الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للمسلمين وفجره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر". وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))، وكان صلى الله عليه وسلم يحث على الانضواء تحت لواء الأمراء حتى ولو رأى المسلم من أميره ما يكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية)).
وعلى هذا فلا يحل للمسلم أن يخلع بيعة أميره ويخرج من الطاعة إلا أن يرى كفرًا بواحًا معه عليه من الله برهان، كما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:((دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعنا، وفيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان)).
وقد جاء في شرح هذا الحديث عند النووي رحمه الله أنه قال: "أي لا تنازعوا ولاة الأمور ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم".
حكم بذل النصيحة لولاة الأمر
إن ما يتحمله الإمام والراعي من مسئوليات وأعباء في رعاية شئون الأمة تجعله دائمًا بحاجة إلى النصح، والتذكرة، والأمر، والنهي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، وقال صلى الله عليه وسلم:((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه)).
والحاكم بغض النظر عن رتبته ووظيفته أخ للمسلم في الإسلام، ولا شك أن تلك الأخوة قائمة بين الحاكم والمحكوم، والقيام بحقوقها من أحدهما للآخر
واجب في كل زمان ومكان، ومن حقوقها بذل النصيحة من كل منهما للآخر لا سيما من المحكوم للحاكم لشدة حاجته إليها ومردودها الطيب على الجميع.
ومن الأدلة على وجوب تقديم النصيحة للحاكم والأمير ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رضي لكم ثلاثًا، وكره لكم ثلاثًا؛ رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا)).
ومن خطبته صلى الله عليه وسلم بالخيف ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
قال أبو عثمان سعد بن إسماعيل الخيري: "فانصح للسلطان، وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد في القول والعمل، فإنه إن صلحوا صلح العباد لصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم فيزدادوا شرًّا، ويزداد البلاء بالمسلمين".
ويقول ابن عبد ربه في (العقد الفريد): "فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم الإيمان إلا به، ولا يثبت الإسلام إلا عليه"، ولكن هل يكون بذل النصيحة دائمًا حكمه الندب أم أنه يأخذ مرتبة الوجوب في حالات معينة؟
والجو اب: أن النصيحة وبذلها يأخذ أشكالًا مختلفة بحسب مقتضيات الحال، فبينما نجد نصوصًا ظاهرها الندب والحث على بذل النصيحة، نجد نصوصًا أخرى تأمر ببذل النصيحة على سبيل الإلزام، وعلى حسب درجات القدرة، من تلك النصوص ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن مروان بن الحكم خطب قبل الصلاة في العيد؛ فقال له رجل: "إنما الخطبة بعد الصلاة؛ فقال مروان: ترك
ذلك يا أبا فلان؛ فقال له أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وتزداد قيمة النصيحة ويعظم أجر بذلها عند من يخاف شره، ويخشى بطشه، وتكثر أخطاؤه وفجوره حتى تصل إلى أعلى مراتب الجهاد في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم:((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)).
ومن هذا المنطلق كان المحتسب يقصد مجالس الأمراء والولاة، ويعظهم، ويطالبهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ويذكرهم بمسئوليتهم وعظمها من خلال إيراد بعض النصوص الشرعية التي تبين ذلك.
ومن صور احتساب العلماء على الأمراء: أنه جاء عن أحمد بن إبراهيم المقري قال: "كان أبو الحسن النوري رجلًا قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا غيره ولو كان فيه تلاحم، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دنًّا مكتوبا عليها بالقار: لُطْف، فقرأه، وأنكره؛ لأنه لا يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف؛ فقال الشيخ رضي الله عنه للملاح: أي شيء في هذه الدنان؟ فقال: وأي شيء عليك؟! امض لشغلك، فلما سمع النوري رحمه الله من الملاح هذا القول ازداد تعطشًا إلى معرفته؛ فقال له: أحب أن تخبرني أي شيء في هذه الدنان؟ فقال له الملاح: أنت والله صوفي فضولي، هذه خمر المعتضد بأمر الله يريد أن يتمم به مجلسه.
فقال النوري -رحمة الله عليه-: هذه خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني ذلك المدرى، فاغتاظ الملاح عليه، وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر الذي يصنع، فلما صارت في يده صعد إلى الزورق، فلم يزل يكسرها دنًّا دنًّا حتى أتى على آخرها إلا دنًّا واحدًا، والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الخمر، وهو يومئذ موسى بن أفلح، فقبض على النوري، واستحضره إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس أنه سيقتله، قال الشيخ أبو الحسن: فدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد، وبيده عامود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب، قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين؛ قال: فأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه، قال: فأطرق المعتضد مفكرًا في كلامه، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من بين جملة هذه الدنان؟ فقلت له: في تخليصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن لي.
