الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال للرجل: من هذا؟ فقال: سفيان الثوري؛ فقال له: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا، فقلت له: لو أخبرك المنصور بما لقي لقصرت عن ما أنت عليه، قال: فقيل له: لم؟ قال لك: يا حسن الوجه، ولم يقل لك: يا أمير المؤمنين، قال: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه فاختفى".
كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء
؟
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في تفسير حديث أبي سعيد الخدري: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره
…
)) إلى آخره: "قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا، ثم عدت فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بد فاعلًا ففيما بينك وبينه. وقال طاوس: أتى رجل ابن عباس؛ فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة، قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية الله؟ قال: ذلك الذي تريد فكن حينئذٍ رجلًا.
وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه: ((يخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)) قال: وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد، وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة، وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح؛ فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، فحينئذٍ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم، أو يكسر آلات اللهو التي لهم، أو نحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على
ذلك، وكل ذلك جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه؛ فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتله الأمراء وحده.
وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين، نعم إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذى أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف منهم على نفسه السيف، أو السوط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك منهم: مالك، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، قال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان؛ فإن سيفه مسلول.
وقال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظًا له وتخويفًا، أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي وغيره، والمراد: ولم يخف منه بالتخويف والتحذير، وإلا سقط، وكان حكم ذلك لغيره، قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وقال: هذا ليس بصواب، هذا خلاف الآثار. وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله يأمر بكف الدماء، وينكر الخروج إنكارًا شديدًا، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: الكف؛ لأنا نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما صلوا فلا)) خلافًا للمتكلمين في جواز قتالهم كالبغاة.
قال القاضي: والفرق بينهما من جهة الظاهر والمعنى؛ أما الظاهر فإن الله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
وفي مسألتنا أمر بالكف عن الأئمة بالأخبار المذكورة. وأما المعنى فإن الخوارج يقاتلون بالإمام، وفي مسألتنا يحصل قتالهم بغير إمام، فلم يجز كما لم يجز الجهاد بغير إمام، وقال عبد الله بن المبارك:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا
…
منه بعروة وثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
…
في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل
…
وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
وقال عمرو بن العاص لابنه: "يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عدل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".
قال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله؛ فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء، قال: والذي أراه المنع من ذلك؛ لأن المقصود إزالة المنكر، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يتعرض للسلطان؛ فإن سيفه مسلول وعصاه، فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم في الأغلب.
ولأحمد من حديث عطية السعدي قال: إذا استشرت السلطان تسلط عليه الشيطان، ووعظه الجوزي في سنة أربع وسبعين وخمسمائة بحضور الخليفة المستضيء بأمر الله، وقال: لو أني مثلت بين يدي السنة الشريفة لقلت: يا أمير المؤمنين قل لله سبحانه ما حاجتك إلي كما كان لك مع غناه عنك، إنه لم يجعل أحدًا فوقك فلا ترض أن يكون أحد أشكر له منك، فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق محبوسيه.
ووعظ أيضًا في هذه السنة والخليفة حاضر قال: وبالغت في وعظ أمير المؤمنين، فمما حكيته له: أن الرشيد قال لشيبان: عظني؛ فقال: يا أمير المؤمنين لأن تصحب من يخوفك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى تدرك الخوف. قال: فسر لي هذا، قال: من يقول لك: أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول لك: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم، فبكى الرشيد حتى رحمه من رآه. فقلت له في كلامي: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك. ووعظ شبيب بن شيبة المنصور؛ فقال: إن الله عز وجل لم يجعل فوقك أحدًا، فلا تجعل فوق شكرك شكرا.
وكذلك نص الإمام أبو حامد الغزالي على طرق وعظ الأمراء والسلاطين، وتذكيرهم بالله، والاحتساب عليهم؛ فقال رحمه الله: قد ذكرنا درجات
الأمر بالمعروف، وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة، والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان، وهما: التعريف، والوعظ، وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان؛ فإن ذلك يحرك الفتنة، ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، وما يجري مجراه؛ فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه، فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطاء، والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة، والتعرض لأنواع العذاب، لعلمهم بأن ذلك شهادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك))، وقال صلى الله عليه وسلم:((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)).
ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد قدموا على ذلك مُوَطِّنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله، وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف. ونحن نحكي بعض ما وردنا عنهم رضي الله عنهم في ذلك؛ فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو: ما أكثر ما رأيت قريشًا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته؟
فقال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.
فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف، ثم قال:((أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح)).
قال: فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرقوه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا فوالله ما كنت جهولًا.
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم؛ فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم أنا الذي أقول ذلك)) قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول وهو يبكي: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله، ثم انصرفوا عنه، وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا بلغت منه صلى الله عليه وسلم.
ومن حكاياتهم رضي الله عنهم ما روي عن الأوزاعي قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني، ثم قال: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: قلت: وما الذي تريده يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قال: فقلت: فانظر يا أمير المؤمنين ألا تجهل شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك وأقدمتك له، قال: قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور، وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه؛ فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا، ويزداد الله بها سخطًا عليه)).
