المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني ‌ ‌(حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها)   حكم الحسبة إن - الحسبة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها

- ‌تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا

- ‌منزلة الحسبة في الدين

- ‌مقصود الحسبة في الإسلام

- ‌فضائل الحسبة

- ‌فوائد الحسبة

- ‌الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها

- ‌(حكم الحسبة

- ‌الحِكمة من مشروعية الحسبة

- ‌مراتب الحسبة

- ‌الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة

- ‌الحسبة نظام إسلامي أصيل

- ‌الحسبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي رضي الله عنهما

- ‌الدرس: 4 المحتسب (1)

- ‌تعريف المحتسب

- ‌شروط المحتسب

- ‌آداب المحتسب

- ‌الدرس: 5 المحتسب (2)

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر

- ‌الدرس: 6 المحتسب (3)

- ‌أعوان المحتسب ومساعدوه

- ‌الصلاحيات الممنوحة للمحتسب

- ‌عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر

- ‌الدرس: 7 المحتسب (4)

- ‌وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب

- ‌دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب

- ‌المسجد ودوره في الاحتساب

- ‌الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب

- ‌الدرس: 8 المحتسب فيه (1)

- ‌تعريف المحتسب فيه

- ‌شروط المحتسب فيه

- ‌شمولية المحتسب فيه

- ‌الدرس: 9 المحتسب فيه (2)

- ‌قاعدة في تغيير المنكر

- ‌لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق

- ‌الدرس: 10 المحتسب عليه (1)

- ‌تعريف المحتسب عليه، وشروطه

- ‌أنواع المحتسب عليهم

- ‌الدرس: 11 المحتسب عليه (2)

- ‌ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام

- ‌حكم بذل النصيحة لولاة الأمر

- ‌كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء

- ‌الدرس: 12 المحتسب عليه (3)

- ‌مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي

- ‌الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها

- ‌الدرس: 13 الاحتساب

- ‌معنى الاحتساب، ومراتبه

- ‌فقه الاحتساب

- ‌متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم

- ‌الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص

- ‌وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم

- ‌الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة

- ‌التعريف بالنيابة العامة وتطورها

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

- ‌الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم

- ‌مقدمة

- ‌نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها

- ‌اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة

- ‌عواقب ترك الحسبة والقعود عنها

- ‌ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها

- ‌أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية

- ‌الدرس: 18 شبهات حول الحسبة

- ‌الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع

- ‌الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا

- ‌الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله

- ‌الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه

- ‌القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني ‌ ‌(حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها)   حكم الحسبة إن

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني

‌(حكم الحسبة

والحكمة منها ومراتبها)

حكم الحسبة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

روى مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان)).

قال الحافظ أبو العباس القرطبي في شرح هذا الحديث: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم فليغيره بيده))، هذا الأمر على الوجوب؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا يعتدُّ بخلاف الرافضة في ذلك؛ لأنهم إما مكفرون فليسوا من الأمة، وإما مبتدعون فلا يُعتد بخلافهم لظهور فسقهم ووجوب ذلك بالشرع لا بالعقل؛ خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه واجبًا عقلًا.

والأدلة من القرآن الكريم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة؛ منها: قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) ، ففي هذه الآية بيان الإيجاب، فإن قول الله تعالى {وَلْتَكُنْ} أمرًا وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوطًا به؛ إذ حصر، وقال:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

ومن الآيات الدالات أيضًا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان.

ص: 29

وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63) ، فبين أنهم أثموا بترك النهي.

وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: 116)، فبين سبحانه أنه أهلك جميعهم إلا قليلًا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض.

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: 135)، وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين.

وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، والإصلاح نهي عن البغي، وإعادة إلى الطاعة، فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وذلك هو النهي عن المنكر.

وأما الأخبار والأحاديث والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي كثيرة؛ فعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)).

ص: 30

وعن جرير رضي الله عنه مرفوعًا: ((ما من قوم يكونوا بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله عز وجل بعذاب)).

