر والدعوة إلى الله تعالى ذكر والعلم ذكر وحلق العلم ذكر والذكر الشفهي بالتسبيح والتحميد والتمجيد والتكبير والتهليل ذكر أيضاً إنما يجب أن يكون موافقاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعريف
…
لا أن ندخل فيه أهواءنا وآراءنا (1)
…
فكما أن يجب أن نصلي ونزكي ونحج ونصوم طبقاً لأوامر الله تعالى
(1) سنفرد رسالة خاصة في تحقيق معنى أنواع الذكر وتقارن بين الذكر الشرعي والذكر البدعي الذي عليه بعض الطرق .. في زمننا هذا هدانا الله وإياهم سبل الرشاد.
دونما زيادة أو نقصان فكذلك يجب فيه التقيد بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من تعريف وأحكام لا يتعداها إلى ما تهوى الأنفس وانظر يا أخي ما جاء في الكتاب العزيز من وصف وتعريف للذكر: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول) وقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) وقوله صلى الله عليه وسلم: [
…
ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه] إلى ما هناك من الآيات العديدة والأحاديث الكثيرة في تعريف الذكر والذاكرين
…
على مراد الله وما بلغ رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
إن من يذكرون الله دائماً في غدواتهم وروحاتهم في أعمالهم وراحتهم وعند نومهم
واضطجاعهم وفي صلوتهم قياماً فإن لم يستطيعوا فقعوداً أو لم يستطيعوا فعلى جنوبهم
…
أجل أن يذكرون ويتفكرون فيما خلق الله يفيض الاعتراف بالحق عن مشاهدة وفهم وقرب بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق ويتخذون من ذكرهم بكل ذلك وسيلة إلى الله تعالى في قبوله دعاءهم بأن يقيهم عذاب النار التي لا تطاق فجعلوا تذكرهم وذكرهم وصلواتهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وسيلة شرعية إليه ليتقبل أعمالهم ودعاءهم وهكذا فإنهم لم يدعوا إلا وقربوا بين يدي دعائهم توسلات يحبها الله ويرضاها
…
أجل
…
إنهم توسلوا إلى الله تعالى بذكره سبحانه على اختلاف أنواعه
…
وهو لا شك عمل صالح عظيم تقربوا إليه جل وعلا ودعوه مبتهلين: أن يدخلهم الجنة ويقيهم عذاب النار وتضرعوا إليه أن لا يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار فإن من يدخلها فقد باء بالخزي العظيم وليس له من الله ولي ولا نصير اللهم علمتنا فتعلمنا وأمرتنا فأطعنا اللهم فزدنا علماً وعلمنا العلم الذي لا جهل معه وسلكنا صراطك المستقيم وجنبنا السبل حتى لا تتفرق بنا عن سبيلك القويم واجعلنا نقوم بما أو صيتنا كي نتقي غضبك ونحظى برضاك ونفوز بجنتك التي وعدت المتقين.
الدليل التاسع
قوله تعالى:
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن ءامنوا بربكم فئامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم ومن بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب (195)
…
آل عمران
وقوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فأمنا
…
) هذه الآية الكريمة واضحة وضوحاً تاماً وظاهرة ظهوراً لاخفاء فيه ولا غموض بأن الإيمان عمل صالح عظيم بل هو رأس الأعمال الصالحة بل هو ركيزتها وأساسها المتين وكل عمل مهما كان صالحاً في ذاته وغير مرتكز على الإيمان فهو هباء منثور ولا شك أن الإيمان وسيلة مقبولة عند الله تعالى لتقبل الدعاء.
ولهذا ترى أن أولي الألباب يقولون: (ربنا إننا سمعنا منادياً) أي ربنا إننا سمعنا عبدك ورسولك محمداً صلوات الله وسلامه عليه ينادي في الناس كما أمرته: (أن آمنوا بربكم) الذي خلقكم وأنشأكم فهو أحق بالعبادة
…
(فآمنا) أي صدقناه وأطعنا ما أمرنا به وما دعانا إليه لأن ما جاء به إنما هو
منك وإنك أنت الذي أرسلته للناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور واتبعناه فإنه هو الصادق الأمين.
