الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستمر الحال على ذلك حتى جاء عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه- فكان قمةً في رَدِّ المَظَالِم إلى أهلها، وراعى السنة العادلة وأعادها، ورد مظالم بني أمية على أهلها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس؛ وكان أوّل من جلس منهم هو المهدي، ثم الهادي، ثم هارون الرشيد، ثم المأمون؛ إلى أن كان آخر من جلس منهم المهتدي.
وعلى ذلك سارت الحكومات الإسلامية المختلفة في شتى بقاع الأرض، وقد يتولاها من هو دون رياسة الدولة فيمثلها، إلى أن تميزت فيما بعد ذلك بكيانها الخاص، وخُصِّصَت لها مَحْكَمة مُعَيّنة ونظم، حين أصبح هذا ضروريًّا، اقتضته ظروف كثرة المظالم وانتشار واستشراء استغلال السلطة والنفوذ، واستفحال الطغيان من الأقوياء على الحقوق العامة والخاصة.
وهذه الولاية تحمل اسمها ورسمها، في كثير من خصائصها في المملكة العربية السعودية، أما في بقية البلاد الإسلامية، فتحمل أسماء أخرى من أظهرها "محكمة النقض".
المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص
أمّا من حَيثُ الاختصاصات: فتَحَدّثنا عن اختصاصات المُحتسب، وصلاحياته في درس سابق، ونَحنُ نُوجز صَلاحيات المُحتسب ونذكر بها باختصار؛ وهي: الاستدعاء والتهديد، التوبيخ والتبكيت، الهجر، التشهير، الغرامة المالية، الصلب، السجن، النفي، الضرب.
أما اختصاصات وصلاحيات ولاية القضاء: فولاية القضاء شأنُها شأن أي ولاية أخرى؛ ليست لها صلاحيات ثابتة، لا يُمكن أن يُزَادَ عليها ولا يُنقص منها؛ فهي تختلفُ باختلاف رأي من يقوم بتولية القاضي، وغالبًا ما كان خطاب
التولية سابقًا، ونظام القضاء حديثًا؛ هو الذي يحدد تلك الصلاحيات والاختصاصات، فقد يكون القاضي عام النظر، خاص العمل، بمعنى أن له أن يُمارس القضاء في كل المَشَاكل التي تُعرض عليه؛ لكن في حدود مدينة واحدة لا يَخْرُج سلطانه إلى غيرها. وقد يكون العكس خاص النظر عام العمل، بمعنى أن له أن ينظر ويقضي في مسائل خاصة ومعينة، كالطلاق والنكاح وما يتعلق بهما، لا في مدينة بعينها بل في سائر أنحاء الدولة.
أما إذا كانت ولاية القاضي عامة مطلقة التصرف في كل أمر؛ فنظره مشتمل على عشرة أحكام، كما قرره الماوردي رحمه الله وهو أول وأدَقُّ من تعرض لتحْدِيدِ صَلاحيات القضاء والمظالم والحسبة، ولكل من كتب بعده فيما اطلعت عليه يكادون يكونون عالة عليه في هذا.
والأحكام العشرة التي ذكرها، والتي نعتبرها محددة لصلاحيات القضاء في الإسلام، لا سيما في الماضي هي:
فصل المنازعات، وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحًا عن تراضي ويُراعى فيه الجواز، أو إجبارًا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب.
ثانيًا: استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مُسْتَحِقّيها بعد ثبوت استحقاقها، بإقرار أو بينة، ورفع دعوى بذلك من صاحب الحكم.
ثالثًا: إثبات الولاية لمن كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو تفليس؛ حفظًا للأموال على مستحقيها، وتصحيحًا لأحكام العقود فيها.
رابعًا: النظر ف ي الأوقاف بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرفها في سبيلها.
خامسًا: تَنْفِيذ الوصايا على شروط الموصي؛ فيما أباحه الشرع.
سادسًا: تزويج الأيامى بالأكفّاء إذا عدمن الأولياء، ودُعين إلى النكاح.
سابعًا: إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب بإقرار أو بينة، وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفًا على طلب مستحقه.
ثامنًا: النظر في المصالح العامة؛ من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية والأبنية، وسائر المصالح، وإن لم يستعدِ فيها مستعدٍ، خلافًا لأبي حنيفة.
تاسعًا: تَصَفُّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه.
عاشرًا: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف.
حادي عشر: الفَصْلُ في الأحكام المُتعلقة بالزوجين؛ كفسخ النكاح، وثبوت الطلاق، والخُلْعِ والانْقِياد للزوج، والنشوذ.
ويمكن أن نَضُمّ إلى هذه النقاط ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قضاته، ونعتبر أكثر النقاط فيه بمثابة قواعد وحدود، لعمل وصلاحيات القاضي في كل زمان ومكان. ومن المعلوم أنه لم تكن لولاية القضاء في الماضي صلاحيات مفقطة مكتوبة، لا يحيد عنها إلّا ما يتضمنه خطاب التولية، إذا كان مكتوبًا.
أمّا وِلَايةُ القضاء في الحاضر؛ فَلَها كغَيْرِهَا من الولايات والمؤسسات الحكومية الأخرى أنظمة تحدد الصلاحيات لكل مسئول فيها بدقة؛ وهي تختلف باختلاف المصدر الذي يستمد منه القضاء بنوده ومواده؛ فهناك من الدول الإسلامية من يستمد بنود القضاء فيها من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع
علماء الأمة، ومنها ما يستمد ذلك من قوانين وضعيه ما أنزل الله بها من سلطان، وضعت أول ما وضعت لشعوب وأمم كافرة؛ لا تؤمن بالله ورسوله ولا باليوم الآخر.
