الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن وجد شيئًا في نفسه بعد هذه المسائلة والمحاسبة فليتب إلى الله، وليندم على ما فعل، وليعاهد الله على ألا يعود، والله سبحانه وتعالى يتقبل من التائبين المستغفرين، فهذا المنهج ولا شك يعمق في الداعية شعور المحاسبة والمراقبة لله، والرجوع إليه، والاتكال على محض فضله وكرمه، والالتجاء إليه فيما ينوب ويروع مع ملازمة المجاهدة والانكسار والافتقار إليه، والله سبحانه لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا.
من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكِبْر
"
ومن الآفات الخطيرة: الكِبر.
وهو خُلقٌ باطني في الإنسان تصدر عنه أعمال ظاهرة هي ثمرته، هذه الأعمال لا تخفى على كل ذي عقل وبصيرة، فحين يراها الرائي يعلم علمًا أنها من علامات الكبر وظواهر الخيلاء.
من علامات الكبر التي تدل عليه: إظهار التّرَفُّع على الناس، وحب التصدر في المجالس، التبختر والاختيال في المشي، الاشمئزاز من أن يُرد عليه كلامُه وإن كان باطلًا؛ الاستخفاف بضعفة المُسلمين ومساكينهم، الافتخار بالآباء، والاعتزاز بالنسب، واستشراف التعظيم، والثناء والمجد.
وبالاختصار نقول: يوجد الكبر من أمور ثلاثة هي: أن يرى لغيرة منزلة، ويرى لنفسه منزلة، ويرى أن منزلته فوق منزلة غيرة. فبهذه الثلاثة يحسن خلق الكبر الباطني في الإنسان، ويُسمى أيضًا عزةً وتعظمًا وتعاليًا وانتفاخًا وانتفاسًا.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل استأذنه في بعض الناس بعد صلاة الفجر: "أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا". ففي هذه الأحوال التي تحصل للإنسان،
حتى يبلغ في نفسه إذا وجدت آثارها في تصرفاته مع الغير؛ فإنه يُسمى حينئذٍ متكبرًا، فالكبر إذًا حالة نفسية، والتَّكَبُّر أثر لهذه الحالة النفسية.
وقد جاء ذم الكبر في الكتاب والسنة: قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83)، وقال تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر: 35)، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:((لا يَدْخُل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))، وقال صلى الله عليه وسلم:((ثلاثة لا يُكَلّمُهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، ومَلِك كذاب، وعائل مُستكبر)) أي: فقير مستكبر.
ولكن ما علاج الكِبر في الدعاة إذا ابتلوا به؟
على ضوء ما ذكرنا من تعريف الكِبر ومن ذمه الفاضح في القرآن والسُّنة؛ نقول: إنّ من وسائل معالجة الكبر: أن يقطع الداعية لنفسه مزالق الكبر التي تفضي إليه، فإن كان من مزالقه الاغترار بالعلم والفصاحة واللقب العلمي، فليعلم أن الله سبحانه قادر على أن يسلبه هذه النعم، من مواهب الفصاحة وقوة العلم والثقافة، وإن من حق الله عليه أن يكون شاكرًا للنعمة غيرَ جاحد؛ فقد قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).
وعلى الداعية: أنْ يُدرك حقيقة نفسه من بدء حياته إلى يوم موته، فلو فكر في ذلك تفكيرًا مستنيرًا، ما وجد ذلك سببًا لكبريائه وخُيلائه، وعجبه واغتراره، واستعلائه وفخره.
وعلى الداعية أن ينظر إلى ما تكبر به، فإن كان السبب العلم فليعلم أن فيه جهلًا يساوي أضعاف أضعاف علمه بملايين المرات، فقد قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85)، وقال {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76)، وإن كان سببه الفصاحة فليعلم أن في
الأرض مَن هو أفصح منه، وإن كان سببه جمال الشخصية فليتذكر أن مآله بعد ذلك كله الموت، وإن كان سببه مظهر التدين فليعلم أن الدين يدعو إلى التواضع، ويأمر بخفض الجناح للمؤمنين كما قال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88)، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215).
ألا فليتحرر الداعية من آفة الكِبر، وليستعصم لنفسه مزالقها التي تؤول إليه، وليأخذ نفسه بأسباب المعالجة النفسية، التي بينها ونبهنا عليها؛ وليحرص على أن يُحَاسِب نفسه في كل آونة، وليَعلم أن الله سبحانه معه يرقبه ويراه، ويَعلم سِرّه ونجواه، ويعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصدور.
فبهذا كله يستطيع أن يتغلب على آفة الكبر، وأن يقضي على مداخله من عُجب وغرور من نفسه، وأن يُعطي القُدوة في التواضع والتجرد والإخلاص للخاصة والعامة، وأن يكون من الدعاة المؤثرين، والمرشدين الموثوقين، والله سبحانه مع الصادقين المخلصين يسددهم ويثبت أقدامهم، ويهديهم سواء السبيل.
وهكذا معشر الطلاب نكون قد انتهينا من مادة الخطابة.
أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم علمًا نافعًا، وعملًا متقبلًا، كما أسأله أن يرزقه سلامة القلب، وسلامة الصدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا: أن الحمد الله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.