المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفات الخطيب في الإسلام - الخطابة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في الخطابة

- ‌مقدمة في تعريف الخطابة

- ‌تعريف الخطابة

- ‌تاريخ علم الخطابة ونشأتها

- ‌أهمية الخطابة ومكانتها

- ‌الدرس: 2 الغاية من الخطابة

- ‌أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية

- ‌إعداد الخطبة

- ‌الدرس: 3 عناصر الخطبة

- ‌تركيب الخطبة

- ‌مصادر الخطبة

- ‌الأسلوب الخطابي

- ‌الدرس: 4 محتويات الخطبة

- ‌افتتاح الخطبة

- ‌الغرض من الخطبة

- ‌تقسيم الخطبة، وترتيب أفكارها

- ‌الدرس: 5 الخطيب وصفاته

- ‌أهمية الخطيب ومكانته في الإسلام

- ‌صفات الخطيب في الإسلام

- ‌الدرس: 6 تابع: الخطيب وصفاته

- ‌صفات الخطيب الفطرية

- ‌إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا

- ‌صفات الداعية النفسية

- ‌آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته

- ‌إعداد الخطيب علميًّا وثقافيًّا

- ‌الدرس: 7 الخطابة في الجاهلية والإسلام

- ‌الخطابة في العصر الجاهلي

- ‌خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية

- ‌الخطابة في عصر الإسلام

- ‌مقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام

- ‌دواعي الخطاب في عصر الإسلام

- ‌الدرس: 8 عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام

- ‌خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ونماذج أخرى

- ‌الدرس: 9 نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين

- ‌نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة

- ‌نماذج من خطب الصحابة والتابعين

- ‌الدرس: 10 الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة

- ‌الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه

- ‌الدرس وشروطه وفوائده

- ‌الفرق بين الخطبة والدرس

- ‌الدرس: 11 المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام

- ‌كيف يحضر المحاضر محاضرته

- ‌الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام

- ‌الدرس: 12 ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر

- ‌(ضوابط الخطاب الدعوي

- ‌رسالة الخطاب الدعوي

- ‌الدرس: 13 مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها

- ‌أصول ومنهج وأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه وحواره

- ‌ضرورة توافر النطق الجيد لدى الخطيب، وحسن الصوته وتمرينه

- ‌ضرورة الابتعاد عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات، والضعيف

- ‌الدرس: 14 الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده

- ‌(الندوة

- ‌المؤتمر

- ‌الدرس: 15 قواعد في الأسلوب الدعوي

- ‌قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة

- ‌الرِّفْقُ واللين والتّيسير

- ‌الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح

- ‌سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل

- ‌التحدث بلُغة الجمع، وتعميم الخطاب عامةً دون قصد أفراد أو تعيين أشخاص

- ‌الحث والإكثار من استخدام عبارت الاستفهام

- ‌الدرس: 16 بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية

- ‌من الآفات التي قد تُصيب بعض الدعاة: "الرياء

- ‌من الآفات التي يتعرض لها بعض الدعاة: "العُجْب

- ‌من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور

- ‌من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكِبْر

الفصل: ‌صفات الخطيب في الإسلام

‌صفات الخطيب في الإسلام

كان لزامًا على الخطباء أن يتحلوا بمكارم الأخلاق، وأن يتصفوا بجميل الصفات وقد كتب العلماء في الصفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها، وأطالوا في ذلك، وسنحاول -إن شاء الله تعالى- أن نلم بأهم ما ذكروه فيما كتبوه.

فمن أهم صفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها:

أولًا: العلم بالقرآن: إن أول واجب على الداعي الخطيب العلم بالقرآن، والمراد به النظر فيه قبل كل شيء على أنه هدى وموعظة وعبرة، وكذلك السنة، وما صح من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة الخلفاء الراشدين، والسلف الصالح، والعلم بالقدر الكافي من الأحكام وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها.

