الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام)
كيف يحضر المحاضر محاضرته
؟
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن نتحدث عن المحاضرة والمناظرة.
محاضرة أستاذ الدعوة غير محاضرة أستاذ الجامعة؛ من حيث إن الداعية لا تعنيه محاضرات الفلك والطب والاقتصاد ونحوها، وأستاذ الدعوة كأستاذ الجامعة لا بد له من الرجوع إلى المصادر العلمية؛ لجمع ما تفرق فيها من مادة موضوعه، لكنهما يفترقان بأن أستاذ الجامعة يهتم بالجزئيات والتفاصيل، أما الداعية فبعد الإحاطة بمادة الموضوع يكتفي بالقواعد والأحكام العامة؛ حرصًا على انتباه سامعيه واستمرار نشاطهم، ومن هنا قد ينتهي أستاذ الدعوة من موضوعه في محاضرة واحدة، وأستاذ الجامعة يحتاج للانتهاء منه إلى عدة محاضرات.
يبتعد محاضر الدعوة عن الصبغة المدنية البحتة، كما يبتعد عن الأسلوب الأكاديمي، فلن يحمد له الناس أنه مدني الأسلوب، بل إنه يفجؤهم بغير ما يتوقعون وبغير ما يريدون، إلى أن ذلك يعتبر إخفاقًا له في مهمته، إذ هو داعية إلى الله عن طريق العلم، فإذا خلا أسلوبه من لون الدعوة فقد خرج من زمرة الدعاة، دون أن يلحقه ذلك بزمرة الجامعيين أو سواهم.
فعلى أستاذ الدعوة أن يذكر دائمًا أنه يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ومَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد قام بما أوجب الله تبارك وتعالى عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والأمر بالمعروف هو في الحقيقة تعريف بالإسلام في شتى موضوعاته، والنهي عن المنكر هو نقد لبِق لسير المجتمع وعيوبه، وذلك كفيل بتحقيق الصبغة الربانية لمحاضرة الداعية ما دام يلتزم استمداد الكتاب والسنة، مشيرًا إلى وفائهما وغزارة وعمق حكمة الله فيهما، إلى أن ذلك يكفل له دوام انتباه السامع؛ لأنه سيكون معه دائم التنقل بين مثالية العلم ولمحات النقد لسير المجتمع، أو لخطئه في
التطبيق، ويتحقق له بذلك كله اقتناع السامع تلقائيًّا دون إملاء بسداد ما شرع الله، وتلك هي غاية غايات الداعية.
والمحاضرة بالنسبة للداعية تفترق عن درسه في أن لموضوعها عنوانًا يدل عليه، والدرس موضوعه عادةً آية كريمة أو حديث نبوي، ذلك إلى أن الخط العلمي في المحاضرة أبين منه في الدرس، فإن المحاضر إذ يعود من شتى المصادر يجد نفسه مكلفًا بتصفية ما حصَّل من معلومات، وجمع ما استخلصه من قواعدَ وأحكام عامة، ثم يرتبه في نسق يربط المقدمات بالنتائج، ويؤلف من الأشباه والنظائر باقة منسقة المنطق. وقد يكون موضوعه اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا، كما قد يكون من شئون المعتقدات والعبادة، فيلتزم فيه هذا الخط العلمي الذي تنتظم فيه عناصر البحث وأحكامه العامة في منطق تتكامل فيه وحدة الموضوع.
أما الدرس فالعناية به تتركز حول تجميع الخواطر على محور معنى الآية أو الحديث، واستدعاء الآيات والأحاديث ذات الصلة بهذا المحور، مع الإشارة إلى نماذج للسلوك الشعبي التي تتصل سلبًا أو إيجابًا بلب الدرس، ومن ثم يكون لكل من الدرس والمحاضرة طابعه كما أن لكل منهما مقامه.
