المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها

- ‌تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا

- ‌منزلة الحسبة في الدين

- ‌مقصود الحسبة في الإسلام

- ‌فضائل الحسبة

- ‌فوائد الحسبة

- ‌الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها

- ‌(حكم الحسبة

- ‌الحِكمة من مشروعية الحسبة

- ‌مراتب الحسبة

- ‌الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة

- ‌الحسبة نظام إسلامي أصيل

- ‌الحسبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي رضي الله عنهما

- ‌الدرس: 4 المحتسب (1)

- ‌تعريف المحتسب

- ‌شروط المحتسب

- ‌آداب المحتسب

- ‌الدرس: 5 المحتسب (2)

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر

- ‌الدرس: 6 المحتسب (3)

- ‌أعوان المحتسب ومساعدوه

- ‌الصلاحيات الممنوحة للمحتسب

- ‌عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر

- ‌الدرس: 7 المحتسب (4)

- ‌وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب

- ‌دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب

- ‌المسجد ودوره في الاحتساب

- ‌الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب

- ‌الدرس: 8 المحتسب فيه (1)

- ‌تعريف المحتسب فيه

- ‌شروط المحتسب فيه

- ‌شمولية المحتسب فيه

- ‌الدرس: 9 المحتسب فيه (2)

- ‌قاعدة في تغيير المنكر

- ‌لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق

- ‌الدرس: 10 المحتسب عليه (1)

- ‌تعريف المحتسب عليه، وشروطه

- ‌أنواع المحتسب عليهم

- ‌الدرس: 11 المحتسب عليه (2)

- ‌ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام

- ‌حكم بذل النصيحة لولاة الأمر

- ‌كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء

- ‌الدرس: 12 المحتسب عليه (3)

- ‌مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي

- ‌الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها

- ‌الدرس: 13 الاحتساب

- ‌معنى الاحتساب، ومراتبه

- ‌فقه الاحتساب

- ‌متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم

- ‌الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص

- ‌وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم

- ‌الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة

- ‌التعريف بالنيابة العامة وتطورها

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

- ‌الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم

- ‌مقدمة

- ‌نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها

- ‌اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة

- ‌عواقب ترك الحسبة والقعود عنها

- ‌ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها

- ‌أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية

- ‌الدرس: 18 شبهات حول الحسبة

- ‌الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع

- ‌الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا

- ‌الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله

- ‌الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه

- ‌القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة

الفصل: ‌أنواع المحتسب عليهم

فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية، كالغصب، أو قتل عبد مملوك للغير، فهذا يجب المنع منه، وإن كان فيه تعب ما؛ لأن المقصود حق الشرع، والغرض دفع المعصية، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي، كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي، والمعاصي كلها في تركها تعب، وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس، وهي غاية التعب.

‌أنواع المحتسب عليهم

قلنا: إن المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر ما تجري فيه الحسبة، وعلى هذا يمكن أن يكون محتسبًا عليه أي فرد في المجتمع بلا استثناء إذا ما صدر منه ما تجري فيه الحسبة، سواء كان إمامًا للمسلمين أو واحدًا من عموم الناس، لكن أول من تجب عليه الحسبة هم أقارب المحتسب؛ لأن أقارب المحتسب من زوجة، وأبوين، وأولاد هم مرآة المحتسب الذين يعكسون للناس صورته، وصورة أهله.

فيجب على المحتسب قبل أن يحتسب على الناس أن يحتسب على أهل بيته أولًا، فبذلك أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: 132)، وقال -سبحانه-:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59).

ولذلك روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد أن يأمر الناس، أو ينهاهم جمع أهل بيته، ثم قال:"إني خارج إلى الناس لآمرهم بكذا، أو أنهاهم عن كذا، فوالله لتكونن أول من تأتمرون، أو أول من تنتهون، وإلا فعلت بكم، وفعلت".