فإن مرتبة التبليغ عن الله تعالى لم تكن إلا لمن اتصف بالعلم مع الصدق، والمرشد وارث لهذه المرتبة، وليتمكن من تعليم ذلك على الوجه الصحيح، فلا يزيد في عقيدة، ولا يخطئ في حكم، ولا يعجز عن إقناع النفوس المتطلعة إلى معرفة أسرار الأحكام الشرعية، وحينئذٍ يكون الإذعان له أتم والقبول منه أكمل، فأما الخطيب الجاهل فضال مضل، وضره أقرب من نفعه، وما يفسده أكثر مما يصلحه، بل هو لا يصلح أصلًا، إذ لا تمييز لجاهل بين الحق والباطل، ولا معرفة عنده ترشده إلى إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس.

يقول الحسن البصري رحمه الله: "العامل على غير علم كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح" وفي الحِكَم: "من سلك طريقًا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زل".

ص: 95

ثم إن الخطيب داعية لله عز وجل، والدعوة إلى الله يشترط لها البصيرة، والبصيرة هي العلم كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)، والبصيرة لا تأتي في قلب الداعية إلا من العلم، ثم إن الله تبارك وتعالى جعل القول عليه بغير علم عملًا من عمل الشيطان فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 168، 169).

فلما كان القول على الله بغير علم عملًا من عمل الشيطان لا جرم كان من أصول المحرمات كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33).

والقول على الله بغير علم يشمل القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته، وأفعاله، ودينه وشرعه، وقد قلنا: أن الدعوة إنما هي إلى هذا، الدعوة هي تعريف الله تبارك وتعالى إلى عباده بأسمائه وصفاته وأفعاله، تعريفهم بدين الله، تعريفهم بشرع الله عز وجل، وهذا كله يحتاج إلى أصل، ودليل، وبرهان من كتاب أو صحيح سنة، فإذا لم يكن عند الخطيب أصل ولا دليل ولا برهان، وقع في القول على الله بغير علم، فصد عن سبيل الله من حيث ظن أنه يدعو إلى الله عز وجل والله تبارك وتعالى يقول:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116، 117).

فعلى الخطيب أن يحذر كل الحذر أن يقول لشيء حلال، وليس معه على حله برهان، أو يقول لشيء حرام وليس معه على حرمته برهان، وليحذر الخطيب

ص: 96

أن يصف الله تبارك وتعالى بشيء دون برهان أن يسميه باسم دون حجة ولا برهان.

وعلى الخطيب أن يحاول جهده أن يتفرغ للعلم، فإنه قديمًا قيل: لا يعطيك العلم بعضه حتى تعطيه كلك، وأكبر شاهدًا من حياتك العملية للخطيب على صحة هذا القول أنك لو كنت صادقًا مع نفسك، ومقدرًا وظيفتك حق قدرها أنك تحضر خطبتك في ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إذا كان يوم الجمعة خطبتها في نصف ساعة، فمحصلة ثلاثة أيام أو أربعة خرج منك في نصف ساعة، فهذا الواقع العملي الذي تعيشه كخطيب أكبر دليل على صحة هذا القول:"لا يعطيك من بعضه حتى تعطيه كلك"، فاحرص -أيها الخطيب- على أن تتفرغ للعلم حتى تنال منه ما تعلمه للآخرين.

فإذا تعلمت فاعلم أن العلم إنما منح من أجل العمل به، فعليك أن تتصف بالصفة الثانية، وهي العمل بالعلم، فلا يكذب فعلك قولك، ولا يخالف ظاهرك باطنك، ولا تأمر بشيء لست مؤتمرًا به، ولا تنهَ عن شيء أنت مرتكبه، كن دائمًا أول من يأتمر، وأول من ينتهي؛ ليفيد وعظك، ويثمر إرشادك، أما إذا كان الخطيب يأمر بالخير، ولا يفعله، وينهى عن الشر وهو واقع فيه، فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الإصلاح، وهيهات هيهات أن ينتفع به، فإنه فاقد الرشد في نفسه، فكيف يرشد غيره؟

