الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادسًا: فقدان الناس لمعنى الأمن في أنفسهم، وفي أهليهم وذويهم وأموالهم الأمر الذي يؤدي إلى الكسل والتواني، والقعود عن أداء الواجب، وقد أشار الحديث إلى كل هذه العواقب؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:((أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فهذه هي عواقب ترك الحسبة والقعود عنها والتخلي.
ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها
ولما كنا قد ذكرنا نموذجًا للحسبة القائمة في هذا العصر ممثلًا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية، فنحن ونحن نتحدث عن الآثار السيئة المترتبة على ترك الحسبة نذكر ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها، ما كانت عليه قبل توحيدها من الفوضى والقلق والفقر، وانتشار الفواحش وفساد الأخلاق، وذلك لغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وافتقاد ولاية الحسبة، وما آل إليه أمر المملكة بعد توحيدها بفضل الله، ثم بوجود المحتسبين الممثلين في العاملين بهيئة المعروف والنهي عن المنكر.
فنقول -وبالله تعالى التوفيق-: كانت تلك البلاد قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز -يرحمه الله- تتكون من عدة أقاليم وإمارات صغيرة، وكثيرًا ما كانت الحروب الطاحنة تقع بين إمارات متجاورة وبين قبيلة وأخرى على أتفه الأسباب نتيجة الطمع في الأموال والثأر.
أما البادية فكانت تسودها الأعراف والأنظمة القبيلة، ويسيطر عليها رؤساء القبائل، وكانت الغارات والمناوشات تقع بين تلك القبائل، فكانت القبيلة تغير على القبيلة الأخرى لتأخذ ما لديها من المواشي، وتغير على القرى لتنهب
الأموال والأغنام، وكان ذلك في عرف هذه القبائل جائزًا ويعتبرونه غنيمة، فالقوي يأكل الضعيف، بل يعتبرون ذلك ضربًا من ضروب الشجاعة ويفتخرون به، وخصوصًا في بادية نجد والشمال.
وكانت الفوضى ضاربة بأطنابها في هذه المجتمعات غير آبهة بشرع أو دين إلا ما يمليه عليها الهوى والشهوات.
كما كان الجهل بأمور الشرع وأحكامه سائدة، وكانت الخرافات منتشرة بين أهل تلك البلاد، وقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضعيفًا في كثير من مدن وقرى شبه الجزيرة العربية قبل توحيدها من قبل الملك عبد العزيز رحمه الله بل إنه لا يكاد يوجد إلا في بعض البلدان والأمن مفقود، والخوف منتشر في تلك البلاد حيث كانت تسودها الفوضى والسلب والنهب من أبناء البادية، وغيرهم مما جعل أهل القرى والبلدان يبنون أسوارًا حول قراهم، ويجعلون عليها بوابات تغلق ليلًا كما يشيدون أبراجًا وحصونًا لحماية بلدانهم مع وضع نقاط مراقبة على الجبال المحيطة بالبلدة أو القرية خوفًا من الغارات، ولا يزال بعض هذه الحصون والأبراج موجودًا حتى الآن مما يدل على انتشار الخوف واضطرا ب الأمن آنذاك.
ولم يكن الوضع في إقليم الحجاز بأفضل منه في سائر أرجاء الجزيرة العريبة، بل كانت الفوضى منتشرة في هذا الإقليم، وكان الحجاج القادمون إلى بيت الله الحرام لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم نتيجة إغارة القبائل المجاورة لمكة على قوافلهم أو من بعض اللصوص وقطاع الطرق المتربصين بتلك الحملات والقوافل على طول طريقها؛ فلا يستطيع الحجاج العبور إلى مكة إلا أن تكون القافلة قوية، ومزودة بسلاح، أو هناك من يحيمها من القبائل المجاورة لقاء دفع مبالغ معينة، وهي المعروفة بالإتاوات.
