المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره - الخطابة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في الخطابة

- ‌مقدمة في تعريف الخطابة

- ‌تعريف الخطابة

- ‌تاريخ علم الخطابة ونشأتها

- ‌أهمية الخطابة ومكانتها

- ‌الدرس: 2 الغاية من الخطابة

- ‌أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية

- ‌إعداد الخطبة

- ‌الدرس: 3 عناصر الخطبة

- ‌تركيب الخطبة

- ‌مصادر الخطبة

- ‌الأسلوب الخطابي

- ‌الدرس: 4 محتويات الخطبة

- ‌افتتاح الخطبة

- ‌الغرض من الخطبة

- ‌تقسيم الخطبة، وترتيب أفكارها

- ‌الدرس: 5 الخطيب وصفاته

- ‌أهمية الخطيب ومكانته في الإسلام

- ‌صفات الخطيب في الإسلام

- ‌الدرس: 6 تابع: الخطيب وصفاته

- ‌صفات الخطيب الفطرية

- ‌إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا

- ‌صفات الداعية النفسية

- ‌آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته

- ‌إعداد الخطيب علميًّا وثقافيًّا

- ‌الدرس: 7 الخطابة في الجاهلية والإسلام

- ‌الخطابة في العصر الجاهلي

- ‌خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية

- ‌الخطابة في عصر الإسلام

- ‌مقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام

- ‌دواعي الخطاب في عصر الإسلام

- ‌الدرس: 8 عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ونماذج أخرى

- ‌الدرس: 9 نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين

- ‌نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة

- ‌نماذج من خطب الصحابة والتابعين

- ‌الدرس: 10 الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة

- ‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه

- ‌الدرس وشروطه وفوائده

- ‌الفرق بين الخطبة والدرس

- ‌الدرس: 11 المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام

- ‌كيف يحضر المحاضر محاضرته

- ‌الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام

- ‌الدرس: 12 ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر

- ‌(ضوابط الخطاب الدعوي

- ‌رسالة الخطاب الدعوي

- ‌الدرس: 13 مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره

- ‌ضرورة توافر النطق الجيد لدى الخطيب، وحسن الصوته وتمرينه

- ‌ضرورة الابتعاد عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات، والضعيف

- ‌الدرس: 14 الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده

- ‌(الندوة

- ‌المؤتمر

- ‌الدرس: 15 قواعد في الأسلوب الدعوي

- ‌قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة

- ‌الرِّفْقُ واللين والتّيسير

- ‌الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح

- ‌سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل

- ‌التحدث بلُغة الجمع، وتعميم الخطاب عامةً دون قصد أفراد أو تعيين أشخاص

- ‌الحث والإكثار من استخدام عبارت الاستفهام

- ‌الدرس: 16 بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية

- ‌من الآفات التي قد تُصيب بعض الدعاة: "الرياء

- ‌من الآفات التي يتعرض لها بعض الدعاة: "العُجْب

- ‌من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور

- ‌من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكِبْر

الفصل: ‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره

‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره

وإليك أهم أصول منهجه صلى الله عليه وسلم في التحدث والحوار:

أولًا: التحدث باللغة التي يفهمها المخاطبون:

تحقيقًا للمبدأ الذي ذكره رب العالمين سبحانه وتعالى حيث قال:} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ {(إبراهيم: 4) ولا يمكن للداعية أن يؤثر في البيئة التي وجد فيها حتى يكون متقنًا للغة أهلها، فاهمًا للهجات قبائلها، عالمًا بما يخاطب به عوامها أو مثقفيها، فإن لم يكن الداعية الخطيب على هذا المستوى من إتقان اللغة وفَهم اللهجات والعلم بحقيقة المخاطبين، فتأثيره في الناس يكون ضعيفًا، والإقبال عليه يكون ضئيلًا، وربما يخفق في تبليغه ويفشل في دعوته دون أن يصل في القوم إلى فائدة أو جدوى.

