الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعًا: توضيح وبيان ما ينفع الناس في معاشهم ومعادهم، ومنه: إظهار قيمة الوقت الذي أدرج قيمته الإسلام، وأنه يجب استغلاله في النافع والمفيد، وعدم هدره فيما لا فائدة فيه من لهو، وضلال، وضياع. وبتحقيق هذه الأهداف والغايات وغيرها مما يخدم الإسلام والمسلمين نكون قد سخرنا فعلًا كل وسائل الإعلام في مساندة عمل المحتسب، وهذا تطور لوسائل الحسبة لا ينبغي إهماله، وعدم الاستفادة منه، فهي -أي: وسائل الإعلام- سهلة وميسورة إذا قويت الهمم، وصحت النيات، والله المستعان.
دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب
العلم نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد؛ فيستنير وينير، والعلم عليه مدار سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولقد امتن الله تعالى على الإنسان بالتعليم، والوسائل التي يحصل بها العلم، فقال عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78).
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: أن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فكرمه وشرفه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم عليه السلام على الملائكة، فبالعلم يعرف الإنسان ربه، قال الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19).
وبالعلم أرسل الله الرسل، فلا سبيل للاهتداء إليه، وتعليم الناس دين الله إلا بالعلم؛ ولذا كان من حكمة الخالق سبحانه وتعالى ألا يرسل الرسول إلا بلغة المرسل إليهم؛
لأن ذلك أدعى إلى الفهم والتقبل، قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم: 4).
ولذا كانت رسالة الإسلام الخالدة تفتتح بمفتاح العلم، وهو القراءة إذ كانت أول الآيات التي نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1: 5).
وعلى هذا فقد جاء في تفسير (أضواء البيان) للشنقيطي -رحمة الله عليه- نقلًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذه السورة وأمثالها من السور فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا نستطيع إيفاءها حقها عجزًا وقصورًا".
وأنا أقول ذلك، فإن المتكلم عن العلم وفضله يحتاج إلى مجلدات، ولكن وبحمد الله فقد حظي ذلك باهتمام علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وألفت مئات الكتب، بل ألوفها في العلم وفضله، ومنزلته ومكانته في الإسلام، وكيف اهتم الإسلام به؛ إذ عليه مدار نشر الرسالة وبقاؤها، وصفاؤها من كل شائبة، والعلماء -بلا شك- هم الذين يقومون بدور الأنبياء في إبلاغ العلم إلى الناس بعد قبض الأنبياء؛ فقد قال البخاري رحمه الله تحت باب العلم قبل القول والعمل: "وإن العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، بل ورفع الله منزلة العلماء الذين ينشرون الرسالة بالعلم، فقال عز وجل:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9). وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).
فإذا عرفنا هذا عن فضل العلم وأهميته ومكانته، ومنزلة أهله، وأن الإسلام أولى العلم من الأهمية والمكانة ما لم تفعله كل الرسالات السابقة، فالسؤال الآن: لماذا كان هذا الاهتمام بالعلم في الإسلام؟.
والجوابُ ببساطة -وقد تقدم طرف من ذلك-: لأن العلم هو الأساس في معرفة الله سبحانه وتعالى وذلك عن طريق التفكر في مخلوقاته سبحانه وتعالى، وآياته الكونية، والتنزيلية، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191).
وهذا التفكر والتدبر لا يكون إلا بعد تحصيل العلم، والاستنارة بنوره، فإذا حصل المسلم العلم، ثم سخره للتدبر والتفكر في آلاء الله، وحكمة صنعه، قاده ذلك إلى معرفة ربه، والإيمان به إيمانًا ينير له الطريق في هذه الحياة، ويجعله يعيش في سعادة وطمأنينة، وينشد به تقوى الله؛ مما يوفر ويضمن له حسن الثواب في الآخرة؛ ولذلك قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).
ثم بين جزاءهم في الآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:7، 8)، وهم العلماء.
وهذا أول أهداف العلم في الإسلام: أن يعرف المسلم ربه وخالقه؛ فإن المسلم إذا عرف ربه حق المعرفة، وتيقن واطمأن قلبه بذلك حقق، وطبق كل ما تستلزمه العبودية الواردة في قول الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56).
