الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم)
المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم:
ولاية الحسبة، وولاية القضاء، وولاية المظالم، هذه الولايات الثلاث في أي حكومة إسلامية هي بالرغم مما قد يوجد بينها من اختلاف في الاختصاصات والسلطات مكملة لبعضها؛ لا سيما في الجانب القضائي، وهذا مما جعل الكثير ممن كتب في النظم الإسلامية ومنذ القدم يعرض لها جميعًا عندما يتكلم عن واحدة منها، ولِذلك كانتْ الحَاجَةُ داعية إلى المقارنة بين الولايات الثلاث؛ تمييزًا لكل ولاية، وبيانًا لاختصاصاتها، والموافقة بينها وبين غيرها من الولايات.
فإنّ بَعضَ الكُتّاب والمؤلفين الذين كتبوا عن الحسبة لم يكن مفهوم الحسبة واضحًا في أذهانهم، فخلط بين اختصاصاتها واختصاصات كل من القضاء والمظالم؛ فبَعْضُهم يَضُمّها للقضاء ويجعلها جزءًا منه، وبعضهم يضمها للمظالم والبعضُ الآخر يراها فرعًا من فروع الشرطة، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تَنِمُّ عن عدم الإحاطة بالدور العظيم والفعال والشمولي الذي يؤديه المُحْتَسِبُ داخل البنية الاجتماعية الإسلامية.
وكَمِثَالٍ على هذا الفَهم نرى أنّ من هؤلاء الكُتّاب الذين لم يُنزلوا الحِسْبَة منزلتها، بل حصر معناها في جانب ضيق من مجالاتها الواسعة، وهو الأستاذ صبحي الصالح حيث يقول عن الحسبة:"ومن صور القضاء في الإسلام الحسبة".
كذلك شاكر مصطفى فهو يقول عندما كان يتحدث عن القضاء في العصر العباسي: "ولا تُستَكْمَلُ صورة القضاء العباسي إلّا بثلاث مؤسسات أخرى تتعلق به، وهي: الشهود، والحسبة، والمظالم".
أما أحمد شلبي فيقول: "تشعبت مؤسسات النظم القضائية، إلى أنواع، هي: الشرطة، الحسبة، والنظر في المظالم، والإفتاء، والقضاء".
وقال البُسْتَانِيُّ في دَائِرة مَعَارفه بعد أن عرّف الحِسْبة: "ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة". فهو على نقيض من سبقه حيث جعل القضاء جزءًا من الحسبة.
والحَقيقَةُ أنّ والي الحِسْبة يُمارسُ بعضَ الوَاجِبَات القَضَائيّة لا سيما تلك التي يحتاج البت فيها إلى السرعة، والتي لا يدخلها الإنكار والتجَاحُد، ومع ذلك فهي ليست جزءًا من القضاء؛ بحيث لا يتم إتمام العمل القضائي إلا بوجود المحتسب أو إشرافه، وكذلك ليست العكس، ولكن مع ذلك لا يمكن أن نقول: إنه ليس هناك علاقة بين ولاية القضاء وولاية المظالم.
فالماوردي يقول: "إنّ الحِسْبَة واسِطَةٌ بين أحكام القضاء، وأحكام المَظَالِم". ثم يقول: "فإن الناظر في الحسبة له من سلاطة السلطة، واستطالة الحماة، بما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقُضاة إلّا أنّ الحِسْبة موضوعة للرّهبة؛ فلا يكون خروج المحتسب إليها -أي: الرهبة- بالسلاطة والغلظة تجوزًا فيها، ولا فرق. والقضاء موضوع للمناصفة فيكون القاضي بالأناة والوقار أحق، وخروجه إلى سلاطة الحسبة تجوز وخرق".
وبحث الولايات الثلاثة من حيث النشأة والاختصاصات والصلاحيات يعطينا فكرة عن تلك العلاقة في نقاط الاتفاق والافتراق فيما بينها.
أما المُقَارَنَةُ من حيث النشأة:
فالحِسْبَةُ في الإسلام على الراجح من أقوال العلماء نشأت وبدأ العمل على تطبيقها مُنذ نُزول أوّل نَصٍّ شرعي، يدعو إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر، وبمعنى أوضح: كانت نَشْأَتُها منذ أول قيام الدولة الإسلامية في المدينة النبوية، على يد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما القَضَاءُ؛ فالقَضَاءُ في سَائِر الأُمم قديم؛ قدم حضارة الإنسان، وإن لم يَكن بما أصبح عليه في العصور المُتأخرة كعلم وفن له أصوله وقواعده؛ إذ كان القَضَاءُ يَقُوم على الأعراف السائدة في القبيلة أو المُجتمع، مع ما قد يُوجد من قواعد نادرة تَضَعُها السُّلطات أو الحكام، وفي بعض الأحيان تنعدم فيها السلطة القضائية، أو القضاء كوظيفة عامة، ويحل محله القضاء الفردي الخاص الذي يعتمد على القوة.
