المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه - الخطابة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في الخطابة

- ‌مقدمة في تعريف الخطابة

- ‌تعريف الخطابة

- ‌تاريخ علم الخطابة ونشأتها

- ‌أهمية الخطابة ومكانتها

- ‌الدرس: 2 الغاية من الخطابة

- ‌أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية

- ‌إعداد الخطبة

- ‌الدرس: 3 عناصر الخطبة

- ‌تركيب الخطبة

- ‌مصادر الخطبة

- ‌الأسلوب الخطابي

- ‌الدرس: 4 محتويات الخطبة

- ‌افتتاح الخطبة

- ‌الغرض من الخطبة

- ‌تقسيم الخطبة، وترتيب أفكارها

- ‌الدرس: 5 الخطيب وصفاته

- ‌أهمية الخطيب ومكانته في الإسلام

- ‌صفات الخطيب في الإسلام

- ‌الدرس: 6 تابع: الخطيب وصفاته

- ‌صفات الخطيب الفطرية

- ‌إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا

- ‌صفات الداعية النفسية

- ‌آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته

- ‌إعداد الخطيب علميًّا وثقافيًّا

- ‌الدرس: 7 الخطابة في الجاهلية والإسلام

- ‌الخطابة في العصر الجاهلي

- ‌خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية

- ‌الخطابة في عصر الإسلام

- ‌مقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام

- ‌دواعي الخطاب في عصر الإسلام

- ‌الدرس: 8 عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ونماذج أخرى

- ‌الدرس: 9 نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين

- ‌نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة

- ‌نماذج من خطب الصحابة والتابعين

- ‌الدرس: 10 الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة

- ‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه

- ‌الدرس وشروطه وفوائده

- ‌الفرق بين الخطبة والدرس

- ‌الدرس: 11 المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام

- ‌كيف يحضر المحاضر محاضرته

- ‌الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام

- ‌الدرس: 12 ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر

- ‌(ضوابط الخطاب الدعوي

- ‌رسالة الخطاب الدعوي

- ‌الدرس: 13 مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره

- ‌ضرورة توافر النطق الجيد لدى الخطيب، وحسن الصوته وتمرينه

- ‌ضرورة الابتعاد عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات، والضعيف

- ‌الدرس: 14 الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده

- ‌(الندوة

- ‌المؤتمر

- ‌الدرس: 15 قواعد في الأسلوب الدعوي

- ‌قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة

- ‌الرِّفْقُ واللين والتّيسير

- ‌الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح

- ‌سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل

- ‌التحدث بلُغة الجمع، وتعميم الخطاب عامةً دون قصد أفراد أو تعيين أشخاص

- ‌الحث والإكثار من استخدام عبارت الاستفهام

- ‌الدرس: 16 بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية

- ‌من الآفات التي قد تُصيب بعض الدعاة: "الرياء

- ‌من الآفات التي يتعرض لها بعض الدعاة: "العُجْب

- ‌من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور

- ‌من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكِبْر

الفصل: ‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس العاشر

(الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة)

‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فتبليغ الدعوة إلى الله تعالى يكون بالقول وبالعمل، وبسيرة الدّاعي التي تجعله قدوة حسنة لغيره؛ فتَجْذِبَهم إلى الإسلام.

وسنَتَكَلّمُ -إن شاء الله تعالى- عن الوسيلة الأولى وهي الدعوة بالقول أو التبليغ بالقول.

القول: هو الأصل في تبليغ الدعوة إلى الله، فالقرآن الكريم وفيه معاني الدعوة إلى الله هو:"قول رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون به التبليغ" كما أمره الله عز وجل أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه} (التوبة: 6).

وكان تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسالة ربه للناس بالقول، قال الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم وآمرًا له أن يقول للناس:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108){قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وكذلك أمر اللهُ رُسلَه أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المُبين، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون: 23).

فلا يجوز للداعي أن يُغفل مكانة القول في تبليغ الدعوة، ولا أثر الكلمة الطبية في النفوس؛ فالقول إذًا هو الوَسِيلَةُ الأصيلة في إيصال الحقِّ للناس.

والقول في مجال التبليغ أنواع؛ منها: الخُطْبَةُ، والدرس، والمحاضرة، والمناظرة، والتحديث أمرًا بمعروف أو نهيًّا عن منكر، والكتابة فإنها أيضًا من القول

ص: 189

باعتبارها أداة من أدوات التبليغ، وتُؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمَن لا يمكن للداعي مشافهتهم.