نعم، في حال جهل الداعية بلغة البلد يمكن أن يغني عنها الترجمة، ولكن هذه الترجمة لا تغني عن اللغة الأصلية في إيصال فكر الداعية إلى الجمهور مهما كانت الترجمة دقيقة، ولا يمكن للجمهور أن يتفاعل مع الداعية مهما كان المترجم لهم فصيحًا بليغًا، فالتخاطب على أساس لغة البلد إذًا هو عامل كبير من عوامل نجاح الداعية، ومن مقومات تأثيره في البيئة التي يدعو إلى الله فيها، ألا فليعلم الداعية هذه الحقيقة إن أراد أن يحدث في الأمة تأثيرًا، وفي المجتمعات الإنسانية تغييرًا.

ثم ماذا عن التكلم باللغة العربية الفصحى في بلد يتكلم أهله بالعربية؟

ص: 257

الأصل في الداعية المسلم -بغض النظر عن لونه أو جنسه أو لغته- أن يتكلم باللغة العربية الفصحى، باعتبار أن هذه اللغة هي شِعار الإسلام، ولغةُ القرآن، وباعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، وكلام أهل الجنة عربي، والأمة التي حملت إلى الدنيا رسالة الإسلام في الصدر الأول كانت تتكلم العربية. وقد قال معاذ بن جبل أو قد ألمح إلى ذلك الحافظ ابن عساكر عن مالك حيث قال:"يا أيها الناس، إن الرب واحد، وإن الأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمَن تكلم بالعربية فهو عربي".

فإذا كان الأمر كذلك، فعلى الداعية المسلم إذا وُجِد بين قوم يحسنون اللغة العربية ويفهمونها فهمًا تامًّا، أن يتكلم اللغة العربية الفصحى، وعليه ألا يعدل عنها إلى لغة أخرى ولو كان القوم الذين يدعوهم يتكلمون بلغة غير العربية؛ لأن اللغة العربية -كما أشرنا- هي شعار الإسلام ولغة القرآن، فلا يجوز أن يتخذ الداعية غيرها بديلًا في غير ضرورة. فمن الجحود للغة القرآن أن يعدل القادر على النطق بها إلى لغة أخرى، أو يتكلم مَن يحسن الفصحى بلغة عامية محلية لا تمت إلى العربية الأصلية بصلة ولا نسب، وزينة المسلم فصاحة لسانه، وجماله حلاوة منطقه، ولا تتأتى هذه الفصاحة وهذا الجمال إلا بهذه اللغة الأصيلة الخالدة التي اختارها الله لأمة الإسلام، وحملة القرن.

فعلى الخطيب أن يحرص على لغته، وسلامة منطقه، وأن يبتعد عن اللحن، وأن يعلم أن كثيرًا من جمهوره ينقدونه في أخطائه اللغوية وإن كانوا لا يعرفون القواعد، فقد قالوا: الأذن مجاجة. وعلى الخطيب أن يتذكر أن جمهوره لا يخلو وإن قل من أساتذة في اللغة يضيقون ذرعًا بلحن الخطيب وهو يخطب وهم جالسون.

ص: 258

ولكن ماذا يصنع الداعية إذا كان في بيئة لا تعرف التفاهم بالفصحى، ولا تفهم التخاطب بالعربية الأصيلة؟

نقول: إذا استطاع الداعية أن يبسط حديثه ويوضح أسلوبه بشكل يعي الناس منه ويفهموا عنه فليفعل، وإن لم يستطع فيجد نفسه مضطرًّا إلى أن يتكلم بالأسلوب الذي يناسبهم واللغة التي يفهمونها واللهجة التي يدركون مغزاها، فلا بأسَ، فهذا من باب: أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم.

ثانيًا: التمهل بالكلام أثناء الحديث:

من أدب الداعية حين يريد التحدث أن يتحدث بتؤدة وتمهل حتى يفهم الناس عنه، ويعقلوا ما سمعوا منه، وهذا ما كان يفعله الداعية الأكبر -صلوات الله وسلامه عليه- تعليمًا للدعاة، وإرشادًا لمن يتصدون لتعليم الناس.

روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدث حديثًا لو عده العادُ لأحصاه)) ولكن هناك فرق كبير بين تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين تحدث الداعية، والفرق ملحوظ في أمرين هامين:

أحدهما: الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وأكثر أحاديثه كلمات معدودات، والداعية مهما كان بليغًا على خلاف ذلك تمامًا.

ثانيهما: النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، بل كل أقواله وأحاديثه تشريع لأمة الإسلام، والداعية مهما كان حكيمًا ليس كذلك.

وإذا كان هذا هو الفرق فبِود الداعية أن يطنب في كلامه، وأن يتعجل في حديثه، ولا سيما في المواقف التي فيها تفاعل وإطناب، كالحث على الجهاد، أو التحدث في مناسبات الشدائد والأزمات، ولكن على الداعية أن لا يسرع كثيرًا في خطبته

ص: 259

أو حديثه؛ حتى لا يأكل الكلام بعضه بعضًا، وحتى لا تختلط على المستمعين الحقائق والأفهام.

ثالثًا: النهي عن التكلف في الفصاحة:

فمن أدب الداعية في التحدث أن يبتعد عن التنطع في الكلام، والتكلف في الفصاحة، والتشدق بالحديث، والثرثرة باللسان. فقد روى أبو داود والترمذي بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)) وإذا تحقق الداعية بهذا الأدب فيكون قد تأسَّى بسيد الدعاة صلى الله عليه وسلم فقد روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم سلَّم عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلام الفصل، لا هزر ولا نزغ، ويكره الثرثرة في الكلام، والتشدق به)) أي: التكلف.

وكم يكون الداعية محجوبًا لدى سامعيه حين يتحدث عليه أمرات التشدق وظواهر الثرثرة، وكأنه يقول للناس: هل عرفتم من حديثي كم أنا خطيب؟!! هل عرفتم من كلامي كم أنا بليغ؟!! هل عرفتم من أسلوبي كم أنا فصيح؟!! فإذا لم يكن هذا رياء، فما هو الرياء؟ نعوذ بالله.

ألا فليحذر الدعاة من مزالق الشيطان ودبيب الرياء، وليتركوا الحديث ينطلق من ألسنتهم على سجيته وطبيعته بدون تنطع ولا تكلف إن أرادوا أن يكونوا في أعمالهم من المخلصين، وفي أحاديثهم من المقبولين المؤثرين.

رابعًا: التحدث بالحديث الذي ليس بالطويل ولا بالقصير:

فمن أدب الداعية في التحدث أن يكون في حديثه مقتصدًا معتدلًا بحيث لا يصل الأمر في التحدث إلى الاختصار المخل، ولا إلى التطوال الممل؛ ليكون الحديث

ص: 260

أوقعَ في نفوس السامعين، وأشوقَ إلى قلوبهم، وأحب إلى أسماعهم.

ولو تأملنا مواقف النبي صلى الله عليه وسلم ومواقف أصحابه مع الجمهور الذين يستمعون إليهم ويستفيدون منهم، لرأيناها مقتصدة معتدلة ليتأسى الدعاة بهم، وليأخذوا عنهم. روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:((كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا)) أي: وسطًا.

وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: ((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فكان متوكئًا على عصا، فحمِد الله وأثنى عليه، فكانت كلمات خفيفات، طيبات مباركات)).

وفي الصحيحين: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكَّرتنا كل يوم، فقال:((أَمَا أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم -أي: أتعهدكم- بموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافةَ السآمة علينا)).