كيف يعد المحاضر محاضرته:
على مَن أراد إلقاء المحاضرة أن يختار موضوعها من صميم ما تجري به الحياة، وهذا يقتضي الداعية أن يكون متصلًا بهذه الدنيا، منفعلًا بما يجري فيها من خير وشر، وحلو ومر، ومعروف ومنكر، فما كان من صالح رضي به وحمد الله عليه، وما كان من فاسد قام له وأخذ في علاجه وتغييره بوسائله الحكيمة، وموعظته الحسنة. ومعنى هذا: أن الداعية يختار موضوعه مما يعرض
له من قضايا الحياة، أو مما تمليه الحياة عليه، ومثل هذه الموضوعات يجعله أقرب إلى قلوب الناس، وأملك لزمام انتباههم وعواطفهم، فلا يجعل الموضوع يعرض نفسه عليه فيهرب منه، أو يقعد عن الاستجابة له، فالحياة في هذه الحال هي التي تختار له واختيارها أصدق اختيار؛ لأنه إلهام الله وصوت القضاء، وصدى ما جرى به القلم في أم الكتاب، ولأمر ما نزل القرآن الكريم منجمًا على حسب الحوادث ومقتضيات الأحوال.
وطبيعي أن الموضوعات التي يوحيها محيط الزراع غير التي يوحيها محيط الطبقات المظلومة من العمال، وللطلاب آلام وآمال، تلهم موضوعات غير التي تجري في المحيطين السابقين، وللصغار الموظفين مشكلات وأزمات نفسية ومالية لا يتبينها إلا من يصغي إلى شكواهم، ويقف على أحوالهم، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي المعاملات التي يلقاها بعض الطوائف من بعض، وفي طبيعة السلوك الاجتماعي الذي تجري عليه حياة بعض الطوائف أو الطبقات، وفي اختلال الموازين التي يزن بها الناس خلق الرجل وشخصيته ونجاحه، وفي نظام الدواوين والتعليم والمحيط التجاري والإداري والسياسي؛ في هذا وفي غيره موضوعاتٌ الداعية في غِنًى عن بيانها؛ لأنها شاخصة مستعلنة تفرض نفسها وحوادثها على المحاضر.
ثانيًا: يجب أن يكون الموضوع مدروسًا دراسة وافية مستفيضة، محللًا إلى عناصر بارزة، وخطوات واضحة، مرتبة ترتيبًا طبيعيًّا ينتقل بالسامع من حلقة إلى حلقة، ويفضي في النهاية إلى خاتمة يحسن السكوت عليها، فإذا كنت أيها الداعية المحاضِر تريد التحدث إلى طائفة من الشباب المثقف -مثلًا- عن مقومات الإنسان الفاضل، الذي ينشدونه وينشده معه المسلمون، كان من السهل عليك أن
تفترض في هذا الإنسان وجوب وجود عنصر علوي باطن يمده بأسباب العزة، وكرائم القيم والمبادئ، أما الذليل التافه فليس لنا به حاجة، ثم يجب أن يكون لهذا الإنسان رسالة في الحياة يعمل جاهدًا لتحقيقها، أما الرجل الذي يعيش بلا غاية معينة ولا مبدأ معروف فهو من السوائم الهمل.
وأخيرًا لا بد له بعد العزة والرسالة من العلم؛ ليكون من أمره على هدى وبصيرة، ومن لا علم له لا بصيرة له، فدعائم البناء إذًا عزة ورسالة وعلم، فإذا أوضحتَ ذلك أقنعت سامعيك بما تريد، أما الكلام المرسل بغير نظام فخيره غير متحقق.
ثالثًا: عليك أن تستحضر لكل عنصر ما يؤكده ويوضحه مِن كتاب الله عز وجل وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا، أو سيرة صحابته، أو عَبْر التاريخ، أو حوادث مما تسمع وتقرأ وتشاهد على نحو ما ذكرناك به. فإذا كنت بصدد شرح العزة في الموضوع السابق -مثلًا- وجدت طبيعة العنصر تلهمك أن العزة معناها ألا يذل المرء لمخلوق مثله، وهو يذل في هذه الحياة لغرض من اثنين: ليدرك منفعة شخصية أو ليدفع ما قد يؤذيه في رزقه أو نفسه، وحينئذٍ يزدحم حولك نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تؤكد لسامعك أن الإسلام يغرس العزة في نفس المسلم، ويذهب بأصولها إلى أبعد الأعما.
فهو من ناحية ابتغاء المنافع والخوف على الأرزاق قد علم أن رزقه في السماء، وما كان في السماء فهو مضمون مصون، بعيدٌ عن أن تتطاول إليه يد عابث من أهل الأرض، ويعلم كذلك أن الله قد فرغ من قسمة الأرزاق بين الناس قبل أن يخلقهم، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف على ذلك، فليس للحوادث بعده أن تجري على خلافه.
