المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات - الحسبة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها

- ‌تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا

- ‌منزلة الحسبة في الدين

- ‌مقصود الحسبة في الإسلام

- ‌فضائل الحسبة

- ‌فوائد الحسبة

- ‌الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها

- ‌(حكم الحسبة

- ‌الحِكمة من مشروعية الحسبة

- ‌مراتب الحسبة

- ‌الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة

- ‌الحسبة نظام إسلامي أصيل

- ‌الحسبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي رضي الله عنهما

- ‌الدرس: 4 المحتسب (1)

- ‌تعريف المحتسب

- ‌شروط المحتسب

- ‌آداب المحتسب

- ‌الدرس: 5 المحتسب (2)

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر

- ‌الدرس: 6 المحتسب (3)

- ‌أعوان المحتسب ومساعدوه

- ‌الصلاحيات الممنوحة للمحتسب

- ‌عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر

- ‌الدرس: 7 المحتسب (4)

- ‌وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب

- ‌دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب

- ‌المسجد ودوره في الاحتساب

- ‌الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب

- ‌الدرس: 8 المحتسب فيه (1)

- ‌تعريف المحتسب فيه

- ‌شروط المحتسب فيه

- ‌شمولية المحتسب فيه

- ‌الدرس: 9 المحتسب فيه (2)

- ‌قاعدة في تغيير المنكر

- ‌لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق

- ‌الدرس: 10 المحتسب عليه (1)

- ‌تعريف المحتسب عليه، وشروطه

- ‌أنواع المحتسب عليهم

- ‌الدرس: 11 المحتسب عليه (2)

- ‌ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام

- ‌حكم بذل النصيحة لولاة الأمر

- ‌كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء

- ‌الدرس: 12 المحتسب عليه (3)

- ‌مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي

- ‌الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها

- ‌الدرس: 13 الاحتساب

- ‌معنى الاحتساب، ومراتبه

- ‌فقه الاحتساب

- ‌متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم

- ‌الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص

- ‌وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم

- ‌الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة

- ‌التعريف بالنيابة العامة وتطورها

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

- ‌الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم

- ‌مقدمة

- ‌نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها

- ‌اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة

- ‌عواقب ترك الحسبة والقعود عنها

- ‌ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها

- ‌أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية

- ‌الدرس: 18 شبهات حول الحسبة

- ‌الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع

- ‌الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا

- ‌الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله

- ‌الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه

- ‌القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة

الفصل: ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

كما أنّ نِظَام النِّيابة العامة لا يُطَبّق بشكل متساوٍ على كل أفراد المجتمع؛ فهنالك من له حصانة دبلوماسية، وهنالك من له حصانة برلمانية، وهكذا يخرج عن سلطته وتطبيقه القوي، ويُطبق على الضعيف، بينما الحسبة تنسحب على الجميع حكامًا ومَحكومين ليس فيه استثناء؛ لأنّ الكُل هم عبيد لله، وهم أمام شرعه ومنهجه الذي فيه الحسبة سواسية كأسنان المشط.

ولا يستطيع أحدٌ مهما كانت منزلته أن يُعَدّل أو يُبدل شيئًا من أحكام الحسبة؛ فيُحِلَّ ما حرم الله، أو يُحرم ما أحل الله، وإذا فعل ذلك فلا طاعة عندئذ لمخلوق في معصية الخالق، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يبقى نظام الحسبة ثابتًا ثبات مصدره بينما غيره من أنظمة البشر تتحول وتتبدل تبعًا لأحوال واضعها، ونقصه وعوزه.

‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

أما المُقارنة بين الحِسبة ونظام النيابة العامة من حيث الاختصاصات

مجمل القول فيها:

أنّ اختصاصات الحسبة تكاد تدخل في كل منحًى من مناحي الحياة تقريبًا؛ فهي تدور وجودًا وعدمًا مع ظُهور المنكر، واندثار المعروف، ومع هذا الإجمال؛ فلا بَأسَ أنْ نُفَصِّل بعض تلك الاختصاصات من خلال استعراضنا لهيكل الأنظمة القضائية الأخرى؛ كالقضاء والمظالم والشرطة وغيرها.

