المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الحسنة، ولكن بشرط ألا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام - الحسبة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها

- ‌تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا

- ‌منزلة الحسبة في الدين

- ‌مقصود الحسبة في الإسلام

- ‌فضائل الحسبة

- ‌فوائد الحسبة

- ‌الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها

- ‌(حكم الحسبة

- ‌الحِكمة من مشروعية الحسبة

- ‌مراتب الحسبة

- ‌الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة

- ‌الحسبة نظام إسلامي أصيل

- ‌الحسبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي رضي الله عنهما

- ‌الدرس: 4 المحتسب (1)

- ‌تعريف المحتسب

- ‌شروط المحتسب

- ‌آداب المحتسب

- ‌الدرس: 5 المحتسب (2)

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر

- ‌الدرس: 6 المحتسب (3)

- ‌أعوان المحتسب ومساعدوه

- ‌الصلاحيات الممنوحة للمحتسب

- ‌عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر

- ‌الدرس: 7 المحتسب (4)

- ‌وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب

- ‌دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب

- ‌المسجد ودوره في الاحتساب

- ‌الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب

- ‌الدرس: 8 المحتسب فيه (1)

- ‌تعريف المحتسب فيه

- ‌شروط المحتسب فيه

- ‌شمولية المحتسب فيه

- ‌الدرس: 9 المحتسب فيه (2)

- ‌قاعدة في تغيير المنكر

- ‌لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق

- ‌الدرس: 10 المحتسب عليه (1)

- ‌تعريف المحتسب عليه، وشروطه

- ‌أنواع المحتسب عليهم

- ‌الدرس: 11 المحتسب عليه (2)

- ‌ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام

- ‌حكم بذل النصيحة لولاة الأمر

- ‌كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء

- ‌الدرس: 12 المحتسب عليه (3)

- ‌مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي

- ‌الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها

- ‌الدرس: 13 الاحتساب

- ‌معنى الاحتساب، ومراتبه

- ‌فقه الاحتساب

- ‌متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم

- ‌الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص

- ‌وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم

- ‌الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة

- ‌التعريف بالنيابة العامة وتطورها

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

- ‌الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم

- ‌مقدمة

- ‌نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها

- ‌اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة

- ‌عواقب ترك الحسبة والقعود عنها

- ‌ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها

- ‌أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية

- ‌الدرس: 18 شبهات حول الحسبة

- ‌الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع

- ‌الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا

- ‌الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله

- ‌الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه

- ‌القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة

الفصل: الحسنة، ولكن بشرط ألا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام

الحسنة، ولكن بشرط ألا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام الآخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع، وعلى هذا لا نرى ما قاله الفقهاء من أن المحتسب له أن يتخذ أعوانًا. أما المتطوع فليس له ذلك؛ لأن اتخاذ الأعوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى، فلا ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا التعاون بحجة أنه غير معين من قبل ولي الأمر ما دام صالحًا للحسبة، وتتوفر فيه شروطها".

وكذلك لا نرى منع المتطوع من التعذير على المنكرات الظاهرة أو على الأقل لا نرى منعه من التعذير مطلقًا؛ لأن التعذير درجات، فينبغي ألا يمنع إلا من بعضها لا كلها، كأن يمنع من الضرب والجلد، وولاية المحتسب يستمدُّها من الشرع الشريف؛ لأن المسلم مكلف بالحسبة، وحيث يوجد التكليف توجد الولاية على القيام بما كُلف به، إلا أنه في حالة قيام ولي الأمر بتنظيم أمور الحسبة، وتعيين الأكفاء لها، فإن المعين يملك من الولاية أكثر مما يملكه غير المعين، ومع هذا، فإن ولاية المحتسب المعين من قبل ولي الأمر يستمدها من الشرع، وإن جاءت عن طريق ولي الأمر باعتبار أن تنظيم ولي الأمر الحسبة سائغ مشروع فكأن الشرع خوَّله ذلك.

هذا هو المحتسب، والفرق بينه وبين المتطوع كما ذهب إليه الفقهاء، ورأي الدكتور عبد الكريم زيدان في هذه التفرقة.

‌شروط المحتسب

يُشترط لإيجاب الأمر بالمعروف والن هي عن المنكر اتفاقًا ببين العلماء ثلاثة شروط، وهي: الإسلام، والتكليف، والاستطاعة،

ص: 69

واختلفوا في شرطين، وهما: العدالة، والإذن من الإمام.

أما الإسلام: فلأن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو نصرة للدين فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين، قال الله تعالى:{الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141).