والقرآن والسنة حافلان بما يشبع رغبتك في هذا الباب، ولا بد من الحملة طبعًا على أولئك الذين يذلون أنفسهم ويبذلون أخلاقهم وأعراضهم؛ زعمًا أن ذلك هو سبيلهم إلى ما يصبون إليه من جلب المنافع أو درء المفاسد. وما أحراك أن تفرد حملة خاصة على أولئك الذين يتعبدون بالمثل السائر: إن كان لك عند الكلب حاجة قل له: يا سيدي.
أما الاستكانة إلى الذل تخوفًا على النفس مما يصيبها من أذى القتل أو الضرب أو السجن أو نحوه، فالمسلم قد ربي على قول الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد: 22) وإذا أقدم المسلم في جرأة وشجاعة، فلامه اللائمون من الجبناء، وحذره المحذرون من الضعفاء؛ ألقى الله على لسانه ردًّا حاسمًا:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145) وإذا اعتراه في موقف من مواقف البأس ذبذبة أو تردد ناداه هاتف العقيدة من أعماق نفسه: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 16).
وسيجتمع عليك الكثير من نصوص القرآن والسنة، وكل منها يعرض نفسه عليك، فَسُقْ ما تختار منها مرتبًا واضحًا على قدر ما تراه وافيًا بأداء غرضك.
ويجب أن يتحكم في الاختيار وفي ترتيب العناصر وفي جمع الشواهد وفي سوق الحديث، يجب أن تتحكم في ذلك كله العقلية العملية، ممثلةً في مظاهرها التي تقدمت في بيان مزاج الداعية، حتى لا تكون غامضًا ولا نظريًّا.
واحذَرْ في تقسيم موضوعك أو بيان حقيقة عنصرك أن تنحو نحو التقسيمات الفلسفية، أو التعمق النظري. ففي موضوع مقومات الإنسان الفاضل الذي ننشده لم نذكر لك كل شيء، وقد يأتي غيرنا بغير ذلك؛ لأنه لم يكن من همنا الاستقصاء الفلسفي، الذي يغوص وراء الفروض والعلل، وإنما أخذنا ثلاث لمحات أضاءت لنا من محيط الفطرة في بساطة ووضوح، ولو أننا أردنا الاستقصاء
لما فرغنا من البحث إلا بعد عناء، بل ولا بعد العناء، فقط لا نخرج إلا بالخلافات التي يضرب بعضها بعضًا، والنظريات التي لم ينته أصحابها من التدليل على صحتها بعد.
كان همنا حين الاختيار أن نسوق كلامًا تقبله فطرة السامع وعقله، وكفى، أما أنه جامع مانع فَلَا، ومع أننا نقصد أن يكون كذلك فهو في الحقيقة جامع؛ لأن الخير في الإسلام وإن تعددت صوره يرجع إلى معين واحد، فإذا نشَّأت طفلًا -مثلًا- على فضيلة ما ألفيت ذلك يعود بالتربية والتنمية على الفضائل الأخرى، وذلك من أسرار الله في شريعته.
رابعًا: يجب على المحاضِر أن يعد في عناصر المحاضرة ما يفهم منه أن الناس يجنون في الدنيا -لا في الآخرة فحسب- ثمرَ ما يبذلون في سبيل الإصلاح من عمل صالح، وتضحيات لوجه الله وثبات على المبادئ الفاضلة، وصبر على مقاومة الفساد، يجب العناية بإبراز هذا المعنى، لا لأنه يشرح الصدور ويشحذ العزائم ويجدد الآمال والهمم فحسب، بل لأنه هو منطق الحياة، وقانون الوجود الذي لا يتخلف، فلكل شيء ثمن ولكل عمل أجر، ولكل جهد بدني ونفسي ثمر من جنسه في الدنيا والآخرة، وعاقبة كل أمر ليست إلا نيتك التي بدأته بها، وهو من قوانين الله التي لا تتخلف في حياة الأفراد ولا في حياة الجماعات والأمم، والكسل لا يهب إلا الحرمان، والفوضى لا تورث إلا الخيبة، والأنانية لا تعقب إلا التنازع والتفكك والفشل.