قال مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، فإن من حث عن التحلي بفضيلة وهو عاطل منها أو أمر بالتخلي عن نقيصة وهو ملوث بها لا يقابل قوله إلا بالرد، ولا يعامل إلا بالإعراض والإهمال، بل يكون موضع حيرة البسطاء، ومحل سخرية في نظر

ص: 97

العقلاء، فإن من تناول شيئًا وقال للناس: لا تتناولوه، فإنه سم مهلك سخر الناس منه، واستهزئوا به واتهموه في دينه وعلمه وورعه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه؛ فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها ما كان يستأثر به، كذلك الداعي إذا خالف فعله قوله.

والله سبحانه وتعالى قد أنكر على هؤلاء الخطباء، فقال عز وجل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم؛ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقطاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع أهل النار إليه، فيقولون: يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنه عن المنكر وآتيه)).

فتعلم أيها الخطيب، فإن العلم سلاحك في الدعوة إلى الله عز وجل واعمل حتى تكون أسوة حسنة لمن تعلمهم.

الصفة الثالثة من صفات الخطيب: سعة الصدر، فكمال العلم في الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب؛ فيستطيع أن يعالج أمراض النفوس وهو هادئ النفس مطمئن القلب لا يستفزه الغضب، ولا يسثتيره الحمق، فتنفر منه القلوب، وتشمئز منه النفوس، وحسبك في هذا قول الله تعالى لإمام الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، فلو كان

ص: 98

الداعي سيئ الخلق جافيًا قاسي القلب فأغلظ للدعاة أو المدعوين في القول تفرقوا عنه، وانصرفوا من حوله، فحرموا الهداية بأنوار دينهم فعاشوا وماتوا جهلاء، وذلك هو الشقاء، وذلك الخطيب القاسي الجاهل هو سبب ذلك وعلته.

الصفة الرابعة: الشجاعة، أن يكون الخطيب شجاعًا حتى لا يهاب أحدًا في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم، ففي الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير؛ أوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرًّا)).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن لله عليه مقالًا ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس؛ فيقول الله عز وجل: فإياي كنت أحق أن تخشاه)).

إلَّا أنه يجب التنبيه على أنه شتان بين الحماسة وبين الشجاعة، فليس من الشجاعة أن تحرص على أن تقول ما تريد مهما ترتب من النتائج، ليس من الشجاعة أن تقول كلمة واحدة تكون هي آخر كلمة تقولها على المنبر، وتحرم نفسك من منبرك وتحرم جمهورك من منبرك، ولكن كن جريئًا شجاعًا تعلم الناس الدين بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق واللين، شريطة أن تعلم متى تتكلم، ومتى تسكت فقد تكون المصلحة في السكوت، وقد تكون في الكلام، فإذا كانت المصلحة في الكلام فلا تسكت، وإذا كانت المصلحة في السكوت فلا تتكلم، والسعيد الموفق من نظر في عواقب الأمور.

ص: 99

الصفة الخامسة: العفة واليأس مما في أيدي الناس، على الخطيب أن يكون عفيفًا نزيهًا لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، فإن الله تبارك وتعالى قال لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)، فعلى الخطيب ألا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، وأن ييأس منه، فمن يأس مما عند الناس استغنى عنه فيبقى سيدًا محبوبًا جليلًا مهيبًا ينتفع به كما حكي أن رجلًا دخل البصرة، فقال: من سيد هذا البلد؟ قالوا: الحسن قال: وبم سادهم؟ قالوا: "احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم".

والنبي -عليه الصلاة والس لام- قد قال لرجل قال: يا رسول الله أوصني وأوجز، فقال:((عليك اليأس بما في أيدي الناس، فإنه الغنى، وإياك والطمع، فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودع وإياك مما يعتذر منه)).

