الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل
القاعدة الرابعة من قواعد الأسلوب الدعوي، التي يجب على الداعية أن يلتزم بها وينضبط: سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل.
فالمقصود من الدعوة إلى الله عز وجل تبليغ أَمْر الله سبحانه وتعالى إلى المدعوين؛ وفهم المدعوين لهذا الأمر، وليس المقصود بلاغة الداعية في خطابه، وتَنْمِيقَ عِباراته، وسَجع ألفاظه، وضربه أمثالًا خيالية لا تُفهم، وسبكه تراكيبَ ومصطلحات لا تدرك، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم: 4).
فلم يكتفِ سُبحانه بِذِكْر أنّ الإرسال كان بلسان قومهم؛ بل ذكر العلة في ذلك وهو البيان والتوضيح، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} لماذا؟ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، لقد جاء القرآن الكريم سهل الأسلوب، واضحَ البيان، متنوع الطرح، ليس فيه تعقيد ولا فلسفة ولا خيال، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17). وإنما أوتي من لم يفهم القرآن من جهة ما حل من العرب من عُجمة، وبعدًا عن لغتهم الأساس، وإلّا فأيُّ عربي لا يفهمُ قول الله عز وجل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1)، وقوله سبحانه:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1)، فهذا من سهولة ووضوح بيانه ووضوحها.
ولا يغمض سياق القرآن ومقاصده على عربي، وإنما الذي يغمض بعض الألفاظ التي هجر استعمالها العرب.
وأما بشأن الأسلوب فيتنوع أسلوب القرآن؛ فتجد فيه التقرير الصارم، والأمر الجازم في الوقت الذي تستمتع فيه بالقصص المؤثرة، والأمثال المعبرة، وتسمع
منه الأخبار الماضية والأحكام المحكمة، والأنباء القادمة. ثم يفاجئك بفتح ناظريك على المشاهد المستقبلة، من صور يوم القيامة ومناظر من الجنة والنار كأنك تراهما رأي العين؛ لتسمع لقطات لما يجري فيهما بين أهليهما:{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف: 77)، وقال أهل الجنة:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر: 74).
وتلقَى فيه الحوار الممتع، والمناظرة المُفحِمَة في الوقت الذي يَعُجّ بالحجج العقلية، والمُؤثرات العاطفية؛ كل ذلك بأسلوب يتلمس الناظر فيه رقة التعبير عند الترغيب، وقوة التأثير عند الترهيب، ويَلْمَحُ فيه كلمات الأنس التي يناجي بها القلوب اللينة؛ فيُبْقِي عليها شعورًا من الأنس، وطمأنينةً بعد القلق، في الوقت الذي تلتفت فيه عبارات التذكير؛ لتحرك الوجدان وتغذي الشعور، ثم تنعطف قوارع الترهيب، فتُهدد كيان النفس وتقذف الرُّعب في القلب.
وترى فيه المحكم والمتشابه، وتلقَى فيه المجمل والمفصل، كل ذلك وهو يتدفق بكلمات حانية ووعد صادق:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} (النساء: 147)، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى: 27)، ويهدد بألفاظ قارعة وعيد شديد:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 227).
كل ذلك بأسلوب آخاذ، وعبارات جذابة، وإيقاعٍ يتناسب مع كل موضوع ومع كل ذي روح ونَفَس، كل ذلك حتى يكون الخطاب شاملًا للخلق، مؤثرًا في النفس، مقيمًا للحجة؛ فمن لم يتأثر بالترغيب تأثر بالترهيب، ومن لم يتحرك قلبه تحرك عقله بالاستجابة:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 23).
وفي مقام التمثيل: انظر إلى أمثال القرآن الكريم، ما أروعها في المقصود! وما أيسرها في الفهم! وما أوقعها في النفس! وما أسهلها في التعبير! وما أنسبها لجميع الخلق ذكورهم وإناثهم عربهم وعجمهم، بدوهم وحضريهم، وهَكذا كان القُرآن الكَريم في بيانه سهل الأسلوب، واضح الطّرح، واقعي التمثيل؛ يتناسب والناس جميعًا على اختلاف ثقافتهم وأجناسهم.
كذلك كانَ أُسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل وما يُقال في هذا الباب عن القرآن الكريم، يُقال عن النبي الأمين صلى الله عليه وسلم فهو سيّدُ البُلَغاء، وأفضل مَن نطق بالضاد، يتكلم بأسلوب يفهمه طبقات الناس جميعًا؛ حتى بعد أربعة عشر قرنًا فمَن ذا الذي لا يفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) من ذا الذي لا يعي قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُه ولا يَحْقِرُه))، ((كُلُّ المسلم على المسلم حرام))، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)). وإنّمَا أوتي المسلمون من بُعدهم عن لغتهم العربية.
وكان من أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم الكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتُفهم عنه، وكان يفصِّل في كلامه، ويتأنَّى في إلقائه. عن عائشة رضي الله عنها:((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه)).
وكان صلى الله عليه وسلم يضرب لأصحابه الأمثلة الجميلة من واقعهم، فيفهمونها ويدركون مدلولها؛ فضرب لهم مثلًا عن المؤمن بالسنبلة تستقيم مرة وتخيب مرة؛ وقال صلى الله عليه وسلم:((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك ونافخ الكير)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المُنَافِق مَثَلُ الشّاة العائِرة بين الغنمين)) فمن من الصحابة ومِنّا نحنُ بعد ألف وأربعمائة سنة لا يعرف السُّنبلة ولا يعرف بائع المسك ولا يعرف الغنم.