خامسًا: يجب أن يكون غرض الداعية من كل ذلك إحياء المشاعر الإلهية، وبث خواطر الخير والتقوى في القلوب، فكل موضوع يجب أن يعالج على هذا الأساس، وبعبارة أخرى: يجب أن يكون للداعية في موقف المحاضرة هدفان
أساسيان؛ الأول: علاج موضوعه الخاص، والثاني: إحياء هذه المشاعر القلبية إحياءً ربانيًّا، على أن يكون الغرض الأول مقصودًا لذاته، ومقصودًا كوسيلة للغرض الثاني، ويجب لهذا أن يساق للسامع ما يشعره بأنه مسئول ومحاسب، وبأن عين الله ساهرة تطلع عليه، وتحيط بظاهره وخفي سريرته، وأن الإنسان قادر على أن يجعل ما يدور في هذه السرائر خيرًا محضًا، يرضي الله ويسعد العباد، والسعيد من جعل نفسه ذكية مطهرة.
اجعل ذلك في عنصر واحد إن اقتضاه المقام، أو اجعله شائعًا في العناصر كلها إذا أوجبته المناسبة، أو اجعله في بعض العناصر دون بعض. اخضع في ذلك لذوق الموضوع وذوق عقليتك العملية.
سادسًا: وأرى أن تحدث بينك وبين جمهورك تعارفًا عاطفيًّا قبل أن تبدأ في حديث محاضرتك، فإن مطالعة الجمهور بالموضوع مباشرة يفاجئ مشاعره بأمر لم يتهيأ له. إن المشاعر بيوت مغلقة، وقد نهانا القرآن عن أن ندخل بيوتًا غير بيوتنا حتى نستأنس ونسلم على أهلها، فلا بد من هذا الاستئناس أو التعارف العاطفي، ويكون هذا على صورة استفتاح سهل مبسط، يتناول أمرًا هينًا مما تدركه الأذهان في يسر، بل مما لا يحتاج في إدراكه إلى أقل جهد عقلي، كأن يذكر حادثة خاصة وقعت له، أو رآها وهو في طريقه، أو نبأً قرأه أو سمعه، أو ملاحظة لاحظها في الحفل أو في كلمة خطيب سابق إلى آخر ذلك.
على أن يكون هذا كله ذا صلة بالحفل وبالدعوة التي تعمل لها صلة مباشرة أو غير مباشرة، ثم يعلق على استفتاحه تعليقًا يسيرًا ملونًا بلون المزاح إذا اقتضى المقام المزاح، بلون الاستبشار إذا أوجب المقام إزجاء البشرى، أو بلون آخر من ألوان العواطف والمشاعر التي يقتضيها الحال، فإذا أقبلتْ عليك القلوب
وتفتحت لك النفوس فقد تحول تيارها إليك، وألقت بأزمتها بين يديك، فبادر في الحال بالتقاطها وصل خيوطك بخيوطها، ثم اخلص إلى موضوعك بما لا يغير عليك أنس جمهورك بك، ولا تطالبني بضرب مثل؛ فإن هذا ليس من القواعد التي تعلم، بل من وحي الذوق وإلهام الطبع اليقظ ويكتفى فيه بالتنبيه إليه.
وعلى الداعية -بعد الذي سردناه- أن لا يقتصر في محاضراته على الأسلوب العلمي الأكاديمي الموضوعي البحت؛ لكونه جافًّا في طبعه ومملًا في ذاته، وإنما عليه أن يمزج فيما يحاضر فيه بين الموضوعية والعاطفة، وأن يجمع بين قناعة الفكر واستثارة الوجدان، بل عليه على العموم أن يخاطب الروح والعقل في آن واحد، فبهذه المعاني وهاتيك المواصفات يكون الداعية محاضراً موفقًا ومتكلمًا ناجحًا بارعًا. وعلى الداعية حين يحاضر أن يرتبط موضوعه بهدف سام يحقق للجيل الحاضر هدايته، وللشباب المسلم إسلاميته، وللأمة المحمدية عزتها.
وفي هذا المجال تظهر للعيان براعة المحاضر وحصافة الداعية في توجيه محاضرته نحو الهدف المنشود، وتصريف أفكارها نحو الغاية المرجوة، حتى المواضيع التي تعتبر من طرف الحياة، يستطيع الداعية الموفق أن يحولها بلباقته ونباهته إلى هدف نبيل يخدم هداية الإنسان، ويوضح مبادئ الإسلام ويأخذ بيد الشباب نحو العزة والكرامة.