ولا شك أن الداعية إذا ابتعد عن الثرثرة اللسانية، وتجنب الحشو في الكلام، ولم يلجأ في شواهده وأفكاره إلي التكرار، وتكلم في لُب الموضوع دون مقدمات طويلة مملة، وجاء حديثه مقتصدًا معتدلًا مقبولًا لدى مستمعيه، بل أعطى المثل الأعلى في وسطية أحاديثه، واقتصاد مواعظه، اللهم إلا في بعض الحالات الخاصة وجد من المصلحة أن يطنب في الحديث، ويكرر في الكلام، ويؤكد بالشواهد. كأن يكون مثلًا في بيئة عامية جاهلة، يشرف على توجيهها ويقوم على تعليمها، فلا بأس من الإطناب والتكرار على أن لا يطيل كثيرًا حتى لا ينفر الناس منه ويعرضوا عنه.

ص: 261

خامسًا: المخاطبة على قدر الفهم:

فمن أدب الداعية في حديثه أن يحدث جليسه بما يتناسب مع عقليته وثقافته، وبما يتفق مع عمره وفهمه، فقد أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وكم يعيب الداعية أن يحدث قومًا عن الذَّرة وأسرارها، والكواكب وأبراجها، والأرض ودورانها، والعلوم ومعارفها، والقوم الذين يجالسهم لا يقرءون ولا يكتبون، وفي غَمرات الجهالة سادرون. وكم يكون الداعية فاشلًا حين يكون في بيئة لا تؤمن بدوران الأرض ولا بحركتها، بل تعتبر مَن يقول هذا كافرًا خارجًا عن ملة الإسلام. كم يكون فاشلًا حين يسفه رأي أهلها، ويرميهم بالجهل المطبق، والضلال المبين.

من أجل هذا أمر نبي الإسلام -صلوات الله وسلامه عليه- الدعاة والعلماء والمرشدين في كل زمان ومكان، أن يحدثوا الناس بما تحمله عقولهم؛ حتى لا يقعوا في الفتنة.

في مقدمة (صحيح ومسلم): عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة".

وكم يكون الداعية غير موفق حين يجلس مع القوم من الملاحدة الماديين ويحدثهم عن الروح، وسؤال الملكين، والبعث والحساب، والجنة والنار، وهم لا يؤمنون أصلًا إلا بما تراه حواسهم، ولا يعتقدون إلا ما كان خاضعًا للتجربة والحس، وداخلًا في نطاق المشاهدة والواقع. فمن الطبيعي أن يهزءوا به ويستهتروا به ويتولوا عنه.

وكم يكون الداعية غير مسدد حين يجلس مع طبقة من المثقفين الذين لم يخالط الإيمان بَشاشة قلوبهم، وذهب يحدثهم عن كرامات الأولياء، وعن وظائف الملائكة، وعن أخبار الجن، وهم ليسوا من الوعي الناضج، والإيمان المكين،

ص: 262

والثقافة الإسلامية الشاملة، حتى يسلموا بما يحدثهم، ويصدقوا أخبار الوحي فيها.

ومن أجل هذا أمر نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم كل مَن يتصدى للتعليم والدعوة والإرشاد أن يحدث الناس بما يعرفون ويفهمون حتى لا يكذب الله ورسوله. روى البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه موقوفًا: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ".

فما على الداعية الموفق إلا أن يأخذ بهذا المبدأ العظيم: "أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم" إن أراد ذلك الداعية أن يكون من الدعاة المرموقين، ومن رجال الدعوة المعدودين، ومن يؤتَى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.

ومن أهم ما يجب على الداعية أن يراعيه في خطابه الدعوي: البدء بالأهم قبل المهم إن الداعية لا ينجح في دع وته ولا يكون موفقًا في تبليغه، حتى يعرف مَن يدعوهم، وكيف يدعوهم؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهميةً وأولويةً قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟

هذه الطريقة في الدعوة -طريقة البدء بالأهم قبل المهم- هي طريقةُ الرسول صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه بإحسان، فلقد مكَثَ صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى "لا إله إلا الله" وحينما هاجر إلى المدينة وأخذ في إيفاد رسله إلى الدول والبلاد المجاورة للدعوة، أمرهم كذلك أن يبدءوا بما بدأ به.

أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك،

ص: 263

فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوك بها فخذ منهم، وتوقَّ كرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).