ويَحْسُن قبل أن أخوض في تفصيلات هذه المواقف التعبيرية، أنْ نُبَيّن ما يَجِبُ عَلَى الدّاعِيةِ أنْ يَلتَزِمَ به في قوله سواء كان مدرسًا أو محدثًا، محاضرًا أو خطيبًا، مناقشًا أو واعظًا؛ باعتبارها أساسيات وضوابطَ يجبُ أنْ يتقيّد بها، ويَسير في جميع أقواله عليها.

فنقول: من الضوابط العامة التي يجب على الداعية أن يتلزم بها في قوله أن يكون القول واضحًا بينًا، لا غموضَ فيه ولا إبهام، مفهومًا عند السامع؛ لأنّ الغَرَض من الكلام إيصال المعاني المطلوبة إلى مَن يكلمه الداعي؛ فيَجِبُ أنْ يَكون الكلامُ واضحًا غايةَ الوضوح، ولهذا أرسل الله رسله بألسنة أقوامهم؛ حتى يفهموا ما يدعونهم إليه ويستطيعون بيانه إليهم. قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وجعل الله تعالى وظيفة الرسل الكرام التبليغ المبين الواضح، لتقوم الحُجّةُ على المُخاطبين، قال تعالى:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54) ومِقْيَاسُ الوُضوح ليسَ نَفْسَ الدّاعي وفهمه؛ فقد يكون الكلام واضحًا بالنِّسبة له غامضًا بالنسبة إليهم، وكذلك ليس مقياس وضوح القول بذاته؛ فقد يكون الكلام واضحًا بنفسه، ولكنه غير واضح بالنسبة إليهم.

فالمِقْيَاسُ إذًا هو أن يكون الكلام واضحًا عند المدعوين، وهذا هو الذي يشير إليه قوله رب العالمين سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} فالبيان للمدعوين لا للداعي، ولا للكلام بذاته، وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:"كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلًا" أي: بينًا ظاهرًا "يفهمه كل مَن يسمعه".

ص: 190

ويجبُ أن يَكونَ الكَلامُ خاليًا من الألفاظ المستحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وخطأً وصوابًا، وعلى الدّاعي أن يَحْرِصَ على استعمال الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسُّنة، وعند علماء المسلمين؛ لأنّ هذه الألفاظ تكون مُحَدّدة المعنى، واضحة المفهوم؛ خالية من أي معنى باطل، قد يَعْلق في ذهن المدعو.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة هذا النهج في الكلام، فقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (البقرة: 104) لأن في كلمة: {رَاعِنَا} في لسان اليهود معنى باطلًا كانوا يقصدونه عند مخاطبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة؛ فأمر الله تعالى المسلمين أن يتركوها ويستعملوا مكانها: {انْظُرْنَا} بدلًا من: {رَاعِنَا} حتى لا يتحجج اليهود بهم فيستعملوا كلمة: {رَاعِنَا} يريدون بها الشتيمة والتنقيص.

وإذا اضطر الداعي إلى استعمال بعض الألفاظ المُستحدثة؛ فعليه أن يبين مقصوده منها، حتى لا يتبادر إلى الأذهان المَعَاني البَاطِلَةُ التي تحملها هذه الألفاظ، أو التي يفهمها الناس منها.

ويجبُ على الداعية أن يكون كلامه باللغة العربية الفصحى؛ لأنها لغة القرآن، وشِعَارُ الإسلام وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه:((ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان)).

فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الداعية إذا وُجِدَ بينَ قومٍ يُحسنون فهم اللغة العربية، ألا يعدل إلى لغة أخرى، أو لغة عامية محلية؛ لا تَمتُّ إلى العربية الأصلية بصلة ولا نسب.

ولكن ماذا يصنع الداعية إذا كان في بيئة لا تعرف التفاهم بالفصحى؟

ص: 191

نقول في جواب هذا السؤال: إذا استطاع الداعية أن يبسط حديثه بشكل يفهمُ النّاسُ عنه فليفعل؛ وإنْ لَم يستطع، قد يجد نفسه مضطرًّا أن يتكلم معهم باللهجة أو باللغة التي يفهمونها؛ فلا بأس، فهذا من باب:((أُمرت أن خاطب الناس على قدر عقولهم)).

وعلى الداعية في قوله أن يتأنَّى في الكلام؛ فلا يُسرع بل يتمهل حتى يستوعبَ السامع كلامه ويفهمَه؛ فقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تفهم عنه)). وعلى الداعية أن يبتعد عن التفاصح والتعاظم والتكلف في نطقه، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا. والتنطع في الكلام التفاصح فيه والتعمق.