فالفُقَهَاء الذين رَتّبوا الولايات الإسلامية على حسب أهميتها، وفي الأمور القضائية بالذات جعلوا الحسبة في المرتبة الثالثة بعد ولايتي "المظالم، والقضاء" وعلى هذا فقد اختصت ولاية الحسبة في الناحية القضائية بالذات خلافًا لاختصاصها الأخرى غير القضائية، بالنظر فيما

ص: 304

رفه عند القاضي -أي: في الأمور اليسيرية التي لا تحتاج إلى تجاحد وبينات وشهود- فإن هذه الأمور إلى المحتسب لا إلى القاضي.

فمن هذا اختص المحتسب بثلاثة أنواع من الدعاوى:

أحدها: ما يتعلق بتطفيف أو بخسٍ في كيل أو وزن.

والثاني: ما يَتعَلَّقُ بغشٍ أو تَدليسٍ في مبيعٍ أو ثمن.

والثالث: فيما يتعلق بمطْلٍ أو تأخيرٍ لدين مُستحق مع القدرة.

وإنما جاز نظره في هذه الدعاوى الثلاث دون غيرها لتعلقها بمنكر ظاهرٍ هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمندوب هو مندوبٌ أو مكلفٌ بإزالته.

وعلى هذا كان له أن يُلزم من تثبت عليه هذه الحقوق المُتقدم ذكرها بالخروج منها، ودَفْعُها إلى مُستحقيها.

كما أن من اختصاصات المحتسب في هذا الجانب: أن يتعرض ما يأمر به من المعروف، وينهى عنه من المنكر؛ وإن لم يحضره خصمٌ مستعدٍ أي: مشتك.

ويختص أيضًا في هذا الجانب ويزيد فيه على غيره من الولايات القضائية بقوة السلطنة، وستارة الحماة، فيما يتعلق بالمنكرات وتغييرها.

وفي مخلصٍ مختصر عن اختصاصات المُحتسب نقول: إنّها تكون في حثِّ الناس وإلزامهم إقامة شعائر الدين وسننه، والمحافظة عليها، وفي تغيير كل منكر من المنكرات الأخلاقية السلوكية، داخل المجتمع الإسلامي، وفي مراقبة أهل الحرف والصناعات، ومنعهم من الغش والتجاوز، وفي بذل كل ما في الوسع لنصح الحكام والولاة؛ ففي استقامتهم استقامة للرعية. وقد قيل:"الناس على دين ملوكهم".

ص: 305

ويدخل في اختصاصاته أيضًا: مُحاربة كل البدع والمعتقدات، التي تعارض العقيدة الإسلامية، وكذلك الأفكار والمذاهب الفاسدة، الوافدة على المجتمع المسلم من خارجه.

أما اختصاصات النيابة العامة؛ فتتلخص فيما يلي:

أولًا: النِّيابَةُ العَامّة: هي الجِهَةُ الوحيدة في النظم الحكومية التي تأخذ بالدعوة، والتي تجمع بين الحق في تحريك الدعوة -أي: اتخاذ الخطوة الأولى فيها- وبين مُتابعة السِّير فيها حتى النهاية، وهي تُمَثّلُ الهيئة الاجتماعية في مُباشرتها لسلطاتها بشقيه، وباسمها تُباشر هذه السلطة وذلك بوصفها سلطة اتهام.

ثانيًا: وهي إلى جَانِب ذلك سلطة التحقيق الرئيسية في البلاد التي تأخذ بها، ولأعضائها أيضًا صفة مأمور الضبط القضائي؛ فضلًا عن أن لهم الرئاسة العامة الرئاسة على هؤلاء والإشراف عليهم.

ثالثًا: للنيابة العامة فضلًا عن ما تقدم اختصاصات أخرى تتمثل في:

1 -

ترعى مصالح عديمي الأهلية وناقصيها، والغائبين والحمل المستكن.