ص: 194

ومن الخطأ أن ينشغل المحتسب بالاحتساب على الناس خارج بيته، ويُهمل الحسبة في بيته وعلى أهله، هذا خطأ كبير. أول ما ينبغي على المحتسب أن يحتسب على أهل بيته أولًا من الأولاد والآباء والأزواج.

فأما الأولاد: فإن الحسبة معهم على ضربين:

أحدهما: الحسبة على الأولاد دون البلوغ.

والثاني: الحسبة على الأولاد البالغين.

فأما ما يتعلق بالأولاد دون سن البلوغ: فإن من الحسبة عليهم تعليمهم، وتربيتهم تربية دينية صحيحة، وإعدادهم الإعداد اللازم؛ ليكونوا عند بلوغهم شبابًا مستقيمًا على وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وقد جاءت نصوص تحث على القيام بهذه الحسبة داخل البيت، فقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6).

والآية تبين مسئولية الأب عن أهله في الدنيا والآخرة، ولقد سجل الله تبارك وتعالى لنا مثل ً اأعلى في الحسبة على الأبناء في قصة لقمان عليه السلام فقد رفع الله ذكره، وأعلى شأنه، وسمى سورة في القرآن باسمه سورة "لقمان"، وذكر فيها حسبته على ابنه:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 12، 13) الآيات.

ص: 195

فالواجب على الآباء ألا يهملوا الحسبة على الأبناء، فإن لهم في ذلك الخير الكثير، وهذا من حق الأبناء على الآباء، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما نحل والد ولده من نحل أو فضل من أدب حسن))، وقال عليه الصلاة والسلام:((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)).

ولا يعتقدن الأب وهو يربي أولاده على الفضيلة والأخلاق التي جاء بها الإسلام أن ذلك تطوعًا وتفضلًا منه، بل هو فرض على الأبوين يسألان عن ذلك يوم القيامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:((كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها)).

ولذا قال الفقهاء: إن الأب له أن يكره ولده الصغير على تعلم القرآن، والأدب، والعلم؛ لأن ذلك فرض على الوالدين، ولكن الأبوين لا يملكان حق الإكراه، والتعزير على الولد بعد بلوغه، فإن الولد البالغ يصير بمنزلة الأجنبي، كما قال ابن عابدين: أما الكبير فكالأجنبي، وقال بعضهم: إن لهما -أي: الأبوين- حق تأديبه حتى بعد بلوغه.

فعلى الآباء أن يهتموا بالحسبة على أبنائهم قيامًا لهم بالواجب الذي نيط بأعناقهم نحوهم.

أما الحسبة على الوالدين: فهي أدق ما يكون في حسبة المحتسب مع أقاربه، فالأمر في ذلك يحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر؛ لأن طبيعة النصيحة إذا أتت من الصغير للكبير يكون التغلب في الغالب صعبًا بعكس إذا كانت من الكبير إلى

ص: 196

الصغير؛ فإنه غالبًا يحصل التقبل، ومن هنا وجب على الولد الذي يريد أن يحتسب على والديه بأمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر أن يستخدم أقصى ما يمكن من الحكمة، واللين، والتلطف، والإقناع بالتي هي أحسن، بعيدًا عن الزجر، والتقريع، فقد قال تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23).

وقد بلغ من حق الأبوين على ولدهما أنه لا يقتص منهما إذا قتلاه، فقد قال عليه الصلاة والسلام:((لا يقاد الوالد لولد))، ولذا قال بعض الفقهاء: إن الولد ليس له أن يباشر إقامة الحد على أبويه.

وقال الغزالي بعد تعرضه للحسبة على الآباء: "فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع من جناية مستقبلية متوقعة، بل أولى"، يعني: أولى ألا يكون ذلك.