وثاني الأهداف للعلم في الإسلام: هو الإلمام بمقاصد الشريعة الإسلامية التي بنيت على مصالح العباد الضروري منها وغيره، وكل علم يحقق مصلحة من مصالح العباد، ويصيب مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية هو علم يثاب صاحبه، وطلبه عندئذ عمل شرعي، حتى ولو كان العلم المطلوب تحصيله غير العلوم الشرعية، كالطب، والصناعة، والهندسة بأنواعها، بل وكل علم تصب ثمرته في مصلحة الأمة، ولا يعارض أصلًا من أصول الشريعة؛ لأن العلوم التي تعارض أصلًا من أصول الشريعة لا حاجة لنا بها، ولو كان في ظاهرها منفعة.
حقيقة هذه العلوم ليست كذلك؛ ولذلك يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل علم لا يفيد عملًا فليس من الشرع ما يدل على استحسانه، ولو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنًا شرعًا"، ومثال ذلك كعلوم الفلسفة النظرية البحتة وغيرها من بعض ما أفرزته لنا الحضارة المعاصرة، كالعلوم التي تعلم هدم الأخلاق، وإفساد القيم، وما إليها.
إذًا فهذان هدفان أصيلان يقوم على أساسهما طلب العلم في الإسلام، وهذا كله -كما قدمنا- عن العلم وأهميته وأهدافه في الإسلام، وفرضية طلبه، وتحصيله على كل من قال: لا إله إلا الله، وطلبه على درجات: فمنه الضروري، وهو الذي لا يعذر مسلم في تركه، كتعلم أحكام العبادات الواجبة عليه، وما لا تستقيم معيشته وحياته إلا به، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم:((طلب العلم فريضة على كل مسلم)).
ومنه ما هو كفائي بمعنى: أنه إذا تعلمه بعض أفراد الأمة أجزأ عن الباقين، بشرط ألا يترك من الجميع فيأثموا جميعًا، كما هو مفصل ومثبت في كتب الفقه. ومن العلم ما هو طلبه استحساني كمالي، إن تعلمه زادت معرفته وثقافته، وإن تركه لا يلام ولا يترتب عليه هدم لمصلحة الأمة.
وسؤال أطرحه قبل أن أدخل إلى صلب مادة هذا العنصر وهو: ما دور العلم في صياغة شخصية المُتعلم؟ ومن الإجابة على هذا السؤال ننطلق إلى ما نريد أن نقرره من ضرورة الاستفادة من المؤسسات التعليمية في مساندة عمل المحتسب داخل المجتمع.
وبداية أقول: لا بد أن نعرف أن التعليم -لا سيما في الصغر- يعتبر صياغة وتشكيل تشكل على أساسها ذهنية المتعلم، وهذا أمر من البداهة بمكان، لا نحتاج معه إلى شرح ودليل كلامي، هذا من واقع الناس اليوم، فما هؤلاء الذين تعلموا الباطل من زندقة، وانحراف، وضلال، وكفر، وإلحاد، ثم أصبحوا يدعون إليهن ويجادلون من أجله، ولم يعملوا عقولهم قبل عواطفهم وميولهم.
ما هؤلاء إلا مواد مصنعة متحركة، شكلت على ما تدعو إليه، وتدافع عنه من الباطل، وكان ذلك بالتعليم الذي غرس في أذهان أصحابها في الصغر، فأصبح بمثابة العقيدة التي يعادون عليها، ويوالون. وهنا في الحقيقة تكمن خطورة التعليم، فعملية التعليم لا سيما في الصغر عملية حساسة وفعالة في الوقت نفسه، ودليلنا على أن عملية التعليم خطيرة إلى حد تغيير فطرة الإنسان: قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، قال صلى الله عليه وسلم:((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)).
أي: أنّ تعليمهما له بما هما عليه من الكفر والضلال كان سببًا في أن تشكلت عقليته وعقيدته على ما يريدان.
ومن هنا، ندرك أهمية العملية التعليمية، وأنه يجب أن نستغلها فيما نهدف إليه من غرس لفقه الاحتساب، وتحبيب ذلك، وبيان فرضيته في نفوس النشء من أبناء المسلمين، فكيف يتم ذلك؟.
