الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام)
العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام
إنّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
فلقد اتّضح من كُلِّ ما قَدّمنا كيفَ نمت الخطابة، في صدر الإسلام نموًّا سريعًا بتأثير إسلامي من جهة، وبتكاثر الأحداث وتتابعها من جهة ثانية، وليس هذا كُلُّه ما يُلاحظ فيها؛ فقد دارت حول معاني القرآن الكريم، وخطابة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وهي معان جديدة لم يكن للعربية بها عهد؛ معاني هذا الدين الحنيف، الذي بعثَ لُغتنا ونشرها بعثًا جديد، والذي مرنها ودَلّلها لكي يَحُلّ قبسًا من هذه التعاليم والمواعظ، يستضيء بها في كل ما يخاطب به الناس، ابتغاء التأثير عليهم وبلوغ ما يريد من أداء الخطبة الدينية الخالصة في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج. والخطب التي تدعو إلى الجهاد وتحض على القتال.
ولعله من أجل ذلك أصبح التّحميد سنة في كل خطبة، حتى الخطبة السياسية؛ وكانوا يسمون كل خطبة تخلو من الحمد "الخطبة البتراء" كما كانوا يُسمون كل خطبة تخلو من اقتباس آي القرآن الكريم والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم "شوهاء".
وهُناك أخبار كثيرة تدُلّ على أنّ الخُطَباء كانوا يُزَوّرون كلامهم، ويُعِدّونهم على أنفسهم إعدادًا طويلًا، ثُمّ يُلْقُونه على الناس؛ حتّى لقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك، وكان الخطيب يستشهد أحيانًا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر؛ تُؤَكّد المعنى الذي يُريد أن يَصُبّه في نفوس سامعيه صبًّا، على نحو ما نجد في خطبة لأبي بكر في الأنصار.
وإذا كنا قد لاحظنا من تاريخ الأدب العربي غلبة السجع على خطباء الجاهلية؛ فإننا نلاحظ في عصر الإسلام أنه كاد ينحسر تمامًا من الخطابة، إلا بقايا ضلت في خطابة الوفود، حين كانت تقدم على الخلفاء.
ونستطيع أن نقول: إن السّجع في خطابة هذا العصر كان شيئًا عارضًا؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستعمله في خطابته، وكان ينفرُ منه حين يلهج به أحد محدثيه، كراهية للتشبه بالكهان في سجعهم، وعلى ذلك صار الخلفاء الراشدون والصحابة من بعدهم.
وأخرى تُلاحظ على الخطابة في عصر الإسلام، بالقياس إلى الخطابة في الجاهلية؛ فإنّ الخَطَابةَ في الجَاهلية لم تكن ذات موضوع مُحدد، ومن ثَمّ كانت تأخذ شكل أقوال متنافرة، لا رابط بينها، أما في الإسلام فقد أصبح للخطابة موضوع واحد، يجول فيه الخطيب ويَصُول، إذا يُحَدّث الناس واعظًا، أو يعرض عليهم حدثًا محدد من أحداث الإسلام، بحيث نستطيع أن نقول: إن الخُطبة أصبحت ذات موضوع، تلم بأطرافه وتفاصيله.
وبذلك كله نهضت الخطابة، ونهض معها النثر نهضة واسعة، فقد أخذ الخطباء يوسعون طاقته بما يحملون من معاني الإسلام، وما يبسطون في هذه المعاني ويولدون ويفرِّعون.
وإذا كانت الخطابة تستمد قوتها من النفس فلا بُدّ أن نذكر الأمور التي كانت في تلك الحياة، وغذت النفوس غذاء نمت به الخطابة وازدهرت وقويت ونهضت، وأعظم تلك الأمور شأنًا وأجَلُّها في حياة العرب خطرًا وفي الخطابة أثرًا "القرآن الكريم".
لقد جاء القرآن الكريم فهزّ النّفْسَ العَربية وأصاب شِغَافَها، وقد تَحَدّى أعَاظِمَ البُلَغَاءِ فيهم أن يأتوا بسورة منه، أو مثله، أو من مثله؛ فعجزوا عن ذلك كله، وقد قال الجاحظ في إعجازه: "بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في زمن أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة. فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالاته فدعاهم بالحُجّة.