والقضاء في عصرنا وإن كان في مجمله لا زالت تمثله ولاية واحدة؛ هي وزارة العدل، إلّا أنه أخذت منه بعض الصلاحيات في مسائل محددة، وأُسندت إلى جهات وولايات أخرى؛ فعلى سبيلِ المِثَال لا الحصر: أُخذت المُنَازعات التجارية، وما يَتعَلّق بها من غش وغيره، وأسندت لوزارة التجارة، ومنازعات العمل والعمال أُعطيت لوزارة العمل والشئون الاجتماعية، وقضايا الجمارك وما يتعلق بها تفصل فيها وزارة المالية، ومحاكمة الموظفين شُكّلت لها محكمة خاصة عُرف في بعض الدول بالهيئة العامة للتأديب.
وهناك بعض القضايا كالمخدرات وغيرها شُكّلت لها لجان تفصل فيها، وتتبع وزارة الداخلية، وإن كان الحكم النهائي فيها يؤخذ عن طريق المحاكم الشرعية.
أما ولاية المظالم واختصاصاتها وصلاحياتها؛ فولايةُ المظالم ولاية تحمل المتخاصمين على التناصف بالرهبة، وتزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة؛ لذا لا يقومُ بها إلا من كان جليل القدر، عظيم الهيبة ظاهر الحكمة، عفيف النفس؛ بَيِّنَ التّقوى كثير الورع، صَادِقَ العَزِيمة؛ فهو يحتاج في منصبه هذا إلى سطوة الحماة، وتثبيت القضاء، وحزم الخلفاء، وكثيرًا ما قَامَ الخلفاء أنفسهم بهذا المنصب العظيم.
وكان مجلس القائمين بها مجلسًا مهيبًا حافلًا، فهو يضم إلى جانب والي المظالم عددًا من الحماة والأعوان والقضاة والفقهاء والأعلام؛ فهو ينظر في دعاوى
تعدي الولاة والحكام ونحوهم على أفراد الرعية، وفي تظلم الموظفين بنقص رواتبهم، أو غمط بعض حقوقهم أو تأخيرها، وفي شكاوى الاعتداء على الأموال العامة ونحو ذلك، كما أنّه يُتَابِعُ ما عجز عنه المُحتسب، وينفذ ما ضَعُف عن تنفيذه القاضي؛ لجاه المحكوم عليه أو سلطانه ومكانته.
ويُمكن تفصيل ذلك في نقاط كما جاءت عند أبي يعلى الفراء في كتابه (الأحكام السلطانية) حيثُ يحدد فيها ما يجب أن ينظره والي المظالم، وهو ما نُسَمّيه نحن هنا اختصاصات وصلاحيات ولايات المظالم، وفي ذكر هذه النقاط ما يغني عن الاستشهاد بأحوال المظالم اليوم، التي قد يكون ابتعدت عما كان لهذه الولاية في الماضي، ولم تأخذ بأكثره، والذي نأمل أن يوفق الله تعالى ولاة المسلمين اليوم إلى إعادة كل تلك الصلاحيات والاختصاصات، إلى هذه الولاية التي هي عنوان للعدل والمساواة والنَّصَفة.
أما تلك الصلاحيات والاختصاصات كما حددت فهي:
أولًا: النَّظَرُ في تَعَدِّي الولاة على الرعية؛ فيتصفحوا عن أحوالهم؛ ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم إنْ عَسَفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا.
ثانيًا: رَفْعُ أجور العمال فيما يجبونه من الأموال؛ فيرجع فيه القواعد والأصول الشرعية في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، وينظر في ما استزادوه؛ فإنْ رَفعوه إلى بيت مال المسلمين أمر برده، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه، والنظر في تظلم المسترزقة -أي: الموظفين- من نقص أرزقاهم أو تأخرها، وإجحاف النظار بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل، فيجريهم عليه، وينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل؛ فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.
ثالثًا: رَدُّ الغصوب، وهي ضربان:
أحدها: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها تعديًا على أهلها؛ فإن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور، أمر برده قبل التظلم إليه؛ وإن لم يعلم فهو موقوف على تظلم أربابه.
الضرب الثاني من الغصوب: ما تغلب عليه ذوي الأيدي القوية، وتصرفوا فيه تصرف المالكين بالقهر والغلبة؛ فهو موقوف على تظلم أربابه.
رابعًا: مُشارفة الوقوف: وهي ضربان عامة وخاصة، فأما العامة فيبدأ بتصفحها وإن لم يكن فيها متظلم؛ ليجريها على سبلها، ويمضيها على شروط واقفيها. وأما الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها، لوقوفها على خصوم متعينين، فيُعلم عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحكام.
خامسًا: تنفيذ ما وقف من أحكام القُضاة لضعفهم عن إنفاذه، وعجزهم عن المحكوم عليه؛ لتَعَزّزه وقوة يده، أو لعلو قدره، وعظم خطره؛ فيكون ناظر المظالم أقوى يدًا وأنفذ أمرًا، فيُنَفِّذ الحُكْم على من توجه عليه بانتزاع ما فيه يده، أو بإلزامه الخروج مما في ذمته.
سادسًا: النظر فيما عجز عنه الناظر في الحسبة من المصالح العامة؛ كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدي في طريق عجز عن منعه، والتحيف في حق لم يقدر على ردعه؛ فيأخذهم بحق الله تعالى في جميعه، ويأمرهم بحملهم على موجبه.