وقال أبو سعيد الحسن البصري رحمه الله: "لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه". وبالجملة فواجب على الخطيب أن يكون نزيه النفس، وأن ينأى عن شبه المكاسب، وأن يكتفي باليسير القليل وأن يستعز بعزة القناعة:

هي القناعة فاحفظها تكن ملكًا

لو لم يكن لك منها إلا راحة البدن

وانظر إلى من ملك الدنيا بأجمعها

هل راح منها بغير الطيب والكفن

ومن الصفات الواجبة في حق الخطيب أن يكون قوي البيان، فصيح اللسان، وإلا كان النفع منه بعيدًا، بل كان ما مثال الخزي والعار على الإرشاد وأهله، فإن مدار الأمر على البيان والتبيين والإفهام والتفهيم، وكلما كان اللسان أبين كان أقوى وأجمل، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد وأكمل، وقد سأل موسى عليه السلام-

ص: 100

ربه عز وجل الفصاحة والبلاغة وطلاقه اللسان حين كلفه بالذهاب إلى فرعون: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (النازعات: 17)، فذكر العقدة التي في لسانه، والتي تحول بينه وبين كمال البيان وتوصيل الرسالة فاستعان بالله عز وجل وسأله قائلًا:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25 - 28)، ولم يكتفِ بذلك حتى قال:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (القصص: 34).

ومن الصفات التي يجب على الداعية الخطيب أن يتحلى بها: الإلمام بالعلوم والأحوال، العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شئونهم واستعدادهم، وطبائع بلادهم، وأخلاقهم أو ما يعبر عنه بالعرف بحالهم الاجتماعية، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن عرفه بحال المرسل إليهم قال:((إنك تأتي قوم أهل كتاب))، فعرفه البيئة وأحوالها حتى يستعد للقائها.

كذلك علم التاريخ العام يجب على الداعية الخطيب أن يلم به قدر استطاعته ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، فيبني دعوته على أساس صحيح، ويعرف كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال ولهذا كان القرآن الحكيم مملوءًا بعبر التاريخ والجاهل به لا يصلح أن يكون خطيبًا داعية للإسلام، ولا مرشدًا في الأمور العامة على الوجه الذي يرجى قبوله ونفعه.

ثالثًا: علم النفس الباحث عن قوى النفس، وخواطرها، وميولها، وتصرفها في علومها، وتأثير علومها في أعمالها الإرادية.

رابعًا: علم تقويم البلاد ليعد الداعي لكل بلد عدته إذا أراد السفر إليه، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أعلم أهل زمانهم بالتاريخ، والذي يسمى الآن بتقويم البلاد

ص: 101

والجغرافيا، وإذا أقدموا على الفتوحات ومحاربة الأمم، فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل، فلو كان يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقع القتال فيها، لهلكوا وكان الجهل أو أسباب هلاكهم ومن درس ما حفظ من خطبهم، وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها ومحاورتهم في تدبير الأعمال يظهر ذلك جليًّا.

خامسًا: علم الأخلاق الذي يبحث فيه عن الفضائل النفسية وكيفية تربية المرء عليها، وعن النقائص وطرق توقيه منها وهو لازم لرجال الدين وللدعاة ألزم كي يستطيعوا معالجة النفوس وتهذيبها، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث الصحيحة، وأفاد الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الكلام فيه.

سادسًا: معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها؛ ليتيسر للداعي بيان ما فيها من الباطل فإن لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه، ومن لم يقف على ما عند الناس من المذاهب والتقاليد الدينية لا يستطيع أن يخاطبهم على قدر عقولهم كما كان شأن سادة الدعاة عليهم الصلاة والسلام.

سابعًا: العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها، وقد ورد في (صحيح البخاري) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة بتعلم اللغة العبرانية لأجل اليهود الذين كانوا مجاورين له، عن زيد بن ثابت:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبه إذا كتبوا إليه"، وقال أبو حمزة: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس على أنهم قد استعربوا فيما كان معرفة لغتهم الأصلية إلا ما زيد الكلام في الفهم عنهم ومعرفة حقيقة شأنهم.