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة؛ الثرثارون والمتشدقون والمُتَفَيهقون)) والمُتفيهق هو الذي يملئ فمه بالكلام، ويَتوسُّع فيه ويُغَرّب به؛ تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره.

وعلى الدّاعية أن يبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره، وتحديه وإظهار فضله عليه، وإنّما عليه أن يكلمه بروح الناصح الشفيق الملخص المتواضع، الذي يَدل غيره على ما ينفعه ويعرفه به، على الداعي أن يُكَلّمه كمبلغ له معاني رسالة الله، لا أن يكلمه كمبلغ له فضله وعلمه.

إنّ ملاحظة هذه الأمور ضرورية جدًّا للداعي، وإذا لم يراعها انقطع ما بين قوله وبين قلب المدعو؛ فلا يتأثر بشيء مما يسمع، بل ينفر المدعو ولا يطيق سماع قول الداعي وإن كان حقًّا.

ص: 192

وعلى الداعية أن يتلطف بالقول؛ فيَسْتَعملَ في كلامه وخطابه ما يُثِيرُ رغبة المدعو إلى السماع، ويُقمع فيه نوازع الجهل والنُّفور، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذا التلطف المفيد، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 41، 42) فذكر إبراهيم عليه السلام في خطابه لأبيه رابطة الأبوة التي من شأنها أن تجعل الابن حريصًا على مصلحة الأب، وتجعل الأب جديرًا بأن يُصغي إلى خطاب ابنه.

وقال الله تعالى عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الأعراف: 65) فهود عليه السلام خاطبهم بكلمة: {يَا قَوْم} لأنّ هذا الخطاب أدعَى إلى استجابتهم وإلى تحسيسهم بأنّ من يُخاطبهم هو منهم في النسب، وأنّه يُريدُ الخَيرَ لهم.

وفي السُّنة النّبوية ما يَدُلّ أيضًا على ما قلناه، وقد ذكر ابن هشام في سيرته: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بطن من بطون كلب في منازلهم، يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله، وعَرَض عليهم نفسه؛ حتى أنه كان يقول لهم:((يا بني عبد الله إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم)) أي: فأحسنوا الإجابة، واقبلوا الدعوة؛ وآمنوا بالله ورسوله.

وعلى هذا؛ يجوز للداعية أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكرهم به من طيب أصلهم، وكرم عائلتهم وشرف نسبهم، وأن ذلك لا يتفق وجريهم مع العصاة، وانغماسهم في الرذائل والشهوات، وأنّ اللائق بهم أن يكون مع الأخيار المطيعين لله؛ فهذا ونحوه سائغ -إن شاء الله تعالى- لا نرى فيه شيئًا، على أن لا يُسرف فيه الداعي، وأن يكون قصده منه التشويق والحمل على

ص: 193

الطاعة، لا المُدَاهنة والنِّفاق:((وإنّما الأعمال بالنيات))، والتلطف في القول لا يعني المداهنة والنفاق، ولا إخفاء الحق أو تحسين الباطل أو الرضا به، وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق وإعانته على هذا القبول، وليس فيه إخفاء مرض المدعو، فإن الداعي كالطبيب، فكما أن الطبيب لا يخفي على المريض علته وضرورة العلاج له فكذلك الداعي.

قال الله تعالى حكايةً عن بعض رسله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) وقال تعالى عن صالح عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 150 - 152).

وعلى الداعية أن يكون مقتصدًا في حديثه، معتدلًا في خُطبه ومواعظه؛ ليكونَ كلامُه دائمًا أوقعَ في نفوس مستمعيه، وأشوقَ إلى قلوبهم وأسماعهم؛ فقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث حكيم بن حِزام رضي الله عنه قال:((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، فقام متوكئًا على عصا، فكانت كلمات خفيفات مباركات)). ويقول ابن مسعود رضي الله عنه كما جاء في الصحيحين: ((إني أتخولكم بالموعظة -أي: أتعهدكم- كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا)).

نعم، قد يحتاج الداعية إلى التطوال، وأن يُكثر من الشواهد ويكرر في الأفكار، كأن يُلقي الدّاعِيةُ مُحاضرة ثقافية عامة، أو يكون في بيئة عامية جاهلة؛ فلا بأسَ في التطوال في المحاضرة لتعارف الناس على طولها، ولا بأسَ بالإطناب والتكرار، وكثرة الشواهد في البيئة الجاهلة؛ من أجل تثقيفها وتعليمها، على أن لا يطيل كثيرًا حتى لا ينفر الناس منه وينفضوا عنه.