ونُقل عن العلامة ابن عابدين أن الرجل ينهى أبويه إذا رآهما يرتكبان المنكر مرة واحدة، فإن انتهيا وإلا فيسكت إن ساءهما ذلك، ويسأل الله عز وجل أن يهديهما، ويغفر لهما ذنبيهما.

أما الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله فهو يرى أنه ينبغي للولد أن يغير المنكر الذي يرتكبه والده دون أن ينال منهما، فهو يقول: فأما الوالدان فليس للولد عليهما إلا التعريف -يعني: بالمنكر- ثم النهي بالوعظ والنصح، وليس له أن يعنفهما أو يهددهما، أو يضربهما، ولكن له على رأي أن يغير ما يأتيان من المنكر بحيث لا يمس شخصيتهما، كأن يريق خمرهما، أو يرد ما جاء في بيتهما من مال مغصوب، أو مسروق لأصحابه.

ص: 197

أما الحسبة على الزوجة: فالله تبارك وتعالى قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34)، وإن القوامة التي ورد ذكرها في الآية لا تعني بحالة أن تكون محكومة خاضعة للزوج، دون أن ينالها منه توجيه ونصح، فيما يصون به عليها دينها، وإيمانها، ويهذب أخلاقها وفق ذلك، فإن قوامة الزوج لم تكن في يوم من الأيام مقصور على تحمل النفقة، وإدارة شئون البيت.

ولذا يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير كلمة {قَوَّامُونَ} يقول: "الرجل قيم على المرأة أي: هو رئيسها وكبيرها، والحاكم، ومؤدبها إذا اعوجت".

أما الجصاص فيقول: " {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} يعني: قيامهم عليهن بالتأديب، والتدبير، والحفظ، والصيانة".

ومن المعلوم أن لكل رجل المعرفة بأهله، والاطلاع على عيوبهم ومزاياهم، ثم القدرة على إصلاحهم، وما خوله الشرع حق تقويمهم مما ليس لغيره، وبذلك يتعين على الرجل إصلاح أهله في كثير من الأمور التي لا يتمكن غيره من الوقوف عليها، ولا من إصلاحها، وللرجل أن يستخدم حق تأديب زوجته مقيدًا بحدود وضوابط لا يتجاوزها بحال، وهذه القيود والضوابط على النحو التالي:

أولًا: للرجل تعزير زوجته عند بعض الفقهاء إذا أبت أن تجيب حين يدعوها إلى فراشه من غير حرج، أو تكون عصته، وغالبته، واستكبرت عليه فتخاصمه، وتشتمه، أو تأخذ بلحيته، أو تمزق ثيابه، أو تترك الزينة والتجمل مع أمره

ص: 198

واستطاعتها، أو تعطي من بيته شيئًا بلا إذن، وما إلى ذلك، أو إذا أتت بما لا تقره الأخلاق الإسلامية، كأن تشتم أحدًا، أو تكشف وجهها لغير محرم، أو تكلم أجنبيًّا بغير حجاب، أو تخرج من البيت بغير إذنه، وما شابه ذلك.

ثانيًا: ليس له تعزيرها إذا طلبت نفقتها أو كسوتها، وألحت في ذلك؛ لأن لصاحب الحق يد الملازمة، ولسان التقاضي.

ثالثًا: ويجوز للزوج التعزير وهو يحتسب على زوجته؛ لوقوعها فيما يوجب الحسبة؛ بارتكابها لبعض المنكرات التي ليس فيها حد، أما ما قررت فيها الشريعة حدًّا، فلا يصح فيها التعزير، بل ينفذ الحد، لأن إقامة الحد ليست من شأن أحد من العامة، بل هي من اختصاص الحكام.

يقول العلامة الكاشاني: إذا ارتكبت الزوجة معصية سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فالزوج يؤدبها تعزيرًا لها؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته إذا جاءت بما يوجب ذلك، لكن ما حدود هذا التعزير الذي هو دون الحد؟ إن حدوده تتمثل فيما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:((ضربًا غير مبرح))، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما الضرب غير المبرح بالسواك، وشبهه، يضربها به.