ص: 102

ثامنًا: علم الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في دعوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتأخرها وتقدمها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون.

الصفة التاسعة الصفات التي يجب على الداعية الخطيب أن يتحلى بها: قوة الثقة بالله تعالى، ليكون الخطيب قوي الثقة في وعد الله، كامل الرجاء في حصول الفائدة من دعوته مهما طال العلاج وعظمت المصاعب، فإنه متى تمكن ذلك من نفسه انبعثت همته وقوي نشاطه، وتنبه إلى انتهاز كل فرصة بما يناسبها موقنًا بأنه إن لم يظهر تأثيره اليوم فغدًا يظهر مؤمنًا بأن الباطل زهوق، ولا بد لمن يوم يتغلب فيه الحق على الباطل، فإن دولة الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، ودولة الحق هي الثابتة بذاتها فلا يغلب أنصار الحق ما داموا معتصمين به مجتمعين عليه، قال الإمام علي رضي الله عنه:"لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق".

الصفة العاشرة: التواضع ومجانبة العجب، فذلك بالدعاة المرشدين أليق ولهم ألزم؛ لأن التواضع عطوف والعجب منفر، هو بكل أحد قبيح وبالمرشدين أقبح؛ لأن الناس بالخطباء يهتدون ويقتدون وكثيرًا ما يداخلهم الإعجاب لتميزهم بفضيلة العلم، ولو أنهم نظروا حق النظر وعملوا بموجب العلم لكان التواضع بهم أولى ومجانبة العجب بهم أحرى؛ لأن العجب نقص ينافي الفضل.

الصفة الحادية عشرة: أن لا يبخل بتعليم الناس ما يحتاجونه مما يحسن علمه ولا يمتنع من إفادة من يريد أن يستفيد، فإن البخل بالعلم ظلم ولؤم، والمنع منه حسد وإثم، وكيف يسوغ للخطيب أن يبخل بما علمه الله تبارك وتعالى وآتاه من

ص: 103

فضله، وكيف يسوغ له أن يكتب ما تعلم والله تعالى يقول:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187)، وقال متوعدًا:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159).

وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بالتبليغ يقول: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) وكان يحذر من كتمان العلم فيقول: ((من سأل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار)).

ومن أهم الصفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها: الصبر، فالصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى مهم جدًّا للداعية الخطيب، ولقد قرن الله تبارك وتعالى الأمر بالصبر بالأمر بالدعوى لنبيه عليه الصلاة والسلام حين كلفه لأول مرة بالدعوة قال:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 1 - 7)، ونهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35).

ولا يختص الصبر بعدم استعجال الفائدة بل الصبر على الأذى الذي قد يبتلى به الخطيب، فإن الله تعالى قال على سبيل المدح حاكيًا عن لقمان الحكيم وهو يقول لأبنه:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، يعني إذا كملت نفسك بعبادة الله فكمل غيرك واصبر على ما ينزل بك من الشدائد والمحن، لا سيما فيما أمرت به؛ إذ كل ما ذكر مما عزمه الله وقطعه وأوجبه على عباده من الأمور، ومع هذا فهي من مكارم أهل الأخلاق الفاضلة وعزائم أهل الحزم السالكين طريق

ص: 104

الفلاح {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام: 34)، ما يسكن به قلبك، ولقد احتمل صلى الله عليه وسلم في دعوته للحق الكثير الكثير من الشدائد والأذى، وما كان شيء من ذلك يضعف من عزيمته أو يثبطه في دعوته، فكذلك الداعية الخطيب يجب عليه أن يوطن نفسه على احتمال المكاره وأن يواصل السير في سبيل دعوته مهما لاقى من صعاب وناله من أذى، وعليه أن يصبر على تأخر الثمرة وتأخر الفائدة، فإن الله قال لنبيه:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (غافر: 77)، لقد كتب الله ولا مبدل لكلماته {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21)، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171 - 173)، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 250).

هذا، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 105