الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ آدَابِ التِّلَاوَةِ تَحْسِينُ الصَّوْت
(جة)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ، الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللهَ " (1)
(1)(جة) 1339، (عب) 4185 ، (طس) 2074، انظر صَحِيح الْجَامِع: 2202، الصحيحة: 1583 ، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1450
(خ م)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ (1) حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ (2) "(3)
(1) أَيْ: مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ مَسْمُوع كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيٍّ. شرح سنن النسائي (ج2ص224)
(2)
قال ابن كثير في تفسيره: وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طِيب الصوت - لكمال خَلْقهم - وتمام الخشية ، وذلك هو الغاية في ذلك ، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم، بَرِّهم وفاجرهم ، كما قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الله الذي وسع سمعه الأصوات ، وكما قال تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] ، ولكنَّ استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم ، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ، كما دل عليه هذا الحديث العظيم.
(3)
(خ) 7105 ، (م) 233 - (792)، (س) 1017، (د) 1473
(س مي)، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (" زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)(1)(فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا ")(2)
(1)(س) 1015 (خم) ج9ص158، (د) 1468، (جة) 1342، (حم) 18517 انظر صَحِيح الْجَامِع: 3145، صفة الصلاة ص 125، وهداية الرواة: 2149
(2)
(مي) 3501 ، انظر الصحيحة: 771
(طب)، وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَدْ أَعْطَانِي اللهُ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يُرْسِلُ إِلَيَّ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكُنْتُ إِذَا فَرَغْتُ مِنْ قِرَاءَتِي قَالَ: زِدْنَا مِنْ هَذَا فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةُ الْقُرْآنِ "(1)
(1)(طب) ج10/ص82 ح10023، (مسند ابن الجعد): 3456 ، انظر صَحِيح الْجَامِع: 3144 ، الصَّحِيحَة: 1815
(خ)، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ "(1)
الشرح (2)
(1)(خ) 7089 ، (د) الصلاة (1469) ، (حم) 1476
(2)
قال الحافظ في الفتح: (ج 14 / ص 240): قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْله يَتَغَنَّى عَلَى أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحَدهَا: تَحْسِين الصَّوْت،
وَالثَّانِي: الِاسْتِغْنَاء،
وَالثَّالِث: التَّحَزُّن ، قَالَهُ الشَّافِعِيّ.
وَالرَّابِع: التَّشَاغُل بِهِ ، تَقُول الْعَرَب: تَغَنَّى بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ.
قُلْت: وَفِيهِ قَوْل آخَر حَكَاهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ فِي " الزَّاهِر " قَالَ: الْمُرَاد بِهِ التَّلَذُّذ وَالِاسْتِحْلَاء لَهُ ، كَمَا يَسْتَلِذّ أَهْل الطَّرَب بِالْغِنَاءِ ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ تَغَنِّيًا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُفْعَل عِنْدَه مَا يُفْعَل عِنْد الْغِنَاء، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّابِغَة:
بُكَاءُ حَمَامَة تَدْعُو هَدِيلًا
…
مُفَجَّعَة عَلَى فَنَن تُغَنِّي
فَأَطْلَقَ عَلَى صَوْتهَا غِنَاءً لِأَنَّهُ يُطْرِب كَمَا يُطْرِب الْغِنَاء ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غِنَاءً حَقِيقَة، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: الْعَمَائِم تِيجَان الْعَرَب ، لِكَوْنِهَا تَقُوم مَقَام التِّيجَان.
وَفِيهِ قَوْل آخَر حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلهُ هِجِّيرَاهُ ، كَمَا يَجْعَل الْمُسَافِر وَالْفَارِغ هِجِّيرَاهُ الْغِنَاء.
قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: كَانَتْ الْعَرَب إِذَا رَكِبَتْ الْإِبِل تَتَغَنَّى ، وَإِذَا جَلَسَتْ فِي أَفْنَيْتهَا وَفِي أَكْثَر أَحْوَالهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآن أَحَبَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُون هِجِّيرَاهُمْ الْقِرَاءَة مَكَان التَّغَنِّي.