وفي رواية أخرى: ((ضربًا لا يكسر عظمًا))، وقال قتادة: غير مبرح أي: غير شائن. وليس للزوج أن يبالغ في تعزير زوجته، فإن تعد في ذلك عرض نفسه للتعزير، هو وقد جاء في (تنوير الأبصار): إن ادعت المرأة على زوجها ضربا فاحشًا، وثبت ذلك عليه يعزر.

أما فيما يتعلق بحسبة الزوجة على الزوج: فمعلوم أن الزوجة تابعة، وهي من الزوج على حد تعبير الغزالي كالولد من الوالد، فهي تذكر زوجها إذا ارتكب

ص: 199

المنكر عن جهل، وترشده إلى حكم الشرع، ولها أن تعظه، وليس لها ما وراء ذلك من السب، والتقريع، أو الضرب.

فإذا قام المحتسب بالحسبة على أهل بيته انتقل بعد ذلك إلى الحسبة خارج البيت، وأول ما تجب الحسبة فيه: شعائر الإسلام من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.

فإذا كانت شعائر الإسلام، وتطبيق منهجه بين المسلمين هي مهمة المحتسب وغاية أهدافه، فإنه يأتي في مقدمة ذلك اهتمامه بأركان الإسلام الخمسة، وأولها وأهمها: الصلاة، والصلاة هي أعرف المعروف من الأعمال، ومن أولى وأهم ما يأمر به المحتسب، ويقوم به، بل هي رأس كل أمر ونهي، يؤمر بإقامتها، وينهى عن تركها، والتكاسل عن أدائها، فهي كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، والصلاة أهم من كل شيء؛ فإنها عماد الدين وأساسه، وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله، ويقول:"إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع".

ولشرفها فقد فرضت كل الشرائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، وفرضت الصلاة في السماء ليلة المعراج، ولم يبعث بها رسول من الملائكة ليبلغها لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كما هو شأن غيرها من فرائض الإسلام، وهي المخصوصة بالذكر في كتاب الله بعد تعميم كما في قوله تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} (العنكبوت: 45).

وهي المقرونة بالصبر، والزكاة، والجهاد في مواضع من كتاب الله مثل قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 45){وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83)، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163)، وقال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103).

ص: 200

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأمرها أعظم من أن يحاط به، فاعتناء ولاة الأمر بها يجب أن يكون فوق اعتنائهم بجميع الأعمال، ولا شك أن من أولويات ما يجب الاحتساب فيه في شأن الصلاة أن يبين المحتسب للناس أحكام الصلاة، ويسعى إلى تعليمهم؛ ذلك لأن الكثير من الناس يجهل أمورًا من أحكام الصلاة ليست قليلة، وليكن أول ما يعلم الناس كيفية التطهر، وما يتعلق به من أحكام.

وليكن هذا التعليم عمليًّا ما أمكن حتى يفهم الناس، ويرسخ ذلك في أذهانهم، ويلحق بذلك أن يعلم الناس أحكام التيمم، والمسح على الخفين، ثم يقوم المحتسب بتعليم الناس بقية أحكام الصلاة بنفسه، أو بحذف الجهات التعليمية؛ لتقوم هي بذلك وتطبق كيفية أدائها؛ حتى يؤديها المسلم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((صلوا كما رأيتموني أصلي))، فإن قيامه بكل ذلك يعتبر مقدما على أمرهم بإقامة الصلاة، إذ كيف تأمر جاهلًا بالقيام بعمل لا يحسن أداءه.