أما التكليف: فإنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب الأمر والنهي على مجنون أو صبي؛ لأن القلم مرفوع عنهما، ولكن لو أنكر الصبي المميز جاز، وأثيب على ذلك لم يكن لأحد منعه؛ لأنها قربة إلى الله، وهو من أهل أدائها لا من أهل وجوبها قاله الغزالي والرافعي والنووي رحمهم الله وغيرهم، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فإنه ليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي، وإراقة الخمر، وغيرهما من المنكرات.

أما اشتراط الاستطاعة فلقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، ولقول النبي -صلى الله عليه وسل م-:((ما نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))، وقد يكون وجود الاستطاعة كعدمها أحيانًا، فيسقط الوجوب مع وجودها، كما إذا خاف على نفسه أو ماله مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع.

ص: 70

أما العدالة: فقد ذهب قوم إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترط أن يكون عدلًا، وأنه ليس لفاسق أن يأمر وينهى، قال الإمام ابن النحاس:"وهذا من حيث الإطلاق فاسد".

قال الإمام النووي في (شرح مسلم): "قال العلماء: لا يُشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلًا ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، وعليه النهي وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه أمران: أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاها، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر".

وقال الإمام القرطبي في تفسيره في أوائل سورة "آل عمران": "ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلًا عند أهل السنة؛ خلافًا للمعتزلة حيث تقول: لا يغير المنكر إلا عدل، وهذا كلام ساقط".

ثم قال المصنف: "ومما يدل على أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) ".

الشرط الخامس: وهو الإذن من الإمام، قال الإمام الغزالي: "قد شرط قوم أن يكون مأذونًا لهم من جهة الإمام، وهذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكرًا وسكت عنه، عصى أينما رآه وكيفما رآه، على العموم بلا تخصيص فشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له.

قال الإمام الرافعي والإمام النووي وغيرهما: "لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين وواجب عليهم".

ص: 71

وقال إمام الحرمين: "والدليل عليه إجماع المسلمين بأن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم، مع تقرير المسلمين إياهم على ذلك، وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية".

قال الإمام ابن النحاس: قلت: ويؤكد ما سبق من حديث طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري في الإنكار على مروان بن الحكم تقديمه الخطبة على الصلاة في العيد، واستدل على فعله بقول النبي -صلى الله عليه وسل م-:((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).

وقد تكلم الدكتور عبد الكريم زيدان عن هذين الشرطين المختلف فيهما، وهما: العدالة، وإذن الإمام؛ فقال: "أما الإذن من الإمام أو نائبه فهذا شرط محل نظر، ذلك أن المحتسب إذا عُيِّن من قبل ولي الأمر فلا حاجة له للإذن؛ لأنه ما عُين إلا للاحتساب، أما إذا لم يكن معينًا وهو الذي يسمونه المتطوع فإن اشترطوا له الإذن لكل نوع من أنواع الحسبة، فإن اشتراطهم هذا لا دليل عليه، بل إن النصوص تدفعه؛ لأن كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه، وقدر على إزالته، دون اشتراط إذن من الإمام، ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن من الإمام؛ فضلًا على أن الحسبة تجري على الإمام نفسه، فكيف يحتاج المحتسب إلى إذن منه للإنكار عليه.

وإن اشترطوا الإذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة، وهي التي يجري فيها التعذير واتخاذ الأعوان، واستعمال القوة، فهذا الشرط له وجه مقبول لابتنائه على المصلحة؛ لأن إباحة هذا النوع من الاحتساب لكل أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى، ووقوع الاقتتال بين الناس بحجة الحسبة، وباشتراط الإذن تندفع هذه

ص: 72

الأضرار، فيلزم الإذن؛ لأن دفع الضرر واجب، وما يستلزمه هذا الدافع يكون مشروعًا، ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا أمن الفتنة، وإن استلزم التغيير اتخاذ الأعوان، واستعمال القوة، ومباشرة التعزير كلما كان ذلك ضروريًّا، ولا يحتمل التأخير حتى يتحصل الإذن.

وأما العدالة، فهذا شرط قال به البعض، فعندهم لا بد أن يكون المحتسب عدلًا غير فاسق، ومن مظاهر عدالته أن يعمل بما يعلم، ولا يخالف قوله عمله، ويمكن أن يستدل بهذا القول بقول الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).

كما أن المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه، ولا يخالف قوله فعله؛ ليكون لقوله التأثير المطلوب في رفع المنكر واستجابة الناس له، ولهذا قال شعيب عليه السلام لقومه كما أخبرنا الله تعالى:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).

وفي الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال: ((رأيت ليلة أسري به رجالًا تقرض شفاههم بالمقرايض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)).

