الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينصحه، ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوًّا لنا لهذا، وكانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته"، والله تعالى أعلم.
مقصود الحسبة في الإسلام
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) ".
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن جميع المرسلين عن جميع المرسلين أن كلًّا منهم قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) وعبادته سبحانه وتعالى تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى والحسنات، والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وإن كانت هذه الأسماء بينها فروق لطيفة ليس هذا موضعها.
وهذا الذي يقاتل عليه الخلق كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (البقرة: 193)، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم:((من قاتل لتكون كملة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).
وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمرٍ وناهٍ، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملكوهم في ما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى، وأهل الأديان الفاسدة من المشركين، وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل، أو بعد النسخ والتبديل مطيعون في ما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياه.
وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ومنهم من لا يؤمن به، وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت، ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض. فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يقال: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة.
وإذا كان لا بد من طاعة آمر وناه، فمعلوم أن دخول المرء في طاعة الله ورسوله خير له، وهو الرسول النبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
وذلك هو الواجب على جميع الخلق قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 64، 65)، وقال سبحانه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء: 69)، وقال عز وجل:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 13، 14).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الجمعة: ((إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
وقد بعث الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، فأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يقبل من أحد إلا الإسلام الذي جاء به، فمن ابتغى غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وأخبر سبحانه وتعالى في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد ليقوم الناس بالقسط، فقال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25).
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى. ففي (سنن أبي داود) عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))، وفي سننه أيضًا عن أبي هريرة مثله.
وفي (مسند الإمام أحمد) عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا أحدهم)) ، فإذا قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم؛ كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر)).
وإذا كان جماع الدين، وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث به الله رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما قال الله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 156، 157).
وقال الله تعالى في حق المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (التوبة: 71).
وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة.
لكن من المتولين من يقوم بمنزلة الشاة للمؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل الشهود عند الحاكم، ومثل صاحب الديوان الذي وظ يفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعري ف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال، ومنهم من يكون بمنزله الأمير المطاع والمطلوب منه العدل، مثل: الأمير والحاكم والمحتسب، وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (الأنعام: 115).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة ((من صدقهم بكذبهم وأعانه م على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض)).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الر جل يكذب ويتحري الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)).
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء: 221، 222)، وقال سبحانه:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَة * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (العلق: 16، 17)، فلهذا على كل ولي أمرًا أن يستعين بأهل الصدق والعدل، وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل،