الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانتشر العلم مكان الجهل، وتمسك الناس بالتوحيد، ونبذوا الشرك، وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بفضل عودتهم إلى عقيدتهم الصحيحة، وحَلّت الوِحْدَةُ بدل الفُرقة، وعُرف المَعروف فأمر به، وحُثّ على فعله وأدب على تركه، وعرف المنكر فنهي على ارتكابه، وعذر من فعله، وأقيمت حدود الله بين خلقه بعد أن كانت مضيعة.
وصور الاحتساب في حياة الشيخ رحمه الله كثيرة جدًّا يُمكن الرُّجوع إليها في مظانها من الكُتب التاريخية، والتي أُلّفت عن الشَّيخ ودعوته، لكن ما قَصَدْنَاهُ من إبراز هذه المقدمة عن بدايات الدعوة وتأسيسها، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الدولة منذ عهدها الأول، هو للتدليل على أنه ولاية الحسبة في المملكة العربية السعودية اليوم، والتي تمثلها الرئاسة العاملة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم تكن ولدية عقد أو عقدين من الزمان بل مضى عليها قرون.
فهي إذًا امتدادٌ طَبيعيٌّ لقِيامِ وِلَاية الحِسْبَة في الدُّول والعصور الإسلامية في مُختلف أصقاع العالم الإسلامي في الماضي.
نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها
نشأة الهيئة وتطورها:
عرفنا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبّان تأسيس هذه الدولة السعودية في دورها الأول؛ قد تولاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى جانبِ أعمالهِ الأُخْرى التي منها الإفتاء والقضاء والتعليم، ودوره البارز في تجهيز الجُيوش المُدَافِعَةِ عن الدّعْوَة، والقائمة بنشرها في الوقت نفسه، وبعد وفاته -
جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي به أمثاله من المجددين المصلحين- نهض بهذه المهمة الشريفة من بعده أبناؤه وتلاميذه، كما ورث الخلف من الأمراء السعوديين أمانة سلفهم في إقامة شرع الله، وتحكيم كتابه وسنة رسوله.
فلقد تضامن العلماء والأمراء في عملية الاحتساب، العُلماء لتبيين أحكام الدين، والأمراء للتنفيذ والحِمَاية والردع إذا لزم الأمر؛ إلّا أنه لم ينفرد بالحسبة شخصٌ مُعين في ولاية مستقلة في الدولة السعودية الأولى، وكذا الثانية، وهذا يمتد من قيام الدولة السعودية الأولى إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري وبداية القرن الرابع عشر، في تلك الفترة كان يقوم العالم بالحسبة والقضاء والإفتاء، وفي الوقت نَفْسِه يجلس للتلاميذ.
وقبل فتح الرِّياض من قبل الملك عبد العزيز سنة ألف وثلاثمائة وتسعة عشر، وهي بداية قيام الدولة السعودية الثالثة القائمة اليوم، لم يهتم الأمراء الذين كانوا يحكمون بعض المدن والمقاطعات في ذلك الوقت بأمر الحسبة؛ لعدم استقرار الأوضاع السياسية، كذلك فإنّ الحِسْبَة لم تُمارس على المستوى الرَّسْمِي، ولكن كانت تُمارس على المستوى الفردي التطوعي، من قبل بعض العلماء الأجلاء؛ حيث قاموا بما يجب عليهم في هذا الجانب، ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ، الذي كان يقوم بأمر الاحتساب تطوعًا في مدينة الرياض، عندما فتحها الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
لكن بعد أن استقرت البلاد واتّسَعَ نِطَاقُ الحُكم قام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بتكليف الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؛ ليكونَ أوّل مُحتسب مكلف في الدولة السعودية المُعاصرة، وقد زوده بأعوان ومُساعدين منهم: الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن بن إسحاق آل الشيخ،
والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، وإلى جانبهم عدد من الجنود والأعوان الآخرين.
واستمر هؤلاء يَقُومون بالاحتساب أحيانًا بمُفردِهم، وأحيانًا أُخرى يستعينون ببعض المتطوعين الصالحين؛ إلى أنْ دَعَمهم الملك عبد العزيز بعد ذلك بالجنود والمماليك، وكانوا رَغْم قلَّتِهم يقومون بواجبات الحسبة على أكمل وجه وأحسنه، وبعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف رحمه الله استقر رأي الملك عبد العزيز -يرحمه الله- على جعل أحد الأعضاء وهو الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيسًا لزملائه؛ ليكونَ المسئول عن أعمالهم، وما يَقُومون به من أمر الاحتساب؛ ثم ضَمّ إليه النظر في الحسبة في المنطقة الوسطى والشرقية والحدود الشمالية.
فاقتضت المصلحة إيجاد مَقَرٍّ دائم للرئيس العام بالرياض، ثم استدعى التطور والتوسع الحاصل في مدينة الرياض، إنْشاء عِدّة مراكز بمدينة الرياض، ويُعين لكل مَرْكَزٍ عدد من الأعضاء، ورئيسٌ يُدِيرُ شئونهم، ويكون المسئول عن أعمالهم مع تحديد دائرة اختصاصٍ مكاني لكل مركز.