وكان الحجاز محطة لعصابات النهب والسلب وخصوصًا في موسم الحج مما جعل بعض الحجاج يكتبون وصاياهم قبل سفرهم، ويصطحبون معهم أكفانهم لتوقعهم الهلاك؛ حيث كان الحج آنذاك مظنة هلاك نتيجة الفوضى والاضطراب، واختلال الأمن حتى قيل في الأمثال:"الذاهب مفقود والعائد مولود".
ومما يدل على ذلك الاختلال ما سطره الشاعر أحم د شوقي رحمه الله في قصيدة له بعثها للسلطان عبد الحميد يصف فيها اختلال الأمن في الحجاز وحالة الحجيج، فيقول:
ضَجَّ الحِجازُ وَضَجَّ البَيتُ وَالحَرَمُ
…
وَاِستَصرَخَت رَبَّها في مَكَّةَ الأُمَمُ
أُهينَ فيهاضُيوفُ اللَهِ وَاِضطُهِدوا
…
إِن أَنتَ لَم تَنتَقِم فَاللَهُ مُنتَقِمُ
أَفي الضُحى وَعُيونُ الجُندِ ناظِرَة
…
تُسبى النِساءُ وَيُؤذى الأَهلُ وَالحَشَمُ
وَيُسفِكُ الدَمُ في أَرضٍ مُقَدَّسَةٍ
…
وَتُستَباحُ بِها الأَعراضُ وَالحُرَمُ
الحج ركن من الإسلام نكبره
…
واليوم يوشك هذا الركن ينهدم
ويقول الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله واصفًا حالة الفوضى واختلال الأمن في الحجاز في تلك الفترة: "ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلًّا في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام، فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله، ولا على نفسه في بدو أو حضر في نهار وليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة؛ لتأمين سلامتهم، ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة، ولا القوات الحجازية قادرة على إعادة الأمن، وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم".
ويعود السبب في ذلك كله؛ لشدة الفقر المنتشر بين تلك القبائل والجهل بأحكام الدين، وضعف السلطة الموجودة آنذاك وإهمالها، فلا يوجد من يضرب على أيدي المجرمين في قطاع الطرق، ويحمي الأمن ويقيم الحدود كما كانت الرذيلة، والفواحش وتعاطي المسكرات منتشرة في بعض بلدان الحجاز نتيجة قلة الوازع الديني، وضعف السلطة وإهمالها، وغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لم يكن هناك من يمنعها أو يسعى في إبطالها وتطهير هذه البلاد المقدسة منها.
أما في إقليم الإحساء، فكانت الفوضى سائدة، وكل قبيلة من القبائل في هذا الإقليم تغير على الأخرى، وكانت العصابات تغير على الحملات التجارية التي تأتي من وإلى هذا الإقليم؛ لتأخذ ما معها من أموال أو أرزاق، ولا يحميها من هذه الغارات إلا أن تدفع مبلغًا من المال إتاوة لكل قبيلة تمر بأراضيها حتى تسلمها للقبيلة الأخرى المجاورة، وهكذا حتى تعود سالمة بعد أن تدفع الأموال لتلك القبائل مقابل الحماية من اللصوص، وقطاع الطرق من أفراد تلك القبائل.
ولم يكن الوضع في جنوب شبه الجزيرة بأفضل من سابقه حيث كانت الإمارات التي تعاقبت على إقليمي عسير وجازان ضعيفة، وكانت غير قادرة على ضبط تصرفات أفراد القبائل، وكان الجهل والفقر الشديدان من أسباب انتشار الفوضى والجرائم، والمنكرات في العقائد والسلوك.
وعمومًا فإن الوضع في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية قبل توحيد المملكة العربية السعودية سيئ للغاية حيث كان الأمن مضطربًا، والجهل والفقر والمرض متفشيًا في أبناء تلك البلاد.
