الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخ علم الخطابة ونشأتها
الخطابة قديمة العهد والاستعداد لها مخلوق مع الإنسان، إذ لا غنى للإنسان عن الإبانة والتعبير لغيره عما يدور في خلده وضميره من معانٍ وأفكار، وعن إقناعه بصدق مقاله وسداد رأيه. وقد كان للأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في الخطابة الحظ الأوفى والمقام الأعلى، فكل واحد منهم -عليهم الصلاة والسلام- كان داعية خطيبًا إلى توحيد الله تعالى وطاعته وتقواه، وإرشاد الناس إلى طريق الخير وطريق الشر، بحيث من سار في طريق الخير سعد ونجى، ومن سار في طريق الشر هلك وشقى، كما قال رب العالمين سبحانه:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 124).
وهكذا كان كل نبي من لدن آدم إلى محمد -صلى الله عليهم وسلم- كانوا أجمعون يقومون في أقوامهم دعاة خطباء، يدلونهم على الله وما يقربهم منه ويوصلهم إلى طاعته، ويبينون لهم الثمرات الطيبة التي تنعكس عليهم من جراء التوحيد والطاعة في الدنيا والآخرة، كما يبينون لهم الآثار السيئة والعواقب الوخيمة -التي تنتظرهم وتحل بساحتهم- إن أقاموا على التكذيب والجحود والكفران، وأصروا على التمرد والعصيان، كما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم، وأطلعنا على ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد بقي من آثار الخطابة على طول الأمد خطب التوراة التي قام بها الأنبياء عليهم السلام إلى بني إسرائيل؛ ليحملوهم على الاستقامة ويردوهم عن الشر والغواية. وأول من كتب في هذا العلم اليونان، بل هم مستنبطو قواعده
ومشيدو أركانه ومقيمو بنيانه؛ وذلك لأن أهل "أثينا" في عصر "بركليس" قويت فيهم رغبة القول واشتدت فيهم داعيته، إذ صار يأسرهم القول البليغ دون سواه.
يقول المسيو "شارل": "امتازت أثينا أولا ببلاغة خطبائها، فكانت حقًّا بلد الأدب وحسن الإلقاء، فبالخطب في مجلس الأمة يقرر شهر الحروب وعقد السلم، ووضع القطائع والضرائب وكل الشئون العظيمة، وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنيين والرعايا أو يبرئون، فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم، وربما عهدت إليهم بإدارة شئون المملكة، فقد عين "كاليون" قائدًا ورأس "ديموستين" الخطيب حرب "فيليب".
وللخطباء نفوذ كبير، وكثيرًا ما يُلجئون إلى بلاغة قولهم للنيل من عداتهم في سياستهم، وربما أثروا لأنهم ينالون من المآرب ما يرضيهم من المال ليعاضدوا أحد الأحزاب. فقد أخد "إيشيل" مالًا من ملك "مقدونيا"، وقبض "ديموستين" دنانير من ملك الفرس، ثم إن بعض الخطباء كانوا ينشئون خطبًا ليلقيها غيرهم، إذ لا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بوكالة محام كما هو الحال عندنا، بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات، فمن ثم كان عليه أن يقصد إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يحفظه ليتلوه في مجلس القضاء، وكثيرًا ما كان بعض الخطباء يجوبون البلاد اليونانية ويتكلمون في موضوعات توحيها إليهم مخيلتهم، فتحتفل لذلك المحافل وتعقد الأندية والمؤتمرات".
وإذا كان التسابق البياني وصل إلى ذلك الحد، فلا عجب إذا رأينا أن من لم يكن قديرًا على فنون القول يحاول أن يتعلمها، ولذا اتجه الناس إلى تعلم الخطابة
والتدريب عليها، والتمرين على الإلقاء وتعويد اللسان النطق الصحيح والبيان الفصيح، لذلك أخذ العلماء يستنبطون قواعد الخطابة وقوانينها، بملاحظة الخطباء وطرق تأثيرهم وأسباب فشل من يفشل منهم، ويظهر أن أول من اتجه إلى استنباط تلك القواعد السوفسطائيون؛ فإنهم كانوا يعلمون الشبان في "أثينا" طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي، وكيف يغالطونهم وكيف يلبسون عليهم الحقائق، ويمرنونهم على القول المبين والإلقاء المحكم، وطبعي أن يتجه من نصبوا أنفسهم لذلك إلى استنباط قواعد وقوانين، مَن أخذ بها أَمِنَ العثار وسبق في الخصال.
وقد جاء من بعد هؤلاء السوفسطائيين أرسطو، فجمع قواعد علم الخطابة وضم شوارده في كتاب أسماه (الخطابة)، كان أصلًا لذلك العلم ومرجعًا يرجع الخطباء والمؤلفون في الخطابة إليه، وصدرًا يصدرون عنه ويردون موارده.
وقد جاء بعد أرسطو عصر نشطت فيه الخطابة عند الرومان نشاطها عند اليونان. يقول مسيو "شارل": "كان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع، حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية، يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم".
وإذا تركنا الحديث عن اليونان والرومان وتوجهنا شطر العرب؛ وجدنا أن الخطابة في صدر الإسلام وصلت إلى الذروة وبلغت كمال أوجها، وجاء العصر الأموي فوجدت الخطابة لها غذاء من الفتن والثورات التي أظلت ذلك العصر، وقد أخذ الفتيان والكهول يتبارون في الخطابة ويتسابقون في ميدانها، وكان مكان ذلك الوفادة ومجالس الخلفاء والأمراء والولاة. وقد نشأ من هذا أن وجد أناس يعلمون الشبان الخطابة ويمرنونهم عليها. وقد ظهر ذلك واضحًا كل
الوضوح في العصر العباسي الأول، فقد جاء في (البيان والتبيين) للجاحظ وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه أن بشرًا بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة وهو يعلم فتيانه الخطابة، فقال بشر:"أضربوا عن ما قال صفحا واطووا عنه كشحا"، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وفي هذه الصحيفة وصف جيد لأساليب الخطابة وألفاظها ومعانيها، ويظهر أنهم لم يقتصروا على استنباطاتهم العربية، بل كانوا يستعينون بما في آداب الأمم الأخرى؛ ليعاونهم ذلك في استنباطهم ويمدهم بما ليس عندهم، وينبههم إلى ما عساه يعزب عن خواطرهم.
ومن ذلك ما جاء في (البيان والتبيين) و (الصناعتين) قال معمر أبو الأشعث: "قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجم فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح
…
"، إلى آخر ما جاء في هذه الصحيفة من وصف جيد للخطيب والأسلوب الخطابي.
ألا ترى من هذا ما يدل دلالة راجحة على استعانتهم بالآداب الأجنبية وتغذيهم بها، وقد استمر البحث في الخطابة وأصولها ينمو ويكثر ما كانت الخطابة ناهضة، وكان أكثر من يقوم به أئمة المعتزلة الذين احتاجوا إليها؛ ليحتازوا مجالس المناظرات ويتغلبوا على خصومهم من ذوي الجدل، ولذا نبغ فيهم خطباء كثيرون، ومنهم من يعرف بعض أصول الخطابة وقوانينها؛ كعمرو بن