2 -

وهي تُعتبر طرفًا منظمًا أما محكمة النّقد المَدنية فتُبدي آراءها في جميع الطُّعون بصفة استشارية، دون أن تعد خصمًا أصيل فيه.

3 -

لها أن تُشهر إفلاس التاجر.

4 -

لها مُباشرة الدعاوى التأديبية، التي تنص عليها قوانين مختلفة مثل الدعاوى التأديبية على المحامين.

5 -

ولها وظائف إدارية مختلفة؛ كالأشراف على الأعمال المتعلقة بنقوض المحاكم، ولها الإشراف على السجون، وغيرها من الأماكن التي تُنَفّذ فيها الأحكام الجنائية.

ص: 306

كما خوّل القانون النيابة العامة أن تتدخل اختياريًّا في الدعاوى الآتية:

1 -

الدعاوى المتعلقة بالأوقاف الخيرية، والهيئات والوصايا المرصودة للبر.

2 -

دعاوى رد القضاة، وأعضاء نيابة العامة ومخاصمتهم.

3 -

الصُّلح الواقي من الإفلاس.

4 -

كل حالة أخرى يَنُصّ القانون على جواز التدخل فيها.

كما أنّ من اختصاصات رئيس النيابة العامة: إيقاع بعض العقوبات دون الرجوع إلى القضاء؛ ففي المادة 325 مُكّرر من قانون الإجراءات الجنائية المصري المُضافة بالقانون 280 لسنة 1953 والمعدل بالقانون 1130 لسنة 1957، والمعدلة بالقانون 170 لسنة 1981:"يَحِقُّ لرئيس النيابة العامة، أو وكيل النيابة العامة من الفئة الممتازة بالمحكمة التي من اختصاصها نظر الدعوى إصدار الأمر الجنائي في المخالفات والجنح، التي لا يوصي القانون الحكم فيها بالحبس أو الغرامة، التي لا يزيد حَدُّها الأعلى عن مائة جنية مصري، ولم يطلب فيها التضمينات وما يجب رده والمصاريف، ولا يَجُوز أن يُؤمر فيه بغير الغرامة التي لا تزيد عن مائة جنية مصري".

المقارنة بين نظام الحسبة ونظام النيابة العامة من حيث الصلاحيات والاختصاصات:

ونرى أنّ بين النظامين أوجه شبه في نقطتين هما:

أنّ كلًّا من النِّيابة العَامّة وولاية الحسبة، تَقُوم في الأساس على مُكافحة المنكرات، وحِمَاية النِّظام العام، وذلك بتوجيه الاتهام والتبليغ عن

ص: 307

الجرائم ومباشرتها أمام القضاء، وإنْ كَان المَيزانُ مُختلفًا؛ فإنّ ما تراه الحسبة مُنكرًا في بعض الأمور، لا تراه النيابة العامة مُنكرًا، وهنا لا يكون التشابه على الإطلاق.

النقطة الثانية: التقاء الحسبة مع نظام النيابة العامة في أن كلًّا منهما يَقُوم بالفَصْلِ في الدعاوى البسيطة؛ حيثُ أنّ المُحتسب يقوم بالفصل فيما رفه عنه القضاء، كدعاوي البخس والتطفيف في الميزان، وكذلك الدعاوى التي تتعلق بالغش والتدليس في المبيع والثمن، كما أنّ القَانُون المصري، وهو من القوانين التي تُطَبِّقُ نظام النيابة العامة أعطاها الحَقَّ في إصدار أوامر جنائية، بعقوبة الغرامة التي لا تتجاوز مائة جنية مصري بالنسبة لبعض الجرائم البسيطة، التي تستلزم سرعة الفصل، وذلك تخفيفًا على القضاء.

ما هي أوجه الاختلاف بين النظامين؟

مِمّا لا شَكّ فيه: أنّ الفرق بينهما يَظْهَرُ بأقل نظر، فهناك مُفارقات واختلافات كثيرة بين النظامين، سواء في الجوهر أو الشكل، وذلك راجع لاختلاف الحاصل في الأسس التي قام عليها كل منهما، وفي الأصل والمصدر؛ ثُمّ في الغاية والهدف.

