الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخلاصة القول: فإنّ المتفق عليه بإجماع آراء رجال الفقه القانوني أن النظام النيابة العامة من أصل فرنسي بحت أعطي الخصائص التي يتميز بها حاليًا في النظام الحديث منذ قانون التحقيق الجنائي الفرنسي لسنة ألف وثمانمائة وثمانية من الميلاد، والقوانين المعدلة له، والتي لم تتغير حتى الآن، وامتد بعد ذلك إلى مختلف النظم القانونية التي أخذت به.
المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة
ليس بالضّرورة إذا ما قَامت مُقارنة بين نظامين أن يكون بينهم تَشابه، فقد تحصل المقارنة حتى ولو لم يوجد ذلك التشابه، يقول الشاعر:
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
…
ألم تر أن السيف ينقص قدره
ولكن قد يكون بين هذين النظامين من الصفات المشتركة، ما يدفع الدارس إلى دراسة تلك الصفات؛ لتبيين الحقيقة، ولمعرفة الفروق الجوهرية بينهما؛ فإنّ الأشياءَ لا تُعرف قيمتها الحقيقة إلا بالمقارنة، وعلى هذا فإننا إذ نقارن بين النظامي الحسبة والنيابة العامة لا نقرر أبدًا تَشابه النيابة العامة بمبدأ ونظام الحسبة الإسلامي الأصيل؛ فنظام الحِسْبَة نظامٌ رَبّانِيٌ جليل القدر، وواجب عظيمٌ على المسلمين أن يهتموا به، ويُطَبَِّقوه فيما بينهم، فهو أساسٌ عظيمٌ من أسس هذا الدين، ودعامة قوية من دعائم ترابط الأمة والحفاظ على مصلحها العامة والخاصة.
ويكفي أن الخيرية التي تسعى إليها كل أمة لا تتحقق إلا بالقيام بهذا النظام، وسريانه بين أفراد المجتمع، قال الله تبارك وتعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
وعلى هذا؛ فإنّ نظام الحسبة بهذه الموصفات لا يمكن أن يتغير أو يتبدل بتغير الزمن وتبدل الأشخاص.
أما نظام النيابة العامة وغيره من النظم الوضعية المشابهة فإن فيها من التقصير والأخطاء بقدر قصور وأخطاء واضعيها، وفيها من كل ذلك ما يَجْعَلُها تتغير وتتبدل بمرور الزمن، وتَبَدُّل الأشخاص، ومُسَايرة الرغبات، والميل مع الأهواء.
إذا تبين ذلك، فنقول: الفرق بين الحسبة والنيابة العامة من حيث النشأة:
أولًا: فيما يتعلق بنشأة الحسبة وتطورها: فقد سبق الحديث عن ذلك في درسٍ مستقل، وعرفنا منه أنّ الحسبة نشأت منذ نزول أو نصٍّ شرعي يدعو الأمة إلى إقامة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: بِبداية انطلاق دعوة الإسلام، وبِقَدْر تَماسك المسلمين وتطبيقهم لهذا المبدأ العظيم فيما بينهم؛ يكونُ تَقَدُّمهم، وتكون خيرتهم وتماسك مجتمعهم، وبقدر تركهم لهذا المبدأ العظيم، وانصرافهم عنه ينالهم الضعف والتفكك في الدنيا، وينالهم العقاب واللعنة في الآخرة، قال الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 165).
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79).
إذا عُرف هذا، علمنا أن وجود هذا النِّظام الرباني العظيم لم يكن وليد عصرٍ من العصور، أو حَاجة أو مصلحة طارئة، بل هو نظام إلهي عظيم أنزله الله، وأمر به منذ أن وجدت الحياة على هذه الأرض، وأنّ كُلّ الرِّسَالات السماوية جاءت
لتحقيقه وتطبيقه بين الناس، وهو وإن اختلفت الأسماء حوله فالغاية والغرض من وجوده واحد، وهو إقامة العدل الشامل، وتسيير الحياة على وفق ما يرضي خالقنا وخالق كل شيء سبحانه وتعالى وكذلك لتسيير عبوديتنا لله على وفق هذا المنهج.
أما وجود الحسبة كنظام يُطَبّق ويَقُوم به الحاكم المُسلم؛ فقد وجد كما عرفنا من قبل أيضًا مُنذ قيام دولة الإسلام في المدنية النبوية، طبقه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين، ثم طَبّقته المَمَالك والدول، التي قامت بعد ذلك إلى يومنا هذا، وإن كانت بعض بل كثير من الدول الإسلامية القائمة اليوم لا تطبقه، ولكنا نسأل الله أن يوفقهم لتطبيق حكم الله وشرعه على أرضه:{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيز} (إبراهيم: 20).
أما نَشْأَةُ النِّيابة العامة: فقد عرفنا أن نظام النيابة العامة مر بمراحل عديدة حتى وصل إلى وضعه الحالي، وهو أيضًا قابلٌ للتّغير على حسب مقتضيات العصر، وتغيير البَشر وأهوائهم، وقد تطور هذا النظام من النِّظام التنقيبي الذي يرجع إلى عصر الرُّومان؛ حيثُ كان يطبق على العبيد والمجرمين الخطرين، ثم انتقل إلى القانون الكنسي في القرون الوسطي، ومنه إلى المحاكم الملكية في النظام الفرنسي القديم. ويعتبر هذا النظام بحق نواة النيابة العامة.
إلّا أنّ هُناك نظرياتٍ أُخرى حول أصل ونشأة هذا النظام، منها: ما يرفض إرجاع أصل النيابة العامة إلى النظام الروماني، ومنها ما يؤيده.
وأيًّا ما كان فقد كان هناك نظريتان حول أصل النيابة العامة، وهي:"النظرية الكلاسيكية والتقليدية" التي حددت ظهور النيابة العامة ببداية القرن الرابع عشر للميلاد، وذلك في عهد الملك فيلب لويل، وتقول
هذه النظرية: "إن النيابة العامة تطورت خلال قرنين من الزمان منذ القرن السادس عشر للميلاد، حتى وصلت إلى هذا التنظيم المعروف، بعد حدوث بعض التغيرات البسيطة الخاصة بالبوليس القضائي".
النظرية الثانية هي "النظرية الحديثة" في أصل النيابة العامة، ويذهب أنصار هذه النظرية إلى أن ظهور النيابة العامة يرجع أولًا إلى نشأة محامي الملك في القرن الرابع عشر، وأيًّا ما كانت الاختلاف بين النظريات؛ فإنه من المُتَّفَق عليه أنّ نظام النيابة العامة من أصل فرنسي كما تقدم، ومن المتفق عليه أيضًا: أنّ القَانُون المصري أخذ النيابة العامة نقلًا من التشريع الفرنسي.
كانت هذه إشارة إلى نشأة الحسبة ونشأة النيابة العامة، فما هي نتيجة المقارنة بينهما في النشأة؟
الجواب: قد تَبين لنا من استعراض نشأة الحسبة والنيابة العامة: بأنّ نظام الحسبة ذي أصول وقواعد ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل بتقادم الزّمن؛ ولا باختلاف أهواء البشر وأقوالهم؛ لأنّه صَادِرٌ من لَدُن حكيم خبير، وأنّه أثناء تطوره لم يكن ليتغير، بل إنّ تطوره هو في اتساع الدائرة التي يُطَبّق فيها، نظرًا لازدياد أفراد المُجتمع الذي يُطبق بينهم، وكذلك في الوسائل والأساليب.
ثم تبين لنا أيضًا: بأنّ الحسبة قديمة جدًّا قدم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أما نظام النيابة العامة؛ فمع أنه نشأ وعرف من فترة ليست بالطويلة إلّا أنه مر بالمراحل وتم تعديله وتبديله، ولا زال يتغَيّرُ ويتبدل حسب حاجات ومقتضيات أحوال من وضعه ومن يُطَبّقُ بينه، ويكفيه منقصة عدم ثباته، وهذا من أوضح الأدلة على قصوره ونقصه تبعًا لقصور ونقص من وضعه، وصدق الله العظيم حيث يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء: 82).