فإذا رأى المحتسب مصليًا يخالف هيئة الصلاة الشرعية بزيادة، أو نقص، أو تحريف، أو عدم إتمام ركوعها وسجودها، وكل أحكامها أرشده إلى الصواب، ويحتسب على من يصلي بغير اعتدال، ولا خشوع، ولا طمأنينة، ويقول له:((صلِّ، فإنك لم تصلِّ))؛ لما ثبت من احتسابه وتعليمه صلى الله عليه وسلم لأعرابي صلى فخفف الصلاة، ولم يستكمل ركوعها وسجودها؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((صلِّ، فإنك لم تصلِّ))، وعليه أن يأخذ بالحكمة واللين أثناء تعليمه وأمره ونهيه، ولا سيما إذا خاف أن يغضب عليه المصلي المنصوح، فإن عليه أن يلين كلامه، أو يحتال بحيلة تصلح الأمر.

ص: 201

كما روي من احتساب الفقيه أبي عبد الله الخوارزمي حين رأى رجلًا في المسجد يخفف الصلاة، فلما فرغ الرجل من صلاته، ذهب به إلى البيت، وطبخ له شيئا من الحلوى، وقدمها إليه، وقال له: أكنت مريضا؟ فقال الرجل: لا، س فقال: إني ظننت أنك كنت مريضًا حيث خففت الصلاة. فقام الرجل، وتاب ورجع عما كان يصنع.

وعلى المحتسب وهو يحتسب فيما يتعلق بأحكام الصلاة أن يلاحظ أن الأمور الفرعية المختلف فيها بين الفقهاء، ولا سيما في مندوبات الصلاة، وسننها بأن ذلك لا يلزمه في أن يأمر بها على سبيل الإلزام، وإن كان عليه أن يبين الرأي الصحيح فيها، ومثال ذلك: كما أورده الماوردي القنوت، إذا خالف فيه رأي المحتسب، فلا اعتراض في مثل ذلك بأمر ولا نهي ملزم، وكذلك الطهارة مثلًا إذا فعلها المحتسب عليه على وجه سائغ يخالف فيه رأي المحتسب، كاقتصاره على مسح أقل الرأس.

ويتقدم المحتسب إلى جيران كل مسجد يحثهم، ويأمرهم بالمواظبة على صلاة الجماعة عند الأذان؛ لإظهار معالم الدين، وإشهار شعائر الإسلام، فإن على كل مسلم إظهار أركان الإسلام؛ لأن صلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها للصلوات، يعتبر من شعائر الإسلام الظاهرة التي فرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام، ودار الشرك.

فإذا اجتمع أهل محلة على تعطيل الجماعة في مساجدهم، وترك الأذان في أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبًا إلى أمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات. وصلاة الجماعة واجبة على المسلم الذكر، العاقل، البالغ، القادر؛ لأن النصوص جاءت توضح ذلك الوجوب، ومنها: قول الله تبارك وتعالى:

ص: 202

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وهذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان إذ لم يسقطها سبحانه وتعالى عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، وهذا في حالة الحرب والخوف، فكيف بحال السلم والأمن؟!.

ومن الأدلة في السنة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)). وهذا كما يقول أهل العلم من أشد ما ورد في بيان الجرم، وكبيرة من تخلف عن الجماعة، والأدلة في وجوب الجماعة كثيرة نكتفي بالدليلين السابقين.

ومن مهمات الصلاة: الصلاة يوم الجمعة، الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد من الأعوام، وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطلب، فعلى المحتسب أن يأمر بابتداره في البواكر للفوز فيه بقربات البدايات الأخاير، فإنه اليوم الذي لم تطلع الشمس على مثله، وفيه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبلنا، فهو واسطة عقد الأيام السبعة، ولاشتماله على مجموع فضلها سمي: يوم الجمعة، فلينادهم بالاجتماع إليها.