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم الله تعالى بعذاب منه)) ".

وعن عتبة بن أبي حكيم عن عمرو بن حارثة، عن أبي أمية الشعباني، عن أبي ثعلبة أنه سأل عنها -أي: عن هذه الآية- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بنفسك، ودع عنك العوم، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنَّ مثل القبض عن الجمر، للعامل فيهنَّ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم، قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: لا بل أجر خمسين منكم)).

ولأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث حذيفة: ((فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره يكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).

وعن أبي البحتري قال: أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)).

يقال: أعذر فلان من نفسه إذا أمكن منها، يعني: أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن بعدهم عذر، كأنهم قاموا

ص: 31

بعذرهم في ذلك، وحقيقة عذرته محوت الإساءة وطمستها، ويتعلق بالصدق والكذب ما يتعلق بالحق والباطل، وله تعلق بهذا.

وعن أبي عبيدة عن ابن مسعود مرفوعًا: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، ذلك لما عصوا وكانوا يعتدون".

ومما يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عالمية إلى قيام الساعة كما قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158)، وقال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة))، والناس جميعًا مخاطبون أن يعملوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وينزلوا على حكمها كما قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3).

ومقتضى عالمية الرسالة إلى قيام الساعة مع هذا الخطاب أن يكون هناك بيان لكل ما أرشدت إليه هذه الرسالة من خير، وحذرت منه من شر إلى قيام الساعة كذلك؛ إذ إن الله عز وجل رحمة منه بعبادة ما كان ليؤاخذهم قبل هذا البيان كما قال سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، وقال

ص: 32

سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 134).

وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أرشدت إليه هذه الرسالة من خير، وحذرت منه من شر بكل الأساليب التي أتيحت له، وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون فمن بعدهم، ويجب أن يبقى الأمر على هذا النحو ما بقيت الحياة لا سيما وأنه ما يأتي زمانًا إلا وما بعده شرًّا منه والشر لا يواجه بالسكوت، وإلا لتحولت الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد، كما قال الله سبحانه:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، وقال سبحانه:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاٌ} (الحج: 40)، وإنما يواجه الفساد بالإيجابية التي تقضي عليه، أو تقلل منه على الأقل؛ بحيث تحصره في دائرة محدودة لا يتعداها.

كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا لتحقيق مبدأ التضامن الاجتماعي بين الناس، فإن الناس جميعًا بينهم تضامن اجتماعي واجب كل واحد يسعى في مصلحة نفسه ومصلحة الآخرين، ويجتهد في دفع الشر عن نفسه وعن الآخرين، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا طريقان لحفظ هذا الواجب؛ إذًا فهما واجبان، وذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كذلك يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق مبدأ الأخوة الإنسانية والإسلامية التي قال الله تعالى فيها:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1)، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10).

ومقتضى هذه الأخوة أن يقوم كل أخٍ بدلالة أخيه على ما فيه مصلحته وسعادته في الدنيا والآخرة، وأن يزجره عن كل ما فيه فساده وشقوته في الدنيا والآخرة، ويكون ذلك فيه على سبيل وجوب لا سبيل الندب والتطوع، وانطلاقًا

ص: 33

من الحق ذاته، فإن لذات الحق حقوقًا على الناس، ومن هذه الحقوق صيانته بكل ما يمكن من أساليب ووسائل، وإلا ضاعت معالمه وطمست آثاره.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من بين الأساليب والوسائل التي يتم بها حماية الحقوق، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، إلا أن العلماء اختلفوا فيه من حيث العينية والكفائية، هل هو واجب عيني أم كفائي؟

ومعلوم أن الواجب الكفائي إذا قام به البعض سقط الحرج عن الآخرين، وأما الواجب العيني فلا يقوم أحد مقام أحد فيه، وكل إنسان مكلف به فإذا تركه أثم وإن قام به الآخرون، وسبب الخلاف هو هل كلمة من في قول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104)، هل كلمة من في قوله {مِنْكُمْ} للتبعيض أم للبيان؟ فقال بعضهم ليست للتبعيض، لدليلين:

الأول: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 110).

