الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام القرطبي وغيره أنهم قالوا في شرح الحديث: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلًا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها".
ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وأثر السلوك في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى: ما ثبت من استعاذة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، فقد روى الإمام مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال:((لا أقول إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).
وروى الإمام النسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع)).
أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر
ومما يدل على أهمية العمل بالعلم للمحتسب وأثره في الدعوة إلى الله تعالى: ما ورد من توبيخ، وتقريع لمن خالف عمله قوله في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وأقوال أهل العلم، وكلام الشعراء؛ فأما ما جاء في ذم من خالف فعله قوله في الكتاب العزيز: فمنه قول الله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).
ففي هذه الآية الكريمة وبخ الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب الذين يأمرون الناس بالمعروف، ولا يفعلونه. قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية:"كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتتنبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم".
وقال القاضي البيضاوي في تفسير الآية: "والآية ناعية على من يعظ غيره، ولا يتعظ بنفسه سوء صنيعه، وخبث نفسه، وأن فعله فعل الجاهل بالشرع، أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته".
قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير الآية: "فقاس من حمله -سبحانه- كتابه؛ ليؤمن به، ويتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر، ولا تفهم، ولا اتباع له، ولا تحكيم له، وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار، لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره".
ثم قال رحمه الله: "فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حقه رعايته".
وقال عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 175، 176) فشبه الله تعالى من علمه العلم، فترك العمل به بالكلب.
قال الإمام ابن القيم: "فشبه سبحانه وتعالى من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله تعالى على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، شبهه بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرًا، وأخسها نفسًا، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرا وحرصًا".
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3)، فأنكر عز وجل على أهل الإيمان أن يقولوا ما لا يفعلونه، وبين سبحانه وتعالى أن هذا سبب غضبه الشديد، ومقته الكبير.
قال الإمام الشوكاني في تفسيره: " {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي: لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه؟ ".
وقال القاضي البيضاوي في تفسيره: " {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} المقت: أشد البغض، ونصبه على التمييز؛ للدلالة على أن قولهم هذا مقت خالص، كبر عند من يحقر عنده كل عظيم؛ مبالغة في المنع عنه".
ومما يجب التنبه له في هاتين الآيتين الكريمتين: أن الله عز وجل ناداهم بوصف الإيمان؛ ولعل ذلك كان تعريضًا بأن الإيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن مخالفة فعله قوله، والله تعالى أعلم.
أما السنة: فقد ورد فيها من الترهيب من عدم العمل بالعلم، ومخالفة القول الفعل الكثير والكثير؛ فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فتجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر، وآتيه)).
ومن حديث أسامة بن زيد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)). وفي رواية: ((يقرءون كتاب الله، ولا يعملون به)).
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه))، وفي رواية:((ما تُزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)).
وعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس، وتحرق نفسها)).
وعن جندب بن عبد الله الأزدي رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه)).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان)).
وعن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ((ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم. قال: قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!)).
ومما نجده في هذا الحديث الشريف: أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قرر أن وقت ترك العمل بالعلم هو وقت اندراس العلم، كما قرر صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارى رغم قراءتهم التوراة والإنجيل جاهلون؛ لأنهم لا يعملون وفق علمهم.
قال الإمام الطيبي في شرح الحديث: "قوله: ((لا يعملون بشيء)) حال من فاعل ((يقرءون)) يعني: يقرءون التوراة والإنجيل غير عاملين بشيء مما فيهما. نزل العالم الذي لم يعمل بعلمه منزلة الجاهل، بل هو بمنزلة الحمار الذي يحمل أسفارًا.
وأما أقوال السلف -رضوان الله عليهم- في الحث على العمل بالعلم، والتحذير من مخالفة القول الفعل، وترك العمل بالعلم؛ فقد قال يوسف: بالأدب تفهم
العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد، وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله عز وجل.