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما وال مات غاشًّا لرعيته حرم الله عليه الجنة)) يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله؛ فإن الله هو الحق المبين، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفًا رحيمًا، مواسيًا لهم بنفسه في ذات يده، محمودًا عند الله وعند الناس، فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط له فيهم قائمًا، ولعوراتهم ساترًا، لا تغلق عليك دونهم الأبواب، ولا تقيم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس بما أصابهم من سوء، يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم، مسلمهم وكافرهم، وكل له عليك ن صيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث
منهم فئام وراء فئام، وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه.
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويروع بها المنافقين، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك، وملأت قلوبهم رعبًا، فكيف بمن شقق أستارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم، وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه؟ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جبارًا، ولا متكبرًا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي؛ فقال:((اقتص مني)) فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدًا، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير.
يا أمير المؤمنين رَضِّ نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها)) ".
الطريقة المثلى لنصح الحاكم والأمير:
أولًا: يجب على من يحتسب على الأمير العلم بفقه الاحتساب على وجه العموم، وبحكم المسألة التي يحتسب فيها على وجه خاص؛ فإن ذلك من أولى الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يعطي لنفسه القيام بهذا الدور في النصح للحكام، لا سيما إذا ما عرفنا حساسية الموقف وأهميته.
ثانيًا: الإخلاص، أي إخلاص النصيحة عند بذلها لله، وابتغاء ما عنده سبحانه وتعالى من الأجر والثواب، الذي وعد به من قام بهذا الفرض، وأدى هذا الواجب، وألا يكون هدف المحتسب من ذلك إبراز نفسه، أو الطمع في الحصول على مال أو شهرة، أو تعالٍ على الناس، ولكن يجب أن يكون هدفه إلزام المسلمين منهج الله، وكلمة التقوى، ومتى كانت نيته صحيحة وعمله خالصًا لله سدده الله ووفقه، وكان ذلك عونًا له على نفسه التي قد تغالب بعز العلم، وإذلال الغير بالجهل، فإذا كان هذا هو الباعث في نفسه فإنه يكون منكرًا أقبح من المنكر الذي يعترض عليه.
ثالثًا: اللين والرأفة؛ فإن الله تبارك وتعالى بعث موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون؛ فقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44)، فإذا كان هذا في شأن فرعون؛ فإن الحاكم المسلم مهما كانت مخالفته أولى بذلك من غيره.
رابعًا: أن تكون نصيحة الحاكم في السر، وفي حالة الانفراد به عند إبلاغه النصيحة، لا سيما عندما يحدث منه ما يوجب الاحتساب؛ فإن علماء الأمة عليهم أن يختاروا من بينهم من يرونه يصلح للقيام بإبلاغ النصيحة بالطريقة التي تحفظ على الحاكم وقاره وهيبته، ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخير كله؛ حيث قال:((من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يُبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك، وإلا فقد أدى الذي عليه)).
يقول ابن النحاس في هذا المعنى في كتابه (تنبيه الغافلين): "ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رءوس الأشهاد، بل يود لو كلمه سرًّا، ونصحه خفية من غير ثالث لهما، ويكره أن يقال عنه -أي: الحاكم- أو يحكي
ما اتفق له معه، وألا يشهر ذلك من العامة، فهذه كلها علامات تدل على سوء القصد والنية".
وأرى أن الاهتمام بهذه النقطة يكون أكثر من غيرها؛ لأنها أدعى كل النقاط التي ذكرناها لقبول النصيحة، ولأن إبلاغ النصيحة للحاكم ولغيره لا بد أن تظل لابسة ثوب النصيحة لا ثوب الفضيحة؛ لأنها متى أعلنت للناس خرجت من نصيحة وتحولت إلى فضيحة، فإذا لم يتيسر للناصح أن يخلو بالحاكم فعليه أن يلجأ إلى طرق أخرى، وفي حضور الطريقة السابقة من حيث السرية كأن يكتب له خطابًا ويسلمه بيده إن تيسر، وإلا حاول إرساله مع ثقة مع تحريضه -أي: ثقة- ألا يفتح الخطاب إلا بيد الحاكم، وبهذا يضمن المحتسب الناصح ألا يقع فيما يخالف.
خامسًا: مراعاة هيبة السلطان وجلال الحكم؛ لأن في ابتذال ذلك وعدم مراعاته مدعاة مؤكدة لعدم قبول النصيحة، وبالتالي قد تتخذ مدخلًا على السلطان ممن لهم مقاصد دنيئة، وهيبة السلطان هيبة للأمة، ولا ينبغي أن يتجاوز المحتسب الناصح المرتبتين الأولتين من مراتب إنكار المنكر مع الحاكم على الترتيب الذي ذكره الغزالي: التعريف والوعظ، فإذا ما اتبع المحتسب هذا النهج في تقديمه النصيحة للحاكم المسئول كان قد بذر بذرة طيبة بكلمة طيبة، فالكلمة الطيبة لها أثر عظيم في كسب القلوب، وأسرها، وفيها يقول الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24، 25).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.