ص: 194

وخيرٌ للداعية أنْ ينتهي حديثه والناس في شوق إليه، وحرص على أن يزيد في حديثه، وأنْ يُطيل في وقته، هذا خير له من أن يطيل فيملوه ويتمنوا أن ينهي حديثه.

وعلى الدّاعية حين يتكلم أن يكون حديثه لمستمعيه بما يتناسب مع عقليتهم وثقافتهم، وما يتفق مع أعمارهم ولهجاتهم؛ لما روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم)).

وقد يكونُ الدّاعِيةُ غيرَ مُسَدّد حين يكون في بيئة لا يؤمن أهْلُها بكروية الأرض مثلًا، وكم يكون فاشلًا حين يُسَفّه رأي أهلها ويَرْمِهم بالجهل المُطبق والضلال المبين؛ بل عليه في مثل هذه الحالة أن يتحدث فيما هو أهم كقضايا التوحيد ومكارم الأخلاق وأحكام العبادات، ثم بعد هذا يتدرج مع أهلها شيئًا فشيئًا؛ حتى يصل معهم في نهاية الشوط إلى الإقرار بحقائق العلم، وأنها لا تتعارض مع نصوص القرآن الكريم، وكيف يكون التعارض والمنظمُ للكون واحد والمنزل للقرآن واحد وهو الله عز وجل؟!

من أجل هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون التحدث للناس بما تتحمله عقولهم؛ حتى لا يكون لبعضهم فتنة، ففي مقدمة (صحيح مسلم) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:((ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)).

ومن أدب الداعية:

أن يُقبل في أحاديث على جلسائه جميعًا في كل شيء؛ في النظرات، في توجيه الأسئلة، في الإجابة عليها، في البشر والابتسامة، حيث يشعر كل واحدٍ منَ الحَاضِرين أنه يعنيه، ويَخُصّه ويقبل عليه. وبهذا الخلق يستطيع أن يَمْلِك قلوبهم، ويتفاعل معهم، ويُعمق آصرة المحبة والثقة بينه وبينهم، ويكون في

ص: 195

الوقت نفسه قد تأسَّى بصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم في إقباله بوجه وحديثه على كل مَن يجتمع بهم، ويتحدث إليهم، حتى إن الرجل كان يظن نفسه في المجلس أنه خير القوم.

ولذلك قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقبل بوجهه وحديثه على شرّ القَوم يتألفه بذلك)). وهذا أدب كريم في الدعاة، عليهم أن يتنبهوا له، ويقوموا على تنفيذه؛ لجذب الناس وتأليفهم وشدهم إلى الإسلام.

ومن أدب الداعية في حديثه: مُلاطفة الجُلساء في المجلس، وإدخال السرور عليهم؛ حَتّى لا يشعروا بالسأم، ولا يُداخلهم المَلل، ولا ينتابهم الفتور، وكم يُسَرّ الجُلساء حين يروا داعيتهم إلى الخير لا تفارق الابتسامة ثغه، ولا تجافي الملاطفة حديثه، وكم يتشوقون للحضور والاستماع حين يرونه يمزج الحديث بالطرائف، ويطعم المواعظ بالملائح.

روى الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه (الأذكياء) عن محمد بن معين الغفاري، قال: أتت امرأةٌ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ زوجي يصومُ النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه هو يعمل بطاعة الله، فقال لها عمر:"نِعم الزوج زوجك". فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب، فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها على الفراش؛ فقال عمر:"كما فهمتَ كلامها، فاقضِ بينهما". فقال كعب: عليّ بزوجها، فأُتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك قال: أفي طعام أو شراب؟ قال: لا، فأنشدت المرأة هذه الأبيات:

يا أيها القاضي الحكيم رشده

ألهَى خليلي عن فراشي مسجده

نهاره وليله ما يرقده

ولست في أمر النساء أحمده

زهدني في مضجعه تعبده

فاقض القضايا كعب لا تردده

ص: 196

فقال زوجها على الفور:

زهدتُ في فراشها وفي الحجل

أني امرؤ أذهلني ما قد نزل

في سورة النمل وفي السبع الطول

وفي كتاب الله تخويف جلل

فقال كعب:

إن لها عليك حقًّا يا رجل

تصيبها في أربع لمن عقل

قضية من ربنا عز وجل

فأعطها ذاك ودَعْ عنك العلل

فإن خير القاضيين من عدل

وقد قضى بالحق جهرًا أو فصل

ثم قال: إنّ الله عز وجل قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ فلك ثلاث أيام ولياليهن تعبد فيها ربك، ولها يومٌ وليلة. فقال عمر لكعب:"والله ما أدري من أي أمريك أعجبُ؟ أفَمِن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما؟! اذهب يا كعب، فقد وُليتك قضاءَ البصرة".

