الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام
ننتقل إلى الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة وآدابها في الإسلام.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدين يخالف كل الأديان، التي كانت في البلاد العربية، في عقائده وعباداته وشرائعه الاجتماعية وآدابه الخلقية، من بعد أن كان يسود البلاد العربية عبادة الأوثان، جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بعبادة إله واحد، هو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، ولكل إنسان أن يدعو الله فيجيبه من غير وساطة كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) وأن يفهم الدين كتابًا وسنةً من غير توسيط أحد، فليس لأحد كائنًا مَن كان سلطة على الناس في عقائدهم، وبذلك خالف دين محمد صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.
وقد آمَن النبي صلى الله عليه وسلم وتَابعوه كما أمرهم بذلك الدين الحنيف، آمنوا بالأنبياء السابقين فخالفوا بذلك اليهود والنصارى أيضًا، الذين يريدون أن لا يعترفوا بغير اليهودية أو النصرانية، قال الله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا} يعني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمشركين {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 135 - 137).
دعا ذلك الدين الجديد إلى الإيمان بحياة أخرى، فيها يجزى الإنسان بالخير خيرًا وبالشر شرًّا:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)، وبذلك خالف ما كان عليه بعض
المشركين من إنكار البعث والنشور، فقد قالوا:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: 3) خالف ذلك الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في آدابه وشرائعه كثيرًا مما كان عليه المشركون في الجاهلية، وحرم الدعوة إلى العصبية الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ليس منا من دعا عصبية، أو قاتل على عصبية)).
وإن شئتَ أن تعرف خلاصة ما جاء به ذلك الدين مخالفًا ما كان عليه العرب في جاهليتهم، فاستمع إلى ما روي عن جعفر بن أبي طالب، إذ قال مخاطبًا النجاشي ملك الحبشة:"أيها الملك، كنا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، فعَدَى علينا قومُنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى أرضك".
جاء محمد صلى الله عليه وسلم فخالف العرب قاطبةً في كل ما كانت عليه من عبادة، فكان طبيعيًّا أن تحدث دعوته هذه حركة فكرية جدلية واسعة النطاق، وأن تكون شاغلًا للذهن العربي حقبةً طويلةً من الزمان، بل إن الإنسان لا يعدو الحقيقة إذا قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن دوى صوته الرهيب في الجزيرة العربية، مناديًا العرب
عامة وقريش خاصة قائلًا: ((إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، ولو غررت الناس ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانًا، وبالشر شرًّا، وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا، وإنكم لأول مَن أنذِر بين يدي عذاب شديد)).
بمجرد أن نادَى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء صارت الجزيرة العربية كلها تتحدث في شأنه، وتتجادل في أمره بين حائر مضطرب، بين قديم قد ألفه، وجديد قد عرفه، ومنكر صلاح؛ لأنه رأى في الجديد ما يناقض غاياته ومآربه، وميال إلى ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه رأى فيه وضح الحق المبين، بل إن الجدل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز في عصره ربوع البلاد العربية إلى الروم والفرس والحبشة، كما رأيت من كلام جعفر بن أبي طالب السابق للنجاشي.
ولأجل أن نحصر الجدل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نقول: إن الجدل في عصره صلى الله عليه وسلم كان من نواح ثلاث:
الأولى: جدل النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين.
والثانية: جدله صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى.
والثالثة: جدل العرب والروم والحبشة مع بعض القرشيين.
أما جدل النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين فقد قال ابن جرير الطبري في تاريخه: صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله ونادى قومه بالإسلام، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه بعض الرد فيما بلغني، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.
ويفهم من هذا أن المشركين عندما ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة أعرضوا ونفروا، ولكن لم يُظهروا له عداوة، ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لاحظ ذلك الإعراض، فأراد أن يجذبهم إلى مناقشة، والمناقشة بين الأكفاء محك الصواب وإخبار الحقيقة، فذكر آلهتهم وبين بطلان عبادتها، فأقبلوا مجادلين، ولكن الجدل باللسان أعجزهم وهم القوم الخصمون، فعمدوا إلى الاستهزاء والسخرية وأغروا السفهاء به صلى الله عليه وسلم ثم انتقل الأمر من جدل ومقارعة بالحجة إلى اضطهاد ومقاطعة للنبي صلى الله عليه وسلم كما تدل عليه الأخبار الواردة في سيرته صلى الله عليه وسلم.
وهنا نذكر لك شيئًا من جدلهم له عليه الصلاة والسلام يصور لك حالهم، ويبين مآلهم: جاء في (سيرة ابن هشام) أن المشركين عندما ضاقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وذهبت معه كل حيلة لهم، وبعثوا إليه ليكلموه ويخاصموه، فأجاء إليهم عليه الصلاة والسلام فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه فقد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا للشرف فيكم، ولا للملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)).
فقالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل منا شيئًا مما عرضنا عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقل مالًا ولا أشد عيشًا مِنَّا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)).
قالوا: فإذا لم تفعل فسل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة؛ يعينك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك عند ربك إن كنت رسولًا كما تزعم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:((ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم)).
هذا ما ذكره ابن هشام، وقد رأينا في القرآن الكريم ردًّا على كل ما قالوه، وقد كانوا يتلوه بين ظهرانيهم صباح مساء ويعلمهم آيةً آيةً، ويبين لهم الرد على ما سألوا في سور مختلفة.
ونحن نرى من هذا النقاش والحوار والمناظرة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتصم في مجادلة قومه ومناظرتهم بالحلم والصبر،
وخفض الجناح، والرفق وحسن المعاملة، كما أمره ربه سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
وكما جادل صلى الله عليه وسلم قومه من مشركي العرب بالتي هي أحسن، كذلك جادل اليهود والنصارى كما أمره الله سبحانه وتعالى حيث قال:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46).
هذه هي المناقشة والمجادلة والمناظرة وآدابها في الإسلام، فتحلوا بهذه الآداب، وتخلقوا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في المناظرة والمناقشة والمحاورة والمجادلة، وإذا جادلتم فأصر الطرف الآخر على ما هو عليه من الباطل، فاتركوه وما هو عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.