فلمّا قطَعَ العُذْرَ وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحِيرة، حملهم على حضهم بالسيف، فنصب لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم وفي ذلك يحتج عليهم بالقرآن الكريم، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى معارضته إن كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة؛ فكُلّما ازداد تحديًّا لهم بها، وتقريعًا بعجزهم عنها قالوا: أن تعرف من أخبار الأمم ما لنا نعرف؛ فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يقصد ذلك خطيبًا منهم، ولا طمع فيه شاعر ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجديه ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أن قد عارض وناقض؛ ف دل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، وسهولة ذلك عليهم. وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجَاهُ مِنهم، وعارض الشُّعراء من أصحابه، والخُطَباء من أمته؛ لأنّ سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج عن الأوطان، وإنفاق الأموال.
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والفضل بطبقات، ولهم القَصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة. ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم، بعد أن ظهر عجز أدناهم، ومُحَالٌ أنْ يَجْتَمِع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخِطَابِ المَكْشُوف البين مع التقريع بالتقصير، والتوقيف على العجز.
وهم أشد الخَلْقِ أنفَة وأكثرهم مُفاخرة، والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض؛ فكيف بالظّاهر الجليل
المنفعة، وكما أنّهم مُحالٌ أن يُطيقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر كما تعرف، فكذلك مُحَالٌ أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل، وهم يبذلون أكثر منه.
وإذا كان أثرُ القُرآن الكريم في مناوئيه، وهم قوم خصوم، وما علمت من تحير ودهشة وعجز، بل إعجاب يخفيه الغرض، ومرض النفس بالشرك والعناد والمخالفة؛ فيكيف يكون أثره بالآخذين بهديه المقتبسين من نوره؟.
لقد أثر القرآن الكريم فيهم أبلغ تأثير، وأفادت الخطابة أعظم فائدة، وجنت منه أكبر الثمرات، وقد كانت استِفَادة الخطابة من القرآن الكريم من ناحتين:
إحداهما: مما اكتسبه اللغة من القرآن الكريم: لقد أكسبها سعة في المعنى، إذ قد أتى بمعانٍ لم يَتوارد العرب من قبل مواردها، كانوا قومًا حسيين، ولُغَتهم حِسّية؛ فجاء القرآنُ الكَريم وحدث عن النفوس، ووصفها فأحسن وصفها، حَلّل نفس الضال، وعلة ضلالة، ونفس المهتدي وعريض اهتدائه. صور تقلبات القلوب وخلجات النفوس، وما يؤثر في المشاعر؛ فدعا ذلك المسلمين إلى الاغتراف من منهله العذب، وشاعت بينهم الأقوال في الأمور المعنوية، وسمت اللغة العربية إلى مستوى ما كان يتهيأ لها بغير القرآن الكريم.
وأثر القول في الأمور المعنوية وحسن تصويرها في الخطابة جلي لا يحتاج إلى بيان، وقد جاء القرآن القرآن الكريم بلفظ سهل متين خالٍ من الألفاظ الخشنة الجافة، يصل إلى الأغراض من أسهل مسالكها، فأعجب بذلك قارئوه وسامعوه؛ فحاكوه في نهجه، وإن لم يُساموه في قدره، وتَهَذّبت به اللغة أتم تهذيب، فسَهُلت عباراتها، ورَقّت أسَالِيبُها، واستأنست ألفاظها، إذ سن لها نوعًا من التعبير لم تنتهجه، فكان فتحًا جديدًا بألفاظه وأساليبه، كما كان فتحًا
جديدًا في العالم كله بهديه وتقويمه وتأديبه، وأثر ذلك في ألفاظ الخطابة واضح غير خفي.
ثاني الناحتين: أنّ الخُطباء قد أخذوا ينتهجون منهج القرآن الكريم في الاستلال؛ إذ وَجَدوا فيه أبلغ طرق الإقناع الخطابي، لقد اجتمع في أدلة القرآن الكريم ما لا يُمكن أن يجتمع في أدلة سواها، إذ تَجِدُ فيها استقامة المعنى، إذا قسته بمقياس المنطق فتجد المقدمات قد تلاءمت مع نتائجها، وتوافرت فيها شروط الإنتاج كما تجد فيها جمال اللفظ وجودة الأسلوب، ومخاطبة الإحساس وإثارة الرغبة، اقرأ قول الله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22).
