الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعليك أن تجتهد في العمل، وأن تحمد الله الذي هداك ووفقك كما هو حال أهل الجنة بعد دخولها، كما حكى عنهم رب العالمين سبحانه:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف: 43)، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعملون في الخندق في غزوة الأحزاب، وهم يقولون:((اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا)). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد ذلك معهم.
ثانيًا: على الداعية أن يَعْلَم أنه إذا تمادَى في العجب واستمر عليه فإنه يتدرج في الكبر لا محالة، ولا يخفى أن الكبر هو من أعظم الآفات النفسية التي تحلق الدين، وتَقْتُل المروءة وتميع الشخصية وتدخل صاحبها النار.
ثالثًا: على الداعية حين يخْلُو بعد مضي العمل لنفسه يسائلها ويقول: هل وقعتِ يا نفسُ في آفة العجب في قول أو فعل؟ هل أخذك الغرور في علم أو جاه؟ هل داخلك الزهو في إصلاح أو هداية؟ هل كذا؟ هل كذا؟ فإنْ وَجَدَ في نفسه شيئًا بعد هذه المُسائلة والمُحاسبة فليتب إلى الله عز وجل وليَنْدَم على ما فعل، وليُعاهد الله على أن لا يعود، والله سبحانه يتقبل من التائبين المستغفرين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا جميعًا العجبَ ومداخلَه المفضية إلى الكبر.
من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور
"
وهو أن يُلَبّس الإنسان على نفسه الحقائق، ويُريها الأمور على خلاف ما هي عليه، ويُعطيها من المقام الأرفع والمنزلة العُليا ما لا تستحقه، وهو يحسب أنه بذلك يحسن صنعًا. وما ذاك إلا لضعف في البصيرة، وجهل بمكائد الشيطان، واستشراف للأنانية، وعدم الاكتراث بأقدار الناس، والتمادي في الهوى ونزعات النفس الأمارة.
والفرق بين العُجْبِ والغُرور فرق دَقِيقٌ مُتباين؛ فالعُجْب هو استعظام النعمة الموجودة في المُعجب، ثم نِسْبَتُها إلى نفسه دون أن ينسبها إلى موهبها وخالقها، وهو الله عز وجل.
وأما الغرور: فهو ادعاء قضايا وتلبيس حقائق غير موجودة في المغرور، ونسبتها إلى نفسه وإعطاء نفسه من العظمة والأماني الكاذبة العريضة بما لا يستحقه مع الاسترسال في بحر الأوهام والأحلام، ولقد جاء ذم الغرور في القرآن والسنة. يقول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5).
ويوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ} -أي: ينادي المنافقون المؤمنين- {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد: 12 - 1 4).
ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6 - 8).
وفي الحديث هو فيه ضعف عند المحدثين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكَيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجِزُ مَن أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني)) فهذا الحديث تنديد واضح بالذين يتبعون أنفسهم هواها، ويغترون بالرُّكون إلى أمانيها وخدعها الكاذبة.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضَلّ قوم بعد هدًى كانوا عليه، إلّا أوتوا الجدل)) ثم قرأ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} (الزخرف: 58)، فهذا الحديث تقبيح ظاهر بالذين اغتروا بعملهم وبَنَوا جدلهم على غير علم وهدى وكتاب منير.
وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ أبغضَ الرّجال إلى الله الألد الخَصم)) فهذا الحديث ذم واضح، للذين اغتروا بقُوّة حجتهم في مُخاصمة خصومهم بنية الغلبة عليهم، ولو كان الخُصوم على حق.
فيتبين من هذه النصوص أن الغرور مستقبح شرعًا، وأنه من الآفات التي تُوقع الإنسان في الكذب، وتؤدي به إلى الكِبْر، وتَجْعَله مغضوبًا مذمومًا عند الله وعند الناس.
وكيف يدخل الغرور على الدعاة؟
الداعية الذي لا يمر في تكوينه وإعداده على مرحلة التربية الروحية، والتهذيب التربوي؛ لم يتربّ على المراقبة لله والمُحاسبة للنفس، والاستمرار على العمل الصالح، والاستقامة على منهج الله؛ فسرعان ما ينساق مع الهوى، وسرعان ما يركب صهوة الغرور، وسرعان ما ينزلق مع الشيطان. بل تجد منه أعمالًا ومواقفَ وإدعاءاتٍ يستهجنها المسلم العادي، فضلًا عن الرجل المؤمن الواعي الحصيف.
وإليك -أخي الداعية- أظهر هذه الإدعاءات والمواقف التي وقع في حبائلها بعض الدعاة:
من هذه المواقف: أن ينظر إلى نفسه بأنه بلغ مرتبة الدعاة الكِبار في النضج، وسداد الرأي، وسعة العلم، وانتشار الصيد؛ وفضل السابقة، وهو شابٌ حدث لم يكتمل بعد علمًا، ولم ينضج رأيًّا، ولم يتأهل داعية؛ اللهم أنه قد يُحْسِنُ الكلام، ويجيد التحدث والإلقاء. وهل تكوين الدعاة مقصور على إتقان فن الكلام وطلاقة الحديث، وغرابة اللسان؟
ومن هذه المواقف: أن يدعي أنه أوتي ذكاء وطاقة ومواهب وسياسة، مما يؤهله أن يكون قائدًا للدعوة، وإمامًا على المسلمين، ومرشدًا كبيرًا من المرشدين الربانيين، وهو في الواقع لا يصلح أن يكون رئيسًا على عشرة، وإمامًا في مسجد، واعظًا في قرية. وهل الدعاوَى العريضة المَنْقُوشة تجعل من أصحابها دعاة ورجالًا، أم الإخْلَاص وتزيين المواقف ولغة الأعمال؟
ومن هذه المواقف: أن يدعي لنفسه أنه أصبح عالمًا بأحكام الشريعة، فقيهًا في مسائل الدين والفتوى، بل أصبح مؤهلًا لئن يجيب على كل معضلة فقهية، لو عرضت إحداها على الخليفة الراشد عمر الفاروق لجمع لها أهل بدر. وهذا التجرأ على الفتيا بدون علم هو الجهل بعينه، والغرور بذاته، وهو من موجبات دخول النار، كما روي:((أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار)).