وفي ظروف أُخرى نَجِدُ أساس الأحكام هي المُعتقدات الدينية، وفي كثير من الشعوب يبرز شيخ القبيلة كحاكم وكقاضٍ يجمع في يديه كل السلطات في شئون قبيلته، وهذا ما كان عليه حال القضاء عند العرب في الجاهلية لا سيما البدو منهم.
أما في مَكّة فقد كانت الحالة القضائية فيها أكمل وأحسن، وسببُ ذلك أنّ مَكّة كانت أكثر البلدان العربية حضارة، وكان أهلها قد وزعوا الأعمال الإدارية في بلدهم على عشرة رجال كالحِجَابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء. وكان من هذه الأعمال ما يتعلق بالقضاء، وقد عهدوا به إلى أبي بكر في الجاهلية.
فلما جاء الإسلام أقرّ بعضَ التقاليد العربية القضائية، وأنكر البعضَ الآخر وعَدّلها بحيثُ تكون موافقة لروحه ومنهجه؛ فلقد تَولّى الرسولُ صلى الله عليه وسلم القضاءَ بنفسه منذ أن وصل إلى المدينة، وبدأ يؤسس لقيام دولة الإسلام، ولعل من أول النصوص التي تبين لنا ذلك؛ قول الله تبارك وتعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة: 49).
ومن أول الحوادث التي تبين أيضًا تولي الرسول صلى الله عليه وسلم للقضاء ذلك الحلف الذي عقده المسلمون من المهاجرين والأنصار بينهم وبين الكفار من اليهود والمشركين من أهل المدينة، وقد جاء في هذا الحلف: "أنّه مَا كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار، يخاف فسادُه؛ فإنّ مَرَدّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قاضيًا، كما كان للشريعة مُبلغًا في بداية تكون دولة الإسلام في المدينة، ولم يكن للمسلمين في المدينة قاضٍ سواه؛ إذ كانت الأمة لا تزال على بساطتها وضيق رُقْعَتِها، والوازعُ الدِّيني كان قويًّا، ومِنْ ثَمّ قَلّت المُنَازعات بين الناس، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنّه عيّن في بلد من البُلدان رجلًا اختص بالقضاء بين المسلمين دُون الرُّجوع له صلى الله عليه وسلم، بل كان يعهد بذلك إلى بعض الولاة ضمن أمور الولاية، وتارة يعهد إلى بعض أصحابه بالفصل في بعض الخصومات.
ومن أولئك الذين تُشير بعض المصادر إلى أنّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أسْنَدَ إليهم القَضَاء ضِمْنَ التّولية لهم عندما أرسلوا إلى بعض الأمصار لتعليم الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فقد روي عنه قوله: ((بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء، فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ اللهَ سَيهدي قَلبك، ويثبت لسانك؛ فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنّه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلتُ قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد)).
وكذلك مُعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أيضًا، وقال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبِسُنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي
ولا آلو، -أي: لا أُقَصِّر- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الحمدُ لله الذي وفق رسولَ رسولِ اللهِ لما يُرضي رسول الله)).
ومن الأصول والقواعد التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقضاء قوله: ((البَيّنَةُ على من ادعى واليمين على من أنكر))، ((أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)).
كذلك فقد كان من طرق الإثبات عنده صلى الله عليه وسلم إضافة إلى البينة واليمين الواردة في الحديث: شهادة الشهود، والكتابة، والفراسة، والقرعة، وغيرها.
أما القضاءُ في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد أخذ نفس المسار تقريبًا، لا سيما في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيل: إنه رضي الله عنه أسند مهمة القضاء إلى عمر بن الخطاب، ودام هذا التكليف عامًا أو عامين، وهو لا يختلف إلى عمر أحدٌ إلى نادرًا، لما عرف عنه رضي الله عنه مِنَ الشِّدّة في الحق، والحَزْمِ في الأمور، بيدَ أنّه مع ممارسته للقضاء لم يُلَقّب بلقب القَاضي خلال مدة التكليف.
أما في عهد عُمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد اتسعت الدولة الإسلامية وازداد عددُ المسلمين فيها؛ الأمر الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُولي عِنَايَته بشئونِ القَضاء، ومن أهم ما قام به: تعيين قضاة يختصون بالقضاء وحده، ويَنُيبون عن الخليفة في الفصل بين الناس؛ فولى أبا الدرداء رضي الله عنه قاضيًا على المدينة إلى جانبه، وشُريحًا على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، وقيس بن أبي العاص على مصر. فكان رضي الله عنه أول من عين قضاة مستقلين في البلاد الإسلامية وفوضهم فيه.