وليراقبهم عند أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطان، فمن شغل عنها بتثمير مكسبه، أو لهى عنها بالإقبال على اللهو ولعبه. فإن على المحتسب أن يؤدبه بالعصا التي تضع من قدره، وتذيقه وبال أمره، ولا يمنعه من ذلك شيبة الشيبة، ولا هيئة ذي هيئة، فإنما هلك الذين قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

ص: 203

فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، والجمعة واجبة على كل مسلم، بالغ، عاقل، ذكر، حر، مستوطن، فلا تجب على الصغير، ولا المجنون، ولا المرأة، ولا العبد المملوك، ولا على المسافر. وتارك الجمعة من غير عذر يأثم إثمًا عظيمًا، ويكفي في الزجر عن ترك الجمعة، قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)).

وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وجب على المحتسب أن يمنع الناس عن الصلاة في الحوانيت، والدكاكين، والدور، وينهى عن ذلك، فإن لم ينتهوا كان له أن يؤدب، ويمنع الناس من البيع، والشراء بعد النداء؛ لأن ذلك حرام على كل من وجب عليه شهودها، دون من لا تجب عليه، أما بعد الفراغ منها فالبيع حلال.

وإذا كان المحتسب يبذل جل اهتمامه عند احتسابه في العبادات في الحث على الصلاة، وإقامتها على اعتبار أنها الصلة المستمرة بين العبد وربه في كل يوم خمس مرات، وهي أساس أعماله، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فإن على المحتسب أن يعطي من جهده للعبادات الأخرى ما تستحق.

ومنها: الزكاة؛ إذ لا ينبغي أن يقتصر اهتمامه على أمر من أمور الإسلام دون بقية ما يجب عليه تجاه غيره؛ وذلك لشمولية مهمته. والزكاة حق الله تبارك وتعالى في المال، وقد يشح بها الإنسان؛ لحبه المال، كما قال تعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20)، من أجل هذا يأتي دور المحتسب:

أولًا: في تبيين حكم الإسلام فيما يتعلق بوجوب الزكاة، وأن حق في المال لا بد من إخراجه.

ص: 204

وثانيًا: لمحاسبة، بل ومعاقبة من يتهاون عن ذلك.

وحتى لا يتداخل عمل المحتسب مع عمل عامل الصدقة الذي له الحق في المطالبة بأدائها، وله الحق في تعزير ممتنع عن إخراجها، فالزكاة -كما علمنا- حق المال، وهذا الجابي مندوب من قبل بيت مال المسلمين لأخذها، ولأن الزكاة في الإسلام صنفان على وجوه العموم، وذلك بالنسبة لتصنيف الأموال، فالأموال قسمان: أموال ظاهرة، وأموال خفية:

فالظاهرة هي ما لا يمكن إخفاؤه مثل: الزروع، والثمار، والمواشي.

وأما الخفية: فهي ما يمكن إخفاؤه كالذهب، والفضة، وما يقوم مقامهما.

وما هو من اختصاص المحتسب من هذين القسمين هو الأموال الخفية، فإن هذه الأموال لا تدخل في مهام عامل الصدقات، وإنما يتولى ذلك المحتسب، وإذا امتنع قوم من أداء الزكاة إلى الإمام العادل جحودًا لها؛ كانوا بالجحود مرتدين، يجري عليهم حكم أهل الردة، ولو امتنعوا من أدائها مع الاعتراف بوجوهها كانوا من بغاة المسلمين، يقاتلون على المنع منها، كما فعل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه.

كما أن على المحتسب، وهو يتابع إقامة المسلمين لشرع ربهم، ويحملهم على تطبيق ذلك، فإن له ما يتعلق بصيام شهر رمضان صورة حسبية، عليه أن يمارس احتسابهم من خلالها، ومن أول هذه الصور: أن يقوم باستغلال الوسائل الإعلامية مسموعة، أو مرئي، أو مكتوبة؛ ليبين للناس فضل الصوم، ويحثهم على تأدية هذا الركن، وليكن استغلاله لوسائل الإعلام المتاحة دائمًا لهذا وغيره.

ص: 205

ثم يكون من صور احتسابه: أن يحث الناس على ترائي الهلال؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)).