وعن جعفر بن محمد بن نصير أن أبا العباس الحلواني أخبره قال: سمعت أبا القاسم الجنيد يقول: متى أردت أن تُشَرَّف بالعلم، وتنسب إليه، وتكون من أهله قبل أن تعطي العلم ما له عليك احتجب عنك نوره، وبقي عليك رسمه وظهوره، ذلك العلم عليك لا لك؛ وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه رحلت بركاته.
وعن أحمد بن الحسين بن أحمد الواعظ قال: سمعت أبا عبد الله الرُّذْبادي يقول: "من خرج إلى العلم يريد العلم لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم". قال: وسمعت أبا عبد الله الرذبادي يقول: "العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله عز وجل".
وعن مالك بن دينار قال: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه، وإذا طلبه لغير ذلك ازداد به فجورًا، أو فخرًا". وعنه قال: "من تعلم العلم للعمل كسره علمه، ومن طلبه لغير العمل زاده فخرًا".
وعن مطر قال: خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه، ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه، ثم تركه.
وعن حبيب بن عبيد الرحبي قال: "تعلموا العلم، واعقلوه، وانتفعوا به، ولا تعلموه؛ لتتجملوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه".
وقال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك، واليقين ما حملك".
وعن صالح بن رستم قال: "قال لي أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علمًا، فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدِّث به الناس".
وعن الحسن قال: "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية".
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل".
وعن ابن المنكدر قال: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ما علم الله عبدًا علمًا إلا كلفه يوم القيامة ضماره من العمل".
وقال فضيل بن عياض رحمه الله: "لا يزال العالم جاهلًا بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالمًا"، وقال رحمه الله:"إنما يراد من العلم العمل، والعلم دليل العمل". وقال أيضًا: "على الناس أن يتعلموا، فإذا علموا فعليهم العمل".
وقال عبد الله بن المعتز: "علم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة". وقال أيضًا: "علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله".
وعن منصور بن زاذان قال: "نبئت أن بعض من يلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك ما كنت تعمل؟ ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ قال: فيقول: إني كنت عالمًا فلم أنتفع بعلمي".
وعن يحيى بن معاذ الرازي قال: مسكين من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه، وفهمه القاطع بعذره. وقيل لبعضهم: ألا تطلب العلم؟ فقال: خصومي من العلم كثير فلا أزداد. وقال سُرِّي: كلما ازددت علمًا كانت الحجة عليك أوكد.
وقال محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ: "كل من ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجة عليه ووبال".
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: إنما يضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عصى عن علم؛ ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء: 145)؛ لأنهم جحدوا بعد العلم.
وجعل اليهود شرًّا من النصارى، مع أنهم ما جعلوا لله -سبحانه- ولدًا، ولا قالوا: إنه ثالث ثلاثة، إلا أنهم كفروا بعد المعرفة، إذ قال الله تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: 146) وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89)، وقال تعالى في قصة بلعام:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} حتى قال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} فكذلك العالم الفاجر، فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى؛ فأخلد إلى الشهوات، فشبه بالكلب أي: سواء أوتي الحكمة، أو لم يؤت، فهو يلهث إلى الشهوات.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ويل لمن لا يعلم مرة، وويل لمن يعلم، ولا يعمل سبع مرات".
وقال الشعبي: "يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار، فيقولون لهم: ما أدخلكم النار، وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم، وتعليمكم؟ فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله".
وقال حاتم الأصم رحمه الله: "ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علمًا فعملوا به، ولم يعمل هو به، ففازوا بسببه، وهلك هو".
وقال مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا".
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "مررت بحجر بمكة مكتوب عليه: اقلبني تعتبر، فقلبته فإذا عليه مكتوب: أنت بما تعلم لا تعمل، فكيف تطلب علم ما لم تعمل؟ ".
قال ابن السماك رحمه الله: "كم من مذكر بالله ناسٍ لله، وكم من مُخَوِّف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله".
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب". وقال الأوزاعي:"إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع".