فقال: أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني قدمت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه وتعالى بذلك، وعم قلبي شاهد الإخلاص الحق وخوف المطالبة، فغابت هيبة الخلق عني، فأقدمت عليه بالحال الأول إلى أن صرت إلى هذا الدن فجزعت نفسي كثيرًا على أني قد أقدمت على مثلك فمنعت نفسي، ولو أقدمت عليه في الحال الأول ولو كانت ملء الدنيا دنانًا لكسرتها ولم أبال.
قال الشيخ أبو الحسن النوري -رحمة الله عليه-: فقال لي أمير المؤمنين المعتضد بأمر الله: اذهب فقد أطلقنا يدك غيِّر ما أحببت أن تغيره من المنكر، قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين أبغض التغيير لأني كنت أغير عن الله، وأنا الآن أغير
شرطيًّا؛ فقال المعتضد بأمر الله: ما حاجتك؟ قلت: تأمر بإخراجي سالمًا فأمر لي بذلك، وخرجت إلى البصرة فلبثت بها أكثر أيامي خوفًا من أن يسأل حاجة يسألها المعتضد فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد، ثم رجع إلى بغداد".
والمتدبر لمثل هذا الموقف يرى أن الذي يحتسب الأمر عند الله بنفس الروح التي احتسب بها هذا الرجل لا يهمه مكانة المحتسب عليه حتى ولو كان الحاكم أو الأمير؛ لأن الناس تجاه أوامر الشريعة سواسية لا فرق بين سوقي ولا حاكم، والمحتسب يقوم بواجبه تجاه الجميع، ومع الجميع.
وملحظ آخر: هو أن المسلم الذي تبلغه دعوة الحق سواء كان حاكمًا أو محكومًا لا يتوان في قبولها، ولذا نرى موقف الخليفة الذي ذُكِّر فتذكر، ونصح فاستفاد، لم يكن إلا أن زاد في صلاحية هذا المحتسب، وأطلق يده في تغيير كل منكر، ولا يسع المسلم الحق إلا أن يمتثل ويعمل بصدق وإخلاص إذا عرف الحق وذكر به.
ومن صور الحسبة أيضًا: هو التي تتمثل فيها جرأة المحتسب في تغيير المنكر، وعدم مداهنة المحتسب عليه لمنصب يرجوه، أو حظوة ينتظرها، كما تتمثل الغاية في التأثر والقبول من الحاكم ما ذكره ابن بسام المحتسب في كتاب (نهاية الرتبة) من أن أتابك سلطان دمشق طلب له محتسبًا، فذكر له رجل من أهل العلم فأمر بإحضاره، فلما بصر به قال: "إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقال هذا المحتسب: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الطراحة وارفع هذا المسند الذي وراء ظهرك فإنه حرير، واخلع هذا الخاتم من إصبعك فإنه ذهب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير:((إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها)) قال: فنهض السلطان عن
الطراحة، وأمر برفع المسند الذي كان يتكئ عليه، وخلع الخاتم من إصبعه، وقال: قد ضممت إليك النظر في أمور الشرطة، قيل: فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه".
فهذه كانت سيرة العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة الملوك، لكنهم اتكلوا على فضل الله، وأن الله يحرسهم، ورضوا بحكم الله أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية، وأزال قساوتها وأمالها.
وأما الآن فقد استولى على الناس حب الدنيا، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر؟! والله المستعان على كل حال. وكانت من عادات السلف الحسبة على الولاة قاطعًا بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، فكل من أمر بالمعروف وإن كان المتولي راضيًا فذاك، وإن كان ساخطًا فسخطه عليه منكر، يجب الإنكار عليه، وكيف يحتاج إلى إذنه، ويدل على ذلك سنن السلف في الإنكار على الأئمة كما في قصة مروان وخطبته قبل الصلاة، فلقد فهم السلف من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها، فكيف يحتاج إلى إذنهم؛ لأن الحسبة عبارة عن المنع من منكر بحق الله صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر.
وعن سفيان الثوري قال: "حج المهدي في سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يحتاطون به يمينًا وشمالًا، يضربون الناس بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر على جمل لا ضرب، ولا طرد، ولا جلد، ولا إليك، وهأنت يحيط الناس بين يديك يمينًا وشمالًا؛