تَجِدُ الدقة المنطقية، وجمال اللفظ ومخاطبة الوجدان قد اجتمعت مع حسن الإيجاز فتعالت كلمات الله سبحانه وتعالى.
وجد الخطباء في القرآن الكريم ذلك، فوجدوا فيه معلمًا لطريق الإقناع والاستدلال، لا يُقاضيهم أجرًا؛ فتأثروا بطريقته، واقتبسوا من عبارته، وشاع بينهم الاقتباس منه، حتى كان من مزايا الخطبة أن تكون مشتملة على شيء من القرآن الكريم.
أما الحديث النبوي الشريف فهو كلام النبي صلى الله عليه وسلم يلي منزلة القرآن الكريم في الاحترام والإجلال، وقد اجتمعت فيه أيضًا فصاحة اللفظ، وجودة المعنى وحسن الأداء. وبلغ من البلاغة الذروة ووصل من الروعة إلى القِمّة، هو جوامع الكلم، وفيه روائع الحكم، هو القول الفصل لا فضول فيه ولا تزيد، أخذ من القرآن الكريم وأوحى إليه به الرحمن لكلامه جلال لا تجده في سواه، وتحيط به هالة روحية تحس منها بشعاع النبوة، ولو أنّ كلامه عرض عليك منسوبًا لغيره؛ لأنكرت النسبة ورددت الحق إلى نصابه.
وقد أثار ذلك روح العُجب والإعجاب في أصحابه، حتى قال له أبو بكر رضي الله عنه: لقد طُفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).
وقد كان للحديث أثران في الخطابة:
أحدهما: من ناحية تأثيره في اللغة؛ لأنّ الحَدِيثَ أضاف إلى اللغة ثروة من المعاني، وثَروة من الأساليب التي كانت تُعد من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداعًا وابتكارًا، مثل قوله:((حمي الوطيس)). ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((الضعيف أمير الركب)) وقوله: ((مات حتف أنفه)) وقوله: ((هدنة على دخن)) وقوله: ((لا ينتطح فيه عنزان)) وقوله لمن ساق إبل بعنف وعليها نساء: ((رويدك رفقك بالقوارير)) ولأن الحديث هذب اللغة تذهيبًا قريبًا من تهذيب القرآن الكريم، إذ سهل ألفاظها، ورَقّق أساليبها، وذهب بالغريب منها؛ فكان لكل هذا أثره في الكتابة؛ لأنّها شُعبة الأدب الأولى في هذا العصر بل أعظم شعبه وأظهر مظاهره.
ثانيهما: أنّ كثيرًا من الخُطباء كان يرطب لسانه في خطبه بشيء مما أُثر عَن الرَّسول صلى الله عليه وسلم تيمنًا بقوله، واسترواحًا للسامعين، وليكسبوا كلامهم روعة وليستشهدوا بكَلام الرّسُول صلى الله عليه وسلم على صِحّة ما يَدْعُونَ، وإذا عَلمت أنّ أكْثَر الخُطب في ذلك العصر كانت تدور على مبادئ الدّين قوامها، عَلمت مقدار عنايتهم برواية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والاستشهاد بها في خطبهم.
ثالثًا: الحَضارة: أخذت الحضارة تغزو نفوس أولئك البدو، ولكنها لم تستول عليهم استيلاء تامًّا كما علمت، فاجتمعت فيهم قوة البدوي ونخوته، وبعض دماثة الحضري ورقته، ولقد علمت أسباب ذلك فيما بيناه من شرح أحوالهم
الاجتماعية، وبقي أن تعرف أثر ذلك في خُطَبهم، أكسبتهم تلك الحضارة سهولة في التعبير لم تكن فيهم؛ إذ هَذّبت من طباعهم، وقَلّلت من جفوتهم وخشونتهم، فلانت من غير ضعف، وابتذال عبارتهم كما أكسبتهم سعة الخيال وغزارة في المعاني وعِرْفَانًا تامًّا بما تقضيه الأحوال.