قف هنا يا أخي المسلم الكريم وتأمل قوله تعالى على لسان عباده أولي الألباب (فآمنا) كم هذه اللفظة خفيفة على اللسان وكم هي ثقيلة في الميزان .. ؟ وانظر ضخامة معناها
…
إنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والإيمان بكل ما حوى كتاب الله دخل القلوب وملأها وتخلل شغافها واستقر بها وفاضت من هذه القلوب النابضة آثار هذا الإيمان على الجوارح فعملت بكل ما يرضي الله تعالى وطبقت كل ما أمر .. وانتهت عما يسخطه وما عنه زجر
…
ثم علم أولو الألباب كم هي منزلة هذا الإيمان عند رب الأرباب فتقدموا بهذا الإيمان إليه تعالى متوسلين به عنده وكل ذلك فهمناه من هذه (الفاء) من قوله تعالى: (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) أي بسبب استجابتنا لنداء رسولك وإيماننا بما دعانا من الحق والخير والهدى، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وامح عنا سيئاتنا واقبضنا إليك مرحومين مغفوراً لنا وألحقنا بالصالحين الأبرار الذين بروا بما وعدوا من الاستقامة على هذا الإيمان إلى أن قبضتهم إليك وأنت راض عنهم. (وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) وهنا واصلوا دعاءهم بأن ينيلهم ما وعدهم على لسان الرسول وألسنة الرسل من قبله
…
من المغفرة والرضوان والجنة
…
متأكدين وموقنين ومطمئنين إلى أنه تعالى سيبر بوعده ولا شك لأنه ليس من صفاته العلى الإخلاف بما وعد فلا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.
فما ظنك يا أخي بالله الذي سمع توسلات عباده التوسلات التي يرضى عنها وهي التي أمرهم بها
…
هؤلاء العباد الطائعين المؤمنين حقاً
…
أيستجيب دعاءهم أم لا
…
؟ لا شك أنك ستقول: بل سيستجيب لهم دعاءهم ولا شك. ولذا جاء قوله تعالى طبق عبده المؤمن به فقال عز من قائل: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى بعضكم من بعض فالذين
هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب)
أجل .. إن الله عنده حسن الثواب لعباده المؤمنين الطائعين كيف لا وأنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأهليهم وأموالهم وأوذوا أشد الإيذاء في سبيل الله وقاتلوا الكفر وأهله فمنهم من قضى نحبه في سبيله تعالى ومنهم من ينتظر وما بدلوا لا هنوا ولا تراجعوا بل ثبتوا حتى نصرهم الله تعالى.
نعم كيف لا
…
وهم الذين وصفهم الله بأنهم أولو الألباب الزكية والعقول المستقيمة الذين يذكرون الله في جميع أحوالهم الحياتية وبمختلف أنواع الذكر ويتفكرون في الخالق والخليقة فزادهم فهماً وإدراكاً كالحقيقة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات والأفعال وإن هذا الخلق ما خلقه الله عبثاً ولا صدفة ولا باطلاً ولما نادى منادي الإيمان صلى الله عليه وسلم ودعاهم إليه أسرعوا إلى الإيمان بالله تعالى ونبيه وكتابه وبكل ما جاء فيه من الهدى والخير والحق.
ثم قدموا كل ذلك توسلات إليه تعالى لتكون هذه التوسلات الحقة سبباً في قبول دعائهم واستجابته وأكد سبحانه تكفيره سيآتهم وإدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً منه سبحانه والله عنده أحسن الثواب جل جلاله ولا إله غيره ولا رب سواه.
فهيا أيها الأخوان المؤمنون إلى العمل الصالح نعمله لوجه الله خالصاً له ليكون لنا ذخراً ووسيلة إليه عز وجل وقربى لجنابة العظيم لا نبتغي إلا وجه ربنا ذي الجلال والإكرام.
فإن دعوناه بها أجاب دعاءنا وادخلنا جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
الدليل العاشر
قوله تعالى:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقوموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)
…
إبراهيم
هذا دعاء يدعو به إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من بناء البيت الحرام فقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) أي نفذت أمرك يا رب حينما أمرتني بأن أسكن أم ولدي هاجر وابني إسماعيل في هذا الوادي غير ذي الزرع ولولا أمرك إياي ما فعلت ولما أمرتني بذلك علمت أنك ستتولاهم برعايتك وعنايتك فأطعتك وأسكنت أم ولدي وولدي متوكلاً عليك وذلك ليقيموا الصلاة مع ذراريهم التي ستكون في المستقبل منهم بتقديرك ومشيئك.
فلا شك أن طاعة أوامر الله تعالى بإسكان هاجر وابنها بهذا الوادي الممحل تحت الشمس المحرقة بلا أكل ولا ماء إنما هو غاية قصوى في التوكل عليه سبحانه وتعالى حتى أنه لما وضعها في ذلك المكان وانصرف عنها
…
قالت له هاجر أم ولده إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها وظل منصرفاً عنهما حتى قالت له في الثالثة: إلى من تتركنا يا إبراهيم
…
آلله أمرك بهذا
…
؟ فالتفت إبراهيم عليه السلام إليها وقال: نعم
…
قالت: إذاً لا يضيعنا
…
وهذا كذلك توكل على الله منها واطمئنان ويقين بأنه سبحانه لا يضيعهما وهو العليم الحكيم الخبير.