فهذه الطُّرفة جَميلة تُدخل الفرح والسرور وترفه عن أحوال الناس والسامعين، تُناسب أن تذكر في حديث الداعية عن النكاح والحقوق الزوجية، وما يكون بين الزوجين.

وعلى الداعية في حَدِيثِه أنْ يَتَرَفّع عن الغِلظة في القول والبذاءة في اللسان؛ فإذا كان الإسلامُ حَرّمَ على المُسلم أن يسب مسلمًا أو يحتقره، أو يتطاول عليه بلسانه؛ فالدّاعية هو أولى من غيره في اجتنابه تطاول اللسان، وبَذاءة الكلام، وغلاظة القول؛ لكونه المقتفي أثر النبوة في اللين، والمتأسي بسيرة السلف في الملاطفة، والمتحلي بمكارم الأخلاق في التعامل مع الناس.

استمع أيها الخطيب الداعية إلى ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الإيذاء والتحذير من بذاءة اللسان، روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:

ص: 197

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمُهَاجِرُ من هَجَر ما نهى الله عنه)). وروى الشيخان أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المُسلم فسوق وقتاله كفر)).

وغَني عن التعريف أنّ الفُسوق هُنا ليس المراد به الخروج من الإيمان إلى الكفر؛ وإنّما هو الخروج من الطاعة إلى المعصية، كما أنّ الكُفْرَ المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:((وقتاله كفر)) ليس هو الكفر الأكبر المُخرج من الملة؛ بل هو الكفر الأصغر أو الكفر العملي؛ لأنّ الله تبارك وتعالى جعل قاتل المؤمن أخًا لولي المقتول فقال عز وجل وقد فرض القصاص في القتل العمد، ثم قال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178) فجعل ولي المقتول عمدًا أخًا للقاتل ومعناه أنه لم يكفر بقتله.

كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 9، 10) فسمى الله تعالى الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فلم يكفروا بالقتال، وجعلهم أخوة للمؤمنين قال:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ولو كان الكفر في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وقتاله كفر)) هو المُخرج من الملة ما صحت هذه التسمية، ولا صحت هذه الأخوة. وإنما قال عليه الصلاة والسلام:((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) من باب المبالغة في الزجر عن سب المسلم وقتله.

ورَوى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)). وروى

ص: 198

الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)).

فعلى الداعية إذًا حين يجلس في الناس ويتحدث إليهم، ويقوم على إصلاح أحوالهم وأوضاعهم، أن ينظر إلى من حوله بروح الناصح الشفيق، وبعطف الأب المخلص الرحيم؛ فإنْ لم يكن بهذه الأخلاق السمحة الرضية حين يتحدث أو يخطب أو يحاضر أو يدرس؛ فسُرعان ما ينفر الناس منه وينفضون عنه، ولو كان الذي يقوله حقًّا.

وهذه النظرة التعاطفية التواضعية من الداعية في الاهتمام بالمدعو، وإرادة الخير له، وبذل أقصى الجهد في إصلاحه وهدايته واستشعاره روح المحبة والرحمة هي نظرة سيد الدعاة -صلوات الله وسلامه عليه- كما حكى لنا القرآن الكريم:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6). أي: هو كما دلت عليه الآية أرأف بهم، وأعطف عليهم، وأحقُّ بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا.

وكما ذكر لنا القرآن في سورة أخرى أنه صلى الله عليه وسلم كبير القدر، كريم الأصل، عظيم الشرف، يشق عليه جدًّا أنْ يرى الناس في عنت ومَشَقّة وحَرَج، بل هو الحريص على هداية البشر، بل هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين جميعًا، قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128).

فعلى الداعية أن يتأسى بصاحب الخلق العظيم -صلوات الله وسلامه عليه- في حرصه واهتمامه، ورأفته ورحمته، وتواضعه وتياسره، وليأخذ ما أنزل الله عليه وعلى أمته في تعامل الناس بالرحمة وأخذهم باللين، ومقابلتهم بالعفو، والابتعاد عن كل ما يسوءهم من الكلمات الجارحة، والعبارات القارعة، قال

ص: 199