المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 تعريف الحسبة ومنزلتها ومقصودها وفضائلها وفوائدها

- ‌تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا

- ‌منزلة الحسبة في الدين

- ‌مقصود الحسبة في الإسلام

- ‌فضائل الحسبة

- ‌فوائد الحسبة

- ‌الدرس: 2 حكم الحسبة والحكمة منها ومراتبها

- ‌(حكم الحسبة

- ‌الحِكمة من مشروعية الحسبة

- ‌مراتب الحسبة

- ‌الدرس: 3 الأصل التاريخي للحسبة

- ‌الحسبة نظام إسلامي أصيل

- ‌الحسبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحسبة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌الحسبة في عهد الخليفة عثمان، وعلي رضي الله عنهما

- ‌الدرس: 4 المحتسب (1)

- ‌تعريف المحتسب

- ‌شروط المحتسب

- ‌آداب المحتسب

- ‌الدرس: 5 المحتسب (2)

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب

- ‌أهمية العمل بالعلم للمحتسب من القرآن والسنة والشعر

- ‌الدرس: 6 المحتسب (3)

- ‌أعوان المحتسب ومساعدوه

- ‌الصلاحيات الممنوحة للمحتسب

- ‌عُدد المحتسب في الماضي والحاضر، وأساليبه في تغيير المنكر

- ‌الدرس: 7 المحتسب (4)

- ‌وسائل الإعلام وكيفية استغلالها في الاحتساب

- ‌دور المؤسسات التعليمية في الاحتساب

- ‌المسجد ودوره في الاحتساب

- ‌الحركات الإسلامية المعاصرة ودورها في الاحتساب

- ‌الدرس: 8 المحتسب فيه (1)

- ‌تعريف المحتسب فيه

- ‌شروط المحتسب فيه

- ‌شمولية المحتسب فيه

- ‌الدرس: 9 المحتسب فيه (2)

- ‌قاعدة في تغيير المنكر

- ‌لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح، وإن ظهر منه شيء من الفسوق

- ‌الدرس: 10 المحتسب عليه (1)

- ‌تعريف المحتسب عليه، وشروطه

- ‌أنواع المحتسب عليهم

- ‌الدرس: 11 المحتسب عليه (2)

- ‌ولاة الأمر، وحدود طاعتهم، ومنزلتهم في الإسلام

- ‌حكم بذل النصيحة لولاة الأمر

- ‌كيف يكون الإنكار على الحكام والأمراء

- ‌الدرس: 12 المحتسب عليه (3)

- ‌مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي

- ‌الوظيفة التي اختصت بها المرأة، والآداب التي يجب أن تلتزمها

- ‌الدرس: 13 الاحتساب

- ‌معنى الاحتساب، ومراتبه

- ‌فقه الاحتساب

- ‌متى يجب الاحتساب، ومتى يستحب، ومتى يكره، ومتى يحرم

- ‌الدرس: 14 علاقة الحسبة بالقضاء والمظالم

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين ولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية المظالم من حيث الاختصاص

- ‌وجه الشبه والفرق بين ولايات الحسبة والقضاء والمظالم

- ‌الدرس: 15 علاقة الحسبة بالنيابة العامة

- ‌التعريف بالنيابة العامة وتطورها

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث النشأة

- ‌المقارنة بين النيابة العامة والحسبة من حيث الاختصاصات والسلطات

- ‌الدرس: 16 نموذج للحسبة القائمة اليوم

- ‌مقدمة

- ‌نشأة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطورها

- ‌اختصاصات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 17 الآثار المترتبة على ترك المسلمين الحسبة

- ‌عواقب ترك الحسبة والقعود عنها

- ‌ما كانت عليه المملكة العربية السعودية قبل توحيدها، وما صارت إليه بعد توحيدها

- ‌أنشطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية

- ‌الدرس: 18 شبهات حول الحسبة

- ‌الرد على من توهم أن واجب الحس بة لا يلزمه وأنه واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع

- ‌الرد على من قا ل: إن الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا

- ‌الرد على من يتعلل بأن الدعوة إلى الله تسبب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله

- ‌الرد على من قال بعدم استجابة الناس له، وأنه يأمر ولا يطيعونه، وينهى ولا يطيعونه

- ‌القعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مخافة الفتنة

الفصل: ‌قاعدة في تغيير المنكر

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس التاسع

(المحتسب فيه (2))

‌قاعدة في تغيير المنكر

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

إنما يطلب الاحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة، أو دفع مفسدة، فإذا كان ما يترتب عليه فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر، لم يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبًا، أو فعل محرمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله تعالى في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر؛ لأنّ الشرع إنما أوجب الحسبة؛ لقمع الفساد، وتحصيل الصلاح.

فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوت من الصلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت، لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع.

والأصل في ذلك ما رواه الشيخان، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:((يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون)).

وقد أخرج الإمام البخاري رحمه هذا الحديث في مواضع من كتابه أولها: كتاب العلم، في باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقع في أشد منه.

وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذه الترجمة: "وفي الحديث معنى ما ترجم له؛ لأن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًّا، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها؛ لينفرد بالفخر عليهم في ذلك،

ص: 173

ويستفاد منه: ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه إنكار ترك المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولًا، ما لم يكن محرمًا.

ومن المواضع التي أخرج البخاري رحمه الله هذا الحديث فيها، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها.

وقد تكلم الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضًا على فوائد هذا الحديث وقال: "وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم، وهو ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، فيقع في أشد منه، قال: والمراد بالاختيار في عبارته: المستحب.

وفي الحديث: اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة".

ويقول الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث أيضًا في (شرح مسلم): "وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة، وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا؛ وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيمًا، فتركها صلى الله عليه وسلم".

ص: 174

وقد أطال كل من ابن القيم رحمه الله شيخه ابن تيمية رحمه الله في بيان هذه القاعدة؛ فقال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، قال رحمه الله: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.

فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح.

فهي بها الحياة، والغذاء، والدواء، والنور، والشفاء، والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخر".

ثم قال رحمه الله بعد هذه المقدمة: "ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه -بحول الله تعالى وتوفيقه ومعونته- بأمثلة صحيحة، المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته

ص: 175

إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر، وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة -رضوان الله عليهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم. فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدًا من طاعته)).

ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته؛ فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر. ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد.

فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

ص: 176

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كسباق الخيل، ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك. وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

قال رحمه الله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال فدعهم".

أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد قرر هذه القاعدة في أكثر من موضع، فقال رحمه الله في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: "إذا كان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات، والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا يعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله تعالى على الصلاح والمصلحين:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العنكبوت: 7)، وذم المفسدين في غير موضع.

ص: 177

فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجب، وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وهذا معنى قول ربنا -سبحانه-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال.

وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((وذلك أضعف الإيمان)). وقال: ((ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).

وقيل لابن مسعود: "من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا". وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان، وهنا يغلط فريقان من الناس، فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلًا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته:"إنكم تقرءون هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105). وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) ".

والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه، وإما بيده مطلقًا من غير فقه، وحلم، وصبر، ونظر فيما يصلح من ذلك، وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

ص: 178

هذه الآية فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا يدان لك به، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائك أيامًا الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله)).

فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء، كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم ممن غلط فيما أتاهم من الأمر، والنهي، والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال:((أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم)).

ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزل أصول دينهم خمسة: التوحيد الذي هو سلب الصفات، والعدل الذي هو التكذيب بالقدر، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي منه قتال الأئمة".

قال رحمه الله: "وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة، فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي، وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر.

ص: 179

وعلى هذا، إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا، أو يتركوهما جميعا لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونهم من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه.

وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر، وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، وأما من جهة النوع: فيؤمر بالمعروف مطلقًا، وينهى عن المنكر مطلقًا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه.

وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن هذا الباب: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك

ص: 180

بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به، واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه".

وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة تدافع أو تعارض الحسنات والسيئات فقال رحمه الله في موضع آخر: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فقد أمر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بأفعال واجبة ومستحبة.

وإن كان الواجب مستحبًّا وزيادة، ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، والدين هو طاعة الله، وطاعة رسوله، وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج، وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وكذلك حمد أفعالًا هي الحسنات، ووعد عليها، وذم أفعالًا هي السيئات، وأوعد عليها، وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة، والوسع، والطاقة، فقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، وقال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7).

وكل من الآيتين، وإن كانت عام: فسبب الأولى: المحاسبة على ما في النفوس، وهو من جنس أعمال القلوب. وسبب الثانية: إعطاء الواجب. وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} (النساء: 84) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (النساء: 28)، وقال تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6).

ص: 181

وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280)، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97)، وقال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 91).

وقد ذكر في الصيام، والإحرام، والطهارة، والصلاة، والجهاد من هذا أنواعًا، وقال في المنهيات:{وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} ، وقال:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173)، وقال:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 115)، وقال:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (الأحزاب: 5)، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220).

وقال في المتعارض: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة: 219)، وقال سبحانه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، وقال سبحانه:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (البقرة: 239).

وقال -سبحانه-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 102).

ص: 182

وقال -سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) ".

فنقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع، وإن كانت واجبة، كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات، فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة، ومضرة السيئة.

فالأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين، وفرض الكفاية، مثل: تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع.

والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح:((أنه قيل: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)).

وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين، ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلّا فقد يترجح الذكر بالفهم، والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع.

والثالث: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آي الامتحان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (الممتحنة: 10)، وكتقديم قتل النفس على

ص: 183

الكر، كما قال تعالى:{والفتنة أكبر من القتل} فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب على مضرة السرقة، والزنا، والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة، وفيها ضرر؛ لدفع ما هو أعظم ضررًا منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير.

وأما الرّابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة، ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج؛ لقيام غيره مقامه، ولأنّ البرء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء، فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية.

أما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محذورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرد، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين، ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه، وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت بالعقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين، وشر الشرين.

فإذا ازدحم واجبان لا يُمكن جمعهما، فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجبة، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك

ص: 184

إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرمًا في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب، وسمي هذا فعل محرم، باعتبار الإطلاق لم يضر.

ويقال في مثل: هذا ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. وهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها، لا كفارة لها إلا ذلك)).

وهذا باب التعارض باب واسع جدًّا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وجب الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى سيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم؛ لكون الأهواء قارنت الآراء.

فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط، مثل: أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها؛ فيترك الأمر بها دفعًا لوقوع تلك المعصية. مثل: أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدي عليه في العقوبة، ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه. ومثل: أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفًا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.

ص: 185

فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر، أو النهي، أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن، إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف، والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء حتى على الإسلام، وظهر.

فالعالمُ في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها.

ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل، والله تعالى أعلم".

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين) في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو يتكلم عن شروط التغيير: الشرط الثالث: ألا يزول المنكر إلى ما هو أعظم منه، فإن كان هذا المنكر لو نهينا عنه زال إلى ما هو أعظم منه؛ فإنه لا يجوز أن ننهى عنه؛ درءًا لكبرى المفسدتين بصغراهما؛ لأنه إذا تعارض عندنا مفسدتان، وكانت إحداهما أكبر من الأخرى، فإننا نتقي الكبرى بالصغرى.

مثال ذلك: لو أن رجلًا يشرب الدخان أمامك، فأردت أن تنهاه وتقيمه من المجلس، ولكنك تعرف أنك لو فعلت لذهب يجلس مع السكارى، ومعلوم أن

ص: 186