الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية
تظهر قوة البديهة العربية، والقدرة البليغة على الارتجال، وأكثر ما تجد في هذه الخطب أو الوصايا: اتّسَامُها بقِصر الجُمل، وسَرْد الحِكم؛ حتى تَكاد تنقطع الصلة بين جملة وأخرى، وهي في جُملتها خُلاصة تجاربهم وخبرتهم بشئون الناس وأحداث الحياة، وليس في حكمهم بنايات فلسفية عميقة؛ لقلة ثقافتهم وعدم دراستهم، ولكن لهم نظرات صائبة، وآراء حكيمة، لا نزال نحتاج إليها، ونَسْتَعِينُ بها فيما يطرأ لنا من أحداث تُشبه ما طرأ لهم. وكثيرًا ما يأتي السجع في عباراتهم عفوًا؛ فإن لم تكن العبارة مسجوعة كانت الجمل مقسمة متوازنة.
وخطب الأعراب وأدعيتهم من أبلغ وأجمل ما في أساليب اللغة العربية، وخطب الجاهليين وأدعيتهم ومحاوراتهم ووصاياهم كلها مما يستعين به الخطيب الحديث، ويَجِدُ فيها مددًا واسعًا بالرأي والفكر؛ وبالتعبير والبلاغة، وعلى الراغبين أن يرجعوا إلى المصادر التي تضمنت تلك الخطب ليستفيدوا منها.
وأول ما يلاحظه القارئ للمأثور من خُطَبِ العَرَب في الجاهلية على ألفاظها: قوة وجزالة: تَصِلُ أحيانًا إلى الخشونة، ولعل السبب في ذلك: قُوّة نفوسهم، وشِدّة بأسهم، واندفاعهم في حماسة؛ فإن الكلمات صورة حية لنفس قائلها، تجيش صدورهم بالبأس؛ فتندفع ألسنتهم بكلمات هي الصورة لتلك القلوب القوية الجريئة، ومعيشتهم في الصحراء ببأسائها ولأوائها وشدتها؛ فأصبحوا لا يَرون إلا ما فيها من جبال وآكام ووهاد، فيكون كل ما يصدر عنهم مناسبًا لتلك المناظر؛ مأخوذًا من تلك المشاهد.
ومناسبة تلك الكلمات الجاسية الشديدة، من الموضوعات التي قيلت فيها؛ فأكثرها قيل في دعوة إلى قتال، أو في مُفاخرة بنزال، أو في وصف يوم كريه، أو نحو ذلك.
وأنْسَبُ الكلام لهذه الموضوعات ما كان شديدًا قوي الأسر؛ فخمًا ضخمًا؛ ليُقرع الحِسّ ويدفع النفوس إلى حيث تترخص الأرواح، وقد كان في كلماتهم الكلمات الحشوية الغريبة؛ ولعل هذه كانت من لغة حِمير، التي طغت عليها لغة قريش حتى أخذت في الاندثار، وبقي في الخطب والشعر منها كلمات نابية؛ لأنها تعيش في غير بيئتها منفردة عن أخواتها.
ونَجِدُ في خطبهم سوق الحقيقة قائمًا وسوق المجانة كاسدًا؛ فألفاظهم إلا قليلًا مُستعملة في ما وضعت له، وذلك لإحاطتهم الكاملة بلغتهم، وعلمهم علمًا صحيحًا بمَدْلُولات الألفاظ، ووجه دلالتها عليها؛ وقِلّة حاجاتهم إلى استعمال لفظهم في مدلول آخر؛ لعدم وجود طوائف من المعاني ليس في العربية ما يدل عليها، وهذا لا يمنع من أن يكون في كلامهم الكنايات الرائعة، والأمثال السائرة، والتشبيهات المُحكمة؛ فإنّ ذلك كان عندهم، ولكن لم يكن كثيرًا في خطبهم لإرسالهم القول ارتجالًا من غير تحضير وتهيئة.
أما معاني خُطب الجاهلية؛ فهي فطرية تنشأ عن اللمحة العارضة، والفِكْرَة الطّارِئة، وعفو الخاطِر من غير كدٍّ للفكر، ولا تَعَمّق في النظر، لأنهم لم يكونوا أهل علوم يسودهم التفكير المنظم، والتقسيم المستقري، والتّتبُع لكل أشتات الموضوع؛ ليَجْمَع شَمْلَها في خطبة، ويَضم مُتفرقها في بيان، ولِذَلك جاءت خُطبهم غير متماسكة الأجزاء، وغير مُسلسلة الأفكار؛ لا يَأخُذ المعنى بحجز الآخر في فكر رتيب؛ لتستوفي الموضوع كله.
وأصدق الخطب التي تدل على هذه الحال فيهم: خطب أكثم بن صيفي؛ فإنها حِكَمٌ مُتناثرة بل هي در منثور غير منتظم في عقد، ولكن إذا اتحد الغرض في الخطبة جاء التماسك في الجملة في أجزائها؛ وكثيرًا ما تكونُ الخُطب التي على هذه الشاكلة موجزة كل الإيجاز؛ كخطبة أبي طالب في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها.