وقال عيسى عليه السلام: ((مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت؛ فظهر حملها فافتضحت، فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الأشهاد)).
وقال معاذ رحمه الله: "احذروا زلة العالم؛ لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعونه على زلته".
وقال عمر رضي الله عنه: "إذا زل العالم زل بزلته عالَم من الخلق". وقال عمر رضي الله عنه: "ثلاث بهن ينهدم الزمان؛ إحداهن: زلة العالم".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب، فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه، ولا متعلمه، فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطر السماء، فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة، فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة، ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم؛ فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه، والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ، وما أجدب القلوب، فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى، والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى".
وفي التوراة والإنجيل مكتوب: "لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم".
وقال حذيفة رضي الله عنه: "إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا؛ وذلك لكثرة البطالين".
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: واعلم أن مثل العالم مثل القاضي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((القضاة ثلاثة: قاضٍ قضى بالحق وهو يعلم، فذلك في الجنة، وقاضٍ قضى بالجور وهو يعلم، أو لا يعلم فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير ما أمر الله به، فهو في النار)).
وقال كعب رحمه الله: ي"كون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا، ولا يزهدون، ويخوفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، يأكلون بألسنتهم، يقربون الأغنياء دون الفقراء، يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال، يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، أولئك الجبارون أعداء الرحمن".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم الخشية".
وقال الحسن: "تعلموا ما شئتم أن تعلموا، فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا، فإن السفهاء همتهم الرواية، والعلماء همتهم الرعاية".
وقال مالك رحمه الله: "إن طلب العلم لحسن، وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي، فلا تؤثرن عليه شيئًا".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذتم دراسته عملًا، وسيأتي قوم يخطفونه مثل القناة، ليسوا بخياركم، والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة، ولا يجدها".
ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، وأثره على المحتسب، وفي احتسابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن العبد سيسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه، وقد كان سلف الأمة -رضوان الله عليهم- يخشون هذه المساءلة، فروى الإمام الدارمي عن مالك بن دينار، قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "من يزدد علمًا يزدد وجعًا". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ما أخاف على نفسي أن يقال لي: ما علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لي: ماذا عملت؟ ".
وروى الإمام البيهقي عن لقمان -يعني: ابن عامر- قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رءوس الخلائق، فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربي فيقول: ما عملت فيما علمت؟ ".
وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "إذا كنت آمرًا بالمعروف، فكن من آخذ الناس به، وإلا هلكت، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر، فكن من أنكر الناس له، وإلا هلكت".
قال ابن النحاس رحمه الله في (تنبيه الغافلين): "والأحاديث والآثار في ذم علماء السوء، وتوبيخ من لم يعمل بعلمه، ومن خالف قوله عمله كثيرة جدًا، وهي ناطقة بأن من أمر بما لا يفعل أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، وأن العلماء الفجرة هم الأخسرون إذ ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأن حجتهم داحضة عند ربهم؛ لما وهبهم من علمه نعمة منه عليهم، فكفروا نعمته، وخالفوا أمره، ولا يخفى عن ذي لب أن ملكًا من الملوك لو أرسل كتابه بأمر من الأمور إلى عبد من عبيده لا يعرف الكتابة، وليس عنده من يعرفه بما فيه فخالف أمره، لا يكون ذنبه عنده كمن أمكنه أن يقرأه، أو يسأل من يقرؤه؛ ليعرف ما فيه فيمتثله، فترك ذلك، وخالف ما فيه جاهلًا به، ولا يكون جرم هذا كجرم من قرأه، وفهمه، وكرر قراءته غير مرة، ثم خالف ما أمره به سيده ومولاه، وعمل بعكسه، لا جرم كان هذا العبد عنده أحق العبيد بأليم عذابه، وأولاهم بعظيم سخطه، وأقربهم إلى إبعاده وطرده؛ ولهذا جعل الله تعالى المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وتأمل قول الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 204، 205).