وقال البعض الآخر: العدالة ليست شرطًا، وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر؛ لأنه ما من أحد إلا ويصدر منه العصيان، والمعصية تثلم العدالة، فكيف يُشترط ما يتعذر التحقق في المسلم، ولهذا قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى:"إذا كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء".

ص: 73

والراجح: عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ، ومن حيث الجملة دون التفصيل؛ لأن الاحتساب فرض كسائر الفروض الإسلامية، لا يتوقف القيام به على أكثر مما يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض، وليس مما يتوقف عليه أن يكون المحتسب عدلًا بالاصطلاح المعروف عند الفقهاء؛ لأن ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه، هو من الأمور الحسنة المشروعة، والحق ينبغي أن يتبع ويقبل من قائله بغض النظر عن فعله وسلوكه، وما احتج به المشترطون لا حجة لهم فيه؛ لأن الذمَّ على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه، لا على نهيه على المنكر، وإن كان النهي على المنكر ممن يأتيه مستقبحًا في النفوس، كما أن أمره بالمعروف دلَّ على قوة علمه، وعقاب العالم وذمُّه إذا ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر. وعليه، فإن الإنكار في قول الله تعالى:{وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} إنما كان بسبب أنهم نسوا أنفسهم لا بسبب أنهم أمروا غيرهم بالمعروف.

هذا هو رأينا في المسألة واشتراط العدالة في المحتسب، ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والأصل إلا أن العدالة لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها، ومن ثم يكون لاشتراط العدالة وجه مقبول، وبيان ذلك أن الحسبة إذا كانت بالوعظ والإرشاد؛ فإن نفعها المرجو يحصل إذا كان المحتسب ورعًا تقيًّا عدلًا، حيث يكون لكلامه ووعظه عادة تأثير في الناس وقبول عندهم، فيتركون المنكر، وحيث كان نفع الحسبة مرجوًّا بالوعظ ولا ضرر للمحتسب منه؛ كانت الحسبة عليه واجبة. فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطًا مقبولًا.

ص: 74

أما إذا كان المحتسب فاسقًا غير عدل، فالغالب أن وعظه لا يؤثر ولا يقبل فلا يفيد، وإذا لم ينفع وعظه لم تجب عليه الحسبة؛ لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة. أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطًا في المحتسب؛ لوجوب الحسبة عليه، إذ الشرط لوجوبها عليه القوة والقدرة وليست العدالة، ولأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

ومع هذا التفصيل الذي بيناه، فإنه مما لا ريب فيه أن من المرغوب فيه بالنسبة لجميع المحتسبين أن يكون على أكبر قدر ممكن من العدالة، وتجنب ما يخدشها، وكلما كان المحتسب أكثر عدالة من غيره كان ذلك -كما قالوا- أزيد في توقيره، وأنفى للطعن في دينه، وتؤثر حسبته وتقبل، وإن كانت بالقوة والقهر.

ومن شروط المحتسب: العلم، فيُشترط في المحتسب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف المنكر فينهى عنه، ويعرف المعروف فيأمر به حسب الموازين الشرعية، وبهذا يكون احتسابه عن علم ومعرفة لا عن جهل وتخبط، وقد جاء في الأثر:"لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به فقيهًا فيما ينهى عنه"، ويدخل في حد العلم المطلوب علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها، ومجاريها، وموانعها؛ ليقف عند حدود الشرع، ولكن هل يشترط في المحتسب أن يكون مجتهدًا؟

الجواب بالإيجاب إذا قلنا للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه في الأمور المختلف فيها. أما إذا قلنا: ليس للمحتسب ذلك؛ فالاجتهاد ليس شرطًا، وإنما يكفي أن يكون عالمًا بالمنكرات المتفق عليها، وبالمعروف المتفق عليه، وعدم اشتراط الاجتهاد هو ما نرجحه.

ص: 75

ويقول الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- في اشتراط العلم للمحتسب: "الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يحتاج إلى أن يكون الإنسان عالمًا بالمعروف والمنكر، فإن لم يكن عالمًا بالمعروف؛ فإنه لا يجوز أن يأمر به؛ لأنه قد يأمر بأمر يظنه معروفًا وهو منكر ولا يدري، فلا بد أن يكون عالمًا أن هذا من المعروف الذي شرعه الله ورسوله، ولا بد أن يكون عالمًا بالمنكر، أي: عالمًا أن هذا منكر، فإن لم يكن عالمًا بذلك فلا ينهى عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء هو معروف، فيترك المعروف بسببه أو ينهى عن شيء وهو مباح، فيضيِّق على عباد الله بمنعهم بما هو مباح لهم، فلا بد أن يكون عالمًا بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من إخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة يظنونها منكرًا، فيضيقون على عباد الله؛ فالواجب ألا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وألا تنهى عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر.