وَيُؤَيِّد الْقَوْل الرَّابِع بَيْتُ الْأَعْشَى:
وَكُنْت اِمْرَأً زَمَنًا بِالْعِرَاقِ
…
خَفِيفُ الْمُنَاخ طَوِيلَ التَّغَنِّي
فَإِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " طَوِيل التَّغَنِّي " طُول الْإِقَامَة ، لَا الِاسْتِغْنَاء ، لِأَنَّهُ أَلْيَق بِوَصْفِ الطُّول مِنْ الِاسْتِغْنَاء، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لِوَطَنِهِ بَيْن أَهْله
كَانُوا يَتَمَدَّحُونَ بِذَلِكَ ، قَالَ حَسَّان:
أَوْلَاد جَفْنَة حَوْل قَبْر أَبِيهِمْ
…
قَبْر اِبْن مَارِيَة الْكَرِيم الْمُفَضَّل
أَرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِجَاع ، وَلَا يَبْرَحُونَ مِنْ أَوْطَانهمْ، فَيَكُون مَعْنَى الْحَدِيث: الْحَثُّ عَلَى مُلَازَمَة الْقُرْآن ، وَأَنْ لَا يُتَعَدَّى إِلَى غَيْره، وَهُوَ يَئَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى مَا اخْتَارَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ تَخْصِيص الِاسْتِغْنَاء ، وَأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْره مِنْ الْكُتُب.
وَقِيلَ: الْمُرَاد مَنْ لَمْ يُغْنِهِ الْقُرْآن وَيَنْفَعهُ فِي إِيمَانه ، وَيُصَدِّق بِمَا فِيهِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيد.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَرْتَحْ لِقِرَاءَتِهِ وَسَمَاعه.
وَلَيْسَ الْمُرَاد مَا اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد ، أَنَّهُ يُحَصِّل بِهِ الْغِنَى دُون الْفَقْر، لَكِنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد غَيْر مَدْفُوع إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْغِنَى الْمَعْنَوِيّ ، وَهُوَ غِنَى النَّفْس ، وَهُوَ الْقَنَاعَة ، لَا الْغِنَى الْمَحْسُوس الَّذِي هُوَ ضِدّ الْفَقْر، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُل بِمُجَرَّدِ مُلَازَمَة الْقِرَاءَة ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْخَاصِّيَّةِ.
وَأَمَّا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيّ ، فَلَمْ أَرَهُ صَرِيحًا عَنْهُ فِي تَفْسِير الْخَبَر ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مُخْتَصَر الْمُزَنِيِّ: وَأُحِبّ أَنْ يَقْرَأ حَدْرَا وَتَحْزِينًا.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: حَدَرْت الْقِرَاءَة: أَدْرَجْتهَا وَلَمْ أَمْطُطْهَا، وَقَرَأَ فُلَان تَحْزِينًا: إِذَا رَقَّقَ صَوْته ، وَصَيَّرَهُ كَصَوْتِ الْحَزِين ، وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " أَنَّهُ قَرَأَ سُورَة فَحَزَّنَهَا شِبْهُ الرَّثْي ".
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَأوِيل اِبْن عُيَيْنَةَ لِلتَّغَنِّي بِالِاسْتِغْنَاءِ ، فَلَمْ يَرْتَضِهِ ، وَقَالَ: لَوْ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاء لَقَالَ: لَمْ يَسْتَغْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْسِين الصَّوْت.
قَالَ اِبْن بَطَّال: وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة ، وَعَبْد الله بْن الْمُبَارَك ، وَالنَّضْر بْن شُمَيْلٍ.
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة اِبْن شِهَاب فِي حَدِيث الْبَاب بِلَفْظِ: " مَا أُذِنَ لِنَبِيٍّ فِي التَّرَنُّم فِي الْقُرْآن " أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ.
وَعِنْده فِي رِوَايَة عَبْد الرَّزَّاق: " مَا أُذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَن الصَّوْت " وَهَذَا اللَّفْظ عِنْد مُسْلِم.
وَعِنْد اِبْن أَبِي دَاوُدَ وَالطَّحَاوِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " حَسَن التَّرَنُّم بِالْقُرْآنِ ".