إن الطاعة المطلقة والتوكل على الله من إبراهيم بإسكان ذريته بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم ومن أجل أن يقيموا لله وحده الصلاة لا شك أنه عمل صالح عظيم منه صلى الله عليه وسلم هذه الطاعة وهذا التوكل وبناء البيت العظيم
…
جعل كل هذا العمل الصالح وسيلة منه إليه تعالى ثم دعا الله وقال: (
…
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
أي بسب ما أطعتك وتوكلت عليك وبنيت بيتك الحرام اللهم فاجعل أفئدة المسلمين تهوي إليهم بالمحبة أي لذريته التي أسكنها بواد غير ذي زرع ثم إلى ذراريهم إلى يوم القيامة وارزقهم من الثمرات ليكون ذلك عوناً على طاعتهم لك.
ولما كان توسل إبراهيم إلى الله توسلاً شرعياً ويحبه الله ويرضاه استجاب دعاءه كما قال عز وجل: (أم لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء زرقاً من لدنا 57 - القصص وهذا من لطفه وكرمه ورحمته فها إن الثمرات تترى على الحرم وأهله استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام وتجبى إليه ثمرات كل شيء من كافة أنحاء المعمورة فاللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك
…
وهكذا فقد علمت يا أخي المسلم أن التوسل المشروع سبب في استجابة الدعاء لا سيما إذا كان صادراً عن نبي كريم بل من أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام فلا شك أن ذلك كان تلقياً من الله تعالى وتعليماً منه لأن كل عمل يعمله النبي إنما هو وحي من الله سبحانه.
وكلنا يعلم
…
أن الأنبياء هم القدوة الصالحة لمن بعدهم وعندها يذكر الله القصة تلك: في القرآن فهو حض منه تعالى لعباده المؤمنين لأن يتقفوا خطوات الأنبياء في أعمالهم وعباداتهم ولأنهم المثل الأعلى للمؤمنين والأسوة الصالحة والقدوة الحسنة في كل شأن من شؤون دينهم ودنياهم
…
فإلى هذه القدوة الصالحة والأسوة الحسنة ندعو المؤمنين ليكونوا حقا كما كانوا
…
ويعودوا خير أمة أخرجت للناس.
على أن هذه الخيرية على الناس لم تأتهم صدفة ولا اتفاقاً ولا رمية من
غير رام
…
إنما كانت هذه الخيرية لما اتخذوا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نوراً يستضيئون بهما في دياجير الشك والجهل فلما آمنوا وتعلموا بدلهم الله بحال خير من حالهم التي كانوا عليها فقد تبدل شكهم بإيمان ويقين وجهلهم بمعرفة وعلم فصاروا هداة للعالمين وصاروا إلى قيادة الدنيا وأهلها في الحق والهدى والخير وتذوق أهل الأرض على أيديهم طعوماً من الطمأنينة في العقيدة والراحة في العبادة والعدل في الأحكام لأنهم يحكمون بما أنزل الله (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون /50/) المائدة.
الدليل الحادي عشر
قوله تعالى:
قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16)
القصص
يحسن بنا من أجل أن نفهم مراد الله من هذه الآية الكريمة أن نستعرض الآية التي قبلها
…
لكي نعلم ما هو الذنب الذي ارتكبه موسى عليه الصلاة والسلام والذي اعترف لله بأنه ظلم للنفس فطلب المغفرة منه؟ قال في الآية التي سبقتها:
(ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين /15/).
فهم من هذه الآية الكريمة أن الذنب الذي فعله موسى صلوات الله وسلامه عليه هو قتل نفساً ما قصد قتلها إنما أراد أن ينتصر للذي من شيعته على الذي من عدوه المعتدي فوكزه والوكز عادة لا يؤدي إلى القتل إنما سبق الأجل
ومات الرجل من أثر وكزة موسى نفهم أنه عليه السلام لم يكن في نيته قتل الرجل
…
لكنه قتل قضاءاً وقدراً
…
وعلى كل فإن القتل صدر عن موسى عليه السلام خطأ .. وفي هذا ولا شك ذنب يقتضي الاستغفار لأنه ظلم نفسه بقتل الرجل وإن لم يكن عن قصد
…
(قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم).
إن اعتراف موسى عليه السلام بأنه ظلم نفسه بقتله القبطي
…
أجل إن هذا الاعتراف منه عمل صالح أراد أن يتوسل به موسى إلى ربه ليغفر له ذنبه وإن كان فعله له خطأ
…
فإنه - على كل - ذنب يستلزم التوبة منه ولما أراد أن تكون التوبة منه مقبولة عند الله ليحصل على المغفرة منه قدم بين يدي توبته ودعائه واستغفاره عملاً صالحاً يصلح أن يكون سبباً شرعياً عند الله لقبوا التوبة وحصول المغفرة فاعترف بذنبه بأنه ظلم نفسه بهذا العمل الذي وقع منه ولو خطأ
…
فقدم هذا الاعتراف وسيلة للمغفرة
…
فتقبل الله منه
…
وكان اعترافه عملاً صالحاً مقبولاً
…
وأهلاً عند الله لأن يغفر الله له به (فغفر له) أي قبل توسله ومن قبول الله لتوسله فهم أن الاعتراف بالذنب عمل صالح يصلح لأن يكون وسيلة إليه تعالى وقربى منه وفهم أيضاً أن التوبة عند الله ترجح على الذنب وأن الاعتراف والندم توبة إليه تعالى مقبولة.