وقد أكبسهم اختلاطهم بالأمم، وهم ذووا الذكاء الفطري والفراسة، معرفة كثيرة بأحوال النفوس؛ فاستخدموا كل ذلك في خطبهم، وبدت غزيرة المعاني، متنوعة الموضوعات وافية فيما يقصد إليه الخطيب من غرض، وما يتجه من هدف ومرمى.
رابعًا: تَكْوينُ حكومة نظامية: كان تكوين الحكومة الإسلامية عاملًا عظيمًا من عوامل اتساع موضوعات الخطابة، فقد كانت هي أداة اتصال الحاكمين بالمحكومين، بها اتصل الحُكماء بالشعب في خُطبهم العامة، وبها اتصل الولاة بالأقاليم بمن يحكمونهم، ويُبين هؤلاء وأولئك ما يُريدون أن يكون المَحْكومون عليه من طاعة في الحق، وإرشاد للحاكم من غير تمرد أو عصيان.
وكذلك الوعظ الديني كان له الشأن الأول؛ لأنّ الدين كان أساس وحدتهم، وجامع كلمتهم، ومُكَوّن دولتهم، ولذلك كان له الاعتبار الأول، وقد حَثّ الإسلامُ على الأمر بالمعروف، والنّهي عن المُنكر، وجعله قوام هذه الأمة، ومَنَاط عِزّها، وطريق ارتقائها، قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
وقد كانت الخُطبة فرضًا في الجُمعة لذلك الغرض، فكان للخطابة من ذلك المبدأ الديني السامي، مبدأ التواصي بالحق والتناهي عن الشر، رقي -أي رقي- وسمو عظيم، إذ جُعِلَت من شَعَائر الدين ومظاهر القوية.
أما ألْفَاظُ الخَطَابَة وأساليبها ومعانيها في صدر الإسلام: فقد صفت ألفاظ الخطابة وسهلت، ورقت وعذبت، وذلك لتأثر الخطباء بالقرآن الكريم، واقتفائهم طريقه وسلوكهم سبيله، إذ رأوه المثل الأعلى للكلام فحاكوه وإن لم يتساموا إليه، ولأنّ نُفوسهم هُذِّبَت، وألان الإسلامُ من جفوتها، وأرَقّ من شِدّتها، وبدلها مكان القسوة رحمة، ومكان العنف رفقًا حتى إن الرجل الذي كان يئد ابنته فلا ينشق قلبه لها بعطف، أصبح بالإسلام يسمع كلمة الحق؛ فتنحدر عبرته وتذوب نفسه حسرات.
وإذا رقت النفس وسهلت لا يصدر عنها إلا العذب السهل من الألفاظ؛ فإن الكلمات صورة حية للنفس التي تجيش بها، ولأنّ الله سبحانه أورثهم ملك كسرى وقيصر، فجاءتهم الغنائم وأصبحوا فاكهين في نعيم، بعد أن كانوا في شظف من العيش، وخُشونة من الحَياة.
ولقد قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم متنبأ بما يكون: "واللهِ لتَألَمَنّ النوم على الصوف الأزربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان". وقد كان أن نال العرب من نعيم الحياة أشرًا بعد أن ذاقوا من الشقوة بؤسًا، وتلك الحال التي تنبأ بها الإمام العظيم لو لم تتم في ذلك العصر وإن أخذت خطواتها فيه.
وإذا كان العربي قد ذاق هذا النعيم ورأى مناظر الطرف وعاش في مظاهره، فلا بُدّ أنّ تلين ألفاظه، وتَسْهُل عِبَاراته لأنّ الألفاظ صورة لما يألفه القائل، ويعرفه المُتكلم.
ولقد ذهب من الألفاظ الكثير من الحشو؛ لاجتماع العرب على لغة واحدة هي لغة قريش، وذهاب اللغات الأُخرى؛ فلم يبقَ مِنها إلا النادر من الألفاظ والأساليب؛ ولأنّ الخطَابة كان عمادها في الإسلام المألوف المكشوف، لأن الغاية
كانت إما إفهام السنن والأحكام والشرائع، وإما الحث على الجهاد، وإما المشاورة وإبداء الرأي والنصيحة للإمام. وكل هذا يقتضي الوضوح والسهولة.