والدليل الثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس، فإذا ثبت هذا نقول: معنى هذه الآية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} : كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة من فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كما في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِِ} (الحج: 30)، ويقال

ص: 34

لفلان من أولاده: جند، وللأمير من غلمانه: عسكر، يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، فكذلك الأمر ها هنا.

والقول الثاني: أن من هنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضًا على قولين:

أحدهما: أن فائدة كلمة من هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة، ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل: النساء، والمرضى، والعاجزين.

والثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء، ويدل عليه وجهان:

الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من يزيده إنكاره إلا تماديًا؛ فثبت بهذه الوجوه أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قول الله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122).

والقول الثاني: قالوا: إنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل كفاية بمعنى: أنهم متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة إيجابًا على البعض لا على الكل،

ص: 35

فهذان هم القولان في هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض العين، أم فروض الكفاية، وقد جمع الحافظ ابن كثير رحمه الله بين القولين، فقال في تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبًا على كل فردٍ فردٍ من الأمة بحسبه لحديث ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).

وإلى هذا المذهب أيضًا ذهب الشيخ محمد رشيد رضا فقال في (مختصر تفسير المنار) في تفسير قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، قال الشيخ رحمه الله: قد اختلف المفسرون في قوله تعالى {مِنْكُمْ} هل معناه بعضكم أم "من" بيانية، والظاهر أن الكلام على حد قولك ليكن لي منك صديق، فالأمر عام.

ويدل على العموم قول الله تعالى {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3) ، فإن التواصي هو الأمر والنهي، ويدل عليه أيضًا قول الله عز وجل:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78، 79) ، وما قص الله علينا شيئًا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.

قال رحمه الله: "ثم لهذه الدعوة مرتبتين: فالمرتبة الأولى هي دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير ويشاركوهم في ما هم عليه من النور والهدى، وهو الذي يتجه به قول المفسر إن المراد بالخير

ص: 36

الإسلام، وقد فسرنا الإسلام من قبل بأنه دين الله على لسان جميع الأنبياء من جميع الأمم، وهو الإخلاص لله تعالى والرجوع عن الهوى إلى حكمه، وهذا مطلوب منا بحكم جعلنا أمة وسطًا، وشهداء على الناس كما تقدم في سورة البقرة"، وخير أمة أخرجت للناس كما سيأتي بعد آيات مقيدًا بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وبحكم قوله في وصف المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

فالواجب دعوة الناس للإسلام أولًا، فإن أجابوا، فالواجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي: هي دعوة المسلمين بعضهم بعضًا إلى الخير، وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر، والعموم فيها ظاهر أيضًا وله طريقان:

أحدهما: الدعوة العامة الكلية لبيان طرق الخير، وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله، وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة الدين وفقهه.

والطريق الثاني: الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير، والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه، وجملة القول أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض حتم على كل مسلم، كما تدل عليه الآية في ظاهرها المتبادل وغيرها من الآيات كقوله تعالى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: 79).

ص: 37

وكذلك عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وكون هذا حفاظًا للأمة وحرزًا ظاهرًا، فإن الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض عن ارتكاب المنكرات خرجوا عن معنى الأمة، وكانوا أفذاذا متفرقين لا جماعة لهم، ولهذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المثل كما روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيدهم نجوا ونجوا جميعًا)).

فلا بد للمرء في حفظ نفسه ومن معه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيما أمهات المنكرات المفسدة للاجتماع كالكذب والخيانة والحسد والغش. أما معنى الآية على القول بأن من للتبعيض، وتقدير الكلام: ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمخاطب بهذا جماعة المؤمنين كافة فهم المكلفون أن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، فها هنا فريضتان أحدهما على جميع المسلمين، والثانية على الأمة التي يختارونها للدعوة.

ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معناه الجماعة كما قيل، وإلا لما اختير هذا اللفظ، والصواب أن الأمة أخص من الجامعة فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافًا أرجعوها إلى الصواب.

ص: 38