وقد كانت عدم تماسك أفكارهم من دواعي كثرة الحكم والأمثال في خطبهم، حتى لقد رأيت أن أكثم -كما بينا- كانت خطبته كلها حكمًا، وقد يَسْتَشْهِدُ بَعْضُهم بحكمة عالية لغيره؛ أو بمَثَلٍ سَائِرٍ يضربه؛ ليقايس بين حال من يخاطبهم، وحالِ من قبل من قيل المثل فيهم؛ وأخص ما تمثل به المعاني الخطابية عند العرب صدقها، وعدم وجود الإغراق والمبالغة فيها، وذلك لما فيه من صراحة وحب للصدق والحقيقة.
وقد ترى في نصائحهم ووصاياهم معاني اجتماعية، وخُلُقية عالية؛ ولكنها في جملتها ليست مبنية على دراسة وبَحث؛ بل هي صورة لتجارب الحياة، تجيء على ألسنة من غير كد للذهن، ولا تعمق في الدرس.
أما أسلوب الخطابة في الجاهلية: فأول ما تلقاه في المأثور من الخطب العربية، أنك لا تجد الخطب قد لوحظ فيها حسن الافتتاح، وتنسيق الموضوع وتجزئته، ثُمّ حُسن اختتامه؛ فإنّ ذلك شأن الخطيب الذي يحبر خطبته، ويزور كلامه ويهيئه ويعده، ولم يكن أكثر خطباء الجاهلية كذلك، بل كانوا يرتجلون الكلام ارتجالًا؛ لذلك لم تكن خطبهم منسقة مجزأة؛ بل كانت في الجملة غير متماسكة لعدم تماسك معانيها.
وأسلوبهم الكلامي لا تكلف فيه ولا صناعة، لعدم عنايتهم بتهيئة القول، ولذلك خلا من كل المحسنات اللفظية، كالجناس والتورية؛ وما إلى ذلك مما نص عليه في علم البديع، وكانوا أحيانًا يُسجعون في خطبهم؛ كما نرى في سجع
الكهان، وأحيانًا يأتون بجمل مزدوجة كما نرى في خطب الوفد العربي لدى كسرى، وأحيانًا يُرسلِونَ القَوْلَ أرسالًا، ولكن أيها كان أكثر وأشيع؟!
لقد اختلف الأدباء في الإجابة عن هذا السؤال، ففريق يقول: إن السجع والازدواج كان أكثر شيوعًا على ألسنة الخطباء من الأرسال؛ لأنّ المَروي من خطب الجاهلية أكثره مسجوع أو مزدوج، وإنك لا تقرأ ما رواه (الأمالي) و (العقد الفريد) وغيرهم من كتب الأدب منسوبًا إلى العصر الجاهلي؛ فترى أن أوضح ما يظهر في ديباجته السجع والازدواج، ولا يطعن في هذا بالشك في صحة النسبة، أو بالرواية بالمعنى؛ لأن من يقول قولًا على لسان غيره ولو كان كاذبًا يجتهد في أن يكون كلامه صورة قريبة مما يجري على ألسنة من ينحلهم قولًا.
فالرواة الذين نحلوا الجاهليين تلك الخُطب لا بد أن يأتوا بكلامهم على النحو الذي يعرفه الناس من العصر الجاهلي، فإذا أتوا بذلك الكلام مسجوعًا؛ فهو يَدُلّ على أنّ الناس في عصر الرواة ما كانوا يعرفون عن خطب العرب إلّا أنّ أكثرها مسجوع، وحَسْبُك هذا دليلًا على شيوع السجع عند الجاهليين.
ويَرى آخرون أنّ الأرسال هو الأكثر شيوعًا على ألسنة الخُطباء؛ لأنّه هو الذي يتفق مع الارتجال والقول على البديهة اللذين عُرِفَا في العرب؛ ولأنه هو الذي يساوق الفطرة، ولأنّ أكثر كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبتت صحته، وأكثر خطب الصحابة التي لا مجال للطعن في صدقها مرسل قليل السجع والازدواج، وأكثر أولئك أدرك العصر الجاهلي؛ فلو كان السجعُ طَريقًا خطابيًّا معروفًا مألوفًا لهم ما خالفوه، ولا نَعرف أنّ من أوامر الشّرع ما يَدْعُوهم إلى المخالفة والابتعاد عن أمر معروف عند الجاهليين أنهم من طرائق التأثير البياني.
ولأنه قد تواتر عن العرب: أنّ الكُهّان كان لهم كلام متمايز بدباجته يخالف مألوف العرب، وامتاز ذلك الكلام بالسّجع المُلتزم؛ فلو كان السجع أمرًا شائعًا