وعن عمران بن أبي الجعد قال: قال عبد الله بن مسعود: "إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله، فإنما يوبخ نفسه".
وعن الحسن قال: "اعتبروا الناس بأعمالهم، ودعوا أقوالهم، فإن الله لم يدع قولًا إلا جعل عليه دليلًا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولًا حسنًا فرويدًا بصاحبه، فإن وافق قوله فعله فنعم، ونعمت عين".
وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: "أدركت الناس، وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل". وقال المأمون: "نحن إلى أن نوعظ بالأعمال، أحوج منا أن نوعظ بالأقوال".
وروي عن علي رضي الله عنه قال: "يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من علم، ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كونوا للعلم وعاة، ولا تكونوا له رواة، فإنه قد يرعوي، ولا يروي، ولا يرعوي".
وذكر ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء قال:"لا تكون تقيًّا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا".
قال أبو عمر: مِن قول أبي الدرداء هذا -والله أعلم- أخذ القائل قوله: كيف هو متقي ولا يدري ما يتقي؟ وعن الحسن قال: العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذاك.
ومن الأشعار في ذم عدم العمل بالعلم، ومخالفة القول الفعل: قول أبي العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
…
وريح الخطايا من ثناياك تسطع=
ما أقبح التزهيد من واعظ
…
يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقًا
…
أضحى وأمسى بيته المسجد
أن يرفض الدنيا فما باله
…
يستملح الناس ويسترفد
الرزق مقسوم على من ترى
…
يسعى به الأبيض والأسود
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: "أشكو إلى الله عيبي ما لا أترك، ونعتي ما لا آتي". وقال: "إنما يبكي بالدين للدنيا". وقال عبد الله بن عروة في هذا المعنى شعرًا:
يبكون بالدين للدنيا وبهجتها
…
أرباب دين عليها كلهم صادي
لا يعملون لشيء من معادهم
…
تعجلوا حظهم في العاجل البادي
لا يهتدون ولا يهدون تابعهم
…
ض ل المقود وضل القائد الهادي
وقال:
يا أيها الرجل المعلم غيره
…
هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
…
بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
…
كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا
…
نصحًا وأنت من الرشاد عديم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال أبو العتاهية:
يا ذا الذي يقرأ في كتبه
ما أمر الله ولا يعمل
قد بين الرحمن مقت الذي
يأمر بالحق ولا يفعل
من كان لا تشبه أفعاله
أقواله فصمته أجمل
من عذل الناس فنفسي بما
قد قارفت من ذنبها أعذل
إن الذي ينهى ويأتي الذي
عنه نهى في الحكم لا يعدل
وراكب الذنب على جهله
أعذر ممن كان لا يجهل
لا تخلطن ما يقبل الله من فعل
بقول منك لا يقبل
وقال بعضهم:
وبخت غيرك بالعمى فأفدته
بصرًا وأنت محسن لعماك
كفتيلة المصباح تحرق نفسها
وتنير موقدها وأنت كذاك
وقال محمد بن عيسى:
لا تلم المرء على فعله
…
وأنت منسوب إلى مثله
من ذم شيئًا وأتى مثله
فإنما يزري على عقله
وقال منصور الفقيه:
إن قوما يأمرون
بالذي لا يفعلون
لمجانين وإن هم
…
لم يكونوا يصرعون
وقال غيره:
إذا أنت لم تعرف لذي السن فضله عليك
فلا تنكر عقوق الأصاغر
فعلى المحتسب أن يتذكر ما أوردناه من القرآن والسنة، وأقوال سلف الأمة، وما ذكرناه من أشعار الشعراء، وأن يجتهد في أن يعمل بالعلم؛ حتى يؤثر قوله في الناس، وينفع الله تبارك وتعالى بقوله، فيكتب الله تبارك وتعالى له أجره. وليستعن بالله عز وجل على العمل بالعلم، وليجاهد نفسه على ذلك؛ فإن الله تبارك وتعالى قال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) ".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.