الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجواب: أن الشريعة الإسلامية دلت على أن الإجماع حجة معتبرة، فإذا أخذنا بما رآه المسلمون حسنًا فأمرنا به، وبما رأوه قبيحًا فنهينا عنه، فإنما نأخذ بدليل الإجماع، وهو دليل شرعي أرشدتنا إليه الشريعة، وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح، هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح.
شروط المحتسب فيه
أما شروطه: فقد قال ابن النحاس في (تنبيه الغافلين): "يشترط في الفعل الذي يجب إنكاره: أن يكون منكرًا، سواء كان صغيرة أو كبيرة؛ إذ لا يختص وجوب الإنكار بالكبائر دون الصغائر، ولا يشترط في كونه منكرًا أن يكون معصية، فإن من رأى صبيًّا أو مجنونًا يشرب الخمر، فعليه أن يريق خمره، ويمنعه من شربه، وكذا من رأى مجنونًا يزني بمجنونة، أو بهيمة، وجب عليه منعه، وإن كان في خلوة، وإن كان هذا لا يسمى في حق المجنون معصية.
ويشترط أيضًا: أن يكون المنكر موجودًا، يعني: مستمرًّا، فمن فرغ من شرب الخمر مثلًا لم يكن لآحاد الرعية الإنكار عليه بغير الوعظ إذا صحا من سكره، بل الأفضل لمن رآه، أو علم به أن يستر عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)).
ومحل الستر: فيما إذا لم تصل الحدود إلى الحكام، فإذا وصلت إليهم بالطريق الشرعي لم يجز ستره، وتحرم الشفاعة فيه؛ للحديث المشهور: أن أسامة بن زيد لما كلم النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المرأة المخزومية التي سرقت؛ غضب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب الناس ثم قال: وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)).
قال الإمام النووي في شرح مسلم: "وإنما يندب الستر على من كان من ذوي الهيئات مثل: العلماء، وأولياء الأمور، ونحوهم، ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب ألّا يستر عليهم، بل يرفع قصته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطغيه، ويطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك الحرمات، فلو لم يستر على من لم يندب الستر عليه، بل رفعه إلى السلطان ونحوه، لم يأثم بالإجماع لكن هو خلاف الأولى".
وأما المُنكر الذي يعلم بقرائن الحال أنه سيوجد، فلا إنكار فيه إلا بالوعظ، بشرط: أن يكون صاحبه معترفًا بعزمه عليه، فإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه، فإن فيه إساءة الظن بالمسلم.
فإن قيل: ينبغي أن نقول هذا فيمن خلا بأجنبية، أو وقف ينظر إلى النساء الأجنبيات؛ لأنه ربما لا يقدم على الفسق أو يعترف بعزمه عليه. قلنا: إنما أنكرنا عليه من حيث إن الخلوة معصية، والنظرة معصية في ذاتها، لا من حيث إننا نتوقع به معصية قد لا يقدم عليها.
الشرط الثالث في المنكر: أن يكون ظاهرًا بغير تجسس، فكل من ستر معاصيه في داره وأغلق عليه بابه لا يجوز لأحد أن يتجسس عليه.
قال الإمام الماوردي: "ليس للمحتسب أن يبحث عما لا يظهر من المحرمات، وإن غلب الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت، وذلك على وجهين:
أحدهما: أن يكون في ذلك حرمة يفوت استدراكها مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا
الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث؛ حذارًا من فوات ما لا يستدرك، وكذلك لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. قال ابن النحاس: قلت: والأمر مداره على التقوى.
والوجه الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه".
وقال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): نص أحمد فيمن رأى إناء يرى أن فيه مسكرًا، نص أنه يدعه، يعني: أنه لا يفتشه، ترجم عليه الخلال: ما يكره أن يفتش إذا استراب به، وقطع القاضي في (المعتمد) أنه لا يجوز إنكار المنكر إذا ظن وقوعه، وحكى عن بعضهم أنه يجب، واختار ابن المنذر وغيره من الأئمة أن الميت إذا نيح عليه يعذب إذا لم يوص بتركه، وكان من عادة أهله النوح، وهذا معنى اختيار الشيخ فخر الدين في (التلخيص).
قال الشيخ مجد الدين في (شرح الهداية)، وهو أصح الأقوال: لأنه متى غلب على ظنه فعلهم له، ولم يوص بتركه مع القدرة، فقد رضي به، فصار كتارك النهي عن المنكر مع القدرة، فقد جعل ظن وقوع المنكر بمنزلة المنكر الموجود في وجوب الإنكار، والمشهور عندنا في هذه الحال: أنه لا يعذب.
وذكر القاضي أبو يعلى في (الأحكام السلطانية): إن غلب على الظن استسرار قوم بالمعصية؛ لأمارة دلت، وآثار ظهرت، فإن كان في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها جاز أن يتجسس، ويقدم على البحث والكشف، وهذا في المحتسب دون غيره.
الشرط الرابع: يشترط في المنكر أن يكون معلومًا بغير اجتهاد: قال الإمام النووي في (شرح مسلم): العلماءُ إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه: فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه؛ لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) خلافًا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم ليس له أن يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير؛ لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين، فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين- ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا.
وقال الحافظ ابن رجب في (جامع علوم والحكم) في شرح حديث: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره)) قال: والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعًا عليه، فأما المختلف فيه: فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا، أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا.
واستثنى القاضي في (الأحكام السلطانية) ما ضعف فيه الخلاف، وإن كان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد، فالخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النسا المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة؛ فإنه ذريعة إلى الزنا.
وذكر عن إسحاق بن شقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة. عن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلًا إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثًا في لفظ واحد، وحكم بمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة والنكال.
والمنصوص عن أحمد: الإنكار على اللاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد، أو تقليد سائغ، وفيه نظر؛ فإن النصوص عنه: أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف؛ لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعل متأول عن العدالة بذلك، وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته، ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك.
هذه هي أقوال الفقهاء في هذا الشرط من شروط المنكر، وهو ألا ينكر المختلف فيه، وللإمام ابن القيم رحمه الله رأي وجيه في هذه المسألة، فقد قال في كتابه (إعلام الموقعين): خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف. قال: قولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أو العمل، أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعًا شائعًا وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك، فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مسار، لم تنكر على من عمل بها مجتهدًا، أو مقلدًا،
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب: ما عليه الأئمة، أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل: حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به يسوغ فيها- الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد، ليس في قوله هذا طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب.
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وإن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج، وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقًا، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه.
وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن
المصراة يرد معها عوض اللبن صاعًا من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل.
ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها. وعلى كل حال، فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب، وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي.
وحتى لو لم يقل له ذلك، كان هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن له في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أصحابه هذه الحيل، ولا يدلهم عليها، ولو بلغه عن أحد فعل شيئًا منها؛ لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه يفتي بها، ولا يعلمها، وذلك مما يقطع به كل من له أدنى اطلاع على أحوال القوم، وسيرتهم، وفتاويهم، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
وقد لخص الدكتور عبد الكريم زيدان في كتاب (أصول الدعوة) كلام ابن القيم هذا فقال في اشتراط عدم الخلاف: يشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرًا؛ حتى لا يحتج المحتسب عليه بأن ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء، وإن كان غير جائز على رأي المحتسب.