نقول: ما تقدم كله عن العلم وفضله ومكانته، وأهداف تعلمه في الإسلام، وبيان أهمية الاستفادة من نظام التعليم في غرس فقه الاحتساب في أذهان المتعلمين من أبناء الإسلام؛ ليكونوا بعد ذلك على إدراك تام بواجبهم تجاه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر داخل مجتمعاتهم، وهذه غاية عظيمة، ويمكن تحقيقها -إن شاء الله تعالى- من خلال التطبيق الكامل في داخل المؤسسات التعليمية بالدول الإسلامية للأفكار التالية:
أولًا: إعادة النظر في المناهج الموجودة اليوم، وهل هي مؤصلة ومؤسسة على أساس أهداف الإسلام، ومبادئه؟ واستكمال نقصها في ذلك، وصياغتها على أساسه، كما أن إعادة النظر فيها يوجب تهذيبها، وتخليتها عن كل ما ينافي الإسلام، ويتعارض مع تعاليمه السمحة.
وفي ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: بأنه لا بد أن يصاغ النظام التعليمي في البلاد الإسلامية صوغًا جديدًا يلائم عقيدة الأمة المسلمة، ومقومات حياتها، وأهدافها، وحاجاتها، ويخرج من جميع مواده روح المادية، والتمرد على الله، والثورة على القيم الخلقية والروحية، وعبادة الجسم والمادة، ويبرز فيه روح التقوى والإنابة إلى الله، وتقدير الآخرة، والعمل لها، والعطف على الإنسانية كلها، وأن تنكر التبعية للغرب وسيادته، وأن تجعل علومه ونظرياته موضع الفحص والدراسة، بحيث يؤخذ منها ما يوافق تعاليم ديننا، وينبذ ما يعارضه.
فإذا تم هذا من قبل القائمين على نظام التعليم في بلادنا الإسلامية صار الأمر عندئذ مهيئًًا لما بعده من نقاط الإصلاح والتقييم.
ثانيًا: التوسع فيما يتعلق بمنهج المواد الدينية بحيث تعطى للطلاب جرعات أكبر من فقه دينهم، وفي مختلف التخصصات الدينية، وفي كافة المراحل الدراسية؛ حتى إذا ما خرج الطالب المسلم بشهادة عالية يحسب على المسلم بها تكون ثقافته الدينية على مستوى الشهادة، والمدة التي قضاها في التعلم، وحتى تكون ثمرة علمه سببًا لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: جعل مواد الدين موادًّا أساسية لا اختيارية، والتركيز عليها، والمبالغة في غرس أهميتها في نفوس النشء المسلم.
رابعًا: ربط المواد الأخرى غير الدينية، كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها بتعاليم الإسلام ومبادئه، من خلال ربط الأسباب بالمسبب، وضرب الأمثلة بما يدعو إلى الإسلام، وليكن ذلك حتى في الأمثلة والتمارين الرياضية، كأن يضرب المدرس مثالًا فيقول: رجل يملك ألف ريال وأراد أن يخرج زكاته فكم تكون الزكاة إذا كانت الزكاة بما يعادل اثنين ونصف في المائة؟ وهكذا، ليربط أبناء المسلمين بدينهم، ويعرفهم بتعاليمه حتى من هذا الطريق.
خامسًا: اختيار المدرس على أساس تأهيله من حيث التقوى، وثقافته وغيرته على مصلحة أمته، وتقييمه فيما بعد أي: بعد التعيين على أساس ذلك. أما من يختارون لتدريس المواد الدينية: فلا بد -زيادة على ذلك- أن يكونوا من ذوي الخبرات والقدرات، والتحصيل الجيد فيما هو مطلوب منهم، وأن يكون الواحد منهم قدوة، ونموذجًا طيبًا يمثل ما يقوم بالتعليم في أخلاقه وسلوكه، وكل شئونه، وأحسن وأكمل تمثيل ممكن.
سادسًا: الاستمرار والتوسع في تعليم الطلاب الحلال، وتحبيبه إلى نفوسهم، وبيان محاسن الأخذ به في الدنيا، وثواب ذلك في الآخرة، ومقاومة الانحراف