وكان بمقتضى تعاليم الإسلام، أبعد الناس عن الإغراب والتوعر، والتفيهق والتشدق؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أبغضكم إليّ الثرثارون المُتفيهقون)) لذلك كان المسلمون يَمِيلُون إلى التكلف في خطبهم بكلام يشبه الكلام العادي في سهولته، وعدم تكلفه لولا انسجام في التعبير، ولولا التحميد والبسملة والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأمور التي اختصت به الخطبة في الإسلام.
أما معاني الخطابة في الإسلام: فإنّ المَعاني الخطابية سلكت مسلكًا يتفق مع الحياة الإسلامية في مظاهرها التي سبق بيانُها؛ إذ أنّ تلك الحياة هي التي وجَهّت الخطاب وجهتها، وهي التي استوحت الخطابة منها معانيها، وقد كانت المعاني دينية، فخطبهم في الحروب دعوة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وإعلاء لكلمته ورفع لدينه، ونشر لدعوته. وخطبهم في الشورى صورة لفهمهم الدين كلٌ يدلي بالرأي، ويربط دعواه بالمبادئ الدينية.
وخطبهم في الاجتماع والألفة أدلتهم فيها القرآن الكريم والسنة النبوية، والمبادئ الإسلامية المعروفة من الدين بالضرورة، وهكذا كل أغراضهم الخطابية الدين فيها قطب الرحى، وعليه يدور كلامهم وفيه يختلفون به يتفقون، وذلك لأنّ الدين قد تغلل في كل مظاهر حياتهم، وكان هو المسيطر على ضمائرهم، والقانون الخلقي الذي إليه يحتكمون، والشرع الذي على مقتضاه يسيرون؛ ولأنّ كِتَاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانا ينبوع المعرفة، الذي إليه يريدون وعنه يصدرون. فلم يكن لهم علم إلا علم الكتاب، ولا معرفة إلا من سنة الرسول عليه السلام فلا عجب إذا صارت معالم الخطابة كلها دينية خالصة.
وقد كان الخطباء يسلكون في الاستدلال الخطابي الطريق المنطقي، والطريق الوجداني، وذلك لتأثرهم طريق القرآن الكريم في الاستدلال، وأخذهم من معانيه، ونيلهم من هديه؛ إذ كان المثال الذي يحتذونه والمنار الذي يهتدون به.
واقرأ خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ثقيفة بني ساعدة ترى فيها الدّليل المَنْطقي قد التقى مع الدليل الوجداني، وأحكمت الأواصر بينهما من غير أن يطغى أحدهما على الآخر، واقرأ خطب الفاروق عمر رضي الله عنه في شوراه، وخطب من يوافقونه، أو يردون عليه ترى الحقائق المنطقية قد صيغت في قالب دِيني يُثير الوجدان، ويوقد العاطفة، ويلهب الحمية، وهكذا في كل أغراضهم البيانية؛ لأنّ حماسة الدين تجتمع مع الحقيقة فتمُدّها بِحَرارة الإيمان ويقظة الوجدان، وقوة الإحساس.
وكانَتْ المَعَاني لما سبق قوية التأثير فيمن يُخاطبون؛ إذا توفرت فيها شروطه وتكاملت أسبابه، وهُما الدِّقّة في الفكر والاستنباط، وإثارة العاطفة وإنهاض العزيمة، وكانت المعاني مسلسلة متصلة الأجزاء محكمة الأواصر، ولم تكن مفككة متناثرة كما كانت في العصر الجاهلي، ولعل السبب في ذلك اجتهادهم في صوغ كلامهم صياغة استدلالية؛ لينتج النتائج التي يريدونها، واتساع معلوماتهم بسبب ذلك الدين الجديد ووحدة الغرض الذي جعلوه هدفًا لكلامهم يصوبنه إليهم لينالوه.
وإنك لتضع ذلك الإحكام وهذا التماسك واضحًا في أكثر خطب ذلك العصر، وخصوصًا خُطب الإمام علي رضي الله عنه واقرأ خطبته عندما استشار الفاروق عمر الصحابة في غزوه فارس بنفسه، ترى التماسك بني أجزاء القول وأخذ بعضه بحجز بعض واضحًا كل الوضوح، وعَدَمُ المُبَالَاةِ والإغْرَاق واضح كل الوضوح
في الخطابة الإسلامية، ذلك لأنّ الخُطَباء الإسلاميين من عرب الذين امتازوا بالصراحة والصدق، وهما صفتان تتنافيان مع المبالغة والإغراق.