وهل يجوز للداعية شرعًا أن يتصدى لكل فتوى وهو غير عالم بحكمها ودليلها وهل يَجُوز للداعية شرعًا أن يُجيب عن سؤال فقهي، وهو جاهل به غير مطلع على أقوال الأئمة فيه؟ بالطبع لا يجوز له ذلك، وإذا فعل فيكون آثمًا ومسئولًا عن فتواه أمام الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:((من أُفتي بغير علم؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه)).
ومن هذه المواقف التي تَدُلّ على الغرور: أن يُعلن الداعية أمام الملأ أن جماعته التي يعمل معها ويَنْتَمي إليها، هي خير الجماعات وأفضلها، وأن طريقتها في
التبليغ والدعوة هي خير الطرائق وأحسنها، ولو كانت هذه الجماعة عفوية في تنظيمها، محدودة في أهدافها، جامدة في طريقتها، قاصرة في وسائلها، مقتصرة في الدعوة على بعض ما جاء في هدي نبيها صلى الله عليه وسلم.
علمًا بأن الدعوة الإسلامية حينما قامت في القرون الماضية قامت على النظام، وحين انطلقت انطلقت على الشمول، وحين انتشرت في الآفاق انتشرت على الأسلوب الحكيم، والوسائل المتطورة بل حققت الدعوة الإسلامية خلال العصور وعلى مدار التاريخ أعظم الأهداف السياسية، وأسمى الأمجاد التاريخية؛ في بناء العزة للإسلام وامتداد رفعة الدولة في حياة المسلمين.
ولكن ما علاج الغرور في الدعاة؟
على ضوء ما ذكرناه من تعريف للغرور، ومن ذمه في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن إدعاءات المغترين العريضة: على الداعية إذا أحس من نفسه أنه سوف ينزلق في متاهات الغرور، ويقع في حبائله فليُسارع جَهده إلى معالجته واستئصال شأفته؛ خشية أن يفضي فيه من حيث يعلم أو لا يعلم إلى زهو الكبر وغطرسة الاستعلاء.
وخطوات المعالجة هي كما يلي:
أولًا: أن يعرف الداعية حقيقة أمره وقدر نفسه، ومبلغ علمه ومنزلته؛ فلا يَدّعي لشخصه ما ليس فيه، ولا يُعطي لذاته حجمًا أكثر مما تستحق، فـ ((رَحِمَ اللهُ امرءًا عرف قدر نفسه))، فوقف عند حده. وعلى هذا الداعية أن يكثر من قراءة أخبار السلف الصالح، وما تميزوا به من ورع وتقوى، وتواضع وأدب، واستقامة وصراحة، واعتراف بأقدار أنفسهم، وحقيقة أحوالهم، وإمساك عن الفتيا فما لا
يعلمون، وإعطاء أنفسهم القدر الذي يستحقون دون تلبيس للحقيقة أو افتراء على الواقع.
فهذا المنهج ولا شك هو أسلم لدين الداعية، وأحفظ لسمعته، وأظهر لحقيقته، وأرضَى لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: على الداعية أن يرجع إلى من اشتهر في زمانه؛ بمعالجة آفات القلوب، وتزكية الأنفس من الدعاة الصالحين، والعلماء الربانيين؛ ليسألهم عن معالجة العُجب والغُرور في نفوس الذين يتصدون للإرشاد ويسيرون في طريق الدعوة، وكيف السبيل إلى مناهضة هذه الآفات واستئصال شأفتها من النفوس.
فعند أولئك من الخبرة التامة، والتجربة الحقيقة في طرق المعالجة لمثل هذه الآفات، بالإضافة إلى ما تميزوا به من الطاقة الإيمانية، والإشعاع الروحي في رد المغرورين إلى الحق، ونقلتهم إلى عالم الصفاء والإخلاص، وتزكية النفس والتربية الإسلامية الفاضلة.
فهذا المنهج ولا شك يربي الداعية على الإخلاص، ويُعرفه بحقيقته مَن هو؟ فلا يدعي لنفسه ما ليس فيه، ولا يُعْطِيها أكثر مما تستحق، وإذا استمر على ذلك فلا ينزلق في متاهات الغرور؛ ولا ينحدر في مزالق العجب والكبر، بل يصبح إنسانًا سويًّا وداعيةً ربانيًّا.
ثالثًا: على الداعية حين يخلو بينه وبين ربه في صلواته وأذكاره، وقراءة القرآن، أن يسائل نفسه: هل داخله الغرور في قول وعمل؟ هل أفتَى بما لا يعلم؟ هل ادَّعى لنفسه بما ليس فيه؟ هل أعلن أمام الملأ أن جماعته هي أفضل الجماعات؟ هل نظر لنفسه بأنه بلغ منزلة الدعاة الكبار؟ هل وهل وهل؟