ونود أن لا نغادر هذا الفصل
…
قبل أن نتوقف - ولو قليلاً - عند الآية التي قبلها .. عند قوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه .. ) هذه الآية التي يستدل بها بعض الناس
…
على جواز الاستغاثة بغير الله
…
ولا يحسبن القارئ الكريم أننا شذذنا عن البحث عندما ننتقل من بحث التوسل إلى الاستغاثة فأقول: لالا .. إننا لم نشذ عن البحث إنما نحن في صميمه ويجب علينا معالجته في مناسبته
…
أخي القارئ المسلم الحبيب: تذكر أننا عندما نقول لأحد من الذين يجوزون الاستغاثة بغير الله
…
يا أخي
…
إياك أن تستغيث أو تدع أحداً أمامك
…
يستغيث بغير الله فإن الاستغاثة عبادة
…
ولا يجوز صرفها إلا لله تعالى فيقول يا أخي إن هذا لا يستغيث بغير الله
…
إنما يتوسل به إلى الله تعالى مع أنه يستغيث فعلاً بغير الله ولكن يريد أن يصرف مفهوم الاستغاثة إلى مفهوم الوسيلة
…
تهرباً من المسؤولية التي تلحق به عند استغاثته هر بغير الله
…
أو سكوته عن أحد ما
…
استغاث أمامه بغير الله تعالى. ولم يعلم أن هذه المغالطة!! إنما يغالط بها ربه الذي يعلم الجهر وما يخفى والسر وأخفى فغلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء إنه بهذه المحاولة أوالمغالطة يريد أن يدفع عنه الانتقاد والنصح فحسب
…
وإلا فإنه يجيز بلا شك ولا ريب الاستغاثة بغير الله تعالى
…
ولكنه يريد أن يتهرب من الإدانة فيختبئ وراء الوسيلة ليبرر بزعمه عمله ودليلنا على أنه يجعل الوسيلة تكأة لتبرير استغاثته بغير الله هو استدلاله بقوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) ويقول: أرأيت كيف تجوز الاستغاثة بغير الله
…
؟ فهذا الاسرائيلي استغاث بموسى على القبطي فأغاثه موسى .. ولم ينبهه موسى عليه السلام إلى عدم جواز استغاثته به بل كان عليه أن لا يستغيث بموسى عليه إنما يستغيث بالله وحده
…
!!! فسكوت موسى عن استغاثة الاسرائيلي
…
بل واغاثته فعلاً دليل واضح على جواز الاستغاثة بغير الله
…
فأقول: هذه إما مغالطة ثانية أو جهل مطبق من هذا المتفلسف الذي يدافع عن الزندقة والشرك والكفر بلا علم ولا كتاب منير. وأرجح أنه كما يقول العامة من عندنا (غشيم وشيطان) بأن واحد نحن لا يهمنا مهما كانت منزلته الإبليسية أو الغبائية
…
فإنه هو الذي سيحمل وزره وأوزار من يضلهم
…
إنما المهم في الأمر أن نسعى مخلصين لإظهار الحق له ولغيره ومن نشاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا يمنعنا أحد عن الجهر بالحق.
لا حجة للجهال الذين يحتجون باستغاثة الإسرائيلي بموسى عليه الصلاة والسلام على جواز الاستغاثة بغير الله مع علمهم بأن استغاثة الإسرائيلي بموسى عليه الصلاة والسلام هي استغاثة مخلوق بمخلوق في أمر يقدر على تنفيذه المستغاث به.
أي إغاثته من القبطي وقد فعل
…
فكيف تحتجون به على جواز استغاثة مخلوق بمخلوق في أمر لا يقدر عليه إلا الله وحده كالمغفرة وجلب الرزق وتفريج الكروب وما إلى ذلك .. ؟ فشتان بين الاستغاثتين!! لأن الأولى استغاثة عادة
…
ويمكن أن يفعلها أي إنسان لأن ذلك مقدوره وفي حدود طاقته
…
أما الثانية أي الاستغاثة فيما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى فهي استغاثة عباده. فمن صرفها لغير الله تعالى فقد وجه عبادة لغيره
…
وهذا والعياذ بالله .. هو الشرك الأكبر. فإذا فهم هذا .. وضح الفارق بين الاستغاثتين ولا قياس مع الفارق كما هو معلوم والله الموفق للصواب.