كذلك على المحتسب أن يقوم بالحسبة من أجل الحج، متى علم أن فلانًا من الناس قد تحققت في حقه الاستطاعة، وتوافرت شروط الوجوب، فعليه أن يأمره بالمبادرة إلى الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمبادر فقال:((من أراد الحج فليتعجل؛ فقد يمرض المريض، وتضل الدابة، وتعرض الحاجة)).

كذلك من المُحتسب عليهم: العاملون في المساجد من المؤذنين، والأئمة: إن ما يمثله الإمام والمؤذن بعملهما في قيادة الناس، ودعوتهم إلى خالقهم لأمر هام يستوجب أن يولي عناية فائقة في اختيارهما أولًا، ثم الإشراف عليهما من قبل الجهات المعنية بعملهما ثانيًا؛ لأن في ذلك صلاحًا للأمة بكاملها، فالإمام والمؤذن إذا أردك عظم مسؤوليتهما، وتفهماها وعملا بوحي من ذلك كانت الثمرة كبيرة، والمردود طيبًا.

من أجل ذلك كان الاهتمام بهما من قبل ولاة أمر المسلمين قديمًا وحديثًا لا ينقطع، وضمن ذلك النطاق الشمولي لعمل المحتسب في الماضي على وجه خاص، كان المحتسب هو المسئول عن متابعة عمليهما، وكان يقوم باختيارهما، وإجازة عملهما على وفق شروط حددت لذلك مسبقًا.

ومن صور احتساب المحتسب على الأئمة: أن ينبه الأئمة الذين يطيلون الصلاة بألا يفعلوا ذلك، يقول الماوردي: "ومن يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء،

ص: 206

وينقطع بها ذووا الحاجات، أنكر ذلك عليه المحتسب، كما أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل رضي الله عنه وكما يحتسب المحتسب على الأئمة الذين يطيلون الصلاة.

كذلك يحتسب على الخطباء الذين يطيلون الخطبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتقصير الخطبة، فقال:((إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)).

وعلى المحتسب ألا يغفل عن العناية التامة بنظافة المساجد، وتوفر كل لوازمها من إنارة، وفرش، وأدوات تنظيف، ونحو ذلك، فإن الله تبارك وتعالى قال:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18)، والعمارة قسمان: عمارة حسية، وعمارة معنوية.

ثم تمتد الحِسبة لتصل إلى أسواق المسلمين، ويحتسب المحتسب على جميع البائعين، والحرفيين، والمهنيين. وقد أطال الفقهاء في وصف الحسبة على كل ذي حرفة من الحرف، ولكننا نقتصر بذكر أمثلة على وجه الإيجاز، فمن الحسبة: الحسبة على الفرانين، والخبازين، فينبغي أن يأمر المحتسب الخبازين والفرانين برفع سقائف أفرانهم، وأن يجعلوا في سقوفها منافذ واسعة للدخان، ويأمرهم بكنس بيت النار في كل تعميرة، وغسل الآنية وتنظيفها، وأن يتخذ لها أبراشًا، وينهاهم عما يغشون به الخبز، ويأمرهم ألا يخبزوه حتى يختمر.

ص: 207

كذلك يأخذ المحتسب على فرانين الخبز البيوت لعظم حاجة الناس إليهم، ويأمرهم بإصلاح المداخل وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة؛ لئلا يلصق في أسفل الخبز منه شيء، ويجعل بين يديه غلام يعلم به أخباز الناس؛ لئلا يختلط عليه أطباق العجين، ولا يعرف بعضها من بعض، ويطعمهم الحرام.

