الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آداب المحتسب
أول ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، ولا يكون قوله مخالفًا لفعله، فقد قال الله تبارك وتعالى في ذم بني إسرائيل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)، وخاطبنا الله نحن المؤمنين بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3).
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسل م- أنه قال: ((رأيت ليلة أسري بي رجالًا تُقرض شفاههم بالمقاريض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)).
وقد قال الله تعالى مخبرًا عن شعيب عليه السلام لما نهى قومه عن بخس الموازين ونقص المكاييل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود: 88).
وقد قال القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى، وطلب مرضاته، خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولا مراء، ويتجنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس؛ لينشر الله عليه رداء القبول، وعلم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابة، وجلالة، ومبادرة إلى قبول قوله بالسمع والطاعة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسل م-:((من أرضى الله بسخط الناس كفاه شرهم، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إليهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه)).
وقد ذُكر أن أتابك سلطان دمشق طلب محتسبًا، فذُكر له رجلٌ من أهل العلم، فأمر بإحضاره فلما نظره قال:"إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الطُّرَّاحة -مرتبة يجلس عليها السلطان- وارفع هذا المسند، فإنهما حرير، واخلع هذا الخاتم فإنه ذهب، وقد قال -صلى الله عليه وسل م-: ((هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها))، فنهض السلطان عن طراحته وأمر برفع المسند، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: ضممت إليك النظر في أمور الشرطة، فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه".
وينبغي للمحتسب أن يكون مواظبًا على سنن رسول الله -صلى الله عليه وسل م- من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونظافة الثياب، وتقصيرها، والتعطر بالمسك، ونحوه، وجميع سنن الشرع ومستحباته، هذا مع القيام على الفرائض والسنن الراتبة؛ فقد نقل عن بعض أصحاب مذهب الشافعي رضي الله عنه:"أن العدل إذا أصر على ترك السنن الراتبة؛ كان ذلك قادحًا في عدالته".
وقد حُكي أن رجل حضر عند السلطان محمود بمدينة غزنة يطلب الحسبة، فنظر السلطان فرأى شاربه قد غطى فاه من طوله، وأذياله تسحب على الأرض، فقال السلطان للشيخ:"يا شيخ امضِ واحتسب على نفسك، ثم عُد واطلب الحسبة على غيرك".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ضرورة الإخلاص لله، والتمسك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسل م- في حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يقول: "وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال، وأفضلها، وأحسنها، وقد قال الله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2)، وقد قال الفضيل بن عياض في تفسير هذه الآية:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: يعني: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصًا، ولم
يكن صوابًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة".
فالعمل الصالح لا بد أن يُراد به وجه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده، كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسل م- قال:((يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك)).
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسوله، وله خلق الخلق، وهو حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحًا وهو ما أمر الله به ورسوله، وهو الطاعة، فكل طاعة عمل صالح، وكل عمل صالح طاعة، وهو العمل المشروع المسنون؛ إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب، وهو العمل الصالح، وهو الحسن، وهو البر، وهو الخير، وضده المعصية، والعمل الفاسد، والسيئة، والفجور، والظلم.
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين النية والحركة، قال النبي -صلى الله عليه وسل م-:((أصدق الأسماء حارث وهمام))، فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها أن يُراد الله بذلك العمل، والعمل المحمود الصالح، وهو المأمور به، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه:"اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا".
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه، ولا يكون عمله صالحًا إن لم يكن بعلم وفقه،
وكما قال عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، وكما قال معاذ بن جبل:"العلم إمام العمل، والعمل تابعه"، وهذا ظاهر، فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالًا واتباعًا للهوى، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والصلاح بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود.
ومن آداب المحتسب: تقليل العلائق: رُوي عن بعض المشايخ أنه كان له قط، وكان يأخذ له كل يوم من الجزار شيئًا لغذائه، فرأى على الجزار منكرًا فدخل الدار، وأخرج القط، ثم جاء واحتسب على الجزار، فقال الجزار: لا أعطيك بعد اليوم شيئًا للقط، فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج القط، وقطع الطمع منك، ويجب أن يلزم غلمانه وأعوانه بما التزمه من هذه الشروط، فإن أكثر ما تتطرق التهم إلى المحتسب من غلمانه وأعوانه، فإن علم أن أحدًا منهم أخذ رشوة أو قبل هدية؛ صرفه عنه لينفي عنه الظنون، وتنجلي عنه الشبهات، فإن ذلك أزيد لتوقيره وأتقى للطعن في دينه.
وليكن سمته الرفق ولين القول، وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره الناس ونهيه، فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب وحصول المقصود، قال الله تبارك وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسل م-:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159).
ولأن الإغلاظ في الزجر ربما أغرى بالمعصية، والتعنيف بالموعظة ينفر القلوب. حُكي أن رجلًا دخل على المأمون فأمره بمعروف ونهاه عن منكر، وأغلظ له
في القول، فقال له المأمون: يا هذا إن الله أرسل من هو خير منك لمن هو شر مني، فقال لموسى وهارون عليهما السلام:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44)، ثم أعرض عنه ولم يلتفت إليه.
ولأن الرجل قد ينال بالرفق ما لا ينال فيما يأمر به من غير الرفق، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الفرق بين المحتسب الرفيق والعنيف: "يُذكر أن رجلًا من أهل الحسبة -يعني: من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- في زمان مضى قديمًا مر على شخص يسقي إبله عند أذان المغرب، وعادة الناس أن يحدوا بالإبل -يعني: ينشد لها شعرًا من أجل أن تخف وتسرع؛ لأنه -سبحان الله- الإبل تطرب لناشدي الشعر- فجاء هذا الرجل ومعه غيره وتكلم على هذا بكلام قبيح على العامل الذي يسقي الماء، والعامل متعب من الشغل، وضاقت عليه نفسه، فضرب الرجل بالمسوقة -يقول الشيخ: وهي عصى طويلة متينة- فشرد الرجل وذهب إلى المسجد، والتقى بالشيخ عالم من العلماء من أحفاد الشيخ محمد بن الوهاب رحمه الله وقال: إني فعلت كذا وكذا، وإن الرجل ضربني بالمسوقة، فلما كان من اليوم الثاني ذهب الشيخ بنفسه إلى المكان قبل غروب الشمس وتوضأ، ووضع عباءته على خشبة حوله، ثم أذن المغرب فوقف كأنه يريد أن يأخذ عباءته، فقال له: يا فلان يا أخي جزاك الله خيرًا، أنت تتطلب الخير في العمل هذا، وأنت على خير، لكن الآن أذن للصلاة، لو أنك تذهب وتصلي المغرب وترجع ما فاتك شيء، سبحان الله الكلام هين لين، فقال العامل للشيخ: جزاك الله خيرًا مر عليَّ رجل أمس جلف، وقام ينتهرني، وقال لي: أنت فيك ما فيك، وما ملكت نفسي حتى ضربته بالمسوقة، قال: الأمر لا يحتاج
إلى ضرب أنت عاقل، تكلم معه بكلام لين، فأسند المسوقة العصى التي يضرب بها الإبل، ثم ذهب يصلي بانقياد، وكان هذا؛ لأن الأول عامله بالعنف والثاني عامله بالرفق".
ونحن وإن لم تحصل هذه القصة هذه الواقعة، فكلام رسول الله -صلى الله عليه وسل م- يكفينا، ففي الحديث أنه -صلى الله عليه وسل م- قال:((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))، وقال -صلى الله عليه وسل م-:((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه))، فعلى الآمر أن يحرص على أن يكون أمره ونهيه رفيقًا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.