أرأيت يا أخي كيف يخلطون - خبثاً أو غباء - بين الاستغاثتين لينصروا الباطل على الحق
…
؟ تراهم يفسرون الاستغاثة بالوسيلة
…
ولا وجه في المشابهة بينهما قطعاً، وليست الاستغاثة هي الوسيلة أبداً لأن لكل معنى مستقلاً دون الآخر فالاستغاثة يتم حصولها بوجود شيئين فقط وهما: المستغيث والمستغاث به أما الوسيلة فلا تتم إلا في وجود ثلاثة أشياء: المتوسل والمتوسل به والمتوسل إليه فكيف يمكن أن نقول الاستغاثة هي الوسيلة .. ؟!! وقد علمنا الفارق بينهما .. ؟ ولكن برغم كل ذلك .. فلا يزال الخصوم - هداهم الله يتمسكون بهذا التفسير المغلوط برغم وضوح الفارق بينهما!!!
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ج
نستميح عذراً من القارئ المسلم العزيز لا ستطرادنا بالبحث
…
وسيعذرنا القارئ ولا شك .. ما دمنا نحاول أن نبين واقعاً مؤلماً يعيشه قسم لا يستهان به المسلمين وأمراً باطلاً يتمسك به المغرضون .. !!؟ برغم بيان الحجة ووضوح المحجة وسطوع الحق متلألئاً كالشمس ولكن الغرض مرض والعياذ بالله تعالى. ندعوه تعالى أن يقينا وإياهم والمسلمين عامة من شره ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن
…
الدليل الثاني عشر
قوله تعالى:
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)
الأعراف
هذه كلمات طيبة في آية كريمة طيبة هي الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه والتوسلات التي لقنهن الله آدم لتكون سبباً في التوبة عليه وعلى زوجه قال الله تعالى: (فتلقى آدم كلمات من ربه فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم).
…
(37) البقرة
روى مجاهد وسعيد بن خبير وأبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالدان بن معدان وعطاء الخرساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه هي: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) أي أن هذه الآية إنما هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه أي هو الذي أملاها عليه وأمره أن يدعو بها هو وزوجه حواء فكانت توسلاً منهما إليه تعالى قدر بسببها التوبة عليهما والمغفرة.
وإن التوسل الظاهر في هذه الآية هو: الاعتراف بالذنب والخطيئة
…
ولا شك أن الاعتراف بالذنب عمل صالح جليل وأقرأ بأنهما ظلما أنفسهما والإقرار بالذنب وظلم النفس كذلك عمل صالح جليل وندما على ما فرطا من العمل الذي كان سبباً في حرمانهما الجنة
…
والندم ولا شك توبة وما دام الله هو الذي علم آدم هذه الكلمات وتلقاها منه
…
دل ذلك على أن هذا التوسل هو التوسل المشروع وهو المتلقى عن الرب جل وعلا وهو الذي قدر أن يكون سبباً في للتوبة والمغفرة ومما لا شك فيه
…
أن هذا ليس خاصاً بآدم فقط
إنما هو باق في عقبه ونسله المؤمنين إلى يوم القيامة. ولم يذكره الله تعالى في القرآن إلا ليحث المؤمنين أن يتوسلوا إليه بالعمل الصالح والقرآن والسنة مليتان ولا شك بالأدلة والأمثلة على ذلك.
إذاً فآدم عليه السلام لم يتب الله عليه
…
قبل أن توسل إليه تعالى بعمله الصالح من اعترافه وإقراره بالذنب والخطيئة وطلب المغفرة من الله (فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) أي تاب عليه وعلى زوجه أي أنه يتوب على من تاب وإليه وأناب وهذا من رحمته بعبيده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال آدم عليه السلام: ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى. ونفخت في من روحك؟ قيل له: بلى. وكتبت علي أن أعمل هذا .. ؟ قيل له: بلى. قال أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. وكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد ورواه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس.
هذا ما أخبرنا الله في كتابه من توسل آدم وزوجته باعترافهما بذنبيهما وطلبهما المغفرة على الشكل الذي أمرهما الله به فكان هذا التوسل سبباً في حصول التوبة والمغفرة واستجابة الدعاء.
أما ما يقوله ((المغرضون
…
)) من أنه توسل وقتئذ بالرسول الأعظم محمد صلوات الله وسلامه عليه فهذا مما لم يثبت به دليل من قرآن أو سنة صحيحة بل اعتمد القائلون ذلك على أحاديث لا أساس لها من الصحة وهي موضوعة مكذوبة وأعلى ما فيها درجة الحديث الشديد الضعف (1). وإننا نتساءل: ما هو السر في استناد القائلين بجواز التوسل إلى الله بمخلوقاته، إلى أحاديث مكذوبة وموضوعة والشديدة الضعف وإلى آراء من سبقهم في نحلتهم تلك
…
بينما نرى السلفيين لا يستندون في أقوالهم إلا على أحاديث صحيحة ومتفق عليها بين المحدثين؟ والغريب جداً أن الذين نصبوا أنفسهم خصوماً لدعوة السلف يعترفون بأن حجج خصومهم على
(1) راجع التفاصيل في الصفحة 220 - 228 في معالجة التوسل الممنوع من هذا الكتاب.
