الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أن على الخطيب أن يجتنب الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
يقول العلامة الألباني رحمه الله: "من المصائب العظمى التي نزلت بالمسلمين منذ العصور الأولى: انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، لا أستثني أحدا منهم ولو كانوا علماءهم، إلا من شاء الله منهم من أئمة الحديث ونقادهم؛ كالبخاري وأحمد وابن معين وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وقد أدى انتشارها إلى مفاسد كثيرة؛ منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية ومنها ما هو من الأمور التشريعية". فعلى الخطيب أن يبذل جهده ما استطاع في تحقيق الأحاديث التي سيوردها في خطبته، حتى يخرج من عموم قول النبي عليه الصلاة والسلام:((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)).
الأسلوب الخطابي
التعبير الخطابي أو الأسلوب الخطابي:
أسلوب الخطبة وأسلوب المقال يتدرج العمل الفني في ثلاثة أدوار: الإيجاد، والتنسيق، والتعبير، والمراد بالإيجاد التفكير لاستنباط المعاني، والمراد بالتنسيق تنظيم المعاني وترتيبها، أما التعبير فهو إبراز هذه المعاني بأسلوب ملائم لها وللسامعين وللمتكلم، أسلوب ملائم لها لأن الموضوعات تختلف؛ فالخطبة الحربية تلائمها الكلمات القوية الحماسية والصور الخيالية، والخطبة القضائية يلائمها الأسلوب المتزن، وخطبة التأبين يشاكلها الأسلوب المتفجع وهكذا. وملائم للسامعين فيتأنق الخطيب في خطبته للخاصة، ويعدل إلى السذاجة مع العامة، ويطنب في الجمع المستكثر المستزيد، ويوجز في الجمع المؤثر للإقلال وهكذا، وملائم لحال الخطيب نفسه من فرح أو أسى ومن غضب أو رضا ومن انتقام أو رحمة.
والكتابة والخطابة تشتركان في الإجادة والتنسيق ولكنهما تختلفان في التعبير؛ لأن تعبير الخطيب خاضع لذوقه، وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها، ومن تكرار أو إيماء، وانتقاء للألفاظ الخفيفة على السمع، أو التحليق في سماء الخيال حينًا، وإيثار النكتة حينًا آخر، مع الإشارة والحركة ونبرة الصوت ونفوذ الخطيب، وغيرها مما يتطلبه فن الخطابة، ثم لا بد في أسلوب الخطبة من الوضوح والسهولة. أما تعبير الكاتب ففيه ترو وتأنق وتصعيب أحيانًا؛ لأن للقراء فسحة من الوقت يفكرون فيها في معنى ما استغلق، ويكررون تلاوته، فلا ضير أن يصعب الكاتب ويعلل ويحلل، أما الخطيب فإنه يقذف بكلماته، فيتلقاها الجمع في سرعة لا تيسر له مراجعتها أو التوقف لتفهمها؛ لأنه مضطر إلى متابعة الخطيب وتلقف ما يقول، فإذا توقف للتفهم انقطعت صلته بالخطيب فضاعت قيمة الخطبة.
وكثيرًا ما ينزل التعبير الخطابي عن مكانة التعبير الكتابي في جودة المبنى ودقة المعنى، ولكنه يستعيض عن هذا النزول مؤثرات أخر؛ مِن فصاحة النطق، وجهارة الصوت، وإجادة الأداء، وروعة الموقف، ولهذا فإن بعض الخطب مسموعة ذات أثر قوي عميق في نفوس سامعيها، ولكنها مقروءة لا شيء من الامتياز فيها. والكلمات هي اللبنات التي يبني منها الأديب عمله الفني، فهي كالدهان في رسم الرسام، واللآلئ في أنامل اللآء، والأحجار في يد البناء، والصخور في محفر النحات، والأديب يستطيع بمواهبه وسعة حيلته أن يصنع منها صورًا عدة، تمثل العواطف المختلفة تمثيلًا كاملًا، وذلك برصفها وتأليفها في أسلوب خاص، فإن المفردات التي لا ينتظمها أسلوب لا أثر لها في النفس، وإنما يبين أثرها إذا ما صيغت لتصور عاطفة أو تعبر عن فكرة. والخطيب والأديب عامة يتخير الألفاظ المعبرة عن عاطفته، وينتظمها في نسق ملائم للمقام.
وللأسلوب في الخطبة قيمته وأهميته، فليست البلاغة أن تفهم المعنى فحسب، وإلا لتساوت الركاكة والتعبير والإشارة والجيد والرديء والعامي والفصيح،
وإنما البلاغة رتبة فوق إفهام المعنى، رتبة سمكها الامتياز في التعبير ومطابقته للحال، وأن يضفي الخطيب من أسلوبه على معانيه حلة من نور؛ ليتسنى للسامعين أن يتملوا معه جمال روائه وبراعة خياله.
لكن النقاد قد اختلفوا منذ زمن بعيد في الأصل الذي يرجع إليه جمال الأدب وجلاله، أهو الأسلوب أم المعنى أم هما معًا؟ والحق أن اللفظ والمعنى معًا عنصران من عناصر الأدب، وإنما نقول: عنصرين؛ لأن للنص الأدبي عناصر أخر لم يعرض لها القدماء، ولها في النقد الحديث تقدير وذيوع، وأهمها: العاطفة والخيال ومقوماته لا ينفرد أحدها بالسبق والامتياز، فلكل منها قيمة في جمال النص الأدبي وجلاله، فمن التعسف أن يتحاكم بعض النقاد إلى اللفظ وحده وبعضهم إلى المعنى وحده.
فإن تأثرنا بالنص الأدبي لا ينشأ عن ألفاظ من حيث إنها أصوات مسموعة، وحروف مفردة، وكلمات مجردة تتوالى في النطق، وإنما ينشأ عن ما بين المعاني والألفاظ من الاتساق العجيب في لباقة اللفظ بتأدية المعنى، وملاءمة معنى الكلمة للمعنى التي تسبقها والتي تلحقها، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال.
وإذًا فإن الصواب في النظر إلى الأسلوب والمعنى على أنهما وحدة لا تتجزأ؛ لأن سر البلاغة يرجع إلى روعة المعنى وسموه وتأثيره وطرافته، وإلى جزالة اللفظ وقوته أو رقته وفصاحته، فليس النص معنى منفصلًا عن اللفظ وليس لفظًا منفصلًا عن المعنى، بل هو مزيج من عناصر عدة؛ مزيج من الفكرة والعاطفة والخيال والتعبير، وليس من المستطاع فصل التعبير عن المعنى أو قطع المعنى عن التعبير؛ لأن النص الأدبي وليد اجتماعهما، كما يتحد الأكسجين والهيدروجين بنسبة 1:2 فيستحيلان إلى ماء، وللماء خواص غير خواص كل منهما منفردًا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.