يقول اللواء عبد العزيز محمد الأحيدب واصفًا ما وصلت إليه البلاد في تلك الحال آنذاك: "فالقوي يبطش بالضعيف، والتاجر لا يأمن على أمواله وتجارته، والمسافر لا يأمن على زوجه وحياته، ورب الأسرة لا يأمن على أفراد عائلته، والقبيلة لا تأمن على كيانها من القبيلة الأخرى من ذعر ورعب أقل ما يقال عنها: إنها البدائية المفرطة في حدتها، والجهالة البالغة التي لا حد لفتكها، وهذا كله ناتج عن غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وجود سلطة قوية تقوم على ذلك الأمر، وتحفظ على الناس أمنهم، وتقيم فيهم حدود الله تعالى، وتحكم بينهم بالعدل على هدي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مما جعل الأشرار والفساق يعيثون في الأرض فسادًا، وقد استفحل شرهم، وتطاول بطشهم بالضعفاء والمساكين، فكانوا يسلبون وينهبون الأموال، بل حتى الملابس التي تستر عورات الناس، وينتهكون الأعراض ويسفكون الدماء من غير وازع من إيمان، أو رادع من سلطان، أو خوف من عقاب، حيث لم يكن هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أو ينصر الضعيف، وذلك لبعد الناس عن دينهم، وجهلهم، وضعفهم أمام تسلط الأشرار واللصوص من أبناء البادية".
وقد ذكر المؤرخون أنواعًا شتى من العقوبات التي حلت بالناس في ذلك الزمان، والتي تناقلها الرواة وكتب عنها المؤرخون، وأفاضوا في وصف حالة الضيق والضنك والفقر والفتن والحروب، واختلال الأمن والمجاعات التي مرت بالناس في تلك الأيام، ومن ذلك: انتشار الخوف والقتل واختلال الأمن، فكانت البلاد قبل توحيدها مرتعا للفتن والقلاقل، وذلك لضعف الوازع الديني في النفوس من ناحية، ولضعف السلطة الحاكمة في كل إقليم من أقاليمها، وعجزها عن حفظ النظام والأمن، وإقامة الحدود الشرعية على المتعدين على حدود الله عز وجل من ناحية أخرى، حيث كانت القبائل تغير بعضها على بعض، فتقتل الرجال
وتسلب السلاح والأموال، والقوي يأكل الضعيف، كما كانت الغارات الانتقامية للأخذ بالثأر مستمرة ومتواصلة، ولا تقتصر على القاتل فحسب بل تتعداه إلى أي فرد من أفراد القبيلة، وذلك لسيادة الأعراف والعادات القبلية الجاهلية.
ولم يكن الحضر من سكان المدن والقرى بمنأى عن الخطر، فكان بعض الأعراب يغيرون على المدن والقرى وينهبون ويسلبون الأموال، ويغيرون على المواشي ويأخذونها من غير وازع من إيمان أو رادع من سلطان.
وفي نجد والإحساء كان الناس متعادين متفرقين ليس فيهم ملك ولا إمام، ولا يسودهم شرع ولا نظام يقتل بعضهم بعضًا، ويأكل قويهم ضعيفهم، لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يؤطرون على فرد تركوه.
وكانت الحروب الطاحنة تقع بين القبائل على موارد المياه أو المراعي ولأتفه الأسباب، وكانت القبائل متنافرة ومتناحرة، وكثيرًا ما يقع حروب بين القبائل البدوية في الشمال ونجد مثل: حرب وقحطان والدويبة والدواسر، وغيرها من القبائل.
ولم تكن الحال في جنوب البلاد بأحسن منها في أواسطها، فقد كانت عسير تحت حكم الأتراك، وكان المخلاف السليماني تابعًا لمنطقة عسير حيث كان الأمن مضطربًا في هذا الإقليم، وكانت الفتن القبيلة والحروب الطاحنة تعصف بتلك الجهات، ولم يعد في استطاعة الإدارة التركية القبض على زمام الأمن في البلاد، بل إن القبائل بعد التقاتل المرير تعقد هدنة بينها حسبما تستعديه مقتضيات الأمور وتفرضه الظروف، ولكن سرعان ما تندلع الفتنة بين حين وآخر على أقل سبب، وهذه كلها عقوبات دنيوية نتيجة عدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، ولعدم وجود سلطة قوية تتولى إقامة الشريعة، وتعاقب الخارجين على النظام وتقيم الحدود وذلك مصداقا لقول الله تعالى:{وَات َّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} (الأنفال: 25).