أما الحسبة خارج الرياض: فقد عُيّن في كل مدينة وحاضرة مركز هيئة، يقوم بالاحتساب في تلك الناحية؛ ولكُلِّ مَركز من هذه المراكز الخارجية رئيسٌ يَرْتَبِطُ بالرئاسة العامة في الرياض، في الأعمال التي تختصُّ بها.
ومع هذا التطور وانتقال الحسبة من التطوع إلى التكليف، والتولية من قبل ولي أمر المسلمين؛ لم يوضع نظامٌ مكتوب يوضح الأسباب والاختصاصات، وشروط التعيين للأعضاء ورؤساء الأقسام والمراكز؛ ويكون مرجعًا يرجع إليه عند وجود أي إشكال. بل كان يرجع في ذلك إلى رأي فضيلة الرئيس العام في كل شيء، حتى في الأمور الإدارية البحتة.
واستمر ذلك إلى أوائل الثمانينيات الهجرية، حيثُ بدأ بعد ذلك يسري عل ى أعضاء الهيئات نظامُ المُوَظّفين والمُستخدمين في الدولة.
ومِنْ أوجه تطور العمل بالهيئة في الرياض في تلك الفترة: تعيين مراقبين للتفتيش، وذلك لمراقبة حُسن سير العمل بالفروع عن طريق القيام بجولات مفاجئة لهذه الفروع والمراكز، كذلك أنشئ فرعٌ للقيام بأعمال الدوريات الليلية على الأسواق والأماكن العامة، هذا كله عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض ومُلحقاتها.
لكن لما تم توحيد بقية البلاد في الحجاز والجنوب وغيرها؛ أصبح الأمر يتطلب توسيع دائرة هذه الولاية، فصدر الأمر بإنشاء هيئة أخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحجاز في مكة، وكانت بدايات ذلك بعد فتح مكة من قبل الملك عبد العزيز رحمه الله سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وأربعين، وأربع وأربعين.
تم ذلك بعد مكاتبات بين جلالة الملك عبد العزيز، والشيخ عبد الله بن بوليهد -يرحمه الله- رئيس القضاء في مكة في ذلك الوقت؛ فقد أختارَ الشيخُ في مُذكرة رَفعها إلى الملك عبد العزيز، أوّل رئيس للهيئة في الحجاز وبعض المعاونين له، وكان ذلك في عشرين صفر سنة ألف وثلاثمائة وخمس وأربعين.
فأمر جلالة الملك عبد العزيز شرحًا على تلك المذكرة بقوله: "ولدنا فيصل هذا كتابٌ من الشيخ عبد الله بن بوليهد تنظرون في هذا التقرير وتقرونه عليه". انتهى في عشرين صفر سنة ألف وثلاثمائة وخمسٍ وأربعين.
وكان مَرْجِعُ الهيئة في مكة عند تَشْكِيلِها نائبَ جَلالة الملك الأمير فيصل بن عبد العزيز رحمه الله تلا ذلك صدور أمر ملكي في 18/ 1/1347 شُكِّل بموجبه الهيئة، ونص هذا الأمر: "بسم الله الرحمن الرحيم نحنُ عبد العزيز بن عبد
الرحمن الفيصل قد قررنا ما يأتي في تشكيل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون الشيخ أبو السمح عبد الظاهر رئيسًا، وعبد الله بن عمار، ومحمد نور الهندي، وسليمان الصنيع، وعبد الله المطلق، ومحمد الخضيري، وعبد الرحمن العقل، وعبد الله الخياط أعضاء؛ فعلى نائبنا العام تنفيذ أمرنا هذا".
وفي 2/ 3/1347 صدر ملحق لنظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 1302، وهو مُكَوّن من ثلاث عشرة فقرة، وجاء في هذا الملحق اختيار أعضاء شرفيين للهيئة يجتمعون مع الرئيس كل يوم خميس؛ للتباحث في الأمور الهامة إلّا إذا اقتضى الأمرُ حضورهم أكثر من مرة في الأسبوع، ومُهِمّاتُ الأعْضَاء الشرفيين التوعية العامة بإلقاء المواعظ والدروس في المساجد، لتعليم الناس أحكام دينهم؛ كما قضى المُلحق المذكور تقسيم البلد إلى مَنَاطق بعدد الأعضاء المَعْنيين؛ ويُكلف كلُّ واحدٍ منهم بمنطقته حفظًا ومراقبة.
ثم حدث تطورٌ آخر للهيئة حيثُ صدرت موافقة من مجلس الشورى على نظام جديد يقضي بربط الهيئة بمُدير الشرطة العام، وهذا النظام تكون من 31 مادة وكان صدور ذلك في السادس والعشرين من رجب من عام ألفٍ وثلاثمائة وتسعة وأربعين.