من هذا الحديث يتبين لنا: أن على الداعية أن يبدأ بالأهم ثم المهم، أن يبدأ في الدعوة بالعقيدة قبل العبادة، وبالعبادة قبل مناهج الحياة، وبالكليات قبل الجزئيات، وبالتكوين الفردي قبل الخوض في الأمور العامة.

ومما يؤكد هذه الأهمية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هو أهم عما هو مهم في الفترة المكية، ففي هذه الفترة بالذات كان صلى الله عليه وسلم يركز في الدعوة إلى الله على الإيمان بالله ووحدانيته، والتعرف على الله عن طريق الظواهر والآثار، ويركز أيضًا في الرد على مزاعم الدهريين، وإقامة الحجة عليهم، ومنكري البعث، ودحض مفترياتهم، ويركز كذلك على إثبات الرسالة، وإظهار خصائصها، وفضح الجاهلية، وتجسيد عوارها ومفاسدها.

ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا بمعتقدات القوم، بصيرًا بأحوال الجاهلية، خبيرًا بعادات البيئة، لَمَا بدأ معهم بإصلاح العقيدة التي هي في نظره الأهم، ولَمَا ركز في دعوته على هذه القضايا التي تصل بالإيمان بالله ووحدانية الخالق، وترتبط بالاعتقاد بالمغيبات، حتى إذا دخل القوم حظيرة الإسلام وخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، جاءت مرحلة المهم، ألا وهي التزام القوم الإسلام على أنه أصول معاملة، ومبادئ حكم، ومناهج حياة.

فهذا ما ركز عليه صلى الله عليه وسلم في الفترة المدنية حين أقام معالم المجتمع الفاضل في المدينة المنورة بعد أن صلحت عقيدة الأمة، وترسَّخ في أبنائها الإيمان بالمغيبات.

ويخطئ الداعية حين يكون في مجتمع يدين أهله بالشيوعية، ويذهب يحدثهم عن العبادة أو مناهج الحياة، أو أخلاق الإسلام، يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث

ص: 264

بالأهم، ألا وهو التكلم عن الآثار والظواهر التي تدل على الله، والتحدث عن البراهين العقلية والأدلة العملية التي توصل الإنسان إلى معرفة الله ووحدانيته، ويمكن أن يستقرئها الداعية من آيات الكون الباهرة، وظواهر الحياة المبدعة، ومعالم التكوين الدقيق في خلق الإنسان، وما أكثرها في العالم السفلي والعالم العلوي وعالم الحياة.

ورحم الله أبا العتاهية حين قال:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

ويخطئ الداعية حين يكون في بيئة يدين أهلها بالإسلام ولكن يغلب عليهم الطابع الأمي، والمظهر الفطري، والاتجاه السليم، ويذهب يحدثهم عن الفلسفات الفكرية العالمية ونقدها، والنظريات العلمية الحديثة، وموقف الإسلام منها، والمذاهب الاجتماعية الحاضرة وتناقضها مع بعضها، يذهب يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث بالأهم، ألا وهو العلم والتعلم، والأخلاق والتخلق، والإيمان وأثره، والعبادة ومفهومها، والمعاملة وحقيقتها. وبود الداعية أن يصنف المواضيع التي يطرحها في بيئة كهذه على حسب أهميتها؛ ليتناول واحدةً بعد واحدةٍ في الوقت المناسب حتى ينتهي منها.

ويخطئ الداعية حين يكون بين طبقة مثقفة آمنت بإسلام عظيم عقيدةً ونظامًا، وتحققت به سلوكًا ومعاملةً، وحملته إلى الناس تبليغًا ودعوةً، وذهب يحدثهم عن أبسط مبادئ الإسلام وأظهر أركان الإيمان، كالإيمان بالله والرسل، والاهتمام بالصلاة والصيام، وهذه الأمور من المسلمات، بل من البديهيات المعلومة من الدين بالضرورة، يذهب يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث إليهم بالأهم، ألا وهو مسئولية الشباب في حمل رسالة الإسلام، والشباب وأثرهم في

ص: 265