ولما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه حيث يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)).
ولما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
وكان الفقر يسود معظم المناطق، وكان الجوع منتشرًا بين سكانها مما جعل البادية يغيرون على سكان القرى والمدن، وينهبون الأموال ويسلبون المواشي والثمار، وهذا كان نتيجة الجدب والقحط وقلة الأمطار، وقلة موارد العيش.
يقول حسين محمد نصيب واصفًا الحال في الحجاز في ذلك الزمان: "فترى البعض من آل الطبقة الوسطى يجول في الشوارع طالبًا ما يمسك الرمق، ويسد الخلة، فكيف بالفقراء الضعفاء".
أما في مكة فلقد ضاقت الأزمة ضيقًا شديدًا، وانقطعت الأرزاق عنها وقلت الدراهم عنها حتى كادت تقع في خطر عظيم، وقد وصلت الحال بأهل البلاد إلى حالة من الجوع والفقر وضنك العيش مما جعل كثيرًا منهم يغادر وطنه، ويذهب إلى البلاد الأخرى المجاورة طلبًا للعيش، وما كان ذلك كله إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وعلى رأسها التخلي عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن العقوبات تسلط الحكام الطغاة وجورهم، فلقد سلط الله تعالى على أهل هذه البلاد قبل توحيدها حكامًا طغاة ظلمة كانوا لا يرحمون الناس، ولا يبالون بما يقاسون من ويلات الجوع، والفقر وضنك العيش، وعصابات النهب والسلب، بل كانوا يرهقونهم بفرض الضرائب عليهم، ولم تكن الضرائب على الأهالي فحسب؛ بل إنها تنال كل من يطأ الأرض المقدسة قاصدًا البيت الحرام أو المسجد النبوي.
وقد انتشرت الرشوة، ودب الفساد بين العباد في ذلك الزمان، وخلاصة القول أن الحوادث والفتن وضنك العيش، وعدم الاستقرار، والخوف والفرقة والفقر والجهل، وانتشار الأمراض والأوبئة كانت هي السمات البارزة لمجتمعات وأقاليم هذه البلاد قبل توحيدها.
وقد أفاض في ذكرها كثير المؤرخين المنصفين، وباتت معروفة لدى كثير من الناس، والسبب الأعظم هو ترك طاعة الله، والوقوع في معصيته، وعلى رأس ذلك كله ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلما أراد الله تبارك وتعالى رحمة البلاد والعباد جمع شمل هذه البلاد، ووحد صفها تحت يد الملك عبد العزيز رحمه الله فلما توحدت البلاد، ورجع الناس إلى دين الله وتوحيده، واجتهدوا في طاعته وتركوا معصيته، وأقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيَّر الله حالهم إلى أحسن حال.
ولمعرفة حال البلاد بعد توحيدها، وقيام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وما آل إليه أمرها من الأمن والأمان والرخاء نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل لإصلاح المجتمع وتزكيته، وتحقيق أمنه واستقراره هو العصمة المناعة الرادعة عن وقوع كثير من الجرائم
هو صمام الأمان للمجتمع، بل سفينة النجاة للأمة، ولا أدل على ذلك من هذا المثل العظيم الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان أثر قيام بهذا الأمر في صيانة المجتمع والنجاة من الهلاك، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
قال ابن النحاس رحمه الله: "اعلم أن في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جملة من الفوائد منها:
أولًا: أن المسلمين مشتركون في الدين الذي هو آلة النجاة في الآخرة، كاشتراك آل الدنيا في السفينة التي هي آلة النجاة في الدنيا، وكما أن سكوت شركاء المدينة عن الشريك الذي أراد إفسادها سبب هلاكهم في الدنيا كذلك سكوت المسلمين عن الفاسق، وترك الإنكار عليه سبب هلاكهم في الآخرة.
ثانيًا: أنه كما لا ينجي الشركاء من الهلاك قول المفسد: إنما أفسد فيما يخصني كذلك لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة قول مرتكب المنكر: إنما أجني على ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، لي عملي ولكم عملكم، وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام الذي يجري على ألسنة الجاهلين.