وهو رضي الله عنه الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاروق؛ لأنّ اللهَ فَرّق به بينَ الحَقّ والباطل، وسيرته رضي الله عنه تاريخ حافل، وأعماله وتسييره لدفة الحُكم صارت دستورًا ونظامًا يقتفى، ومن ذلك: أنه كتب إلى قُضاته ما اعتبره الفقهاء وأهل الأصول القاعدة التي ينطلق منها القضاء في الإسلام، وأصّلُوا على تلك القاعدة أصولًا، واستخرجوا من تلك الأصول فروعًا.
ونص كتابه رضي الله عنه إلى القضاء يقول: "أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنّة متبعة، فافهم إذا أدى إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ساوِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يَطْمَعَ شَريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البَيِّنَةُ على من ادعى، واليمينُ عَلَى من أنكر، والصُّلْحُ جَائِزٌ بين المسلمين، إلّا صُلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهُديت فيه لرُشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قويم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سُنّة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا، وبينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحق وإلّا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماء، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مُجرب عليه شهادة زور، أو ضنين في نسب، وإياك والقلق والضجر والتأفف من الخصوم؛ فإنّ اسْتِقرار الحق في مواطن الحق يُعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، والسلام".
ولم يكن يتولى القضاء في عهد الخلفاء الرّاشدين إلا من توفرت فيه شروط؛ منها: أن يكون ذكرًا، بالغًا، مكتمل القوى العقلية، حرًّا، مسلمًا، غير متهم في دينه أو مروءته، سليم الحواس، واسع الإلمام بالفقه والشريعة.
وكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين مستقلًّا، مُحترم الجانب، وقد عَمَد الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون إلى الاستشارة فيما يعرض عليه من خصومات، بعد أن يَعْرِضُوا ذلك على كتاب الله، وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يجدوا شيئًا سألوا المسلمين: هل قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا؟ فإن أعيى الخليفة ذلك، استشار رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكُلُّ خَلِيفَةٍ يَنْظُر إلى قضاء من قبله، بعد أن يبحث عن ذلك في كتاب الله وسُنّة رسوله وقضائه صلى الله عليه وسلم وعلى هذا سار القضاء في عهدهم -رضوان الله عليهم أجمعين.
أما القضاء في العهد الأموي؛ فقد اتسم بصفتين رئيسيتين:
الأولى: أن القاضي كان يحكم بما يوحيه إليه اجتهاده، إذ لم تكن المذاهب الأربعة التي تَقيد بها القضاة فيما بعد قد وجدت، فكان القاضي في هذا العصر يرجع للكتاب والسنة في الفصل في الخصومات.
وأما الصفة الثانية: فهي أن القضاء لم يكن متأثرًا بالسياسة؛ فقد كان القضاة مستقلين في أحكامهم، وكانوا مطلقي التصرف، وكلمتهم نافذة حتى على الولاة وعمال الخراج.
أما في العصر العباسي: فقدِ كانَ للقَضَاءِ خَصَائِصُ كثيرة منْهَا تَعدد الآراء في المسألة، بحسب تعدد المذاهب الفقهية التي حدثت في ذلك العصر،
ومنها تأثر القضاء بالسياسة؛ لأنّ الخُلَفاء العباسيين كانوا يريدون إضفاء الشرعية على بعض أعمالهم.
وهُناك أمر آخر قد تميز به القضاء في هذا العهد وهو: أنّ سُلْطَة القاضي قد اتسعت؛ فشملت الفصل في الدعاوى، والأوقاف، وتنصيب الأوصياء.
ومما تميز به القضاء في هذا العصر استحداث وظيفة "قاضي القضاة" وأول من لُقِّبَ به القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة؛ حيث منح سلطات واسعة فيما يتعلق بشئون القضاء والقضاة، وهذه الوظيفة تُشْبِهُ إلى حد ما وظيفة وزير العدل في عصرنا.
وظَلّ القضاء في مختلف الدول الإسلامية التي قامت فيها يستمد روحه ومنهجه من الكتاب والسنة، واجتهاد الفقهاء إلى أن رزحت معظم البلاد الإسلامية في القرن الماضي تحت أنير الاستعمار الغربي البغيض؛ فكان من نتاج هذا الغزو الفكري والعسكري أن أورثوا في البلاد والتي حكَموها أنظمة قضائية وضعية، لا زالت غالبية الدول الإسلامية القَائِمَة اليوم للأسف تطبق هذه القوانين والأنظمة على شعوبها المسلمة؛ فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الحكام في كل البلاد الإسلامية إلى أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن يطبقوا أحكام ربهم بين شعوبهم.