كما يجب عليك أن تعلم بأن هذا الرجل تارك للمعروف، أو فاعل للمنكر، ولا تأخذ الناس بالتهمة أو بالظن، فإن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12)، فإذا رأيت شخصًا لا يصلي معك في المسجد؛ فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي في مسجد آخر، بل قد يكون يصلي في مسجد آخر، وقد يكون معذورًا، فلا تذهب من أجل أن تُنكر عليه حتى تعلم أنه يتخلف بلا عذر، نعم، لا بأس أن تذهب وتسأله وتقول: يا فلان نحن نفقدك بالمسجد لا بأس عليك، لعل المانع خير، أما أن تنكر أو أشد من ذلك أن تتكلم في المجالس، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري ربما يكون يصلي في مسجد آخر، أو يكون معذورًا في التخلف عن الجماعة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفهم أولًا قبل أن يأمر، فقد ثبت في (صحيح مسلم):((أن رجلًا دخل يوم الجمعة والنب ي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس ولم يصلِّ تحية المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين))، ولم

ص: 76

يأمره أن يصلي ركعتين حتى سأله هل صلى أم لا، مع أن ظاهر الحال أنه رجل دخل وجلس ولم يصل، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسل م- خاف أن يكون قد صلى وهو لم يشعر به، فقال:((أصليت، فقال: لا، قال: قم فصل ركعتين)).

كذلك في المنكر لا يجوز أن تُنكر على شخص إلا إذا علمت أنه وقع في المنكر، فإذا رأيت مع شخص امرأة في سيارة مثلًا، فإنه لا يجوز أن تتكلم عليه أو على المرأة؛ لأنه ربما تكون هذه المرأة من محارمه زوجة، أو أمًّا، أو أختًا، أو ما أشبه ذلك؛ حتى تعلم أنه قد أركب معه امرأة ليست من محارمه، وأمثال هذا كثير، والمهم أنه لا بد من علم الإنسان أن هذا معروف ليأمر به، أو منكر لينهى عنه، ولا بد أن يعلم أيضًا أن الذي وجه إليه الأمر أو النهي قد وقع في أمر يحتاج إلى أمر فيه أو نهي عنه.

وهل يُشترط في المحتسب أن يكون عارفًا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي يباشرها الناس؟ الواقع أن هذا التساؤل وراد؛ لأن عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن، والحرف ليتأكد من عدم غش أصحابها واحتيالهم، وإضرارهم بالناس؛ فقد ذكر الفقهاء أن على المحتسب أن يراقب أصحاب المهن والصنائع المختلفة، ويمنعهم من الغش فيها، كما يمنع مباشرتها من قبل الجُهَّال بها، ومن البديهي أن هذا لا يتأتَّى للمحتسب إلا إذا كان عارفًا بهذه الصنائع والحرف؛ بل ذهب الفقهاء إلى أن المحتسب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية كطبيب العيون، ليتأكد من صلاحيته لهذه المهنة، وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا الجانب من العلم.

قال الفقيه عبد الرحمن النصر الشيزاري: "وأما الكحالون -يعني: أطباء العيون- فيمتحنهم المحتسب، فمن وجده فيمن امتحنه عارفًا بتشريح عدد

ص: 77

طبقات العين سبعة، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير؛ أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس". كما صرح الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالأوزان ونحوها فمن أقوالهم: لما كانت هذه -أي: القناطير، الأرطال، والمثاقيل، الدراهم- أصول المعاملات، وبها اعتبار المبيعات؛ لزم المحتسب معرفتها، وتحقيق كميتها؛ لتقع المعاملة بها من غير غُبنٍ على الوجه الشرعي.

وعلى هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسبه فيه من المهن والحرف والصنائع، لكن يمكن أن يقال: إن إلزام المحتسب معرفة هذه الأشياء كلها أو أكثرها، بل وحتى بعضها مما يشقُّ عليه ويعسر، ولهذا نرى أن وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن أن تحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الأشياء؛ سواء كان هؤلاء الخبراء من أعوانه الدائمين أو من غيرهم، فيستشيرهم فيما يتحسب فيه من شئون هذه المهن والحرف والصنائع، ويأخذ بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاتًا.

ويشترط أيضًا في المحتسب: القدرة: أن يكون قادرًا على الاحتساب باليد واللسان، وإلا وقف عند الإنكار القلبي، وهذا اشرط مفهوم فيمن يقوم بالاحتساب من تلقاء نفسه، وبدون تعيين من ولي الأمر. أما المعين فإن القدرة حاصلة فيه؛ لأن الدولة معه، هذا ولا يقف سقوط وجوب الحسبة على العجز الحسي، بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ولا يطيقه على ما بيَّنه الفقهاء،

ص: 78