جانب عظيم من الصحة ويشهد لها القرآن وكتب الحديث المعتمدة وفي الوقت ذاته لا يتبعونها بل يردونها ويناصبون الداعين لها شديد العداء ويعملون بخلافها وهم يعلمون أنهم لا يستندون إلا إلى الأحاديث المكذوبة والموضوعة والشديدة الضعف فلماذا هذا الموقف من دعوة الحق وأهلها .. وهم يعلمون
…
!!!؟
هذا سؤال ندع الجواب عليه إلى القارئ المسلم الكريم .. [اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه].
الدليل الثالث عشر
قوله تعالى:
وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86)
يونس
التوكل على الله عبادة عظيمة له سبحانه والتوكل عليه يجب أن يكون في كل شيء ومن توكل عليه تعالى حق التوكل لا يخيب في أي مسعى يسعاه في دنياه وآخرته
…
ولكن يجب أن يكون مرافقاً للعمل والأخذ بالأسباب فإن من يتكل على الله في دخول الجنة ولا يعمل لها عقيدة وعبادة وعملاً فلن يدخلها! وكذلك في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة فيجب لكل عمله على أن لا نعتقد أن أعمالنا هي التي تفضي إلينا بالنجاح وحدها بل بتوفيق الله تعالى ورحمته.
فمثلاً أنا لا أربح بتجارتي ولا أوفق بزراعتي ولا أفوز في أي ربح بمجرد خبرتي وعلمي فحسب
…
بل يجب أن يكون هذا موفوراً بتمامه وأتوكل على الله في الفوز بما أتمناه ولهذا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[((لا يدخل أحدكم الجنة بعمله)) قالوا ولا أنت يا رسول الله. قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته))] فلا يصبح العمل بلا توكل على الله كما لا يصح التوكل بلا عمل فعندها يكون تواكلا لا توكلاً ويتمنى صاحبه على الله الأماني دون أن يأخذ بأسباب نيل الأماني
…
قدمنا هذه الكلمة بين يدي البحث لنعلم نوعية التوكل الذي يرضاه الله فهو سبحانه يحب
التوكل لا التواكل وهذا ما أمر به أنبياءه أن يبلغوه عباده .. ولم يحض نبياً به ويستثنى آخراً منه بل أوصاهم جميعاً بالتوكل عليه.
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يخبرنا الله عنه: (وقال موسى لقومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) أي إن كنتم آمنتم بالله حقاً في جميع صفاته وأسمائه فيلزمكم هذا الإيمان أن تتوكلوا عليه سبحانه في كل أموركم لأن تمام صفات المؤمن المسلم أن يتوكل عليه وهو الذي يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن منه إلى يوم القيامة فخليق بهذا الإله العظيم الذي له هذه الصفات الكاملة التامة أن تسلم أمورك إليه مع مراعاة ما أمرك به من العمل وقول موسى عليه الصلاة والسلام: (إن كنتم مسلمين) أي إن اتخذتم الإسلام ديناً ومبدأ يجب إلزاماً أن تظهر آثار إسلامكم عليكم فتسلموا أموركم إليه وتتوكلوا عليه وتطمئنوا إلى نتيجة ما يقدره الله عليكم وترضوا بذلك ظاهراً وباطناً وهذا التسليم هو أحد معاني الإسلام.
فما كان من قومه المؤمنين إلا أن استجابوا: (فقالوا على الله توكلنا) فنالوا بقولهم أجرين على عملين صالحين الأجر الأول: طاعتهم لأمر نبيهم بالتوكل على الله وهذه الطاعة لنبيهم عمل صالح ولا شك والأجر الثاني: توكلهم بالفعل عليه تعالى أي تنفيذ عملية التوكل على الله ولا شك أن التوكل عليه سبحانه عبادة مباشرة لله تعالى وأنه جل وعلا أهل لذلك فرفعوا هذين العملين إلى
الله تعالى وسيلة بين يدي دعائهم إليه فلم يدعوا إلا أن قالوا (على الله توكلنا) مستحضرين المعنيين السابقين ودعوا: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) أي لا تنصرهم علينا فيظنوا أنهم إنما نصروا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك
…
ويفتن المؤمنون بدينهم.