ولنضرب على ذلك مثلًا: قد يكلف الداعية من قبل هيئة ثقافية معينة أن يحاضر في موضوع، قد يراه الناس تافهًا لا وزن له، فليكن الموضوع الذي كلف فيه يدور حول الترفيه والفراغ، قد يتبادر للذهن من أول وهلة أن الموضوع تافه، وأنه من الترف الفكري، وأنه من المواضيع التي لا تستحق بحثًا ولا تستأهل محاضرة، ولكن لو تعمقنا في الأمر لرأينا المفهوم غير هذا، بل في استطاعة المحاضر
النبيه الذكي الحاذق أن يلبي الدعوة، وأن يحول الموضوع مِن لا هدف إلى هدف، ومِن ترف فكري إلى نفع عام، ومن تسيب في المفاهيم إلى تقرير للمبادئ، وهذا لا يقدر عليه إلا مَن أوتي علمًا، ورزقه الله حصافةً ومَلَكةً وفهمًا.
كيف يكون ذلك؟
يستطيع الداعية أن يبين لسامعيه قيمة الوقت وأهميته، وأن الإنسان ما خُلق في هذه الحياة عبثًا، وإنما خلق لأداء رسالة وتبليغ أمانة وتحقيق غاية، ثم يعرج إلى أن الإسلام دين الواقع والحياة، يعامل الناس على أنهم بشر لهم حظوظهم النفسية وأشواقهم القلبية وغرائزهم البشرية، فلم يفترض منهم أن يكون كل كلامهم ذكرًا وكل صمتهم فكرًا، وكل تأملاتهم عبرة وكل فراغهم عبادة، وإنما اعترف الإسلام بكل ما تتطلبه الفطرة البشرية؛ مِن سرور وفرح ولعب ومرح ومزاح ومداعبة، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما شرعه الله وفي نطاق أدب الإسلام.
وبعد هذا الدخول في الموضوع يسرد الداعية ألوانًا من الترفيه الحلال، واللهو المباح؛ كمسابقة العدو والمصارعة، واللعب بالسهام والحِراب، وكالسباحة والرمي وركوب الخيل والصيد، وبعد سرد هذه الألوان والاستشهاد بأدلتها يشرع الداعية في تبيان الهدف منها، ولماذا شرعها الإسلام، فلا يجد بُدًّا إلا أن يقول: إن الهدف من هذه الوسائل الترفيهية هو تكوين المسلم جسميًّا، وإعداده جهاديًّا، ليقوم في المستقبل بمسئوليته الكبرى في دحر أعداء الله، والدفاع عن أرض الإسلام، ونشر دين الله في مجاهل الأرض وأصقاع المعمورة، تنفيذًا لأمر الله سبحانه حيث قال:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) واستجابةً لندائه حيث قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة: 38) إلى أن قال ربنا سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41).
وبعد هذا الاستعراض يعرج الداعية إلى ذكر مخططات أعداء الإسلام في إفساد المجتمعات الإسلامية، عن طريق الإعلام والمسرح والسينما والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ودور الملاهي وأوكار الدعارة وصالات الرقص والفجور، وأن الهدف من هذا الإفساد انغماس جيل الإسلام في حمأة الميوعة والانحلال، وصرفه عن الجبهات المرسومة للكفاح الإسلامي والجهاد في سبيل الله.
وبعد سرد هذه الحقائق يختم الداعية محاضرته في التركيز على النية الصالحة، وأنها -كما قرر العلماء- تقلب العادة إلى عبادة، فبمجرد أن ينوي المسلم حين يأكل أو يشرب وينام ويستيقظ، ويترفه ويتنزه، ويسبح ويصارع، ويسابق ويرمي، ويلعب بالحراب، ويصطاد، وسائر الحظوظ الحيوية والمتع الجسدية، بمجرد أن ينوي أنه يفعل ذلك بقصد الامتثال لأمر الله، أو التعفف عن الحرام وإعداد نفسه للجهاد والأخذ بأسباب القوة في الحياة؛ تنقلب هذه الأعمال الحيوية التي قام بها إلى عمل صالح يقربه إلى الله زلفى.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك)) حتى اللقمة يضعها الرجل بيده في فم امرأته يداعبها فله بذلك أجر، بل أعظم من ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام:((وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم إذا وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وضعها في الحلال كان له أجره)).