ثم هم قد امتازوا باستقامة الفكر وسلامة النفس، والإغراق ليس إلا مظهرًا للشطط الفكري، ومُجاوزة حد الاعتدال البياني، وهو من نوع التفيهق الذي نهى عنه الدين، ولهذا باعدوه وتجافوا عنه؛ لأنّه لا يتفق مع الهدي القويم، والسُّنن المُستقيمة.
أما أُسلوب الخطابة في عصر الإسلام؛ فإن الأسلوب الخطابي في العصر الإسلامي بلغ من الإحكام مبلغًا، سما أن عن أن يحاكيه عصر من عصور اللغة، أو ينهج إليه خطباء أي زمن سابق أو لاحق لذلك العصر، وأول ما يلاحظه القارئ لخُطَب ذلك العصر أنّ الخُطبة صارت مجزئة ومقسمة، كل قِسم يَلحق سَابقه.
تبتدأ بمُقَدّمة فيها يحمد الخطيب الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يهجم على الموضوع فيقدم ما يراه دليلًا لدعواه، وبُرهانًا لما يراه، وبعد أن يتم القول فيه، ويوفي على الغرض يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى يدعوه أن يوفقه إلى الرّشاد ويُلهمه السداد، ولبعض الخُطَباء صيغة دعاء يَختم بها قوله، قال ابن عبد ربه: كان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته: "اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتيمه، وخيرُ أيّامي يوم ألقاك"، وكان آخر كلام عمر الذي إذا تَكَلّم به عُرف أنه فرغ من خطبته:"اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تجعلني من الغافلين".
وقد أكثر الخطباء من الاقتباس من القرآن الكريم الاستشهاد به والاستدلال بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم يعمدون إلى الحديث؛ فينهلون منه، ويتجهون إلى الآية
الكريمة ويرطبون كلامهم بها؛ فيكون فيها فصل الخطاب وقطع كل جواب واعتراض، وإذا علمت أن كل خطبهم دينية، عملت مقدار قوة الحديث الشّريف والقرآن الكريم في استدلالهم وفصلهم في خصوماتهم، ففيهما فيصل التفرقة بين الحق والباطل، وصحيح الآراء وسيقيمها.
وفوق ذلك الكتاب الكريم والحديث النبوي الشريف؛ فيهما من البلاغة والفصاحة والروعة واللفظ الجزل، والأسلوب الرّائع والمُحكم من المعاني ما علمت؛ فاتجهوا إلى الاقتباس منهما؛ ليَكْسِبُوا كلامَهُم طلاوة، وليُعطوه حلاوة، وليَقتبسوا من القرآن الكريم والحديث الشريف قُوّة في التأثير، ورنينًا في الآذان، ورَهْبَة في القلوب، وجَمالًا في الأنفس، وبهجة في المشاعر.
وقد تعلو الآية القرآنية بالخطبة فتجعلها من الذروة في البيان والقمة من التأثير وبلوغ المقصد من أقصر طريق، وأقرب منيع، ولذا أكثر الخطباء من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف حتى صار ذلك عرفًا شائعًا.
وقد قلّ السّجْعُ في ذلك العصر؛ لأنّ النّفس العَربية الأمية كانت تميل إلى عدم التكلف والصنعة، وزاد الخطباء ابتعادًا عن السجع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سجع الكهان.
أما من حيثُ الطّول والقِصر في الخُطبة: فأكثر الخطب المروية في هذا العصر قصير لا طويل؛ فيه الإيجاز أظهر من الإطناب، ولعل هذا الموجز جزء من خطبة طويلة حفظ هذا الجزء، وتُبَعْثِر الباقي في الأسماع، أو لعل المُوجز من الخُطب هو الذي استَطَاعَ أن يحفظه الراوي لسهولة حفظه وجودته أكثر من سواه؛ لأنّ رِوايَة الخَطيب في هذا العصر كسابقه، كان المُعَوّل فيها على الرواية السّماعية لا على الكِتابة، إذ لم تكن الكتابة قد انتشرت، ولأنّ الخُطَباء لم يعمدوا إلى كتابة خطبهم. ولم يعمد الناس إلى كتابتها لعدم اعتاديهم ذلك.