فانظر يا أخي المسلم أن مؤمني قوم موسى توسلوا - بأمر نبيهم عن أمر الله - بأعمالهم الصالحة التي هي طاعتهم لنبيهم وتوكلهم على ربهم وجعلوها قربات إليه بين يدي دعائهم ثم دعوا الله ألا يجعلهم فتنة لعدوهم ولا فتنة لأنفسهم
…
هكذا علمهم نبيهم ورسوله عبد الله موسى عليه الصلاة والسلام الذي ما ينطق عن الهوى
…
فإنه هو وسائر الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم وأذكى التحية إنما يوحى إليهم
…
فلا يقولون شيئاً استقلالاً من عند أنفسهم بل إنما هو الوحي الإلهي
…
يتنزل عليهم منه سبحانه وتعالى وتبارك وتقدس.
فمن هذا
…
نعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام لما قال لهم: (
…
إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) ما قاله من عند نفسه، إنما بوحي وأمر وتعليم من الله تعالى.
إن قوم موسى عليه الصلاة والسلام استجابوا لأمر نبيهم فتوكلوا على الله سبحانه ودعوا متوسلين إليه تعالى باستجابة أمر نبيهم وطاعتهم له وبتوكلهم الفعلي على ربهم تبارك وتعالى أن ينصرهم على عدوهم ولا ينصر عدوهم عليهم.
فما ظنك يا أخي المسلم
…
ما ظنك بالله تعالى .. ؟ أتراه سبحانه يستجيب دعاءهم وينصرهم على أعدائهم
…
؟ أم أنه لا يفعل
…
!!! لا بل أنه سيفعل ويستجيب
…
وإنه قد استجاب
…
إنه هو السميع المجيب.
نعم نعم
…
إنه قد استجاب دعاءهم
…
ونصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً مؤزراً وحسبهم من هذا النصر المحجل المبين
…
أنه لم ينجهم من فرعون وأسره وإذلاله ومن اضطهاده لهم فحسب
…
بل أغرق لهم عدوهم فرعون
بقضه وقضيضه وتاجه وصولجانه
…
وكامل عدده وعدته وعدده العديد
…
!!! وأعينهم تنظر ذلك
…
وتشتفي صدورهم بل وكل ذرة من ذرات وجودهم بذلك المصير الذليل والخاتمة المقهورة
…
مصير فرعون الظالم المسرف وخاتمة ذلك المتغطرس المتأله
…
!!! وهو يغرق بكامل جيشه.
فقد أذله الله وقهره وأورث الله موسى وقومه الأرض من بعده يتبوؤنها بما فيها من مخلفات وخيرات وجنات وعيون .. (فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأوثناها بني إسرائيل (59) الشعراء) وما ذلك إلا بفضل الله ومنته وكرمه ورحمته.
أرأيت يا أخي المسلم الحبيب كيف ينصر الله عباده المؤمنين ويستجيب دعاءهم لما توكلوا عليه ثم رفعوا توكلهم على ربهم وطاعتهم لرسوله وسيلة إليه تبارك وتعالى لا ستجابة دعائهم
…
؟
هذه أمثلة حية رائعة ناطقة بالحق والصدق يسوقها الله تعالى في قرآنه خاتم الكتب لا للمرور بها مر الكرام دونما عظة أو اعتبار بل للتأسي بمن كانوا قبلنا بأعمالهم الصالحة وتوسلاتهم بها إليه تعالى.
فهيا أيها الأخوة المؤمنون هيا يا أهل القرآن نلتزم بما التزم به المؤمنون من قبلنا
…
وهيا للعمل الصالح المرضي المقبول
…
نعمله مطمئنين ونرفعه إلى الله متوسلين به إليه واثقين بالإجابة.
اللهم اجعلنا بفضلك ومنك وكرمك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعاء والحمد رب العالمين.
الدليل الرابع عشر
قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً (3)
…
النصر
روى البخاري عن ابن عباس: [كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علتم
…
فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت أنه قد دعاني يومئذ عليه إلا ليريهم
…
فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: (إذا جاء نصر الله والفتح)
…
؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا
…
فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: (إذا جاء نصر الله والفتح) فذلك علامة أجلك
…
(فسبح بحمد وبك واستغفره إنه كان تواباً) فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول] تفرد به البخاري.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس، قال:[لما نزلت: (إذا جاء نصر الله والفتح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعيت إلى نفسي)) فإنه مقبوض في تلك السنة].
على أن المعنى الذي فسره أهل بدر في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين كما تقدم
…
هو معنى مليح صحيح وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات فقال قائلون: هي صلاة الضحى. وأجيبوا: بأنه لم يكن يواظب عليها في الحضر فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافراً
…
؟ ولم ينو الإقامة في مكة؟! ولهذا أقام فيها قريباً من تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش والصحيح أنها صلاة الفتح.
قدمنا بين يدي فهمنا لمراد الله تعالى من هذه السورة الكريمة لتسهيل فهو الشاهد منها تفسيراً مختصراً يعيننا على توضيح ما نود توضيحه من الاستشهاد بهذه السورة الكريمة على التوسل بالأعمال الصالحة من التسبيح والتحميد والاستغفار استدراراً لمغفرته سبحانه وتعالى فإنه هو الغفور الرحيم والتواب الكريم لا إله غيره ولا رب سواه.