فكما سبق وكررنا مراتٍِ أنّ نِظَامَ الحِسْبَة قائمٌ على مبدأ رباني عظيم، هو تطبيقٌ عمليٌّ لذلك المبدأ ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصدره من يعلم ما يصلح خلقه، ويصلح له. أما نظام النيابة العامة فمصدره البشر.

وعلى كل حال، فيمكن أن نجمل اختلافهما في الاختصاصات في النقاط التالية:

أولًا: كما أشرنا في أحدى نقاط التشابه، بأن كلًّا منهما يقوم بمكافحة المُنكرات؛ لكنْ مع تَشابُههما في ذلك؛ فإنّ بينهما أيضًا في هذه النُّقطة اختلافات جَوهريّة؛

ص: 308

فالمنكرات التي تنكرها الحسبة؛ هي نفسها المنكرات التي جاءت في الشريعة الإسلامية، بينما لم يكن هو نفسه ضابط المنكرات التي تتصدى لها النيابة العامة، وإن وافقت الحسبة في إنكار بعضها.

وإذا ما أرَدْنا أن نَعرف المُنكر حَقيقة هو: المُنكر في الشرع؛ والمقنن من البشر، الذي تتحكم فيه عدة نوازع، قد يجعل ما هو معروفًا في الشرع منكرًا، وما هو منكر معروفًا.

النقطة الثانية من الاختلافات: أنّ نظام النيابة العامة لا يتعلق بالمخالفات أو المنكرات التي تقع من المكلفين فقط، وهي ما يُسمى في الإسلام بالمعاصي؛ أمّا نِظَامُ الحِسْبَة في الإسلام؛ فهو يشمل المنكرات جميعًا، بهذا يكون مَجَالُه أوْسع حيثُ يتناول جميع المنكرات التي تقع من المكلفين وغيرهم.

النقطة الثالثة: الحسبة من حيث القيام بها هي الفروض التي يطالب بها كل مسلم على سبيل وجوب العيني أو الكفائي، وسواء وجدت ولاية الحِسْبَة أم لم توجد؛ فإنّ استمرارية وجوب الحِسبة قائمة على أساس ذلك، الوُجوب يُثاب من يقوم بها، ويُعاقب ويُؤاخذ المُجتمع التي لا تقوم فيه، بينما النِّيابَةُ العَامّة منوطة بقيام دولة تنظمها، ليقوم النائب العام بالدعوى العمومية، وسواء قامت بها الدولة أو لم تقم بها فإن ذلك من الأعمال التي الأصل فيها الإباحية. فسواء أقيمت أم لم تقم فما يتعلق بها حكم الوجوب أو المؤاخذة بخلاف ما رأينا في الحسبة.

النقطة الرابعة: كما رأينا فيما تَقَدّم أنّ الحِسبة في شموليتها واتساع نطاق اختصاصها؛ فإنّه ليسَ هُناك مستثنى في المجتمع ولا حصانة؛ فإن الناس داخل المجتمع الإسلامي يدخلون ضمن اختصاصاتها حُكامًا ومحكومين؛ والنصيحة بينهم قائمة، وهِي تمثل الحسبة بخلاف النيابة العامة، فإنها بعملها واختصاصاتها تقفُ عند حدودٍ بالنسبة

ص: 309

للحكام والبرلمانيين والدبلوماسيين؛ ففي تشريعها ما يُسمى بالحصانة؛ إما الدبلوماسية أو البرلمانية.

هذه هي المقارنة بين الحسبة والنيابة العامة من حيث الاختصاصات والصلاحيات؛ أما من حيث سلطات والي الحسبة، ورئيس النيابة العامة، فنقول: قد تقدم الكلام عن اختصاصات الحسبة، بأنّ لهذه الولاية ومن يُمثلها من قوة السلطنة والهيبة والرهبة، ما يردع المخالفين والمشتغلين بالمنكرات، التي تدخل ضمن دائرة عمل المحتسب؛ وما تِلْكَ القُوّة والهيبة إلّا لأنّ المُحْتَسب له من السلطات والصلاحيات التأديبية والعقابية ما يعينه على أداء مهمته.