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالتَّرَنُّم لَا يَكُون إِلَّا بِالصَّوْتِ إِذَا حَسَّنَهُ الْقَارِئ وَطَرِبَ بِهِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِغْنَاء ، لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الصَّوْت وَلَا لِذِكْرِ الْجَهْر مَعْنًى.
وَأَخْرَجَ اِبْن مَاجَهْ وَاِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث فَضَالَة بْن عُبَيْد مَرْفُوعًا: " الله أَشَدّ أُذُنًا - أَيْ اِسْتِمَاعًا - لِلرَّجُلِ الْحَسَن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته " وَالْقَيْنَة: الْمُغَنِّيَة.
وَالْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب أَنَّ التَّغَنِّي: التَّرْجِيع بِالصَّوْتِ ، كَمَا قَالَ حَسَّان:
تَغَنَّ بِالشَّعْرِ إِمَّا أَنْتَ قَائِله
…
إِنَّ الْغِنَاء بِهَذَا الشَّعْر مِضْمَارُ
قَالَ: وَلَا نَعْلَم فِي كَلَام الْعَرَب " تَغَنَّى " بِمَعْنَى اِسْتَغْنَى ، وَلَا فِي أَشْعَارهمْ، وَبَيْت الْأَعْشَى لَا حُجَّة فِيهِ ، لِأَنَّهُ أَرَادَ طُول الْإِقَامَة، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَأتِي " تَغَنَّى " مِنْ الْغِنَى الَّذِي هُوَ ضِدّ الْفَقْر بِمَعْنَى تَفَعَّلَ ، أَيْ يُظْهِر خِلَاف مَا عِنْده، وَهَذَا فَاسِد الْمَعْنَى.
قُلْت: وَيُمْكِن أَنْ يَكُون بِمَعْنَى: تَكَلَّفَهُ ، أَيْ: تَطَلَّبَهُ وَحَمَلَ نَفْسه عَلَيْهِ ، وَلَوْ شَقَّ عَلَيْهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث " فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوْا " وَهُوَ فِي حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عِنْد أَبِي عَوَانَة.
وَأَمَّا إِنْكَاره أَنْ يَكُون " تَغَنَّى " بِمَعْنَى: " اِسْتَغْنَى " فِي كَلَام الْعَرَب ، فَمَرْدُود، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّة عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجِهَاد فِي حَدِيث الْخَيْل:" وَرَجُل رَبَطَهَا تَعَفُّفًا وَتَغَنِّيًا " وَهَذَا مِنْ الِاسْتِغْنَاء بِلَا رَيْب ، وَالْمُرَاد بِهِ: يَطْلُب الْغِنَى بِهَا عَنْ النَّاس ، بِقَرِينَةِ قَوْله تَعَفُّفًا.
وَمِمَّنْ أَنْكَرَ تَفْسِير يَتَغَنَّى بـ (يَسْتَغْنِي) أَيْضًا الْإِسْمَاعِيلِيّ ، فَقَالَ: الِاسْتِغْنَاء بِهِ لَا يَحْتَاج إِلَى اِسْتِمَاع، لِأَنَّ الِاسْتِمَاع أَمْرٌ خَاصّ زَائِد عَلَى الِاكْتِفَاء بِهِ،
وَأَيْضًا فَالِاكْتِفَاء بِهِ عَنْ غَيْره أَمْر وَاجِب عَلَى الْجَمِيع، وَمَنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَة ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ قَالَ: يَقُولُونَ: إِذَا رَفَعَ صَوْته فَقَدْ تَغَنَّى.
قُلْت: وَيُمْكِن الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَنَّ تَفْسِير يَسْتَغْنِي مِنْ جِهَته ، وَيَرْفَع عَنْ غَيْره. وَقَالَ عُمَر بْن شَبَّة: ذَكَرْت لِأَبِي عَاصِم النَّبِيل تَفْسِير اِبْن عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ: لَمْ يَصْنَع شَيْئًا ، حَدَّثَنِي اِبْن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاء عَنْ عُبَيْد بْن عُمَيْر قَالَ:" كَانَ دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم يَتَغَنَّى - يَعْنِي حِين يَقْرَأ - وَيَبْكِي وَيَبْكِي ".
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ يَقْرَأ الزَّبُور بِسَبْعِينَ لَحْنًا، وَيَقْرَأ قِرَاءَة يَطْرَب مِنْهَا الْمَحْمُوم ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبْكِي نَفْسه لَمْ تَبْقَ دَابَّة فِي بَرٍّ وَلَا بَحْر إِلَّا أَنْصَتَتْ لَهُ وَاسْتَمَعَتْ وَبَكَتْ.
وَسَيَأتِي حَدِيث " إِنَّ أَبَا مُوسَى أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير دَاوُدَ " فِي " بَاب حُسْن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ ".
وَفِي الْجُمْلَة ، مَا فَسَّرَ بِهِ اِبْن عُيَيْنَةَ لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِر الْأَخْبَار تُرَجِّح أَنَّ الْمُرَاد: تَحْسِين الصَّوْت ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله " يَجْهَر بِهِ " ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَرْفُوعَة ، قَامَتْ الْحُجَّة، وَإِنْ كَانَتْ غَيْر مَرْفُوعَة ، فَالرَّاوِي أَعْرَف بِمَعْنَى الْخَبَر مِنْ غَيْره ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فَقِيهًا، وَقَدْ جَزَمَ الْحَلِيمِيّ بِأَنَّهَا مِنْ قَوْل أَبِي هُرَيْرَة. وَالْعَرَب تَقُول: سَمِعْت فُلَانًا يَتَغَنَّى بِكَذَا ، أَيْ يَجْهَر بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَاصِم: أَخَذَ بِيَدَيَّ اِبْن جُرَيْجٍ فَأَوْقَفَنِي عَلَى أَشْعَب ، فَقَالَ: غَنّ اِبْن أَخِي مَا بَلَغَ مِنْ طَمَعك ، فَذَكَرَ قِصَّة.
فَقَوْله (غَنِّ) أَيْ: أَخْبِرْنِي جَهْرًا صَرِيحًا ، وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرُّمَّة:
أُحِبُّ الْمَكَان الْقَفْر مِنْ أَجْل
…
أَنَّنِي بِهِ أَتَغَنَّى بِاسْمِهَا غَيْر مُعْجِم
أَيْ: أَجْهَر وَلَا أُكَنِّي.
وَالْحَاصِل أَنَّهُ يُمْكِن الْجَمْع بَيْن أَكْثَر التَّأوِيلَات الْمَذْكُورَة، وَهُوَ أَنَّهُ: يُحَسِّن بِهِ صَوْته ، جَاهِرًا بِهِ ، مُتَرَنِّمًا عَلَى طَرِيق التَّحَزُّن، مُسْتَغْنِيًا بِهِ عَنْ غَيْره مِنْ الْأَخْبَار، طَالِبًا بِهِ غِنَى النَّفْس ، رَاجِيًا بِهِ غِنَى الْيَد، وَقَدْ نَظَمْتُ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ:
تَغَنَّ بِالْقُرْآنِ حَسِّنْ بِهِ
…
الصَّوْت حَزِينًا جَاهِرًا رَنِّمِ
وَاسْتَغْنِ عَنْ كُتْب الْأُلَى
…
طَالِبًا غِنَى يَدٍ وَالنَّفْسِ ثُمَّ اِلْزَمِ
وَلَا شَكّ أَنَّ النُّفُوس تَمِيل إِلَى سَمَاع الْقِرَاءَة بِالتَّرَنُّمِ أَكْثَر مِنْ مَيْلِهَا لِمَنْ لَا يَتَرَنَّم، لِأَنَّ لِلتَّطْرِيبِ تَأثِيرًا فِي رِقَّة الْقَلْب وَإِجْرَاء الدَّمْع.
وَكَانَ بَيْن السَّلَف اِخْتِلَافٌ فِي جَوَاز الْقُرْآن بِالْأَلْحَانِ، أَمَّا تَحْسِين الصَّوْت ، وَتَقْدِيم حَسِنِ الصَّوْت عَلَى غَيْره ، فَلَا نِزَاع فِي ذَلِكَ.
فَحَكَى عَبْد الْوَهَّاب الْمَالِكِيّ عَنْ مَالِك تَحْرِيم الْقِرَاءَة بِالْأَلْحَانِ.
وَحَكَاهُ أَبُو الطَّيِّب الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَابْن حَمْدَان الْحَنْبَلِيّ عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم.