وأما الجزارون: فيمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب حوانيتهم، فإنهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب المنع منه، فإن ذلك تضييقًا للطريق، وإضرارًا بالناس؛ بسبب رش الدماء، بل من حقه أن يذبح في المذبح، كذلك يمنعهم من إخراج توالي اللحم من الحوانيت، بل يجب أن تكون في الحوانيت، وأن يحفظها مما يضرها، ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، ولا يخلط بعضها ببعض، ولا يخلط شحوم المعز بشحوم الضأن، وإذا وقع عند أحدهم بهيمة مريضة أو متغيرة اللون منعه من بيعها مع اللحم الذي على حانوته، بل يأمره ببيعها خارجًا عنه، فإذا شك المحتسب في الحيوان هل هي مذبوحة أو ميتة اختبره، فإن ظهر أنه حي أجازه، وإلا منعه.

كذلك الحسبة على اللبانين: يعتبر على اللبانين تغطية أوانيهم، وأن يكون المكان مبلطًا، والأغطية جددًا، فإن الذبيب يحب مكان اللبن، وكذلك المحلب يكون في فمه ليفة نظيفة؛ حتى تمنع الوسخ، ويلزمهم في كل يوم بغسل المواعين بالليف

ص: 208

الجديد والماء النظيف؛ لئلا يسرع إليها الفساد في زمن الحر، ولا يعمل فوق وظيفته؛ لئلا يبور عنده وتحمض، ولا يستعمل إلا اللبن الحليب الدسم بخيره، ولا يكون مقشوطًا؛ فإنه لا طعم فيه، وقد راح دسمه، وكذلك اللبن المشوب بالماء، لا يجوز بيعه أصلًا.

كذلك ينبغي أن يحتسب على البزازين الذين يبيعون الأقمشة والثياب، فينبغي ألا يتجر في البز إلا من عرف أحكام البيع، وعقود المعاملات، وما يحل منها وما يحرم عليه، وإلا وقع في الشبهات، وارتكب المحظورات، وينهاهم عن الغش، وعن بيع الأخ على بيع أخيه، والسوم على سومه، وألا يبيع حاضر لبادٍ، وألا يبيع إلى أجل مجهول، أو سلعة على شرط المستقبل المجهول، وينبغي للتاجر أن يظهر جميع عيوب السلع خفيها وجليها، ولا يكتم منها شيئًا، فذلك واجب عليه. وينبغي أن يذكرهم بحرمة الغش، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((مَن غشنا فليس منا)).

كذلك يحتسب على القطانين الذين يبيعون القطن، فلا يخلطوا جديد القطن بقديمه، ولا أحمره بأبيضه، وينبغي أن يندف القطن ندفًا مكررًا حتى تطير منه القشرة السوداء، أو الحب المكسر؛ لأنه إذا بقي فيه الحب ظهر في وزنه، وإذا طرحه في جبة أو لحاف فغسلت ودقت قرضت الجبة، وأضر بملابس الناس، ومنهم من يندف القطن الرديء الأحمر، ويجعله في أسفل المكبة، ثم يعمل فوقه القطن الأبيض النقي فلا يظهر إلا عند غسله، وينهاهم أن يجلسوا النسوان على

ص: 209

أبواب حوانيتهم لانتظار فراغهم، ولا يضعون القطن بعد فراغه في المواضع النادية، فإن ذلك يزيد في وزنه، فإذا جف نقص، وهذا تدليس، فيمنعهم من جميع ذلك.

كذلك تمتد الحسبة لتشمل الأطباء، وكل الذين يتعلقون بمهنة الطب، والدواء. فالطب علم نظري وعملي أباحت الشريعة تعلمه؛ لما فيه من حفظ الصحة، ودفع العلل والأمراض على هذه البنية الشريفة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)).

وتعلم الطب من فروض الكفاية، فعلى المسلمين أن يهتموا بتعلم الطب؛ حتى لا يحتاجون إلى غيرهم، وعلى المحتسبين أن يحتسبوا على الأطباء، وبأن ينهوهم عن أن يتعاملوا بالطب دون علم، أو أن يصفوا سمًّا للمريض، أو أن يصفوا دواء يسقط الجنين، أو يمنع الحمل، أو غير ذلك من المنكرات التي يقع فيها الأطباء.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 210