وظَلّ هذا الاهتمام من الملك عبد العزيز بأمر الحسبة في تواصلٍ مُسْتمر، فنُلاحِظُ مثلًا ما نشره فضيلة الشيخ عبد الله خياط في مجلة (المنهل)؛ وهو قوله: "فعُقِدَ اجتماع مع علية القوم وسراتهم، وأصحاب الحل والعقد من كبار الموظفين في شهر محرم من عام ألف وثلاثمائة وخمسة وخمسين.
قرئ فيه منشور من الملك عبد العزيز نصه: "يجبُ أن تنظروا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تنفيذًا لأمر الله وحفظًا له، كما يجب أن ننظف أنفسنا من الأدران، ونُطَهّرها من كُلّ الأمور المخالفة، وندنو إلى ما يرضي الله،
ونخاف عقوبته؛ إذ ليست هناك عقوبة أشد من عقوبة الدين، هذه البلاد يجب أن تكون قدوة صالحة للمسلمين، في كل عمل من أعمالها؛ فنحن نطلب المساعدة في هذا الشأن منكم ومن الأهليين، نريد أن تكونوا أعوانًا للحكومة في هذا الأمر؛ لأنه إذا كان الجميع اتفقوا على درء المفاسد سَهُلَ العَمَلُ، أما إذا كانت إجبارِيّة صَعُبَ حَلُّها وطال أمْرُها.
وإن المساعدة التي نطلبها هي:
أولًا: مساعدة الأهالي.
ثانيًا: ترتيب طريقة لدرء المفاسد والحيلولة دون الفساد؛ لنتمكن من إقامة الشرع الشريف.
فإذا عملنا هذا قمنا باللازم، وهذا أهمُّ ما يَجِبُ العناية به؛ لأنّ الدُّنيا إذا كثرت خيراتها، والدين أهمل فلا فائدة تُرجى منها، بل هذا هو أساس البلاء، أما إذا عُمِّر الدّين ونُفِّذت أوامره، واجتُنبت محارمه صلحت الدنيا، فأنا أرجو أن تفكروا في طاعة الله وفي مخافته، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأرجو أن تهتموا بالأمر اهتمامًا شديدًا؛ فبإصلاح هذه المسألة يصلح كل شيء".
وفي نهاية ذلك الاجتماع صدر قرار بتشكيل هيئة أخرى تدعى هيئة الأمناء، يُنْتَخب أعضاؤها من كافة محلات مكة، تتعاون مع هيئة الأمر بالمعروف في تنفيذ رغبة الإمام، ونجحت الفكرة حيث أصبح التعاون مبذولًا من قبل هيئة الأمناء عن وازع نفسي، وغيرة على الدين، وانتصارًا لمحارم الله عز وجل.
وفي تطور آخر لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: صدر نظامٌ جديد في 15/ 1/1356 يقضي بأن يكون مرجع الهيئات رئاسة القضاة، ويتكون ذلك النظام من ثلاثين مادة، ومُوقع من رئيس القضاة بعد تذيله بهذه العبارة: "جرى
تعديل هذا النظام من قبلي؛ فبلغ بعد إجراء التعديل ثلاثين مادة، ولذا تحرر في الرابع والعشرين من الشهر السادس سنة ألف وثلاثمائة وست وخمسين". رئيس القضاة.
وتنص المادة الثامنة والعشرون من النظام آنف الذكر على ذلك الارتباط؛ حيثُ جاء فيها: "جميع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرجعها رئيس القضاة". واستمر هذا الارتباط إلى تاريخ 10/ 2/1372 حيث صدر الأمر بأن يكون ارتباط رئاسة الهيئة بنائب الملك في الحجاز، وبعد إلغاء منصب نائب الملك بالحجاز صار رئيس الهيئة يرجع إلى مجلس الوزراء مباشرة.
ثم في توسع آخر لدائرة عمل الهيئة بالحجاز؛ ضُم إلى رئيسها النظر في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جنوب المملكة، وفي يوم السبت الموافق الثالث من الشهر التاسع سنة 1896 صدر مرسوم ملكي يقضي بتوحيد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة، ودمجها في رئاسة واحدة يكون مقرها الرياض، وهذا هو نص المرسوم: "بسم الله الرحمن الرحيم، بعون الله تعالى نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، بعد الاطلاع على المادتين 19 و 20 من نظام مجلس الوزراء، الصادر بالمرسوم الملكي 38 في 22/ 10/1377.
وبعد الاطلاع على قرار مجلس الوزراء رقم 1394 وتاريخ 28/ 8/1396 رسمنا بما هو آتٍ:
أولًا: توحيد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هيئة واحدة، بميزانية واحدة، وتحت رئيس واحد يُعين بأمر ملكي.
ثانيًا: يُدمج فصل ميزانية الهيئتين الحالتين في ميزانية واحدة، وفصلٌ واحد تحت مسمى:"الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".