وَحَكَى اِبْن بَطَّال وَعِيَاض وَالْقُرْطُبِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة وَالْمَاوَرْدِيّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْغَزَالِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّة، وَصَاحِب الذَّخِيرَة مِنْ الْحَنَفِيَّة: الْكَرَاهَة ، وَاخْتَارَهُ أَبُو يَعْلَى وَابْن عَقِيل مِنْ الْحَنَابِلَة.
وَحَكَى اِبْن بَطَّال عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ: الْجَوَاز، وَهُوَ الْمَنْصُوص لِلشَّافِعِيِّ ، وَنَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَ الْفُورَانِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّة فِي الْإِبَانَة: يَجُوز ، بَلْ يُسْتَحَبّ.
وَمَحَلّ هَذَا الِاخْتِلَاف إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ الْحُرُوف عَنْ مَخْرَجه، فَلَوْ تَغَيَّرَ ، قَالَ النَّوَوِيّ فِي " التِّبْيَان ": أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمه ، وَلَفْظه: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى اِسْتِحْبَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ مَا لَمْ يَخْرُج عَنْ حَدّ الْقِرَاءَة بِالتَّمْطِيطِ، فَإِنْ خَرَجَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا ، أَوْ أَخْفَاهُ ، حَرُمَ، قَالَ: وَأَمَّا الْقِرَاءَة بِالْأَلْحَانِ ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ فِي مَوْضِع عَلَى كَرَاهَته ، وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر: لَا بَأس بِهِ.
فَقَالَ أَصْحَابه: لَيْسَ عَلَى اِخْتِلَاف قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى اِخْتِلَاف حَالَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُج بِالْأَلْحَانِ عَلَى الْمَنْهَج الْقَوِيم جَازَ ، وَإِلَّا حَرُمَ.
وَالَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ الْأَدِلَّة أَنَّ حُسْنَ الصَّوْت بِالْقُرْآنِ مَطْلُوب، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا ، فَلْيُحَسِّنْهُ مَا اِسْتَطَاعَ ، كَمَا قَالَ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة أَحَد رُوَاة الْحَدِيث، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيح ، وَمِنْ جُمْلَة تَحْسِينه أَنْ يُرَاعِي فِيهِ قَوَانِين النَّغَم ، فَإِنَّ الْحَسَن الصَّوْت يَزْدَاد حُسْنًا بِذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي حُسْنِهِ، وَغَيْرُ الْحَسَن رُبَّمَا اِنْجَبَرَ بِمُرَاعَاتِهَا مَا لَمْ يَخْرُج عَنْ شَرْط الْأَدَاء الْمُعْتَبَر عِنْد أَهْل الْقِرَاءَات، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يَفِ تَحْسِين الصَّوْت بِقُبْحِ الْأَدَاء، وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ مَنْ كَرِهَ الْقِرَاءَة بِالْأَنْغَامِ ، لِأَنَّ الْغَالِب عَلَى مَنْ رَاعَى الْأَنْغَام أَنْ لَا يُرَاعِي الْأَدَاء، فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُرَاعِيهِمَا مَعًا ، فَلَا شَكّ فِي أَنَّهُ أَرْجَح مِنْ غَيْره ، لِأَنَّهُ يَأتِي بِالْمَطْلُوبِ مِنْ تَحْسِين الصَّوْت ، وَيَجْتَنِب الْمَمْنُوع مِنْ حُرْمَة الْأَدَاء ، وَاللهُ أَعْلَم. أ. هـ
(د)، وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ رضي الله عنه فَاتَّبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْبَيْتِ ، رَثُّ الْهَيْئَةِ (1) فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ "، فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ ، قَالَ: يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ. (2)
(1) الرَّثُّ: الشَّيْء الْبَالِي ، وَفُلَان رَثُّ الْهَيْئَة، وَفِي هَيْئَتِهِ رَثَاثَةٌ ، أَيْ: بَذَاذَة ، وَأَرَثَّ الثَّوْبَ أَيْ: أَخْلَقَه (أبلاه).عون المعبود - (ج 3 / ص 404)
(2)
(د) 1471 ، (هق) 2257، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1451، صفة الصلاة ص 125