هل عرفتَ أيها الداعية المحاضر كيف تربط محاضرتك بهدف الإسلام، وهداية الإنسان، ودفع طموحات الجمهور نحو العزة وصناعة الأمجاد؟ إذا عرفتَ ذلك فقم بواجب التطبيق، واحرص على التنفيذ ما استطعت إلى ذلك سبيلًا؛ لكونك صاحب رسالة، ورجلَ دعوة، والله سبحانه وتعالى يتولى العاملين المخلصين.
وإذا كنا قد سبق أن بينا أن المدرس ينبغي أن يعتمد على الارتجال في درسه، فكذلك الأمر في المحاضرة، على المحاضر أن يعتمد كل الاعتماد على الارتجال؛ ليستطيع الإشراف بنظراته على السامعين، فيحرك اجتذابهم إليه، ويشد أنظارهم إليه، ويثير أشواقهم نحوه، ويقوي ثقتهم به، ويقطع دابر الملل والسأم من نفوسهم، ويستأصل ظاهرة الشرود وتوارد الأفكار من عقولهم، بل تكون شخصية المحاضر أقوى وتعلق الجمهور به أعظم، واستيعاب الحضور منه أشمل وأفضل.
وإذا اضطر الداعية إلى أن يلقي المحاضرة مكتوبة على الورق لسبب من الأسباب، فعليه في هذه الحال أن لا يديم النظر في محاضرته على الورق طويلًا، بل عليه أثناء القراءة أن يبدأ بأول الجملة ونظره في القرطاس، وينتهي منها ونظره إلى السامعين، ويفعل هذا في كل جملة يلقيها. وإذا استطاع أن يأتي بتعبير من عنده في توضيح أو يعتمد على ذاكرته في إيراد شاهد فليفعل؛ من أجل أن يمنع من الجمهور سأمهم، ويحرك على الدوام انتباههم.
فاحرص أيها المحاضر على أن تمارس الارتجال في جميع محاضراتك وخطبك وإرشاداتك؛ ليكون تأثيرك في الناس أقوى، واتصالك بالسامعين أفضلَ، وجذب الجمهور إليك أعظم، والله يتولاك محاضرًا وخطيبًا ومرشدًا ومدرسًا.
وعلى المحاضر أن يقلل من حركاته وإشاراته أثناء إلقاء المحاضرة، ولا يأتي بها إلا إذا دعت الحاجة إليها، كأن يشير بأصابعه على عدد معين في معرض تقسيم الأفكار، أو تعداد العناصر، أو يومئ بيده؛ لتوضيح فكرة يريد تثبيتها في ذهن الجمهور؛ لأن الإقلال من الحركات يدل على اتزان المحاضر ورجاحة عقله وقوة شخصيته، بل تكون المحاضرة أقرب إلى الكمال وأجدر بالاحترام والاهتمام.
وكم يعيب الداعية حين يقف في الناس محاضرًا وقد أقام الدنيا وأقعدها بجهورية صوته، وقوة لهجته، وثورة انفعاله، وكثرة حركاته وإشاراته، وكم تسقط مهابة الداعية أمام الجمهور حين تكثر حركات جسمه ورأسه ويديه وهو على منبر المحاضرة، كأنه يمثل على خشبة مسرح، أو يعطي الأوامر في جبهة حرب. ألا فليحذر الداعية في محاضراته هذه الانفعالات والحماس، وهاتيك الحركات والإشارات التي تتنافَى مع طبيعة المحاضرة وأصولها؛ ليظهر أمام سامعيه أكثر هدوءًا وأكمل اتزانًا وأقوى شخصيةً، وفي هذا نجاحه وتوفيقه في مجال التبليغ والدعوة إلى الله، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وعلى الداعية أن يكون غرضه من كل محاضرة يلقيها -أو موضوع يعالجه- إحياء المشاعر الإلهية في النفوس، وبث معاني الخير والتقوى في القلوب، بل يجب على الداعية أن يكون له في مواقف المحاضرة أو الخطبة أو الدرس أو في أي موقف تبليغي دعوي هدفان أساسيان؛ الأول: علاج الموضوع الذي هو بصدده علاجًا شاملًا مستوعبًا، والثاني: إحياء المشاعر الربانية في نفوس المستمعين، على أن يكون الهدف الأول هو الوسيلة والثاني هو المقصود والغاية.