ثالثًا: أن أحد الشركاء في السفينة إذا منع المفسد من خرقها كان سببًا في نجاة أهل السفينة كلهم كذلك من قام من المسلمين بإنكار المنكر كان قائما بفرض الكفاية عنهم، وكان سببا لنجاة المسلمين جميعًا من الإثم، وله عند الله الأجر الجزيل.
رابعًا: أنه إذا أنكر منكر من آل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها، فاعترض عليه معترض منهم نسب ذلك المعترض إلى قلة العقل والجهل بعواقب هذا
الفعل؛ إذ المنكر ساعٍ في نجاة المعترض وغيره كذلك لا يعترض على من لا ينكر منكر إلا من عظم جهله وقل عقله؛ إذ المنكر قائم بإسقاط الفرض الواجب على المعترض وغيره ساعٍ في نجاتهم وخلاصهم من الإثم والحرج.
خامسًا: أن شركاء السفينة إذا سكتوا عمن أراد خرقها كانوا هم وإياهم في الهلاك سواء، ولم يتميز المفسد في الهلاك من غيره، ولا الصالح منهم من الطالح.
كذلك إذا سكت الناس عن تغيير منكر عمهم العذاب، ولم يميز بين مرتكب الإثم وغيره، ولا بين الصالح والطالح ألم يقل الله تبارك وتعالى:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} .
سادسًا: أنه لا يقدم من الشركاء على خرق سفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع كذلك لا يقدم على المعصية إلا من استحسنها لنفسه وجهل ما فيها من عظيم الإثم، وأليم العاقبة قال الله تعالى:{قُ لْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103، 104)
سابعًا: أنه لا يقدم على خرق السفينة من آمن يقينًا بما في إخراقها من هلاك؛ إذ لا يقدم على إهلاك نفسه إلا من جهل أو شك فيه كذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن بوعيد الله تعالى وأليم عذابه على الزنا، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن قال الله تعالى:{أَف َمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَاّ يَسْتَوُون} (السجدة: 18).
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام، والتي تليها قالت: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لتقوية الإيمان لدى الإنسان الذي هو أعظم رادعًا عن الجريمة وارتكاب المعصية، وكثير من الجرائم والفواحش إنما تصدر من أناس ضعف عندهم الوازع الإيماني، بل تلاشى وانحطت أخلاقهم، وفشا فيهم الجهل، وقويت لديهم الشهوات والنزوات كما في الحديث المذكور:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
وإذا ما انتشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين هؤلاء ضعاف الإيمان أحيى قلوبهم، وأيقظ ضمائرهم، وهذبهم أخلاقهم، وقوى الإيمان لديهم، وبالتالي امتنعوا عن ارتكاب الجرائم واقتراف المعاصي.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهتم بتربية الأمة على الفضيلة، ويمنع انتشار الرذيلة، وهو بذلك يوجد رأيًّا عامًّا يحب الفضيلة ويكره الرذيلة، فيقف أفراد المجتمع الصالحون كلهم في وجه أي إنسان يريد أن يخرق سفينة المجتمع، وينكرون عليه سوء صنيعه، ويظهر الصلاح، ويكون سمة للمجتمع، ويخلص الخبث وأهله، بل يكون أهل الفساد منبوذين من قبل أفراد المجتمع ومحتقرين.
وفيه إرغام لأهل الفساد والنفاق وتضييق الخناق عليهم وقطع لدابرهم روى أبو بكر الخلال عن سفيان الثوري أنه قال: "إذا أمرت بمعروف ونهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
ويقول الشيخ عبد القادر عودة: "وترتب على إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه أصبح الأفراد ملزمين بالتعاون على إقرار النظام وحفظ الأمن، ومحاربة الإجرام، وأن يقيموا من أنفسهم حماة لمنع الجرائم والمعاصي، وحماية الأخلاق، وكان في هذا كله الضمان الكافي لحماية الجماعة من الإجرام، وحماية