ولهذا نرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر ذلك فيقول: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يذع بالسلطان ما لا يذع بالقرآن". ولذا جَعَل اللهُ وهو الشارع سبحانه لأحكام الدين في يد ولي الأمر أو الذي يفوضه بدوره والي الحسبة سلطات تعزيرية لا ترقى إلى الحدود؛ لإلزام المنحرفين الحق، وأطرهم عليه أطرًا.

وقد تكلمنا بالتفصيل عن الصلاحيات التأديبية التي هي للمحتسب الوالي، ولا مانع أن نعدد بعضها في النقاط التالية:

أولًا: الهَجْرُ: كأنْ يرى الوالي أن يهجر فاعل المعصية مدة محدودة، أو يأمر بعض أعوانه بمقاطعتهم؛ مثل أن يعثر على صاحب محلٍ تجاري قد اشتُهر بالغش، والتدليس والتطفيف.

ثانيًا: الضرب هو أن يضرب المذنب: بشرط أن لا يبلغ بذلك أربعين جلدة، وهو أقل حدٍّ في الإسلام، على رأي من رأى أن حد شارب الخمر أربعون وليس ثمانين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلو بدرته من أرتكب منكرًا.

ثالثًا: النَّفْيُ هو: التّغريب عن الوطن؛ فإنّه يَجُوزُ لوالي الحسبة باستصدار أمرٍ من ولي الأمر؛ بنفي من لديه إجرام، ولم ينفع معه العقاب، أو يخشى من فتنته؛ حتى ولو لم يُعاقب كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفي نصر بن حجاج الذي افتتنت به النساء في عهده؛ وكما فعل أبو بكر رضي الله عنه بنفي أحد المخنثين، ونفى عمر من شرب الخمر إلى خيبر.

رابعًا: الحَبْسُ: ويَكُون ذلك في حالات مُعَيّنة حسب نوع الذنب الذي ارتكبه المُخالف، أو إذا تكرر منه فعل الذنب، ولم يستفد من النُّصح، وما هو قبل الحبس من درجات إنكار المنكر.

خامسًا: التشهير: والمقصود به إعلان ذنب المُذنب؛ ليكون جزاءً له، وردعًا لغيره مما يحاول إتيان فعله.

سادسًا: العقوبة المالية: وبها عزَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أباح سَلَبَ من يصطاد في حرم المدينة؛ لمن وجده وأمر بكسر دنان الخمر.

وهذه الصور التي تقدمت هي من أقصى العقوبات التي تدخل ضمن سلطات والي الحسبة، وهناك سلطات تأديبية أخرى أخف، وهي في العادة لا يحتاجُ المُحْتَسبُ فيها إلى إذن ولي الأمر ومنها:

أولًا: الإعْلَامُ: وصورته أن يقول المحتسب الوالي لفاعل المعصية: لقَدْ بلغني عنك أنك فعلت كذا وكذا، وذلك بقصد نهيه عن الوقوع في الذنب والمعصية مرة أخرى.

ثانيًا: الوَعْظُ: وصورته أن يعظ الوالي المذنب ويخوفه بعذاب الله، ويأمره بتقوى الله، ويُبين له حُرْمَة ما وقع فيه من الذنب، ويوضح له مَغَبّة عمله في الدنيا والآخرة.

ثالثًا: العِتَاب: التي تَشُوبه الحكمة، ولا يدخله التسرع والتشنج الذي قد يفسد ولا يصلح.

رابعًا: التَّهْدِيدُ والتّخويف: ويَلجأ إلى هذا الأسلوب هو نوع من سلطاته، عندما يُظهر المُذْنِبُ عَدَمَ المبالاة، والاكتراث بما يسمع من النصح؛ فعند إذن يهدده والى الحسبة بأنه إذا عاود فعل الذنب مرة أخرى؛ فسوف يعاقبه.