ولا شك أن الداعية حين يشعر السامع أن الله سبحانه معه ويراه ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه مسئول أمام الله عز وجل عن
جميع تصرفاته وأعماله، وأنه خلق في الحياة من أجل غاية العبودية لله، والانقياد له والاستعانة به والإنابة إليه والتسليم بجنابه، وأنه مكلف في هذه الدنيا من أجل أن يبلغ رسالة، ويؤدي أمانة، ويجاهد في الله حق جهاده، وأن الله خلق الموت والحياة ليبلوا عباده أيهم أحسن عملًا، وأنه سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه، وأنه جل جلاله يدخل النار من طغى ويدخل الجنة مَن اهتدَى.
إن الداعية حين يشعر السامع -من خلال المحاضرة التي يلقيها- كل هذا، ويربطه بالعقيدة روحًا وفكرًا، ويصله بالإسلام منهاجًا وتشريعًا، ويركز في ذهنه أمجاد الجدود وعظمة التاريخ، فيكون قد أحيا في نفسه مشاعرَ الربانية، وفجر في قلبه ينابيعَ التقوى، وأشبع طموحه بروح البطولة والجهاد.
ولا بد أن يهتف في نهاية المطاف بهذه المعاني ويقول: نحن أمة الإسلام، لم ندخل التاريخ بأبي جهل وأبي لهب وأُبي بن خلف، ولكن دخلناه بالرسول العربي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ولم نفتح الفتوح بحرب السوس وداحس والغبراء، ولكن فتحناها ببدر والقادسية واليرموك، ولم نحكم الدنيا بالمعلقات السبع، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد، ولم نحمل إلى الناس رسالة اللات والعزى، ولكن حملنا إليهم رسالة الإسلام، ولا بد أن يقول للطواغيت في كل مكان: ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام.
فاجتهد أيها المحاضر أن يكون الغرض من محاضراتك كلها إحياء المشاعر الربانية في نفوس سامعيك، وتفجير طاقات الجهاد والعمل في بؤرة شعورهم، عسى أن يتحقق على يديك تكوين المجتمع الفاضل، القائم على الإسلام والمرتكز على التقوى، وما ذلك على الله بعزيز.
فهل عرفتَ أخي الداعية الخطوات العملية التي تجعل منك محاضرًا موفقًا؛ بحسن اختيارك للموضوع، تتفهم أحوال الناس وتعالج مشاكلهم، وبإحكامك تحضير المحاضرة تنفع الجمهور وترجو الخير لهم، وباستحضارك شواهد الأفكار يتفاعل سامعوك وتحرك مشاعرهم، وبمزجك بين الموضوعية والعاطفة في المحاضرة تشبع في الحضور عقولهم وأرواحهم، وبربطك الموضوع بالهدف الإسلامي تؤثر في الحاضرين وتصلحهم، وباعتمادك في المواقف على الارتجال تتعرف على أحوال المسلمين وتجذبهم، وبإقلالك من الحركات والإشارات تحظى باحترام الموجودين وتكسب ثقتهم، وبإحيائك المشاعر الربانية في أبناء الجيل تضمن تقواهم وانطلاقتهم.
فاحرص أخي الداعية على أن تخطو في محاضراتك كلها هذه الخطوات، وتتروض على هذه المراحل؛ لتكون بإذن الله الداعية الناجح والمحاضر الموفق، والله سبحانه يتولاك محاضرًا وخطيبًا وداعيةً، ويحقق مجد الإسلام على يديك، ويقيم عز المسلمين على ساعديك إنه خير مسئول وبالإجابة جدير.
الفرق بين المحاضرة والخطبة:
نستطيع أن نلمح فروقًا اصطلاحية بين المحاضرة والخطبة فيما يأتي:
أولًا: يغلب على المحاضرة صبغة تقرير الحقائق وتثبيت المعاني، أما الخطبة فيغلب عليها صبغة إثارة العواطف والمشاعر والوعظ.
ثانيًا: عناصر المحاضرة أشبه بالقواعد والأصول والأحكام، أما عناصر الخطبة فأشبه بالخواطر العارضة والمعاني الطارئة.
ثالثًا: تحتاج عناصر المحاضرة إلى الشرح والاستشهاد، أما الخطبة فشأنها الاسترسال مع ما يحضر من الخواطر والمعاني.