كانت هذه السورة المباركة آخر سورة نزلت من القرآن الكريم وهي كما قال ابن عباس ووافقه عمر .. نعي لنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قرب أجله صلوات الله عليه وسلامه وأوشك أن يلتحق بالرفيق الأعلى لانتهاء مهمته في الدنيا فيهأه الله للقدوم عليه
…
فالآخرة خير له من الدنيا ولسوف يعطيه ربه فيرضى لذا أمره تعالى أن يجعل خواتيم عمله مع فرائضه التي افترضها الله عليه التسبيح والتحميد والاستغفار استدراراً للتوبة والمغفرة وإن كان صلى الله عليه وسلم مغفوراً له سلفاً ولكن ليبقى دائماً عبداً شكوراً وفي هذا ولا شك تعليم لأمته أن تصنع مثلما يصنع
…
فالمغفور له من ذنبه ما تقدم وما تأخر مكلف أن يسبح ويحمد ويستغفر
…
فما أحرانا نحن بذلك. ومن يمعن النظر في هذا الأمر من طلب التحميد والتكبير والاستغفار ير إن الله ما يطلب منا ذلك إلا توسلاً بها أي بالتحميد والتسبيح والاستغفار إليه تعالى لتكون سبباً لتوبة الله على المستغفرين فلولا أن يعلموا أن الله أهل للتحميد والتسبيح والاستغفار ما فعلوا ذلك فعلمهم به دفعهم إليه فقد علموا أن الله سبحانه وتعالى أهل لكل ذلك،
وفوق ذلك فله الحمد في الأولى والآخرة وهو المستحق وحده لهذه العبادة
…
فإن هذا التحميد والتسبيح والاستغفار أراده الله وسيلة يتوسل بها عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن ورائه أمته لتكون سبباً مشروعاً لمغفرة الله تعالى وتوبته على عباده المؤمنين فليكثروا من ذلك فإنه عمل يحبه ويرضاه ويجب أن يرفع إليه دائماً
…
وما ذلك إلا ليجزينا سبحانه بأحسن ما كنا نعمل
…
تفضلاً منه وامتناناً وكرماً إنه الكريم المنان ذو الفضل والمنة والنعمة.
فهيا أيها الأخوان المؤمنون المسلمون: سراعاً إلى مثل هذا العمل الصالح نعمله ونرفعه إليه تعالى متوسلين به إليه جل جلاله ليغفر لنا ويتوب علينا ويرحمنا ويعيد إلينا عزتنا وترجع إلينا دولتنا فنحكم بكتابه وبسنة سيد خلقة وأحبابه ونعود إلى ما كنا عليه هداة مهديين خير دعاة إليه في العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه ومن والاه وتبع هداه إلى ما شاء الله.
لقد وضح بلا شك
…
مما جاء في الصفات المتقدمة من هذا الفصل: ((توسل المؤمن إلى الله بأعماله الصالحة وأدلته من القرآن الكريم)) أن في القرآن الكريم حثا من الله تعالى لعباده على أن يتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة التي عملوها لوجهه تعالى خالصة له لتكون سبباً لاستجابة الدعاء وبلوغ المطلوب ولو أردنا أن نستشهد بكل ما جاء في القرآن الكريم من الآيات لضاق به هذا المؤلف ولكننا أثبتنا طائفة منها كشاهد على صحة ما تذهب إليه.
ولما كانت السنة الصحيحة مفسرة للقرآن فقد ورد فيها: أحاديث في الحض على التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة التي فعلها المؤمن
…
ولو أنعمنا النظر لرأينا الحض على التوسل بالأعمال الصالحة إليه
…
إنما هو في الحقيقة حض على فعل الأعمال الصالحة نفسها إذ هل يمكن أن تتوسل إلى الله تعالى بأعمالك الصالحة إذا لم يكن لك عمل صالح مهما كان صغيراً؟ الجواب: كلا
لا يمكن إذاً فالمراد م الحض والحث على التوسل بالعمل الصالح إنما هو في الحقيقة كما قلنا آنفاً
…
حض وحث على العمل الصالح نفسه حتى ترفعه إلى الله تعالى وسيلة إليه يحفها منه تعالى الرضا والقبول فهيا للعمل الصالح وهيا للتوسل به إليه تعالى .. وما دام المقصود وجهه سبحانه فالعمل الصالح عبادة له تعالى والتوسل به إلى الله تعالى عبادة له أيضاً تقربنا إليه سبحانه وتدنينا من رحاب مغفرته جل جلاله ولا إله غيره ولا رب سواه.
3 -
توسل المؤمن إلى الله تعالى بأعماله الصالحة