أما سلطات النائب العام: فإنّ المُلتمس لصلاحيات وسلطات النائب العام في كتب القانون والإجراءات الجنائية، لا يجد سوى بعض الصلاحيات في الناحية المالية، لا تتعدى في مُجْمَلِها مائة جنية، وقد سبقت الإشارة إليه في اختصاصات النيابة العامة، والإذن بإصدار الأوامر الجنائية في بعض الجنح. والتي تتلخص في:

- إهانة أو تهديد موظف عمومي، أو أحد رجال الضبط، أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية، أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها، والجرح أو الضرب دون

ص: 310

سبق إصرار أو ترصد لم ينشأ عنه عاهة مستديمة، والذي يَحْتَاجُ في علاجه إلى فترة تقل عن عشرين يومًا، وكل سبب لا يشتمل على إسناد واقعة معينة، والحرق الناشبُ بإهمال، وما يتعلق بالسيارات وقواعد المرور.

والحكمة التي من أجلها أعطي الحق لوكلاء النائب العام في إصدار الأوامر الجنائية في الحدود، التي رسمها القانون هي سرعة الفصل في القضايا البسيطة الأهمية بعقوبة الغرامة التي لا تتجاوز مائة قرش مصري، وهي عقوبة يغلب أن يرتضيها المحكوم عليه.

فإذا عرفنا هذا نقول: على ضوء ما تقدم نلحظ الفرق الواضح بين السلطات التي تمنحها الشريعة الإسلامية لوالي الحسبة، وبين تلك التي يتمتع به النائب العام ونوابه؛ فَلم يَكُن هناك من تَشَابُه إلّا في أنّ كُلًّا مِنْهُما له الحق من الناحية القضائية في أن يُصْدِر بعض الأوامر الجنائية، في بعض المُخالفات البسيطة، وفي حدودٍ معينة تخفيفًا على القضاة في هذه المخالفات، التي تحتاج إلى البت فيها بسرعة.

لكن من الناحية الثانية: نجدُ أنّ بينهما في السلطات اختلافات كثيرة لا سيما في التعازير؛ فإن ما في يد والي الحسبة منها أكثر بكثير ما للنائب العام، فوالي الحسبة يُعزر بما يتَوافق وحال المذنب، وتَتدرج معه العقوبة بناءً على ذلك من الإعلام والوعظ والإعراض إلى التأنيب والضرب والغرامة المالية، والحبس والنفي من البلد، وهذه أشد بكثير من تلك التي يملكها النائب العام.

ونحن لمّا نُقَرّر هذه الصلاحيات والسلطات لوالي الحسبة؛ فإننا لا نَهْدِف إلّا أن نُثبت أن الشريعة الإسلامية التي نصت على هذه الصلاحيات، والتي أصّلها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، هي التي تعلم ما يُصلح الإنسان.

ص: 311

فهذه الصلاحيات جعلت في يدي والي الحسبة لتكون عونًا له على إصلاح ما اعوج من أمر الناس، إذ بدون وجود مثل هذه الصلاحيات؛ فلن يكون للجهود التي يَبْذُلها الثمرة المرجوة، لأن المخالفين والمجرمين الذين يعنيهم عمله لا يمكن أن ينسلوا عن إجرامهم ومجونهم؛ إلّا أن شعروا أنّ هُنَاك ما يردعهم، فكان وضع هذه الصلاحيات وغيرها في يد والي الحسبة، ومنحها له هو من باب السياسية الشرعية التي غايتها الصلاح والإصلاح.

وهنا يتبين لنا سعة صلاحية والي الحسبة، في المقارنة بينه وبين صلاحيات النائب العام.

وفي الختام في شأن هذه البدائل المُدّعاة والمزعومة عن الحسبة؛ فإنه مهما حاول المبطلون والناكبون عن صراط الله المستقيم، أن يوجدوا نظامًا يُضاهي أو يُقارب ما جاء من عند الله فلن يكون لهم ذلك، ولكنه التقليد الأعمى، وترك الأخذ بشريعة ربهم، هو الذي أغفلهم عن ما في تراثهم الإسلامي التليد، من أنظم حضارية الحسبة واحدة منها.

فهل لنا أن نعود إلى شرع ربنا، وأن نطبق حكم الله سبحانه وتعالى وأن نعود إلى ذلك النظام الجميل البديع نظام الحسبة، ألم نسمع قول الله تبارك وتعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 312