أما عن نشأة المظالم في الإسلام: فولاية المظالم ولاية تحمل ملامح سياسية واضحة، تَمتزِجُ بها سَطوة السلطة بصفة القضاء، ولها من فضل الهَيْبَةِ وقُوّة اليَد ما ليس للقضاء في كف الخصوم عن التجاحد، وما للظلمة من التغالب والتجاذب، وهي بوضعها الخاص
ضمن النظم في الدولة الإسلامية مؤسسة دينية قضائية، ذات شأن خطير كما تُعَبِّرُ عنه كلمة مظالم، وتُبلور فيها وبشكل قوي معنى المكافحة؛ لأنها تتصدى بصفة خاصة لمقاومة ما يُمارس من الانحراف على صعيد رجال السلطة في الدولة من ذوي الجاه والحسب، وعلى المستويات العالية في إدارة الدولة.
وهي من حيث المبدأ عريقة في التاريخ يقول الماوردي: "كان ملوك الفُرسِ يرونها من قواعد الملك، وقوانين العدل، الذي لا يعم الصلاح إلا بمراعاته، ولا يتم التناصف إلا بمباشرته، وكانت قُريش في الجَاهِليّة حينَ كَثُر فيهم الزُّعماء، وانتشرت فيهم الرياسة، وشاهدوا من التَّجَاذُب والتَّغَالُب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر، عقدوا حلفًا على رد المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم؛ سُمّي ذَلك الحلف حلف الفضول، وقد حَضَره الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة قبل النبوة وقال فيه:((لَقدْ شَهِدَّتُ في دارِ عبد الله بن جدعان حلف الفضول، ما لو دُعيت إليه لأجبت، وما أُحِبُّ أن لي به حمر النعم)).
وفي الإسلام قامت ولاية المظالم لا بشكلها ونظامها الذي عرف فيما بعد، ولكن بما يُناسب الأحوال والظروف في عهده صلى الله عليه وسلم حيث لا ظُلم ولا تَظالم إلا في أندر الأحوال.
وكانت في عهده صلى الله عليه وسلم في صورة عمل قضائي من نوع فريد، تجري ممارستها بالعدل، ولا يتميز كيانها بالزمان ولا بالمكان، ولا تتقيد بحدود القضاء العادي، ولا بمَسْطَرته.
ولَعَلّ من أبرز تلك المظالم التي فصل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحادثة التي وقعت بين الزبير بن العوام وأحد الأنصار في سقاة بينهما؛ حيث اشتكى وتَظلم الأنصاري من حبس الزبير الماء عن مزرعته؛ فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المكان، وقدّر
الحق بما رآه قال: ((اسق أنت يا زبير، ثم الأنصاري)). فقال الأنصاري: إنه لابن عمتك يا رسول الله، يعني من أجل ذلك حكمت له، فغضب صلى الله عليه وسلم من قوله وقال:((يا زُبَير أجره -يعني: الماء- حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك)).
فقال: واستوعب -أي: استوعى- رسول الله صلى الله عليه وسلم للزُّبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه، أي: أغضبه الأنصاري، وكان قد أشار عليهما قبل ذلك بأمر كان لهما فيهما سعة.
قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك يعني قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65) يقول الراوي: هو عروة بن الزبير، نظرت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ثم احبِس الماء حتى يرجع إلى الجدار؛ فكان ذلك إلى الكعبين)).
وعلى مِثْلِ ما كان عليه رَدُّ المَظَالِم في عهده صلى الله عليه وسلم كان في عهد الخُلَفاء الراشدين، وظلت تتطور في عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الأمويين، عندها انتشر الظلم من بعض الناس لبعضهم، وغُمطت بعض الحقوق؛ حَتّى أصْبَح ذلك شبه مُعلن بين الناس، ولم تكن تكفيهم زواجر العظة والتمانع والتجاذب؛ عندها اقتضى الأمر قيام من يرد الحقوق، وينصف المغلوب ممن يتمتع بقوة السلطنة وهيبة القضاء ونصفته.
فكان أول من أفرد للظلامات يومًا يتصفح فيه قصص المتظلمين، من غير مباشرة للنظر عبد الملك بن مروان؛ فكان إذا وقف منها على مُشكل، أو احتاج فيها إلى حُكم منفذ، رَدّه إلى قاضيه أبي إدريس الأودي فنظر فيه، فكان أبو إدريس هو المباشر، وعبد الملك هو الآمر.